بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضِّل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن الدماء التي تصيب المرأة وهي الحيض، والاستحاضة، والنفاس، من الأمور الهامة التي تدعو الحاجة إلى بيانها ومعرفة أحكامها، وتمييز الخطأ من الصواب من أقوال أهل العلم فيها، وأن يكون الاعتماد فيما يرجح من ذلك أو يضعف على ضوء ما جاء في الكتاب والسنة:
1- لأنهما المصدران الأساسيان اللذان تُبني عليهما أحكام الله تعالي التي تعبّد بها عباده وكلَّفهم بها.
2- ولأن في الاعتماد على الكتاب والسنة طمأنينةُ القلب وانشراح ُ الصدر وطيب النفس وبراءة الذمَّة.
3- ولأن ما عداهما فإنما يحتج ُّ له لا يحتجُّ به.
إذ لا حجة إلا في كلام الله تعالي وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكذلك كلام أهل العلم من الصحابة على القول الراجح، بشرط ألا يكون في الكتاب والسنة ما يخالفُه، وألا يعارضه قول صحابي آخر، فإن كان في الكتاب والسنة ما يخالفه وجب الأخذ بما في الكتاب والسنة، وإن عارضه قول صحابي آخر طلب الترجيح بين القولين، وأُخذ بالراجح منهما، لقوله تعالي: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرُ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء: من الآية59].
وهذه رسالة موجزة فيما تدعو الحاجة إليه من بيان هذه الدماء وأحكامها: وتشتمل على الفصول الآتية:
الفصل الأول: في معني الحيض وحكمته.
الفصل الثاني: في زمن الحيض ومدته.
الفصل الثالث: في الطوارئ على الحيض.
الفصل الرابع:في أحكام الحيض.
الفصل الخامس: في الاستحاضة وأحكامها.
الفصل السادس: في النفاس واحكامه.
الفصل السابع: في استعمال ما يمنع الحيض أو يجلبه، وما يمنع الحمل أو يسقطه .
الفصل الأول
في معنى الحيض وحكمته
الحيض لغة: سيلان الشيء وجريانه.
وفي الشرع: دم يحدث للأنثي بمقتضى الطبيعة، بدون سبب، في أوقات معلومة.
فهو دم طبيعي ليس له سبب من مرض أو جرح أو سقوط أو ولادة. وبما أنه دم طبيعي فإنه يختلف بحسب حال الأنثى وبيئتها وجوِّها، ولذلك تختلف فيه النساء اختلافا متباينًا ظاهرًا.
والحكمة فيه أنه لما كان الجنين في بطن أمه لا يمكن أن يتغذى بما يتغذى به من كان خارج البطن، ولا يمكن لأرحم الخلق به أن يوصل إليه شيء من الغذاء، حينئذٍ جعل الله تعالى في الأنثى إفرازات دموية يتغذى بها الجنين في بطن أمه بدون حاجة إلى أكل وهضم تنفذ إلى جسمه من طريق السرة حيث يتخلل الدم عروقه فيتغذى به، فتبارك الله أحسن الخالقين. فهذه هي الحكمة من هذا الحيض، ولذلك إذا حملت المرأة انقطع الحيض عنها، فلا تحيض إلا نادرًا، وكذلك المراضع يقلُّ من تحيضُ منهن لا سيما في أول زمن الإرضاع.
الفصل الثاني
في زمن الحيض ومدته
الكلام في هذا الفصل في مقامين:
المقام الأول: في السن الذي يتأتي فيه الحيض.
المقام الثاني: في مدة الحيض.
فأما المقام الأول: فالسن الذي يغلب فيه الحيض هو ما بين اثنتي عشرة سنة إلى خمسين سنة، وربما حاضت الأنثى قبل ذلك أو بعده بحسب حالها وبيئتها وجوها.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل للسن الذي يتأتي فيه الحيض حد معين بحيث لا تحيض الأنثى قبله ولا بعده ؟ وأن ما يأتيها قبله أو بعده هو دم فساد لا حيض؟ اختلف العلماء في ذلك. قال الدارمي بعد أن ذَكَرَ الاختلاف: كل هذا عندي خطأ ؛ لأن المرجع في جميع ذلك إلى الوجود، فأي قدر وجد في أي حال وسن وجب جعله حيضًا. والله أعلم.
وهذا الذي قاله الدارمي هو الصواب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه، فمتي رأت الأنثى الحيض فهي حائض وإن كانت دون تسع سنين أو فوق خمسين سنة، وذلك لأن أحكام الحيض علقها الله ورسوله على وجوده، ولم يحدد الله ورسوله لذلك سنًا معينة، فوجب الرجوع فيه إلى الوجود الذي عُلقت الأحكام عليه، وتحديده بسن معين يحتاج إلى دليل من الكتاب والسنة ولا دليل في ذلك.
وأما المقام الثاني: وهو مدة الحيض أي مقدار زمنه.
فقد اختلف فيه العلماء اختلافًا كثيرًا على نحو ستة أقوال أو سبعة. قال ابن المنذر: وقالت طائفة: (ليس لأقل الحيض ولا لأكثره حد بالأيام ). قلت: وهذا القول كقول الدارمي السابق وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه،وهو الصواب لأنه يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار.
فالدليل الأول: قوله تعالي: {وَيَسْأَلون كَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } [(البقرة: من الآية222).]. فجعل الله غاية المنع هي الطهر، ولم يجعل الغاية مضي يوم وليلة ولا ثلاثة أيام ولا خمسة عشر يومًا، فدل هذا على أن علة الحكم هي الحيض وجودًا وعدمًا، فمتى وجد الحيض ثبت الحكم، ومتى طهرت منه زالت أحكامه.
الدليل الثاني: ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وقد حاضت وهي محرمة بالعمرة: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ). قالت: فلما كان يوم النحر طهرت.(الحد يث). وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (انتظري فإن طهرت فأخرجي إلى التنعيم ). فجعل النبي صلى الله عليه وسلم غاية المنع الطهر ولم يجعل الغاية زمنًا معينًا، فدل هذا على أن الحكم يتعلق بالحيض وجودًا وعدمًا.
الدليل الثالث: أن هذه التقديرات والتفصيلات التي ذكرها من ذكرها من الفقهاء في هذه المسألة ليست موجودة في كتاب الله تعالي ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الحاجة بل الضرورة داعية إلى بيانها، فإن كانت مما يجب على العباد فهمه والتعبد لله به لبينها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بيانًا ظاهرًا لكل أحد، لأهمية الأحكام المترتبة على ذلك من الصلاة والصيام والنكاح والطلاق والإرث وغيرها من الأحكام، كما بين الله ورسوله عدد الصلوات وأوقاتها وركوعها وسجودها، و الزكاة: أموالها وأنصباءها ومقدارها ومصرفها، والصيام: مدته وزمنه، والحج وما دون ذلك، حتى آداب الأكل والشرب والنوم والجماع والجلوس ودخول البيت والخروج منه وآداب قضاء الحاجة، حتى عدد مسحات الاستجمار إلى غير ذلك من دقيق الأمور وجليلها، مما أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة على المؤمنين، كما قال تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: من الآية89] وقال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء} [يوسف: من الآية111].
فلما لم توجد هذه التقديرات والتفصيلات في كتاب الله تعالي ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم تبين أن لا تعويل عليها، وإنما التعويل على مسمي الحيض الذي علقت عليه الأحكام الشرعية وجودًا وعدمًا. وهذا الدليل ـ أعني أن عدم ذكر الحكم في الكتاب والسنة، دليل على عدم اعتباره ـ ينفعك في هذه المسألة وغيرها من مسائل العلم ؛ لأن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل من الشرع من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع معلوم، أو قياس صحيح. قال شيخ الإسلام ابن تيميه في قاعدة له: (ومن ذلك اسم الحيض علق الله به أحكامًا متعددة في الكتاب والسنة، ولم يقدر لا اقله ولا أكثره، ولا الطهر بين الحيضتين مع عموم بلوى الأمة بذلك واحتياجهم إليه، واللغة لا تفرغ بين قدر وقدر، فمن قدر في ذلك حدًا فقد خالف الكتاب والسنة ). انتهي كلامه.