قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل
الحمد لله هادي العاملين إلى أقوم سبيل، ومُشيِّدِ منار هذا الدين في سماء كلِّ جيل، والصلاة والسلام على النبي الصادق الوعد النبيل، وعلى آله وأصحابه الحافظين للشريعة رُسُومَها فهُمْ عليها أدِلَّاءُ كلِّ دَلِيل. وبعد:
فهذا أولُ حديث نقوم إلى تثبيته، ونسعى لدرأ الضعْف عنه ممنْ وَصَمَه به، في سلسلة نَشَطْنا لها من صحاح الأخبار اتَّفَقَ وَسْمُهَا بــ: «أَلْوِيَةُ النَّصْرِ في التَّصَدِّي لِمَا انْفَرَدَ بتضْعِيفِهِ مُتَأخِّرُو العَصْر».
رأينا وجوبَ التعرُّض لها، فنهضْنَا إلى تَسْطيرها تِبَاعًا، قَصَدْنا بها تخليصَ تلك الصحاح التي تناولتْها سِهامٌ طائشة، وطالتْها أيادٍ خاطفة، فَنَفَيْنا عنْها مُعْتَلَجِ الرِّيَب، ورَدَدْنا الأمرَ إلى نِصابه، وَرُمْنا من وراء ذلك مَطْلبًا تَسْتَصْبِحُ بِمِشْكاته البصائرُ الزائغة، وتنكشف بِضِيائه معالِمُ الهُدَى.
حَدَاني إلى التَّجَشُّمِ لها في تلك الأوقات أغراضٌ اختَلَجَتْ مَعالِمُها في سِرِّي، وآمالٌ اعْتَلَجَتْ بواعثُها في صدْرِي، وقد عَلِمَ اللهُ أني نَظَمْتُ عقودَها ونَفْسُ المُسْتهامِ في طيَّاتِ لواعِجِه تَغُطُّ، ودُنْيا الآلامِ لا تزال تعاكِسُه فتأخُذَ منه وتَحُطُّ!
ولستُ أزعم أني خُضْتُ في تحرير تلك السلسلة وغيرها غمَرَاتِ الحوَادِث، ولا ركبْتُ في تجويدِها أكتافَ الشدَائِد، ولا اقْتَعَدتُّ من أجْل ترْصِيفِها ظهُورَ المَكارِه! وإنما كانتْ عارِضًا شرِيفًا دعَتِ النفسَ إلى جَمْعِه أحادِيثُ أمانِيها، ولجَأتْ إلى الانْقيادِ بِتَسْطِيرِه من خَاطِراتِ أغْرَاضٍ كانتْ تُعَانِيها.
وسأنشط لمثلها بعون الله – في سلسلة أخرى- في التصدِّي لمحاولات جماعة من المتأخرين في الترصُّد لجملة من أحاديث «الشيخين» بالتجريح والتضعيف؛ والتعْضِيل والتزييف! مع ادعاء أكثرهم مسايرة المتقدمين في إعلال الأخبار؛ ونَقْد المَرْويَّات والآثار! ورأيتُ بعضهم في هذا الصدد يسْتَسْمِن ورَمَه ويظنه شَحْمًا! فيُشْبِع أفكارَه منه ويملأ بطونَ دفاتِره، ثم يأتي فيه بترَاكِيبَ تَخِفُّ عندها جَلامِيدُ الصخُور!
وقد فُتِحَ أمامي الآن من تناقضات تلك الشرذمة الناقمة على «أحاديث الصحيحين/ خاصة» فيما لم يُسْبَقوا إلى الغمز منه؛ أبوابٌ مؤْصَدةٌ مما لو كان مِثْلها ذَهَبًا لعُدَّ رِكَازًا يُخَمَّس!
وقد ارتضينا رَسْمَ هذه السلسلة الثانية بـــ: «مُكْحُلَةُ الأبْصَارِ في تَثْبِيتِ ما احتجَّ به الشيخانِ مِنْ أخبار».
ولم أكن –ولله الفضل- ممن ينتظر بعنائه - فيما يطلب به وجْه الرحمن- ثناءً من أحدٍ أو شُكْرًا، ولا ممن يسعى لِتَطْرِيَة وجوهِ القوم بما يَجْلِب لصاحبه عند العقلاء أمْرًا نُكْرًا، ولا ممنْ يخَطمُ أَنْفَه بِالعار بالتلاعب في بابَةِ التصحيح والتضعيف إرضاءً للأهواء، ولا ممن يُبْرِزُ صَفْحَتَه أمام العقلاء بالفضيحة ائْتَمارًا بما يُغْضِب الله ويُرْضِي عنه الدهْمَاء!
ولا علينا إنْ بدأنا تلك السلسلة الشريفة بتخريج حديث: «عجوز بني إسرائيل»، وهو خبر شريف ثابت من حديث أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه- وقد ورد من حديث غيره من الصحابة، وكذا في الباب عن جماعة من التابعين ومَنْ دونهم، لكنه لم يثبت مرفوعًا إلا من طريق أبي موسى وحسب.
إسنادنا إلى حديث أبي موسى
أخبرنا الشيخ الجليل المُعَمَّر فوق المئة: مُعَوَّض عَوَض إبراهيم الأزهري المصري -إجازة بالمشافهة والمكاتبة- عن العلامة الكبير عليّ بن سرور الزنْكَلُوني عن العلامة عبد الهادي بن نَجَا الإبياري عن الشيخ المحدث الفقيه البرهان الباجوري عن الشمس الفقيه محمد بن شافعيّ الفضالي.
وأخبرنا أيضًا: الشيخ المُسْنِد أبو بكر زهير بن مصطفى الشاويش، والشيخ المُعَمَّر يوسف بن محمود العتوم السُّوفِي الأردني، والمعمَّر فوق المئة محمد فؤاد طه الدمشقي وغيرهم - إجازة- عن مُسْنِد الشام محمد بدر الدين بن يوسف البَيْبَاني عن المعمَّر الشيخ إبراهيم السقا الشافعي المصري عن الأمير الصغير.
وأخبرنا: الشيخ المُعَمَّر عبد الرحمن بن عبد الحي الكتاني، وجماعة فوق الخمسة - إجازة- كلهم عن الشيخ الجليل المسْنِد محمد عبد الحي الكتاني عن عبد الله بن درويش السكري عن محدث الشام الوجيه عبد الرحمن الكزبري الدمشقي.
كلهم (الفضالي والكزبري والأمير الصغير) عن الشيخ المسند محمد بن محمد الأمير الكبير عن شيخه نور الدين علي بن الحسن الصعيدي عن محمد بن عقيلة المكي عن حسن بن علي العجيمي عن الفقيه خير الدين الرملي عن الإمام أحمد بن محمد أمين الدين ابن عبد العالي عن أبيه، عن القاضي العلامة زكريا الأنصاري عن الحافظ ابن حجر قال:
أخبرتنا فاطمة بنت محمد بن عبد الهادي عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي الهيجاء أنبأنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن أبي الفتح المرداوي الخطيب قال: قُرِئَ على فاطمة بنت سعد الخير الأندلسي ونحن نسمع بمصر قالت: أنبأنا أبو القاسم زاهر بن طاهر الشحامي بنيسابور أنبأنا أبو سعد محمد بن عبد الرحمن الكنْجروذِي أنبأنا أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان أنبانا أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي قال: حَدَّثنا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثنا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمْرِو، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ:
«أَتَى النَّبِيُّ -صَلى الله عَلَيه وسَلمَ- أَعْرَابِيًّا فَأَكْرَمَهُ، فَقَالَ لَهُ: ائْتِنَا , فَأَتَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلمَ: سَلْ حَاجَتَكَ، فَقَالَ: نَاقَةً نَرْكَبُهَا، وَأَعْنُزًا يَحْلُبُهَا أَهْلِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلى الله عَلَيه وسَلمَ-: عَجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟
قَالَ: إِنَّ مُوسَى لَمَّا سَارَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ ضَلُّوا الطَّرِيقَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ عُلَمَاؤُهُمْ: إِنَّ يُوسُفَ لَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ أَخَذَ عَلَيْنَا مَوْثِقًا مِنَ اللهِ أَنْ لاَ نَخْرُجَ مِنْ مِصْرَ حَتَّى نَنْقُلَ عِظَامَهُ مَعَنَا، قَالَ: فَمَنْ يَعْلَمُ مَوْضِعَ قَبْرِهِ، قَالَ: عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَبَعَثَ إِلَيْهَا فَأَتَتْهُ، فَقَالَ: دُلِّينِي عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ، قَالَتْ: حَتَّى تُعْطِيَنِي حُكْمِي، قَالَ: مَا حُكْمُكِ؟ قَالَتْ: أَكُونُ مَعَكَ فِي الجَنَّةِ، فَكَرِهَ أَنْ يُعْطِيَهَا ذَلِكَ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَنْ أَعْطِهَا حُكْمَهَا.
فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ إِلَى بُحَيْرَةٍ: مَوْضِعِ مُسْتَنْقَعِ مَاءٍ، فَقَالَتْ: أَنْضِبُوا هَذَا المَاءَ، فَأَنْضَبُوا، قَالَتِ: احْتَفِرُوا وَاسْتَخْرِجُوا عِظَامَ يُوسُفَ، فَلَمَّا أَقَلُّوهَا إِلَى الأَرْضِ إِذَا الطَّرِيقُ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ».
قلت: هذا حديث شريف ثابت من رواية أبي إسرائيل يونس بن عمرو الهمدَاني عن أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري عن أبيه، لا نعلم أحدًا تابع يونس عليه، ولا شاركه في روايته عن أبي بردة.
وقد أخرجه من هذا الوجه: أبو يعلى في «مسنده/رواية أبي عمرو ابن حمدان» [رقم/ 7254 /ومعه «رحمات الملأ الأعلى»/طبعة دار الحديث]، وعنه أبو حاتم ابن حبان في «صحيحه» [رقم/ 723/ومعه الإحسان] حدثنا حَدَّثنا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ بإسناده به...
قلت: وهذا إسناد صالح في المتابعات.
وابن فضيل: هو محمد بن فضيل بن غزوان الإمام الثقة المأمون، ولم يتكلم فيه أحد بحجة! وقد جازف الزَّيْنُ المناوي في حقه بما رددناه عليه في مكان آخر.
ويونس بن عمرو: هو ابن أبي إسحاق السبيعي أبو إسرائيل الشيخ العالِم الفقيه المُحدِّث المُكْثِر الصدوق، الإمام بن الإمام، ولم يُصِب مَنْ أهْدَر حديثه جملة كما سيأتي.
وأبو بردة: هو ابن أبي موسى الأشعري أحد نُبَلاء أئمة التابعين مع الصدْق والأمانة وثخانة الدين، وقد اختلف في اسمه على أقوال، لكنه اشتهر بكنيته بين حمَلَة الآثار.
التحقيق في حال أبي هشام الرفاعي
وأما شيخ أبي يعلي: محمد بن يزيد الرفاعي فهو آفة هذا الطريق.
وحاصل حاله: أنه ضعيف الحديث لا يأوي منه إلى رُكْنٍ يُشاد به، كان يُسْرِع إلى رواية الغرائب، وترديد الأفراد من الأخبار؛ حتى كثرت المناكير في حديثه، وانتشر الدَّغَل في رواياته، مع عدم التصوُّن في السماع، والتساهل في الأخذ والتحديث، إلى أنْ رماه ابن نمير بالسرقة جهارًا! وقد تدامَجَ أكثر النقاد على تضعييفه، وإليهم المنتهى في المعرفة به.
ومن أثنى عليه فلم يَخْبُر حديثه كما خبَرَه غيره، وقد رُوِيَ عن أبي زكريا الغطفاني أنه أطْلَق فيه الكذب! ولم يصح ذا عنه، بل كان ابن معين حسنَ الرأي فيه، ما يذكره إلا بخير.
ولم يكن أبو هشام الرفاعي مدفوعًا عن عِلْم وفقهٍ ودين، ومثله مأمون الجانب من سِرَاجَة الزُّور، لكنه لم يكن بذاك المتصوِّن فيما يسمع، مع تساهلٍ وتتبُّعٍ لمهجور الأخبار، وشاذِّ الآثار، فانطلقت فيه ألْسَنة النقاد من أصحابه وخُلَطائه. وهو من رجال «التهذيب» و«ذيوله».
بيان رواية الرفاعي في «الصحيحين».
وقد قيل إن البخاري روى له استشهادًا، جزم بذلك جماعة، وأنكره آخرون، وقالوا: إنما روى البخاري لآخر من نفْس الطبقة يُدْعَى: « محمد بن يزيد الكوفي»، وهذا هو الصواب عندي.
أما مسلم بن الحجاج فقد كان ينتقي له في «صحيحه» ما علِم أنه من ثابت حديثه بمتابعة غيره من الثقات عليه، فليس الرجل على شرطه أصلًا.
وكذا أخرج مسلم ليونس بن أبي إسحاق حديثًا في «صحيحه» متابعة لا احتجاجًا، فليس هو الآخر على شرطه.
من إيهامات النور الهيثمي
وقد أدرج النورُ الهيثمي هذا الحديث في «المجمع» [10/ 267]، ثم قال: « ورجال أبي يعلى رجال الصحيح»! كذا يقول على عادته في الإيهام أن يكون هؤلاء الرجال ممن احتج بهم الشيخان!
وقد عرفتَ أن أبا هشام الرفاعي ويونس بن عمرو لم تكن رواياتهما في «صحيح مسلم» إلا اعتبارًا لا انفردًا، واستشهادًا لا احتجاجًا.
وكم زلَّتْ أقدام جماعةٍ من المتأخرين بالاتكاء على عبارة الهيثمي في توطيد أركان أسانيد غايةُ ما فيها أن يكون حَمَلَتُها ممنْ اتفق ذِكْرُهم في «الصحيح» على غير سبيل الاعتناء والتقصُّد! وتراهم يسوقون كلام الهيثمي في هذا الصدد مساق البيِّنات النَّوَاصِع، والحُجَج الشهْبَاء، فصاروا يتهجَّمون عَلَى المَعْنَى مِن غَيْر بابِه!
أمَّا من يتذرَّع بتلك العبارة في تصحيح الأخبار جملة! فإنما هو في وادٍ آخر!ولم يكن النور الهيثمي ممن يُحْسِنُ التمييز بين مَنْ خُرِّجَ حديثُه في «الصحيح» مَخْرجَ الاحتجاج والاعتناء، وبين مَنْ خرج حديثه مخرج الاعتبار في الشواهد والمتابعات وتلك البابة! بل كان يقول تلك العبارة: «ورجاله رجال الصحيح» كلما احتاج إليها إذا رأى رجال ذلك الإسناد قد وقعتْ أسماؤهم في «الصحيح» ولو اتفاقًا!
متابعة الأخنسي لأبي هشام الرفاعي
ولم ينفرد أبو هشام الرفاعي بهذا الحديث عن ابن فضيل، بل تابعه عليه:
أحمد بن عمر الأخنسي قال: حدثنا ابن فضيل، حدثنا يونس بن عمرو، عن أبي بردة، عن أبي موسى به نحوه ....
أخرجه مُسْنِدُ العراق في وقْته أبو عليٍّ ابْنُ شَاذَانَ في «جزء من حديث عبد الباقي بن قانع وجعفر بن هارون الدينوري/انتقاء أبي الحسين ابن المظفر الحافظ» [ق 161/ب/ ضمن مجموع حديثي رقم 297 بظاهرية دمشق]، وعنه الخطيب في «تاريخ مدينة السلام» [10/ 495/طبعة بشار عواد]، وعنه أبو الفرج ابن الجوزي في «المنتظم» [1/ 347- 348/طبعة الدار العلمية]، حدثنا أبو الغوث طَيِّب بن إسماعيل القحطبي، حدثنا أحمد بن عمران الأخنسي به.
قلت: وهذه متابعة مخدوشة إلى الأخنسي، وطيب بن إسماعيل حدَّث عنه أبو القاسم الطبراني وجماعة، ولم يتبين لي من أمره ما أطمئن إليه، وقد ترجمه الخطيب في «تاريخه» والسمعاني في «الأنساب» ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلا! فهو إلى جهالة الحال عندي أقرب.
لكنَّ أبا الغوث لم ينفرد به عن الأخنسي، بل تابعه عليه: صَالِحُ جزَرَة الْحَافِظُ الحجة الكبير، قال ثنا أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ الْأَخنسِيُّ بإسناده به ...
أخرجه الحاكم النيسابوري في «المستدرك» [2/ق263-264/ب-أ/مخطوط المكتبة الأزهرية]، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ الْفَقِيهُ بِبُخَارَى، ثنا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الْحَافِظُ به ...
قلت: وهذه متابعة مستقيمة إلى ابن عمران، وشيخ الحاكم ثقة مأمون إمام عصره ببخارى كما يقول تلميذه ابنُ البَيِّع الحافظ، وقد ترجمه الخليلي في «الإرشاد» وقال: « ثِقَةٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ».
من أوهام الحاكم
قال الحاكم عقب روايته: « هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»!
كذا يجازف أبو عبد الله! وقد أجلَّ الله الشيخين أن يكون مثل هذا الإسناد على شرطهما أو أحدهما وفيه أحمد الأخنسي!
وقد مضى أن يونس بن عمرو لم يحتج به صاحبا الصحيح، وإنما أخرج له مسلم رواية توبع عليها دون أن يعتمد عليه في الأمر.
أما الأخنسي: فكيف يكون مثله على شرط البخاري وهو الذي يقول عنه البخاري نفسه: « يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ»! كما نقله عنه العقيلي في «الضعفاء»؟!
تحقيق مصطلح «منكر الحديث» عند البخاري
وهناك من يُنْزِل قول البخاري في راوٍ: «منكر الحديث» بمنزلة قول غيره من النقاد! وهذا إخسار في الميزان! لأن هذا القول من البخاري يعني به: الساقطَ الحديث الذي لا تحل الرواية عنه، كما أشار البخاري نفسه إلى تفسير كلامه في «تاريخه الأوسط/رواية أبي محمد الخفاف» [3/ 582/طبعة مكتبة الرشد] فقال هناك: « هؤلاء الذين يقولون [كذا! ولعل الصواب: قلتُ]: منكر الحديث, لست أرى الرواية عنهم , وإذا قالوا: [كذا! ولعل الصواب: قلتُ] سكتوا عنه , فكذلك لا أروي عنهم».
وبهذا النقل: تطيش تصرفات جماعة من متأخري المحدثين في إنزال كلام البخاري في إطلاق قوله: «منكر الحديث» غير منزله.
حول توهيم البخاري في تاريخه
وقد عاد البخاري وذكر هذا الرجل في «تاريخه» لكنه سماه محمدًا وقال فيه مثل قولته الماضية! وهذا مما انفرد به البخاري! فإما أن يكون للرجل اسمان-وهذا معروف له نظائر- وإما أن يكون البخاري يرى التفريق بينهما، والثاني بعيد، والأقرب أن الاختلاف في اسمه من قِبَل الرواة عنه، وجمهور النقاد الأقدمون على تسميته: «أحمد». قال الخطيب: « وذلك أشهر عندنا».
بل قد أشار أبو زرعة الرازي وصاحبه إلى تخطئة البخاري في تسميته: «محمدًا»؛ فأورد ابن أبي حاتم في كتابه: « بيان خطأ البخاري» ترجمة البخاري لــ: ( محمد بن عمران) ونقل عقبها قول أبي زرعة: «وإنما هو أحمد بن عمران، قد كتبت عنه». ثم نقل عن أبيه موافقته لأبي زرعة.
وهذا لا يتجه أن يكون خطأ من البخاري، لأنه سماه: «أحمد» في رواية يحيى بن آدم عنه كما ذكره العقيلي في كتابه، فالأقرب ما ذكرناه آنفًا من أن الاختلاف في اسم هذا الشيخ إنما هو من قِبَل الرواة عنه، بعضهم يسميه: «أحمد»، وبعضهم يسميه: «محمدًا»، وقد أشار إلى هذا أبو بكر ابن ثابت الحافظ في «تاريخه»، وكذا أبو سعد ابن السمعاني في «أنسابه» وغيرهما، فالظاهر أن البخاري سمع الاسمين فذكره بهما في الموضعين.
وقد رأيتُ البيهقي أخرج في «الشعب» حديثًا من طريق أحمد الأخنسي ثم قال عقبه: « تَفَرَّدَ بِهِ: أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ الْأَخْنَسِيُّ هَذَا، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَهُوَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُنْكَرٌ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي «التَّارِيخِ» فِي الْمُحَمَّدِينَ : «مُحَمَّدَ بْنَ عِمْرَانَ الْأَخْنَسِيَّ، كَان بِبَغْدَادَ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ»، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَرَادَ، هَذَا .... ». وهو كما قال.
وجنح بعضهم إلى التفريق بين: «أحمد بن عمران الأخنسي» وبين: «محمد بن عمران الأخنسي»! وهذا ما يُفْهم من صنيع أبي أحمد الجرجاني في «كامله»! وهو ما أشار إليه ابن ماكولا في «إكماله» فقال: «قيل: هما اثنان»!
وهذا بعيد عندي، والذين ترجموا للرجلين من المتأخرين إنما تابعوا البخاري على ذلك، كأبي بكر ابن ثابت الحافظ وابن الجوزي والذهبي وابن حجر وغيرهم، وقد نبَّه الخطيب والذهبي وابن حجر على هذا، فلا يظنن متوهِّم أنهم كانوا يرون التفريق بين الرجلين!
كلمة في ذم التسرع في تخطئة الكبار
وينبغي على المحقق: أن يَتَّسِع نطَاقُ ترَيُّثه فيما يبدو له- بادِيَ الرأي- أنه من أخطاء الأئمة، وذلك بانتخاب المزيد من وجوه التأويل فيما يعود بالتوفيق بين كلامهم، ويدرأ لائمة التنكيد عنهم.
فهناك من تأخذه العجلة بتخطئة بعضهم فيما يكون له من أصناف الأعذار والتأويلات؛ ما يدفع عنه ألوان المشاكسات والتعقبات.
فترَى من يُقْبِلُ مختالًا فِي بُرْود الاعتراض، وَيَخْطِرُ فِي مَطَارِف الانتهاض، ثم يتجشم تخطئة الكبار فيما يرتدُّ إليه، وهو بعْدُ لَمْ يَترقْرَق مَاءُ هذا الفن اللطيف بين عِطْفيْه!
فمثل هذا لا يَخامره شَكٌّ أنْ يرمي البخاري بالغفلة في هذا الموضع!
فإذا قيل له: قد نزَّه الله البخاري عن الغفلة في هذا المقام بِذِكْره هذا الشيخ في مكان آخر باسمه الذي عرفه به النقاد: «أحمد بن عمران».، كما نقله عنه العقيلي وغيره.
قال لك في سُكُونِ طَرْفٍ: لا بأس! قد اضطرب البخاري بشأن الرجل!
هكذا يقول ضربة لازب! وإنما هو المضطرب بظنه، المُرْتَبِك بنقْده.
ولا حجة له في إشارة أبي زرعة وصاحبه إلى توهيم البخاري فيما نقله عنهما ابن أبي حاتم في كتابه: «بيان خطأ البخاري في تاريخه»!
لأن هؤلاء جميعًا لم يقفوا على قول البخاري الآخَر الذي فيه الموافقة لهم، فلم يُؤْتَ البخاري عن غفلة، ولا باغتَتْه وهْلَة، على أنه لم يتفرد بتسمية هذا الشيخ: «محمدًا» في «تاريخه»، بل روى أحمد بن زهير النسائي الحافظ كثيرًا عن هذا الشيخ في «تاريخه» وسماه: «محمدًا» أيضًا!
وقال الحافظ في «اللسان»: «وأكثر أبو عوانة الرواية عنه [يعني: عن أحمد بن عمران] في «صحيحه» وروى في «صحيحه» أيضًا عَن مُحَمد بن عمران».
وقد غلط مَنْ أوهم أن أبا يعلى الموصلي قد شاكَلَ أبا عوانة في روايته عن هذا الشيخ على الوجهين! يعني تارة باسمه: «أحمد» وتارة بـــ: «محمد»! وليس ذلك سوى سمادير النائم!
وإنما روى عنه أبو يعلى وسماه: «أحمد» في أحاديث كثيرة أوردها «مسنده الكبير والصغير».
أما ما وقع في المطبوع من «مسنده الصغير» [5/70/طبعة دار المأمون] من قوله هناك: «حَدَّثنا مُحَمَّدٌ الأَخْنَسِيُّ»! فهو من تصرُّف المعلق عليه! حيث وقع في الأصل: «حدثنا أحمد الأخنسي»؛ فأقْدَم ذلك المعلق على تحريف الأصل، وإبدال: «أحمد» بــ: «محمد»! ولم يُبْدِ في ذلك حجة إلا ما يشهد عليه بالفقْر التام في تلك البابة!
وليس هذا التحريف بأُولَى جنايات هذا المعلق على «المسند»! وقد تعقبناه على هذا الموضع بما تراه في كتابنا «الرحمات/طبعة دار الحديث» [عقب تخريجنا الحديث رقم/2663]، ولا حاجة لحكاية كلامنا هنا.
وأيضًا قد روى عن هذا الشيخ جماعة آخرون منهم: الحافظ أبو بكر ابن أخت غزال (عند الطحاوي في «المشكل») والحافظ أبو شيخ البرجلاني ( عند ابن أبي الدنيا في «التهجد»)، والحافظ أبو يوسف الدورقي (عند ابن عساكر في «تاريخه») وغيرهم وسموه: «محمدًا».
وهذا كله يؤيد نظر البخاري، وأنه بَرِيء الْعَهْد مِمَّا رُمِيَ به.
لكنْ: منْ ألِفَ جَنْبُه مَضَاجِعَ الاعتراض، وَاسْتَوطَأ مِهادَ الْخمُول فيما هو بسبيله، لا يتحاشى رَمْيَ الكبار بالتخطئة فيما يكون هو الخاطئ بالعجَلَة دونهم!
تابع البقية: .....