ماكيافيلِّي والميكافلية
دكتور:جمال الدين فالح الكيلاني
مبدأ الغاية تبرر الوسيلة
"الغاية تبرر الوسيلة": مبدأ يطلق عليه الماكيافيلِّية ينسب إلى المفكر الإيطالي نيكولو ماكيافيلِّي والذي سجله في كتابه "الأمير وقدمه لأحد ملوك "أوربا" في القرون الوسطى، وهو أسلوب في المعاملات يتسم بالخداع والمراوغة والغدر والأنانية، من هنا فإن أبرز صفات الشخص الماكيافيلِّي الوصولية والتسلق على أكتاف الآخرين ليصل إلى غاياته مهما كان الثمن، فهو لا ينظر لمدى أخلاقية الوسيلة المتبعة لتحقيق الغاية، وإنما إلى مدى ملائمة هذه الوسيلة لتحقيق هذا الغاية، فالغاية تبرر الوسيلة .. وهكذا بات اسم ميكافيلي في مخيلة العامة مرادفاً للخيانة والكذب والافتراء، وحتى علماء النفس باتوا يستخدمون المصطلح لوصف الشخصية التي تتصف بالغرور وعدم الأمانة والاستخفاف بالدنيا والتلاعب[1]، من هنا فإن مفهوم الماكيافيلِّية هو كناية عن فعل الناس والساسة الذين يعمدون إلى تحقيق غاياتهم بالدهاء والمكر والقوة.

التعريف بصاحب النظرية
نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلّي (بالإيطالية: Niccolò die Bernardo die Machiavelli)
ولد في فلورنسا في إيطاليا، وعاش ما بين عامي 1469- 1527م، بدأ حياته موظفاً بسيطاً في حكومة مدنية في فلورنســا سنة (1498م) كان أبوه محاميًا متوسط الحال، وحين اجتاحت الجيوش الفرنسية مدينة فلورنسا، وأطاحت بالحكم فيها-حكم أسرة مديتشي- سارع ماكيافيلِّي لتأييد النظام الجديد وتنقل في وظائف حكومية كثيرة تحت ظل النظام الجديد، وقد أوفد في عدة بعثات مهمة نيابة عن الحكومة إلى المدن الإيطالية والدول الأجنبية ، واستطاع ماكيافيلِّي خلال هذه الفترة الإطلاع على خبايا الحياة السياسية وأسرارها عن قرب، وفي عام 1512م عادت أسرة مديتشي للحكم، وتم القبض على ماكيافيلِّي ونفي إلى مزرعته الواقعة على أطراف فلورنسـا وسمح له بأن يحيا حياة التقاعد في الريف قرب فلورنسا[2]
كانت الجمهوريات الإيطالية – مسقط رأسه- متنابذة أشد التنابذ، كانت تستبيح في حروبها كل صنوف الدسيسة والغدر والقسوة، وكان ماكيافيلِّي يرقب ذلك كله، وقرأ مثله في التاريخ، فاعتقد أن هذه هي الطبيعة الإنسانية وانتهى إلى سياسة قوامها أن الحذر والقوة هما الخصلتان الضروريتان للحاكم، وأن الفضيلة والنوايا الطيبة ليست كافية للبقاء والحياة، لذا فإن نزعة الحاكم للحكم يجب أن تكون مجردة من العاطفة وقاسية مؤلمة في صرامتها، وعرض مذهبه في كتب أشهرها كتاب الأمير، الذي قارن فيه بين الأخلاق القديمة والأخلاق المسيحية، حيث يرى أن القدماء كانوا يحبون الجاه والصحة والقوة البدنية، وكانت دياناتهم تخلع هيبة إلهية على الحكام، أما المسيحية فإنها على العكس، ترجئ غاية الإنسان إلى الآخرة وتحث على الإعراض عن الجاه الدنيوي، وتمجد التواضع والنزاهة...فأوهن عزيمة الإنسان، وأسلمت الدنيا لأهل الجرأة والعنف، فهي نافعة وضرورية للجمهور المطلوب منه الطاعة فقط[3]

كتابه الأمير :
ألفه ماكيافيلِّي في منفاه عام 1513م ، وقد أهداه إلى " لورينزو دي مديشي"، وقد تضمن الكتاب أفكار ماكيافيلِّي وتجاربه السياسية مع مجموعة من النصائح لـ الحاكم ، وقد كان راجياً أن ينال رضا الحاكم عن طريق هذا الكتاب ولكنه فشل في ذلك وظل في منفاه[4]، والجدير بالذكر أن كتاب "الأمير" لم ينشر إلا بعد وفاة ماكيافيلِّي بخمس سنين، وأول من هاجم ماكيافيلِّي هو"الكاردينال بولس" مما أدى لتحريم الإطلاع على كتاب الأمير ونشر أفكاره، وكذلك انتقد "غانتيه" في مؤلفٍ ضخم أفكار ماكيافيلِّي، وقد وضعت روما كتابه عام 1559م ضمن الكتب الممنوعة وأحرقت كل نسخة منه، ولكن وعند حلول عصر النهضة في أرجاء أوروبا ظهر هناك من يدافع عن ماكيافيلِّي ويترجم كتبه، ولم يصل ماكيافيلِّي وفكره لما وصل إليه الآن إلا في القرن الثامن عشر عندما مدحه "جان جاك روسو"، و"فيخته"، وشهد له هيجل بالعبقرية، حتى اعتبر ماكيافيلِّي أحد الأركان التي قام عليها عصر التنوير في أوروبا.
وقد اختار "بنيتو موسيليني" –حاكم إيطاليا الفاشي[5]– كتاب "الأمير" موضوعاً لأطروحته التي قدمها للدكتوراة، كما كان "هتلر" يقرأ كتاب الأمير قبل أن ينام كل ليلة، ناهيك عن من سبقهم من الملوك والأباطرة "كفريدريك" و"بسمارك" وكل من ينشد السلطة.[6]

الفكر السياسي قبل ماكيافيلِّي
فليقل كل كلمته
إن من أبرز معالم الفكر السياسي الغربي من لدن فلاسفة اليونان أفلاطون وأرسطو وحتى العصور الوسطى هو الاهتمام الدؤوب بمشكلة الحرية والسلطة، بالرغم من التباين بين أفكار الفلاسفة الغربيين حول هذا الموضوع، فمفهوم الحرية عند بعضهم هو الالتزام بفعل ما يجب على الإنسان فعله أمثال أرسطو وروسو وهيجل، فهذا أرسطو على سبيل المثال يقوم فكره السياسي على إمكان التمييز بين الحياة اللائقة الجديرة بأن تعاش، وبين الحياة المفتقرة إلى مقومات الجدارة، ذلك من خلال اعتماد الحكمة العملية بدل النظر الفلسفي المجرد، وهو يرى أن ثمة دولاً صالحة وأخرى فاسدة، فالدولة التي يغويها هدف فاسد هي دولة فاسدة، بل قد تفشل في أن تكون دولة على الإطلاق، أما الدولة الصالحة فهي تلك التي لا تكتفي بطلب الخير لنفسها فقط بل تنشده إلى الآخرين، ويلخص أرسطو الشروط التي يجب توافرها في من يملك السيادة المطلقة في:
1- الإخلاص لنظام الدولة
2- الكفاءة لأداء مهام وظائفهم
3- الفضيلة والعدالة، في المعنى الذي يتفق مع نظام الدولة
وعن أفضل السبل للمحافظة على الدولة يشدد أرسطو على أن الواجب هو تعليم المواطنين على روحية الدولة إذ بدونها لا يكون لهذه القوانين المفروضة لحماية الدولة والمجتمع أي قيمة، في حين يفهم الآخرون منهم الحرية بأنها: إزالة العوائق من أمام الإنسان ليفعل ما يشاء أمثال هوبز ولوك وميل، فالإنسان الشرير يتساوى والإنسان الصالح في الحرية، بل إن الحرية هي شرط أساس للفضيلة وليست منفصلة عنها[7]، ولما جاء ماكيافيلِّي، جاء بأفكار أدت إلى إحداث انفصام حاسم مع الفكر السياسي الذي كان سائداً من قبل، فقد كان أول مفكر مهم يصر على إنشاء سلطة مركزية قوية وعلمانية من خلال فصلها عن دلالاتها الأخلاقية، الدينية والقيمية وفضل الاستيلاء عليها والمحافظة عليها بالقوة بغض النظر عن أخلاقية الوسيلة، لذا كانت القوة بالنسبة له غاية في حد ذاتها ولا تحتاج إلى أية تبريرات، لذلك قدم ماكيافيلِّي للأمير مجموعة من النصائح تتعلق بالسياسة الداخلية، وأخرى تتعلق بالسياسة الخارجية، وهي كلها قائمة على الفصل بين السياسة والأخلاق، ويرى ماكيافيلِّي أن اتباع هذه النصائح التي هي عبارة عن قواعد للعمل السياسي، من شأنه أن يديم حكم الأمير ويرسخ سلطانه، ويوطد أركان عرشه[8].
منهجه الفلسفي:
حاول ماكيافيلِّي اتباع منهج جديد مختلف عن مناهج من سبقوه، وهو منهج اختباري صرف قائم على دراسة التاريخ، وكذلك على ملاحظة الواقع، كان ذلك بعد دراسة النجاحات البشرية في وصول الناس إلى غاياتهم، ولو كانت هذه النجاحات هي من قبيل نجاحات الأشرار وما دامت أمثلة الآثمين الناجحين أكثر عددًا من أمثلة القديسيين الناجحين، وكانت وسائل الآثمين وسائل آثمة منافية لفضائل الأخلاق، فإن الغاية في السياسة تبرر الوسائل المنافية لفضائل الأخلاق، من أجل تحقيق النجاح المطلوب، ومن أجل الوصول إلى الغاية المقصودة، وهي الظفر بالحكم والاستئثار به.
من هنا كانت خلاصة فكرته الرئيسة تتمثل في أن أفعال البشر تؤدي إلى نفس النتائج دوماً، فحاول الربط بين الأسباب والنتائج والدراسات التحليلية المستمدة من التاريخ، ومن الواقع، وعلى ذلك كان أسلوب ماكيافيلِّي في البحث هو:
1- الاستعانة بالتاريخ لاستقصاء الأحداث، ومعرفة نتائجها، وارتباطها، وإمكانية تكرارها، أي محاولة التنبؤ بالمستقبل ..
2- محاولة وضع تعميمات في حالة تكرار الأحداث للوصول إلى قواعد عامة، توضع أمام الحكام لتسهيل مهمتهم وتساعدهم على تبني مواقفهم ..
3- البحث عن إمكانية التدخل في الأحداث مسبقاً بعد معرفة أسبابها ، ومحاولة تحديد السلوك الواجب إتباعه لمواجهة الأحداث ..


الظروف التي أثرت في فكر ماكيافيلِّي .
هناك العديد من الأسباب التي أثرت على فكر ماكيافيلِّي ، ولكن لعل الأسباب التالية من أهمها :
1- ضعف حال الدولة آنذاك، وكثرة المشاكل السياسية في تلك الفترة، ولهذا كان يرى بأنه لابد من نظام حكم قوي يحكم الدولة، إما نظام ملكي صارم، أو نظام جمهوري.. وكان مؤيدا بشكل كبير للنظام الجمهوري ..
2- الخدع والمؤامرات التي واجهها ماكيافيلِّي في أروقة ودهاليز السياسة عندما كان ذا شأن في حكومة فلورنسا ..
3- تأثره الشديد وولعه بالتاريخ، واعتبار أن جميع الأحداث لا تخرج عن دورة منطقية متكررة ..


أهم صفات الأمير -الحاكم- في نظر ماكيافيلِّي:
* من ناحية الأخلاق:
عليه التخلص من الأخلاق والتقاليد والبدع والقيم المسيحية وخاصة التواضع والرضوخ للحكام، واستعمال الدين كوسيلة لكسب الشعب فقط أما الذي يريد أن يسير سيرة فاضلة في كل ظرف، فعليه أن يحيا حياة خاصة ولا يعرض للحكم، وإلا هلك حتماً وسط كثرة الأشرار[9]!


* من ناحية السياسة الداخلية:
على الأمير أن يجمع بين حب الناس وخوفهم منه، وإن تعسر ذلك فعليه أن يتأكد من كونه مخافاً ومهاباً.
وهنا يطرأ سؤالا عما إذا كان من الأفضل للأمير أن يكون محبوبا أكثر من أن يكون مهاباً أو أن يخافه الناس أكثر مما يحبوه . ويتلخص الرد على هذا السؤال في أن من الواجب أن يخافه الناس وأن يحبوه ولكن لما كان من العسير الجمع بين الخوف والمحبة ، فإنه من الأفضل أن يخافوه على أن يحبوه، نصح ماكيافيلِّي الأمير ألا يعبأ بالفضائل بل وأن يلجأ إلي الرذائل إن كان ذلك يحقق مصلحته... فلا يجب على الأمير أن يكون كريماً لأن الكرم يؤدي إلي الفقر وهو إن افتقر سيخسر هيبته لدى رعاياه ، وعليه أن لا يكون طيبا لأن ذلك يثير روح الثورة عليه في نفوس رعاياه ، أما القسوة فتقيم النظام وتمنع الفوضى وتحقق الوحدة وتقضي على الفتنة وهي في المهد ، كما أن رضا الرعايا متغير فلا تعتمد في استمرار حكمك على رضاهم ، بل اعتمد على قوتك فهي إن دامت سيدوم حكمك. ويضيف ربما يكون هذا الكلام ليس طيبا لو أن الناس كانوا طيبين، لكن الواقع أنهم ناكرون للجميل، متقلبون، ميالون إلى تجنب الأخطار شديدوا الطمع، كذابون منافقون غشاشون شريرون مراءون لا يتطلعون إلا إلى ما ليس في أيديهم ، كما أنهم ربما يسامحونك إن قتلت أباهم لكنهم أبداً لن يسامحوك إن سلبت أموالهم[10].

*من ناحية السياسة الخارجية:
أما بصدد السياسة الخارجية أي علاقة الأمير بأمراء الدول الأخرى فقد بدأ بوصف العلاقات الدولية وكأنها غابة، وأنكر «ماكيافيلِّي » بصراحة تامة الأخلاق المعترف بصحتها، فيما يختص بسلوك الحكام، فالحاكم يهلك إذا كان سلوكه متقيدًا دائمًا بالأخلاق الفاضلة، ونصحه بأن يجمع بين أسلوب الإنسان وأسلوب الحيوان، فإن اختار أسلوب الحيوان فعليه أن يكون ثعلبا وأسداً في ذات الوقت ، أي يتبع أسلوب الثعلب القائم على الحيلة والمكر والخداع والمراوغة و النفاق والرياء، وأسلوب الأسد القائم على القوة والعنف والبطش. (ذكاء الثعلب وقوة الأسد). فبالنسبة لأسلوب الثعلب على الأمير أن لا يفي بالعهود التي يقطعها على نفسه للأمراء الآخرين إلا إذا كان في الوفاء بالعهد مصلحة له، وعلى الأمير أن يتزين أمام العالم الخارجي بحلل زائفة من الصدق والسلام والعدل والوفاء ) ذئب في جلد شاة)، وأن يظهر أمراء الدول الأخرى بأنهم هم الكاذبون وخالفوا العهود، إن الأمراء الذين أجادوا أساليب الثعالب وأفلحوا فيها فعرفوا كيف يحيكون الغش والخداع كان التوفيق حليفهم الدائم، كذلك على الأمير أن يكون أسدا فيبني جيشه النظامي القوي الذي يدين بالولاء له، فلا يجب أن يعتمد الحاكم على المرتزقة الأوغاد الذين لا يدينون بالولاء إلا للمال، القوة ثم القوة فإن الأمير الذي لا يهتم ببناء قوته (جيشه) كمن يركض إلى هلاكه ، وويل للأمراء منزوعي السلاح.
لذلك يجب أن يكون ماكرًا مكر الثعلب، ضاريًا ضراوة الأسد، إذ أن الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الشراك، والثعلب لا يستطيع حماية نفسه من الذئاب، لذا يتعين عليه أن يكون ثعلبا ليميز الفخاخ وأسداً ليرهب الذئاب لأنه إن كان مجرد ثعلب عجز عن التعامل مع الذئاب والغابة الدولية مليئة بالذئاب ، وإن كان مجرد أسد عجز أن يتبين ما ينصب له من فخاخ والغابة الدولية مليئة بالفخاخ.
عليك أن تبدأ بأسلوب الثعلب فإن لم يفلح أسلوب الثعلب في خطف عنقود العنب فليسمع زئير الأسد ( أي إن لم تجد الدبلوماسية فلتدق طبول الحرب) [11]

آراء وأفكار ماكيافيلِّي ونقدها:

أولاً : آراؤه وأفكاره .

انتهى ماكيافيلِّي إلى رأي في السياسة يتلخص كما سبق وان بينا بعبارة الغاية تبرر الوسيلة بصرف النظر عن منافاة الوسيلة المستخدمة للدين والأخلاق، وقد استند فيما ذهب إليه إلى الواقع المنحرف للأكثرية من الناس، لا إلى مبادئ الحق والعدل والخير والفضيلة، وفيما يتعلق بالمحافظة على العهد، ذكر أنه ينبغي للأمير أن يحافظ على العهد حين يعود ذلك عليه بالفائدة فقط. أما إذا كانت المحافظة على العهد لا تعود عليه بالفائدة فيجب عليه حينئذٍ أن يكون غدارًا .
لكنه يرى في ذات الوقت أنه من الضروري أن يكون الأمير قادرًا على إخفاء هذه الشخصية. وأن يكون دعيًا كبيرًا، ومرائيًا عظيمًا، والناس كثيراً ما يصلون في السذاجة إلى الحد الذي يجعلهم ينخدعون بمثل هذا الادعاء كثيراً.[12]
فآراء "ماكيافيلِّي" في تبرير الوسائل المنافية للأخلاق تدور حول السياسة، وأخلاق الحكام، وذوي السلطة، ولقد أخذ – وللأسف الشديد- معظم أرباب السياسة في الشرق والغرب، بهذا الاتجاه البائس وفق أقصى صوره الشاذة المنحرفة المعاكسة لاتجاه الكمال الإنساني، فمبدأ الغاية تبرر الوسيلة هو إذن -إذا أخذ على إطلاقه- طريق كل المنحرفين الظالمين المجرمين المفسدين في الأرض، في السياسة، وفي غيرها.
وأخذ هذا الاتجاه -المستهين بفضائل الأخلاق، وللأسف الشديد مرة ثانية وثالثة.. -، يسودُ سلوك السواد الأعظم من الناس في الشرق والغرب، ويغزو الأجيال في كل الأمم والشعوب، حتى غدا شمول الانحراف في الأخلاق نذير دمار عام شامل لكل الشعوب التي أخذت تنعدم فيها فضائل الأخلاق الفردية والجماعية
واستنتج «ماكيافيلِّي » من هذا أنه لا يلزم الأمير أن يكون متحليًا بفضائل الأخلاق المتعارف عليها، ولكن يجب عليه أن يتظاهر بأنه يتصف بها وينبغي له أن يبدو فوق كل شيء متدينًا[13] .


ثانيـاً: نقد آراء وأفكار "ماكيافيلِّي"

ويتوجه الرد على أفكار "ماكيافيلِّي" في الجوانب التالية :
الجانب الأول: يرجع الخطأ في الفكرة الباطلة التي انتهى إليها « ماكيافيلِّي » في السياسة، إلى:
* اعتبار النسبة الغالبة من السلوك الإنساني هي المقياس الذي يبرر به السلوك.
* إهمال جانب الحق والعدل والخير، وغض الطرف عن الشر الذي يشتمل عليه السلوك.
* اعتبار سلوك الناس ذوي المشاعر والأحاسيس، كسلوك الأشياء غير ذات الحياة ، مع أنّ الواجب يقضي بأن تراعى حقوق الناس ومشاعرهم الإنسانية، ومنها آلامهم.
إنه إذا كانت الوسيلة المفضلة لخرق جبل في أماكن خالية من السكان هي أن نفجر في مكان الخرق المطلوب متفجرات قوية، لأن ذلك أسرع وأسهل، وأقل تكلفة، فهل يصح قياسًا عليه أن يكون مثل هذا التفجير هو الوسيلة المفضلة لفتح طريق داخل مدينة مليئة بالعمارات السكنية، وآهلة بالسكان، دون مراعاة للواجب الذي تفرضه حقوق الناس، ودون اكتراث بالشر الذي ينجم عن هذا العمل، ودون اعتبار لآلام الناس الذين يتعرضون لشرور هذا التفجير ؟ .
وهل يصح أن يعتبر ذلك أمرًا علميًا وتجريبيًا محققًا للمطلوب بأسرع وقت، وأسهل عمل، وأقل تكلفة؟، كما زعم «برتراند رسل» حين أيد آراء «ماكيافيلِّي» بأنها عملية وتجريبية، مؤسسة على خبرته الخاصة بالشؤون العامة[14]
*إن أسس سلوك الإنسان مع الناس ومع الأحياء، غير أسس سلوك الإنسان مع الأشياء غير الحية التي ليس لها أفكار ولا مشاعر وآلام ولذات ومطالب حياة والمنهج العلمي الذي يطبق على الأشياء غير الحية، لا يصح تطبيقه من كل الوجوه على الأحياء، وعلى الناس بشكل خاص، لأن الأحياء بوجه عام لهم حقوق تجب مراعاتها، ولأن الناس بوجه خاص لهم حقوق زائدة على حقوق الأحياء الأخرى، فيجب وضع هذه الحقوق في الاعتبار لدى اتخاذ مناهج علمية تطبق على الأحياء عمومًا، وعلى الناس خصوصًا.

[1] - انظر: مكيافيللي فيلسوف السلطة / روس كينج، ص: 262 ترجمة: فايقة جرجس مراجعة: مجدي عبد الواحد عنبة،
الطبعةالأولى 2008، كلمات عربية للترجمة والنشر- القاهرة.

[2] - انظر:الأمير، ص: 19، 29
تاريخ الفلسفة الغربية/ برتراندرسل، ترجمة: د. محمد فتحي الشنيطي، ص: 25، الهيئة المصرية العامة للكتاب
1977م.

[3] - انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة / يوسف كرم، ص:25، الطبعة السادسة، دار المعارف- القاهرة

[4] - انظر:الأمير، ص: 15

[5] - الفاشية: مصطلح يستخدم للإساءة السياسية للخصوم السياسيين والاتهام لهم بالدكتاتورية ومعاداة الديمقراطية.

[6] - انظر: مقدمة الأمير .

[7] - انظر: موسوعة مشاهير العالم/ فرادوارد، الجزء الخامس، أعلام الفكر السياسي ص: 7- 24 ، دار الصداقة العربية- بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 2002م.

[8] - انظر: الأمير، ص:85- 88

[9] - انظر: الأمير، ص:85- 88، وتاريخ الفلسفة الحديثة، ص:25

[10] - انظر: الأمير، ص: 85- 88.

[11] - الأمير/ ماكيافيلِّي ص: 85 – 88، ترجمة: أكرم مؤمن، مكتبة ابن سينا.

[12] - انظر: الأمير، ص: 89- 91

[13] - انظر: كواشف زيوف، ص: 382

[14] - انظر: تاريخ الفلسفة الغربية ، برتراند رسل

المصدر : قراءات في عصر النهضة دكتور / جمال الدين فالح الكيلاني