وهذا الجواز يستلزم جواز الاطلاع على التوراة والإنجيل اطلاعا مباشرا عليهما، أو على جواز تلقي تلك المعلومات سماعا من أحبار اليهود ورهبان النصارى
((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)).
هذا حديث صحيح متفق على صحته، وهو حديث عظيم، وهو يدل على جواز الرواية من التوراة والإنجيل وبقية كتب أهل الكتاب .
ويبدو من الأمر بالتحديث ( حدثوا) مع التصريح برفع الحرج : أن هناك من تصور تحريم التحديث عن أهل الكتاب، فبين النبي صلى الله عليه وسلم له خطأ هذا التصور، بأمره بالتحديث، رافعا بذلك الحرجَ عمن أراد التحديث عن أهل الكتاب . وما أباحه النبي صلى الله عليه وسلم ورفع عنه الحرج لا يحرمه ولا يُحرّج فيه أحدٌ بعده !!
وظاهر الحديث إطلاق جواز التحديث عن أهل الكتاب بلا تقييد، ولكننا لا نشك أن هذا الإطلاق غير مراد ؛ لأن الشريعة أخبرتنا بتحريف أهل الكتاب لكتبهم، ونحن نجد آثار هذا التحريف فيما تتضمنه كتبهم من أقوال تعارض القرآن وصحيح السنة، مما يدل على أنها إسرائليات محرفة، ولتحريفها هذا خالفت الكتابَ والسنة . وهذا يبين أن جواز التحديث عن أهل الكتاب جوازٌ مقيد (يقينًا) بما لا يعارض الكتاب والسنة ؛ إلا إذا كان المقصود من ذكر الخبر عنهم هو بيان معارضته للخبر الصادق، ولأجل التنبيه بذكره على تحريفه وكذبه .
وهذا مثال من أمثلة خطورة الاعتماد على الظواهر، دون عرض فقهها على قواعد الدين وبقية نصوصه. حتى يعلم طلبة العلم أن مخالفة الظواهر ضرورة في بعض الأحيان، يفسد الدين بالتزام ظواهرها فيها، مادامت مخالفتها معتمدة على المنهج العلمي الصحيح في التفقه المشار إليه آنفا.
وبذلك نخلص أن الحديث يجيز النقل والاستفادة من كتب أهل الكتاب ؛ إلا ما يعارض منها القرآن والسنة .
وهذا الجواز يستلزم جواز الاطلاع على التوراة والإنجيل اطلاعا مباشرا عليهما، أو على جواز تلقي تلك المعلومات سماعا من أحبار اليهود ورهبان النصارى. وإطلاق الحديث للتجويز، مع عدم وجود ما يمنع من إحدى الطريقتين في التلقي = يدل على جواز الطريقتين كلتيهما في التلقي (من الكتب مباشرة، أو سماعا من علماء أهل الكتاب).
ولا شك أن تجويز الاطلاع على التوراة والإنجيل يدل على جواز اقتنائهما، وهذا ما دل عليه أيضا فعلُ كثير من السلف، من اقتنائهم لبعض كتب أهل الكتاب، ونقلهم منها، دون نكير عليهم في ذلك . ومن هؤلاء: عبدالله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما): من الصحابة، ووهب من منبه: من التابعين .
وأما حديث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ الله، إِنِّي أَصَبْتُ كِتَابًا حَسَنًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَغَضِبَ، وَقَالَ: «أَمُتَهَوِّكُو نَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً . لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ : فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ: فَتُصَدِّقُوا بِهِ . وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي».
ومعنى: (( أمتهوكون)) أي: أمتحيّرون .
فهو حديث فيه ضعف، أطلق البخاري القول بضعفه، وضعفه العقيلي من جميع وجوهه، وذكر الدارقطني اختلاف طرقه في علله، مما يُشعر بضعف مخرجه واضطراب روايته . وحتى إن قبلنا تحسين الحديث وقبوله بمجموع الطرق، كما ذهب إليه بعض العلماء المتأخرين (متأخرين عن السابقين علما وزمنا)، فلن يبلغ هذا الحديثُ درجةَ حديث التجويز في صحته وقوة ثبوته، ولا قريبا منه. فلو أننا أردنا الترجيح بين الحديثين: فلن يكون هناك ترددٌ بين الحديثين في القوة والثبوت، فحديث تجويز التحديث عن أهل الكتاب أصح بمراتب وأقوى بدرجات.
وأما إن قبلنا حديث عمر، وأردنا الجمع بين الحديثين، فيجب أن يُحمل نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث عمر على أحد المعاني الصحيحة الداعية للنهي والتحريم، ولا يُجعل نهيًا مطلقًا، لكي لا يناقض الحديثَ الأصحَّ والأثبت، ومن هذه المعاني: المعاني التالية :
1- من رجع إلى كتب أهل الكتاب على أنها مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، ونسي أو جهل أنها منسوخة بشريعة الإسلام . ويشير إلى هذا المعنى حديث عمر نفسه : ((لوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي)) .
2- من رجع إليها متصورا أن الإسلام مضطرٌ إليها، وأن الكتاب والسنة لا يكفيان لتصحيح الاعتقاد والتصور الإسلامي إلا بها . ويشير إلى هذا المعنى الحديث نفسه: ((لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً)) .
3- من رجع إليها غير مفرق بين صدقها وكذبها، ولا بين ما لا يعارض الكتاب والسنة فيها وما لا يعارضهما . فلربما بنقص معرفته هذا صَدّقَ الكلامَ المحرَّف فيها، أو كذّب الكلامَ الحقَّ غير المحرف . ويشير إلى ذلك الحديثُ نفسه: ((لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ : فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ: فَتُصَدِّقُوا بِهِ)).
4- من استغنى بها عن الكتاب والسنة . وهو أولى بالنهي من سابقه، وأوضح في مناقضة المعتقد.
5- من يُخشى عليه الشك والحيرة ودخول الوسواس عليه؛ لجهله وضعف إيمانه. فمثل هذا يجب عليه تعلم دينه أولا، وتثبيت يقينه به، ثم يجوز له بعد ذلك أن يطلع على كتب أهل الكتاب. وقد يشير إلى ذلك السؤال الاستنكاري في الحديث: ((أمتهوكون فيها ؟!!)) .
ونحو ذلك من المعاني والتصورات التي لا شك في منعها والتحذير منها .
لنرجع بذلك (مرة أخرى) إلى تقييد جواز النقل عن أهل الكتاب بما لا يتحقق به أحدُ تلك المعاني ونحوها، من أسباب المنع المعلومة من الدين ومن أدلته القطعية وقواعده الكلية.
لنعود من جديد إلى التأكيد على خطورة الأخذ بالظواهر دون فقه، وأن من خطورة ذلك: الوقوعَ في التناقض؛ لأن ظواهر نصوص الوحي تتناقض وتتعارض، وأما الفقه الصحيح فيها فيُظهر حقيقةَ كونها مؤتلفةً ومتعاضدةً، وأنه يستحيل فيها التنافر والتعارض!
ولو أن أحدا أخذ بظاهر حديث عمر رضي الله عنه، فأطلق القول بتحريم الأخذ عن أهل الكتاب أو عن كتبهم: فسيكون قد تناقض وأبطل ؛ لأنه بذلك قد خالف ظاهر الحديث الأصح والأثبت والأولى بالاحتجاج، وهو حديث: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)).
http://www.al-madina.com/node/444597...-2.html/risala