تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 29

الموضوع: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

  1. #1

    افتراضي (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل

    الحمد لله هادي العاملين إلى أقوم سبيل، ومُشيِّدِ منار هذا الدين في سماء كلِّ جيل، والصلاة والسلام على النبي الصادق الوعد النبيل، وعلى آله وأصحابه الحافظين للشريعة رُسُومَها فهُمْ عليها أدِلَّاءُ كلِّ دَلِيل. وبعد:
    فهذا أولُ حديث نقوم إلى تثبيته، ونسعى لدرأ الضعْف عنه ممنْ وَصَمَه به، في سلسلة نَشَطْنا لها من صحاح الأخبار اتَّفَقَ وَسْمُهَا بــ: «أَلْوِيَةُ النَّصْرِ في التَّصَدِّي لِمَا انْفَرَدَ بتضْعِيفِهِ مُتَأخِّرُو العَصْر».
    رأينا وجوبَ التعرُّض لها، فنهضْنَا إلى تَسْطيرها تِبَاعًا، قَصَدْنا بها تخليصَ تلك الصحاح التي تناولتْها سِهامٌ طائشة، وطالتْها أيادٍ خاطفة، فَنَفَيْنا عنْها مُعْتَلَجِ الرِّيَب، ورَدَدْنا الأمرَ إلى نِصابه، وَرُمْنا من وراء ذلك مَطْلبًا تَسْتَصْبِحُ بِمِشْكاته البصائرُ الزائغة، وتنكشف بِضِيائه معالِمُ الهُدَى.
    حَدَاني إلى التَّجَشُّمِ لها في تلك الأوقات أغراضٌ اختَلَجَتْ مَعالِمُها في سِرِّي، وآمالٌ اعْتَلَجَتْ بواعثُها في صدْرِي، وقد عَلِمَ اللهُ أني نَظَمْتُ عقودَها ونَفْسُ المُسْتهامِ في طيَّاتِ لواعِجِه تَغُطُّ، ودُنْيا الآلامِ لا تزال تعاكِسُه فتأخُذَ منه وتَحُطُّ!
    ولستُ أزعم أني خُضْتُ في تحرير تلك السلسلة وغيرها غمَرَاتِ الحوَادِث، ولا ركبْتُ في تجويدِها أكتافَ الشدَائِد، ولا اقْتَعَدتُّ من أجْل ترْصِيفِها ظهُورَ المَكارِه! وإنما كانتْ عارِضًا شرِيفًا دعَتِ النفسَ إلى جَمْعِه أحادِيثُ أمانِيها، ولجَأتْ إلى الانْقيادِ بِتَسْطِيرِه من خَاطِراتِ أغْرَاضٍ كانتْ تُعَانِيها.
    وسأنشط لمثلها بعون الله – في سلسلة أخرى- في التصدِّي لمحاولات جماعة من المتأخرين في الترصُّد لجملة من أحاديث «الشيخين» بالتجريح والتضعيف؛ والتعْضِيل والتزييف! مع ادعاء أكثرهم مسايرة المتقدمين في إعلال الأخبار؛ ونَقْد المَرْويَّات والآثار! ورأيتُ بعضهم في هذا الصدد يسْتَسْمِن ورَمَه ويظنه شَحْمًا! فيُشْبِع أفكارَه منه ويملأ بطونَ دفاتِره، ثم يأتي فيه بترَاكِيبَ تَخِفُّ عندها جَلامِيدُ الصخُور!
    وقد فُتِحَ أمامي الآن من تناقضات تلك الشرذمة الناقمة على «أحاديث الصحيحين/ خاصة» فيما لم يُسْبَقوا إلى الغمز منه؛ أبوابٌ مؤْصَدةٌ مما لو كان مِثْلها ذَهَبًا لعُدَّ رِكَازًا يُخَمَّس!
    وقد ارتضينا رَسْمَ هذه السلسلة الثانية بـــ: «مُكْحُلَةُ الأبْصَارِ في تَثْبِيتِ ما احتجَّ به الشيخانِ مِنْ أخبار».
    ولم أكن –ولله الفضل- ممن ينتظر بعنائه - فيما يطلب به وجْه الرحمن- ثناءً من أحدٍ أو شُكْرًا، ولا ممن يسعى لِتَطْرِيَة وجوهِ القوم بما يَجْلِب لصاحبه عند العقلاء أمْرًا نُكْرًا، ولا ممنْ يخَطمُ أَنْفَه بِالعار بالتلاعب في بابَةِ التصحيح والتضعيف إرضاءً للأهواء، ولا ممن يُبْرِزُ صَفْحَتَه أمام العقلاء بالفضيحة ائْتَمارًا بما يُغْضِب الله ويُرْضِي عنه الدهْمَاء!
    ولا علينا إنْ بدأنا تلك السلسلة الشريفة بتخريج حديث: «عجوز بني إسرائيل»، وهو خبر شريف ثابت من حديث أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه- وقد ورد من حديث غيره من الصحابة، وكذا في الباب عن جماعة من التابعين ومَنْ دونهم، لكنه لم يثبت مرفوعًا إلا من طريق أبي موسى وحسب.


    إسنادنا إلى حديث أبي موسى
    أخبرنا الشيخ الجليل المُعَمَّر فوق المئة: مُعَوَّض عَوَض إبراهيم الأزهري المصري -إجازة بالمشافهة والمكاتبة- عن العلامة الكبير عليّ بن سرور الزنْكَلُوني عن العلامة عبد الهادي بن نَجَا الإبياري عن الشيخ المحدث الفقيه البرهان الباجوري عن الشمس الفقيه محمد بن شافعيّ الفضالي.
    وأخبرنا أيضًا: الشيخ المُسْنِد أبو بكر زهير بن مصطفى الشاويش، والشيخ المُعَمَّر يوسف بن محمود العتوم السُّوفِي الأردني، والمعمَّر فوق المئة محمد فؤاد طه الدمشقي وغيرهم - إجازة- عن مُسْنِد الشام محمد بدر الدين بن يوسف البَيْبَاني عن المعمَّر الشيخ إبراهيم السقا الشافعي المصري عن الأمير الصغير.
    وأخبرنا: الشيخ المُعَمَّر عبد الرحمن بن عبد الحي الكتاني، وجماعة فوق الخمسة - إجازة- كلهم عن الشيخ الجليل المسْنِد محمد عبد الحي الكتاني عن عبد الله بن درويش السكري عن محدث الشام الوجيه عبد الرحمن الكزبري الدمشقي.
    كلهم (الفضالي والكزبري والأمير الصغير) عن الشيخ المسند محمد بن محمد الأمير الكبير عن شيخه نور الدين علي بن الحسن الصعيدي عن محمد بن عقيلة المكي عن حسن بن علي العجيمي عن الفقيه خير الدين الرملي عن الإمام أحمد بن محمد أمين الدين ابن عبد العالي عن أبيه، عن القاضي العلامة زكريا الأنصاري عن الحافظ ابن حجر قال:
    أخبرتنا فاطمة بنت محمد بن عبد الهادي عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي الهيجاء أنبأنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن أبي الفتح المرداوي الخطيب قال: قُرِئَ على فاطمة بنت سعد الخير الأندلسي ونحن نسمع بمصر قالت: أنبأنا أبو القاسم زاهر بن طاهر الشحامي بنيسابور أنبأنا أبو سعد محمد بن عبد الرحمن الكنْجروذِي أنبأنا أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان أنبانا أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي قال: حَدَّثنا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثنا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمْرِو، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ:
    «أَتَى النَّبِيُّ -صَلى الله عَلَيه وسَلمَ- أَعْرَابِيًّا فَأَكْرَمَهُ، فَقَالَ لَهُ: ائْتِنَا , فَأَتَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلمَ: سَلْ حَاجَتَكَ، فَقَالَ: نَاقَةً نَرْكَبُهَا، وَأَعْنُزًا يَحْلُبُهَا أَهْلِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلى الله عَلَيه وسَلمَ-: عَجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟
    قَالَ: إِنَّ مُوسَى لَمَّا سَارَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ ضَلُّوا الطَّرِيقَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ عُلَمَاؤُهُمْ: إِنَّ يُوسُفَ لَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ أَخَذَ عَلَيْنَا مَوْثِقًا مِنَ اللهِ أَنْ لاَ نَخْرُجَ مِنْ مِصْرَ حَتَّى نَنْقُلَ عِظَامَهُ مَعَنَا، قَالَ: فَمَنْ يَعْلَمُ مَوْضِعَ قَبْرِهِ، قَالَ: عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَبَعَثَ إِلَيْهَا فَأَتَتْهُ، فَقَالَ: دُلِّينِي عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ، قَالَتْ: حَتَّى تُعْطِيَنِي حُكْمِي، قَالَ: مَا حُكْمُكِ؟ قَالَتْ: أَكُونُ مَعَكَ فِي الجَنَّةِ، فَكَرِهَ أَنْ يُعْطِيَهَا ذَلِكَ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَنْ أَعْطِهَا حُكْمَهَا.
    فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ إِلَى بُحَيْرَةٍ: مَوْضِعِ مُسْتَنْقَعِ مَاءٍ، فَقَالَتْ: أَنْضِبُوا هَذَا المَاءَ، فَأَنْضَبُوا، قَالَتِ: احْتَفِرُوا وَاسْتَخْرِجُوا عِظَامَ يُوسُفَ، فَلَمَّا أَقَلُّوهَا إِلَى الأَرْضِ إِذَا الطَّرِيقُ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ
    ».
    قلت: هذا حديث شريف ثابت من رواية أبي إسرائيل يونس بن عمرو الهمدَاني عن أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري عن أبيه، لا نعلم أحدًا تابع يونس عليه، ولا شاركه في روايته عن أبي بردة.
    وقد أخرجه من هذا الوجه: أبو يعلى في «مسنده/رواية أبي عمرو ابن حمدان» [رقم/ 7254 /ومعه «رحمات الملأ الأعلى»/طبعة دار الحديث]، وعنه أبو حاتم ابن حبان في «صحيحه» [رقم/ 723/ومعه الإحسان] حدثنا حَدَّثنا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ بإسناده به...
    قلت: وهذا إسناد صالح في المتابعات.
    وابن فضيل: هو محمد بن فضيل بن غزوان الإمام الثقة المأمون، ولم يتكلم فيه أحد بحجة! وقد جازف الزَّيْنُ المناوي في حقه بما رددناه عليه في مكان آخر.
    ويونس بن عمرو: هو ابن أبي إسحاق السبيعي أبو إسرائيل الشيخ العالِم الفقيه المُحدِّث المُكْثِر الصدوق، الإمام بن الإمام، ولم يُصِب مَنْ أهْدَر حديثه جملة كما سيأتي.
    وأبو بردة: هو ابن أبي موسى الأشعري أحد نُبَلاء أئمة التابعين مع الصدْق والأمانة وثخانة الدين، وقد اختلف في اسمه على أقوال، لكنه اشتهر بكنيته بين حمَلَة الآثار.
    التحقيق في حال أبي هشام الرفاعي
    وأما شيخ أبي يعلي: محمد بن يزيد الرفاعي فهو آفة هذا الطريق.
    وحاصل حاله: أنه ضعيف الحديث لا يأوي منه إلى رُكْنٍ يُشاد به، كان يُسْرِع إلى رواية الغرائب، وترديد الأفراد من الأخبار؛ حتى كثرت المناكير في حديثه، وانتشر الدَّغَل في رواياته، مع عدم التصوُّن في السماع، والتساهل في الأخذ والتحديث، إلى أنْ رماه ابن نمير بالسرقة جهارًا! وقد تدامَجَ أكثر النقاد على تضعييفه، وإليهم المنتهى في المعرفة به.
    ومن أثنى عليه فلم يَخْبُر حديثه كما خبَرَه غيره، وقد رُوِيَ عن أبي زكريا الغطفاني أنه أطْلَق فيه الكذب! ولم يصح ذا عنه، بل كان ابن معين حسنَ الرأي فيه، ما يذكره إلا بخير.
    ولم يكن أبو هشام الرفاعي مدفوعًا عن عِلْم وفقهٍ ودين، ومثله مأمون الجانب من سِرَاجَة الزُّور، لكنه لم يكن بذاك المتصوِّن فيما يسمع، مع تساهلٍ وتتبُّعٍ لمهجور الأخبار، وشاذِّ الآثار، فانطلقت فيه ألْسَنة النقاد من أصحابه وخُلَطائه. وهو من رجال «التهذيب» و«ذيوله».
    بيان رواية الرفاعي في «الصحيحين».
    وقد قيل إن البخاري روى له استشهادًا، جزم بذلك جماعة، وأنكره آخرون، وقالوا: إنما روى البخاري لآخر من نفْس الطبقة يُدْعَى: « محمد بن يزيد الكوفي»، وهذا هو الصواب عندي.
    أما مسلم بن الحجاج فقد كان ينتقي له في «صحيحه» ما علِم أنه من ثابت حديثه بمتابعة غيره من الثقات عليه، فليس الرجل على شرطه أصلًا.
    وكذا أخرج مسلم ليونس بن أبي إسحاق حديثًا في «صحيحه» متابعة لا احتجاجًا، فليس هو الآخر على شرطه.
    من إيهامات النور الهيثمي
    وقد أدرج النورُ الهيثمي هذا الحديث في «المجمع» [10/ 267]، ثم قال: « ورجال أبي يعلى رجال الصحيح»! كذا يقول على عادته في الإيهام أن يكون هؤلاء الرجال ممن احتج بهم الشيخان!
    وقد عرفتَ أن أبا هشام الرفاعي ويونس بن عمرو لم تكن رواياتهما في «صحيح مسلم» إلا اعتبارًا لا انفردًا، واستشهادًا لا احتجاجًا.
    وكم زلَّتْ أقدام جماعةٍ من المتأخرين بالاتكاء على عبارة الهيثمي في توطيد أركان أسانيد غايةُ ما فيها أن يكون حَمَلَتُها ممنْ اتفق ذِكْرُهم في «الصحيح» على غير سبيل الاعتناء والتقصُّد! وتراهم يسوقون كلام الهيثمي في هذا الصدد مساق البيِّنات النَّوَاصِع، والحُجَج الشهْبَاء، فصاروا يتهجَّمون عَلَى المَعْنَى مِن غَيْر بابِه!
    أمَّا من يتذرَّع بتلك العبارة في تصحيح الأخبار جملة! فإنما هو في وادٍ آخر!ولم يكن النور الهيثمي ممن يُحْسِنُ التمييز بين مَنْ خُرِّجَ حديثُه في «الصحيح» مَخْرجَ الاحتجاج والاعتناء، وبين مَنْ خرج حديثه مخرج الاعتبار في الشواهد والمتابعات وتلك البابة! بل كان يقول تلك العبارة: «ورجاله رجال الصحيح» كلما احتاج إليها إذا رأى رجال ذلك الإسناد قد وقعتْ أسماؤهم في «الصحيح» ولو اتفاقًا!
    متابعة الأخنسي لأبي هشام الرفاعي
    ولم ينفرد أبو هشام الرفاعي بهذا الحديث عن ابن فضيل، بل تابعه عليه:
    أحمد بن عمر الأخنسي قال: حدثنا ابن فضيل، حدثنا يونس بن عمرو، عن أبي بردة، عن أبي موسى به نحوه ....
    أخرجه مُسْنِدُ العراق في وقْته أبو عليٍّ ابْنُ شَاذَانَ في «جزء من حديث عبد الباقي بن قانع وجعفر بن هارون الدينوري/انتقاء أبي الحسين ابن المظفر الحافظ» [ق 161/ب/ ضمن مجموع حديثي رقم 297 بظاهرية دمشق]، وعنه الخطيب في «تاريخ مدينة السلام» [10/ 495/طبعة بشار عواد]، وعنه أبو الفرج ابن الجوزي في «المنتظم» [1/ 347- 348/طبعة الدار العلمية]، حدثنا أبو الغوث طَيِّب بن إسماعيل القحطبي، حدثنا أحمد بن عمران الأخنسي به.
    قلت: وهذه متابعة مخدوشة إلى الأخنسي، وطيب بن إسماعيل حدَّث عنه أبو القاسم الطبراني وجماعة، ولم يتبين لي من أمره ما أطمئن إليه، وقد ترجمه الخطيب في «تاريخه» والسمعاني في «الأنساب» ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلا! فهو إلى جهالة الحال عندي أقرب.
    لكنَّ أبا الغوث لم ينفرد به عن الأخنسي، بل تابعه عليه: صَالِحُ جزَرَة الْحَافِظُ الحجة الكبير، قال ثنا أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ الْأَخنسِيُّ بإسناده به ...
    أخرجه الحاكم النيسابوري في «المستدرك» [2/ق263-264/ب-أ/مخطوط المكتبة الأزهرية]، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ الْفَقِيهُ بِبُخَارَى، ثنا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الْحَافِظُ به ...
    قلت: وهذه متابعة مستقيمة إلى ابن عمران، وشيخ الحاكم ثقة مأمون إمام عصره ببخارى كما يقول تلميذه ابنُ البَيِّع الحافظ، وقد ترجمه الخليلي في «الإرشاد» وقال: « ثِقَةٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ».
    من أوهام الحاكم
    قال الحاكم عقب روايته: « هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»!
    كذا يجازف أبو عبد الله! وقد أجلَّ الله الشيخين أن يكون مثل هذا الإسناد على شرطهما أو أحدهما وفيه أحمد الأخنسي!
    وقد مضى أن يونس بن عمرو لم يحتج به صاحبا الصحيح، وإنما أخرج له مسلم رواية توبع عليها دون أن يعتمد عليه في الأمر.
    أما الأخنسي: فكيف يكون مثله على شرط البخاري وهو الذي يقول عنه البخاري نفسه: « يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ»! كما نقله عنه العقيلي في «الضعفاء»؟!
    تحقيق مصطلح «منكر الحديث» عند البخاري
    وهناك من يُنْزِل قول البخاري في راوٍ: «منكر الحديث» بمنزلة قول غيره من النقاد! وهذا إخسار في الميزان! لأن هذا القول من البخاري يعني به: الساقطَ الحديث الذي لا تحل الرواية عنه، كما أشار البخاري نفسه إلى تفسير كلامه في «تاريخه الأوسط/رواية أبي محمد الخفاف» [3/ 582/طبعة مكتبة الرشد] فقال هناك: « هؤلاء الذين يقولون [كذا! ولعل الصواب: قلتُ]: منكر الحديث, لست أرى الرواية عنهم , وإذا قالوا: [كذا! ولعل الصواب: قلتُ] سكتوا عنه , فكذلك لا أروي عنهم».
    وبهذا النقل: تطيش تصرفات جماعة من متأخري المحدثين في إنزال كلام البخاري في إطلاق قوله: «منكر الحديث» غير منزله.
    حول توهيم البخاري في تاريخه
    وقد عاد البخاري وذكر هذا الرجل في «تاريخه» لكنه سماه محمدًا وقال فيه مثل قولته الماضية! وهذا مما انفرد به البخاري! فإما أن يكون للرجل اسمان-وهذا معروف له نظائر- وإما أن يكون البخاري يرى التفريق بينهما، والثاني بعيد، والأقرب أن الاختلاف في اسمه من قِبَل الرواة عنه، وجمهور النقاد الأقدمون على تسميته: «أحمد». قال الخطيب: « وذلك أشهر عندنا».
    بل قد أشار أبو زرعة الرازي وصاحبه إلى تخطئة البخاري في تسميته: «محمدًا»؛ فأورد ابن أبي حاتم في كتابه: « بيان خطأ البخاري» ترجمة البخاري لــ: ( محمد بن عمران) ونقل عقبها قول أبي زرعة: «وإنما هو أحمد بن عمران، قد كتبت عنه». ثم نقل عن أبيه موافقته لأبي زرعة.
    وهذا لا يتجه أن يكون خطأ من البخاري، لأنه سماه: «أحمد» في رواية يحيى بن آدم عنه كما ذكره العقيلي في كتابه، فالأقرب ما ذكرناه آنفًا من أن الاختلاف في اسم هذا الشيخ إنما هو من قِبَل الرواة عنه، بعضهم يسميه: «أحمد»، وبعضهم يسميه: «محمدًا»، وقد أشار إلى هذا أبو بكر ابن ثابت الحافظ في «تاريخه»، وكذا أبو سعد ابن السمعاني في «أنسابه» وغيرهما، فالظاهر أن البخاري سمع الاسمين فذكره بهما في الموضعين.
    وقد رأيتُ البيهقي أخرج في «الشعب» حديثًا من طريق أحمد الأخنسي ثم قال عقبه: « تَفَرَّدَ بِهِ: أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ الْأَخْنَسِيُّ هَذَا، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَهُوَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُنْكَرٌ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي «التَّارِيخِ» فِي الْمُحَمَّدِينَ : «مُحَمَّدَ بْنَ عِمْرَانَ الْأَخْنَسِيَّ، كَان بِبَغْدَادَ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ»، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَرَادَ، هَذَا .... ». وهو كما قال.
    وجنح بعضهم إلى التفريق بين: «أحمد بن عمران الأخنسي» وبين: «محمد بن عمران الأخنسي»! وهذا ما يُفْهم من صنيع أبي أحمد الجرجاني في «كامله»! وهو ما أشار إليه ابن ماكولا في «إكماله» فقال: «قيل: هما اثنان»!
    وهذا بعيد عندي، والذين ترجموا للرجلين من المتأخرين إنما تابعوا البخاري على ذلك، كأبي بكر ابن ثابت الحافظ وابن الجوزي والذهبي وابن حجر وغيرهم، وقد نبَّه الخطيب والذهبي وابن حجر على هذا، فلا يظنن متوهِّم أنهم كانوا يرون التفريق بين الرجلين!
    كلمة في ذم التسرع في تخطئة الكبار
    وينبغي على المحقق: أن يَتَّسِع نطَاقُ ترَيُّثه فيما يبدو له- بادِيَ الرأي- أنه من أخطاء الأئمة، وذلك بانتخاب المزيد من وجوه التأويل فيما يعود بالتوفيق بين كلامهم، ويدرأ لائمة التنكيد عنهم.
    فهناك من تأخذه العجلة بتخطئة بعضهم فيما يكون له من أصناف الأعذار والتأويلات؛ ما يدفع عنه ألوان المشاكسات والتعقبات.
    فترَى من يُقْبِلُ مختالًا فِي بُرْود الاعتراض، وَيَخْطِرُ فِي مَطَارِف الانتهاض، ثم يتجشم تخطئة الكبار فيما يرتدُّ إليه، وهو بعْدُ لَمْ يَترقْرَق مَاءُ هذا الفن اللطيف بين عِطْفيْه!
    فمثل هذا لا يَخامره شَكٌّ أنْ يرمي البخاري بالغفلة في هذا الموضع!
    فإذا قيل له: قد نزَّه الله البخاري عن الغفلة في هذا المقام بِذِكْره هذا الشيخ في مكان آخر باسمه الذي عرفه به النقاد: «أحمد بن عمران».، كما نقله عنه العقيلي وغيره.
    قال لك في سُكُونِ طَرْفٍ: لا بأس! قد اضطرب البخاري بشأن الرجل!
    هكذا يقول ضربة لازب! وإنما هو المضطرب بظنه، المُرْتَبِك بنقْده.
    ولا حجة له في إشارة أبي زرعة وصاحبه إلى توهيم البخاري فيما نقله عنهما ابن أبي حاتم في كتابه: «بيان خطأ البخاري في تاريخه»!
    لأن هؤلاء جميعًا لم يقفوا على قول البخاري الآخَر الذي فيه الموافقة لهم، فلم يُؤْتَ البخاري عن غفلة، ولا باغتَتْه وهْلَة، على أنه لم يتفرد بتسمية هذا الشيخ: «محمدًا» في «تاريخه»، بل روى أحمد بن زهير النسائي الحافظ كثيرًا عن هذا الشيخ في «تاريخه» وسماه: «محمدًا» أيضًا!
    وقال الحافظ في «اللسان»: «وأكثر أبو عوانة الرواية عنه [يعني: عن أحمد بن عمران] في «صحيحه» وروى في «صحيحه» أيضًا عَن مُحَمد بن عمران».
    وقد غلط مَنْ أوهم أن أبا يعلى الموصلي قد شاكَلَ أبا عوانة في روايته عن هذا الشيخ على الوجهين! يعني تارة باسمه: «أحمد» وتارة بـــ: «محمد»! وليس ذلك سوى سمادير النائم!
    وإنما روى عنه أبو يعلى وسماه: «أحمد» في أحاديث كثيرة أوردها «مسنده الكبير والصغير».
    أما ما وقع في المطبوع من «مسنده الصغير» [5/70/طبعة دار المأمون] من قوله هناك: «حَدَّثنا مُحَمَّدٌ الأَخْنَسِيُّ»! فهو من تصرُّف المعلق عليه! حيث وقع في الأصل: «حدثنا أحمد الأخنسي»؛ فأقْدَم ذلك المعلق على تحريف الأصل، وإبدال: «أحمد» بــ: «محمد»! ولم يُبْدِ في ذلك حجة إلا ما يشهد عليه بالفقْر التام في تلك البابة!
    وليس هذا التحريف بأُولَى جنايات هذا المعلق على «المسند»! وقد تعقبناه على هذا الموضع بما تراه في كتابنا «الرحمات/طبعة دار الحديث» [عقب تخريجنا الحديث رقم/2663]، ولا حاجة لحكاية كلامنا هنا.
    وأيضًا قد روى عن هذا الشيخ جماعة آخرون منهم: الحافظ أبو بكر ابن أخت غزال (عند الطحاوي في «المشكل») والحافظ أبو شيخ البرجلاني ( عند ابن أبي الدنيا في «التهجد»)، والحافظ أبو يوسف الدورقي (عند ابن عساكر في «تاريخه») وغيرهم وسموه: «محمدًا».
    وهذا كله يؤيد نظر البخاري، وأنه بَرِيء الْعَهْد مِمَّا رُمِيَ به.
    لكنْ: منْ ألِفَ جَنْبُه مَضَاجِعَ الاعتراض، وَاسْتَوطَأ مِهادَ الْخمُول فيما هو بسبيله، لا يتحاشى رَمْيَ الكبار بالتخطئة فيما يكون هو الخاطئ بالعجَلَة دونهم!


    تابع البقية: .....

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,569

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    بارك الله فيكم

  3. #3

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    تنبيه مهم بشأن العزو إلى كتاب بيان خطأ البخاري
    وهنا تنبيه لا يحسن مغادرته بشأن العزو إلى كتاب ابن أبي حاتم: «بيان خطأ البخاري في تاريخه»، فقد قال مؤلفه في تقدمته: «سمعت أبي يقول: قال أبو زرعة: حمل إليَّ الفضل بن العباس المعروف بالصائغ «كتاب التاريخ» ذكر أنه كتبه من كتاب محمد بن إسماعيل البخاري فوجدت فيه: «محمد بن إبراهيم بن سليمان بن سمرة»، وإنما هو محمد بن إبراهيم بن خبيب بن سليمان بن سمرة بن جندب.
    سمعت أبي يقول كما قال».
    ثم جعل أبو زرعة يسوق كلام البخاري ويتعقبه، فجاء ابن أبي حاتم وجعل يذكر كلام أبيه عقب كلام أبي زرعة بالموافقة أو المخالفة أو الزيادة أو غير ذلك، ولم يُصرِّح ابن أبي حاتم باسم أبي زرعة بين يدي تعقبه على البخاري بعد ذلك؛ اكتفاءً بما ذكره في تقدمة كتابه من كون تلك التعقبات لأبي زرعة وحده.
    فجاء غير واحد من أصحابنا ومَنْ فوقهم من أهل عصرنا، وجعلوا يسوقون كلام أبي زرعة على أنه كلام ابن أبي حاتم نفسه!
    فصاروا يقولون مثلًا: قال ابن أبي حاتم في «بيان خطأ البخاري»: « عمران بن زيد العمي، وإنما هو عمران بن زيد التغلبي عن زيد العمي. سمعت أبي يقول كما قال»!؟
    ولو تبرَّعْنا بسؤالهم عن مَرَدِّ الضمير في قول ابن أبي حاتم: «سمعتُ أبي يقول كما قال»؟ لكانَ ركوبَ المَجَرَّة أهونُ عليهم من الكشف عن ذلك القائل!
    ومما سبق يتبين لك: أن جملة: « عمران بن زيد العمي، وإنما هو عمران بن زيد التغلبي عن زيد العمي» هي كلام أبو زرعة الرازي ليس سواه أحد، ولذلك قال ابن أبي حاتم عقب كلامه: «سمعتُ أبي يقول كما قال» يعني كما قال ابنُ خالِه عبدُ الكريم الحافظ.
    وهذا الخطأ في العزو: وقع فيه جماعة كما أشرْنا، ومنهم المعلق الفاضل على كتاب: «الضعفاء الصغير/طبعة دار ابن عباس» للبخاري، فقد أكثر في تعاليقه من تلك الغفلة!
    ولو استيقظ المُتَعثِّرون في مثل تلك الوِهاد هنا إلى ما أفصح عنه أصحاب المصنفات في أوائلها؛ لَمَا اسْتَعْجَمتْ عليهم المدَارِك الظاهرة، واسْتَسَرَّتْ دونهم الأشْباحُ الماثِلة، ولاهْتَدوْا إلى ما يحول بينهم وبين العثار لو أنهم يُحْسِنون التصوُّن لأنفسهم.
    من محاسن كتاب الثقات لابن قطلوبغا
    وهذا الشيخ الأخنسي: أورده في الضعفاء خلق من المتقدمين والمتأخرين، كالعقيلي، وابن عدي (والمُتَكَلَّم فيه عنده «محمد» دون «أحمد» كما سيأتي) وأبو الفتح الأزدي، وابن الجوزي، والذهبي.
    وزاد ابن قطلوبغا في ترجمة هذا الشيخ من كتابه: « الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة » [1/ 448]: «وذكره الدولابي، وابن الجارود، وأبو العرب في الضعفاء».
    وهذه الزيادة من محاسن كتاب ابن قطلوبغا، وليستْ من مَصُوغاته ولا مما تعب فيها، وإنما أخذها عفوًا من كتاب: «الاكتفاء بتنقيح كتاب الضعفاء/وقد طُبِعَ جزء منه» للحافظ مُغَلْطاي البَكْجري، فهو ينقل منه كثيرًا في كتابه ولا يُبَيِّن!
    وقد أغفل الحافظ ابن حجر هذه الزيادة في «لسانه» كما أغفل أضعافها مما على شاكلتها في «تهذيبه» مع أن كتب مغلطاي بين يديه لا يخفى مواضع ما يريد على مثله!
    وفوائد كتب مغلطاي- بين المتأخرين- لا مثيل لها في الدنيا، على أغلاط له يسْتَبِينُها الحُذَّاق.
    التحقيق بشأن الأخنسي
    أما أبو أحمد ابن عدي فقد تبع البخاري في «تاريخه» وسماه محمدًا في «كامله» وقال بعد أن نقل تضعييف البخاري له: «محمد هذا لم يبلغني معرفته، وإنما أعرف أحمد بن عمران الأخنسي كوفي، وأحمد بن عمران هو ثقة»! كذا وثقه! وقبله قال العجلي: «لا بأس بِهِ»، وقال ابن حبان: « مستقيم الحديث»!
    ورأى العلامة قاسم ابن قطلوبغا أن تلك الأقوال الثلاثة في الثناء على الأخنسي كافية لإدراج الرجل في كتابه: « الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة»!
    والظاهر: أن الأخنسي صدوق في الأصل، ولعل من وثقه قد وقف له على روايات ظاهرها الاستقامة، لكن البخاري وأبو حاتم وأبو زرعة هم أعلم بحاله من غيره، لا سيما وقد قابله أبو زرعة وكتب عنه، ورآه أبو حاتم وزهد فيه! وقال الحافظ الأزدي: «منكر الحديث غير رضي». وهذا قول إمام عارف.
    فالحاصل: أن التحقيق بشأن الأخنسي أنه صدوق كثير الأوهام والمناكير، ومثله لا يحتج بحديثه على الانفراد. وهو من رجال «الميزان» و«لسانه».
    حول مخالفة مشكدانة للرفاعي والأخنسي في سنده
    ثم جاء المُحدِّث المأمون عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان المشهور بــــ: «مشكدانة» وروى هذا الحديث عن محمد بن فضيل فقال: عن يونس بن أبي إسحاق، عن ابن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى به نحوه ....
    فزاد في الإسناد: «ابن أبي بردة»؟ بين يونس وأبي بردة!
    هكذا أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» كما في «تفسير ابن كثير» [6/142/طبعة دار طيبة]، حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن الْحُسَيْن [هو ابن الجنيد حافظ حديث الزهري] حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن أَبَان بْن صَالِح حَدَّثَنَا اِبْن فُضَيْل عَنْ يُونُس [تحرف في تلك الطبعة إلى: «عبد الله»! ومثله في طبعة أولاد الشيخ وغيرها!] بْن أَبِي إِسْحَاق عَنْ اِبْن أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى به ...
    الكشف عما بالإسناد من تحريف
    قلت: هذا إسناد فيه شيء؟ وأستبعد أن يكون قد اختُلِف على ابن فضيل في سنده، والأقرب عندي أن به تحريفًا وسهوًا من الناسخ، ولفظة: «ابن» قبل «أبي بردة» مع قوله: « أبيه» زيادة مقحمة لا حَظَّ لها ولا تكاد تجِيء!
    وليس بيدي الآن نسخة مخطوطة من «تفسير العماد ابن كثير» أعتمد عليها للنظر في تحقيق هذا التحريف!
    وقد وقفت على أكثر من خمس طبعات لــ: «تفسير ابن كثير» - وكذا على عدة مختصرات لجماعة من المتأخرين -كلها لم أجد فيها شفاء العليل، ولا إرواء الغليل!
    لكن نبَّه المعلقون على طبعة (أولاد الشيخ) [10/346] أن قوله-في سند الحديث-: [عن أبيه] قد سقط من بعض النسخ المخطوطة لأصل التفسير! فلذلك وضعوه بين معكوفتين؛ لكونه ثبت في بعض النسخ الأخرى!
    فإذا أسقطنا بعد ذلك لفظة: «ابن» قبل: «أبي بردة»؛ استقام لنا صواب الإسناد هكذا: «عن أبي بردة عن أبي موسى» ويكون موافقًا لرواية الرفاعي والأخنسي، وهذا هو الذس ينقدح في صدري، ويؤيده النظر.
    وهذه الطبعة المشار إليها (أولاد الشيخ) رأيت من يعدها أفضل الطبعات لــ: «تفسير ابن كثير»! وقد رأيتَ ما دهَمَها في هذا الموضع! وليس بيدي الآن طبعة (حكمت بشير ياسين/دار ابن الجوزي) ولا بِيَدِ قريبٍ مني كيما أُسَارِقُها النظر!
    احتمال الوهم على مشكدانة وشيء من أغلاطه
    وعلى التسليم باستقامة هذا الإسناد عن مشكدانة، فيكون غير محفوظ من وجهين بل ثلاثة:
    1- الأول: لا يبعد أن يكون مشكدانة قد وهم فأصابتْه تلك السلامة التي أصابت يونس بن عمرو الهمداني قبله!
    فقد قال الحافظ العقيلي في «الضعفاء»: « حدثنا محمد بن علي المري قال: كان في عبد الله بن عمر بن أبان سلامة شديدة، سمعتُه وحكى له رجل من أهل الكوفة عن عثمان بن أبى شيبة أو بن نمير أنه تكلم فيه وقال: أن كتب العلاء بن عصيم صارت إليه، فهذه الأحاديث الكبار منها! فقال: وأيش يضرني كلام عثمان أو غيره»؟!
    قلت: قوله «: كان في عبد الله بن عمر بن أبان سلامة شديدة» يعني تساهل في الأخذ، وتسامح في الرواية، بدليل الكلام بعدها، فقد اتهمه أبو جعفر العبسي الحافظ بكونه كان يأخذ من كتب العلاء بن عصيم الجعفي ويحدّث بها ولا يبيِّن ذلك! لكن ناضل عنه أبو بكر ابن أبي شيبة وأنكر على من نسب إليه ذلك وقال: «كنت أراه يسمع ويطلب الحديث». كما نقله العقيلي عنه.
    فائدة عن تدليس الشيوخ في حديث مشكدانة
    وقد حُفِظَ على مشكدانة أنه كان يدلس الشيوخ الضعفاء بتعمية أسمائهم، ونَبْذِ المشهور من ألقابهم، بحيث لا يهتدي إلى معرفتهم سوى العارف وحده!
    نبَّه على هذا: الخطيب في «الكفاية » وذكره في جملة «مَن يُغيّر أسماء الرواة» فقال : «روى عبد الله بن عمر المعروف بمُشْكُدَانة عن أَسيد بن زيد الجمال ، عن عمرو بن شَمِر ، فقال : ثنا أبو محمد مولى بني هاشم ، عن عمرو بن أبي عمرو ».
    وقال الحافظ في «اللسان»: « عمرو بن أبي عمرو ، هو : عمرو بن شَمِر ، نبه عليه ابن عدي ، وإنما ذكرتُه لأنه دُلِّسَ بعمرو بن أبي عمر مولى عبد المطلب الذي أُخْرِجَ حديثه في الصحيح ، وعمرو بن شَمِر متروك الحديث ».
    وقبلهما أشار إلى تدليسه أبو أحمد الجرجاني في ترجمة «عمرو بن شمر الجعفي» من كتابه.
    وهذه الفائدة ما رأيت أحدًا ذكرها في ترجمة مشكدانة، فذلك أدرجتها هنا من باب قَنْص الشوارد، وتقييد الأوابد.
    من أغلاط مشكدانة
    وقد يكون مشكدانة غلط في إسناد حديثنا هنا كما غلط من قبل في حديث ابن عباس في الإبراد ورواه بإسناد باطل أنكره عليه الإمام أحمد!
    فقال عبد الله بن أحمد في «العلل» [3/ 318]: «حدثني عبد الله بن عمر أبو عبد الرحمن قال حدثنا معاوية بن هشام قال حدثنا سفيان وفرات القزاز عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر فإن شدة الحر من في جهنم ».
    سألت أبي فقال: ليس هذا بشيء هذا باطل، أنكره من حديث معاوية بن هشام عن سفيان ».
    ومن أغلاط مشكدانة أيضًا: ما حدَّث به عن ابن المبارك عن مالك، عن الزُّهْري، عن أَنس قال: «كان قتل أشيم خطأ»
    أورده له الدارقطني في «العلل» ثم قال: «وهِمَ فيهِ، وغيره يَرويه، عَن ابن المُبارك، عن مالك، عن الزُّهْري، مُرسَلًا. وكذلك رَواه أَصحاب مالك عنه، وهو الصواب».
    قلت: ولهذا وغيره ذكره العقيلي في «الضعفاء» وساق أكثر ما ذكرناه، وليس مشكدانة من تلك البابة، بل هو ثقة صاحب حديث على أوهام تقع له. قال عنه الحافظ في «التقريب»: «صدوق فيه تشيع» والأوْلَى أن يقال: «ثقة ربما وهم. وفيه تشيُّع».
    احتمال التصحيف على مشكدانة في هذا الحديث
    وقد يكون مشكدانة تصحَّف عليه في كتابه: «عن أبي بردة» إلى: «بن أبي بردة»! ولهذا نظائر مشهورة، وقلْبُ حرف: «عن» إلى: «بن» يقع كثيرًا، لا سيما عند من اتصف بالتصحيف في الأخبار!
    وقد وُسِمَ مشكدانة بذلك، وذكورا عنه أخبارًا في تلك البابة كان يتَندَّرُ بها المحدثون! سطر بعضها الحافظ أبو أحمد العسكري في «تصحيفات المحدثين»، والخطيب في مواطن من كتابه: « الجامع لأخلاق الراوي». ولا حاجة لذكرها هنا.
    2- والثاني: أن الحديث محفوظ عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه به، هكذا حفظه لنا شيخ مشكدانة الحافظ الحجة أبو نعيم الملائي، فرواه عن يونس –كما سيأتي- فقال: ثنا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ به ...
    وإذا تكلَّم مثل أبي نعيم سكت مَنْ دونه! لا سيما وقد تأكدَّت روايته بمتابعة من تابعه عن ابن فضيل عن يونس كما سبق في روايتيْ: أبي هشام الرفاعي وأحمد الأخنسي، وهما وإن كانا شيخين ضعيفين إلا أن رواية أبي نعيم تدل على كونهما لم يغلطا في إسناده، وإنما حدَّثا به كما سمعاه.
    3- والثالث: أن يونس ابن أبي إسحاق غير معروف الرواية عن أحد من أبناء أبي بردة الأشعري فيما بلغنا، ولم نقف له على رواية أو خبر أو حكاية تُثْبِت ذلك، وإنما الرجل مشهور-مع صحة السماع- بالرواية عن أبي بردة نفسه.
    نعم: ذكر الحاكم في «معرفة علوم الحديث» [ص/ 313/طبعة دار إحياء العلوم] أن ليونس رواية عن أبي بردة بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ! وهو حفيد أبي بردة ابن أبي موسى، وهذا لم أجده لغير الحاكم بعد التتبع! وأخشى أن يكون وَهَمَ فيه وارْتَجَنَتْ عليه شواهد الحال!
    فإن يونس مشهور الرواية عن « بريد بن أبي مريم البصري » فلعله اشتبه على الحاكم بــ: «بريد بن عبد الله» فلَمْ يقْدر على تخْلِيصه! لا سيما و«بريد الأشعري» هذا في طبقة متأخرة يبعد معها أن يروي عنه مثل يونس الذي اكتفَى بجدِّه أبي بردة بن أبي موسى وكفَى!
    وعلى ثبوت كلام الحاكم: فلعله وقف على حرف أو حرفين سمعهما يونس من «أبي بردة بريد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ» الحفيد، فلذلك ذكر الحاكم روايته عنه.
    لكن: يبقى أن الأصل إذا أطلق يونسُ التحديث عن «أبي بردة» فإنما هو ابن أبي موسى الأشعري قولًا واحدًا لا ثَنِيَّةَ فِيه.
    التحقيق في رواية مشكدانة في هذا الموضع
    فلا يكون ما وقع في رواية مشكدانة هنا إلا وهمًا منه، أو تصحيفًا في كتابه، أو تحريفًا في بعض نسخ «تفسير ابن كثير»!
    والذي تحصَّل لي بعد النظر: استبعاد أن يكون مشكدانة قد غلط في رواية هذا الحديث، وإنما رواه كما رواه غيره على الوِفاق، وأن الأظهر بل الصواب ما وقع في بعض نسخ «تفسير ابن كثير» من إسقاط: «عن أبيه» في سنده، مع تحريف عبارة: «عن ابن أبي بردة»! وصوابها: «عن أبي بردة»، فلفظ: «ابن» هنا زيادة ليس لها رأس ولا ذَنَبٌ فتقوم بها حياة!
    إذا عُلِمَ هذا: فقد عادتْ رواية مشكدانة مرة أخرى إلى رواية الجماعة بالموافقة دون المنافرة، وبالمطابقة دون المناقضة.


    تابع البقية: ....

  4. #4

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    متابعة أبي نعيم لابن فضيل على هذا الحديث
    وقد توبع محمد بن فضيل على هذا الحديث ولم يتفرد به.
    تابعه حافظ زمانه أبو نعيم الملائي الحجة الثبت، فقال: ثنا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ ، أَنَّهُ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } [الشعراء: 52] الْآيَاتُ . فَقَالَ: ثنا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَعْرَابِيٍّ فَأَكْرَمَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تَعَهَّدْنَا ائْتِنَا ، فَأَتَاهُ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا حَاجَتُكَ ؟ فَقَالَ: نَاقَةٌ بِرَحْلِهَا وَيَحْلِبُ لَبَنَهَا أَهْلِي .
    فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجَزَ هَذَا أَنْ يَكُونَ كَعَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: مَا عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: إِنَّ مُوسَى حِينَ أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ ضَلَّ عَنْهُ الطَّرِيقُ فَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَا هَذَا ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَخَذَ عَلَيْنَا مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ أَنْ لَا نُخْرِجَ مِنْ مِصْرَ حَتَّى تُنْقَلَ عِظَامُهُ مَعَنَا . فَقَالَ مُوسَى: أَيُّكُمْ يَدْرِي أَيْنَ قَبْرُ يُوسُفَ ؟ فَقَالَ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَكَانَ قَبْرِهِ إِلَّا عَجُوزٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مُوسَى فَقَالَ: دُلِّينَا عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تُعْطِيَنِي حُكْمِي .
    فَقَالَ لَهَا: مَا حُكْمُكِ ؟ قَالَتْ: حُكْمِي أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ . فَكَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ قَالَ: فَقِيلَ لَهُ أَعْطِهَا حُكْمَهَا ، فَأَعْطَاهَا حُكْمَهَا فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ إِلَى بُحَيْرَةٍ مُسْتَنْقِعَةٍ مَاءً ، فَقَالَتْ لَهُمُ أَنْضِبُوا هَذَا الْمَاءَ . فَلَمَّا أَنْضَبُوا قَالَتْ لَهُمُ: احْفِرُوا فَحَفَرُوا فَاسْتَخْرَجُوا عِظَامَ يُوسُفَ فَلَمَّا أَنْ أَقَلُّوهُ مِنَ الْأَرْضِ إِذِ الطَّرِيقُ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ ».

    أخرجه الحاكم النيسابوري في «المستدرك» [2/ق187-188/ب-أ/مخطوط المكتبة الأزهرية]، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ الشَّيْبَانِيُّ بِالْكُوفَةِ ، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الزُّهْرِيُّ ، ثنا أَبُو نُعَيْمٍ به ....
    قلت: وهذه متابعة صحيحة إلى أبي نعيم.
    وشيخ الحاكم: كَانَ ثقة أمينًا، مقبول الشهادة عند الحكام قديمًا وحديثًا، كما يقول الخطيب في ترجمته من «تاريخه».
    وِإبْرَاهِيْمُ بنُ إِسْحَاقَ الزُّهْرِيُّ: هو ابْنُ أَبِي العَنْبَسِ قاضي الكوفة، كَانَ ثِقَةً، خَيِّرًا، فَاضِلًا، دَيِّنًا، صَالِحًا، كما يقول الخطيب أيضًا في ترجمته من «تاريخه».
    وهذا إسناد صالح مستقيم، رجاله كلهم ثقات أئمة سوى يونس بن عمرو ففي حفظه كلام، إلا أنه صدوق متماسك إن شاء الله. وسيأتي شرح حاله بما لا مزيد عليه.
    استدراك سقْطٍ مهم في مطبوعة المستدرك
    قد سقط أداة التحديث: «ثنا» بين يونس وأبي بردة في عدة مطبوعات لــ: «مستدرك الحاكم»! بل لا أعلم طبعة وقع فيها إثبات أداة التحديث هنا!
    وقد سقط أيضًا في مطبوعات «المستدرك» التي وقفتُ عليها: تمام كلام الحاكم عقب هذا الحديث! فقد قال عقب روايته في نسختنا المخطوطة: « هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يخرجاه ! وَلَعَلَّ وَاهِمًا يُتَوَهَّمُ أن يُونُسَ بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ السبيعي لم يسَمِعَ مِنَ أَبِي بُرْدَةَ، وليس بعلة، فقد حكم أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، أن يونس بن أبي إسحاق سمع من أبي بردة حَدِيثَ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ كَمَا سَمِعَهُ أَبُوهُ ».
    وقد وقعتْ هذه العبارة المستقيمة في المطبوعة هكذا: « هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يخرجاه! وَلَعَلَّ وَاهِمٌ [هكذا بالرفع!] يُتَوَهَّمُ أنَّ يُونُسَ بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعَ مِنَ أَبِي بُرْدَةَ حَدِيثَ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ كَمَا سَمِعَهُ أَبُوهُ ...؟ » كذا !
    وواضح أن بالعبارة سقطًا وقف دون تمامها! وقد انتبه له محدِّث اليمن مقبل بن هادي الوادعي فقال في كتابه: « أحاديث معلة ظاهرها الصحة» [ص/ 269/طبعة دار الآثار] بعد أن ساق كلام الحاكم:
    « غير مفهوم! فيه سقط أخلَّ بتركيب بالكلام، والظاهر أنه: «ولعل واهمًا يتوهم أن الحديث منقطع بين يونس بن أبي إسحاق وبين أبي بردة، وليس كذلك فقد سمع يونس بن أبي إسحاق من أبي بردة حديث «لا نكاح إلا بولي» كما سمعه أبوه»، وكلام الذهبي في «التلخيص» يرشد إلى ذلك».
    قلت: وهذه يقظة في محلها، لكن قوله: «وكلام الذهبي في «التلخيص» يرشد إلى ذلك». وهم محض! تابعه عليه جماعة! فظنوا أن قول الذهبي في «التلخيص»: «خ.م، وقد حكم أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، أن يونس سمع من أبي بردة» من إنشاء الذهبي! وليس بصواب، وإنما هو من كلام الحاكم نفسه عقب روايته، نقله الذهبي كما رآه أول مرة.
    وقد وقع في هذا الوهم أيضًا: الباحث المحقق مشهور حسن سلمان في كتابه: «قصص الماضين من حديث سيد المرسلين» [ص/324-325] ونسب العبارة المذكورة إلى الحافظ الذهبي في «تلخيصه»! ولو أنه نظر في «السلسلة الصحيحة» لشيخه الإمام الألباني، لوجده ردَّ الأمر إلى أهله، ونسب القول إلى قائله.
    وأعجب من هذا: أن المعلق على «إتحاف المهرة» [10/89] نسب الكلام أيضًا إلى صاحب «التلخيص» مع كونه أمام عينيه قولُ الحافظ في «الإتحاف» بعد أن ذكر طرَف الحديث: « كم في تفسير الشعراء : ثنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني ، ثنا إبراهيم بن إسحاق ، ثنا أبو نعيم ، ثنا يونس بن أبي إسحاق ، نحوه . وقال : صحيح على شرطهما، وقد حكم أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، أن يونس سمع من أبي بردة»!
    وصْفُ نسختنا النفيسة من المستدرك
    وقد استدركنا هذَيْن السقْطَيْن من نسختنا المخطوطة من «المستدرك» المحفوظة بالمكتبة الأزهرية العامرة، وهي نسخة مقروءة مضبوطة نفيسة جدًا، غاية في التحرير والإتقان، وخطها واضح مستنير نُسِختْ سنة 728هـ، (وهي السنة التي توفي فيها شيخ الإسلام ابن تيمية)، وبها علامات التصحيح في مواطن كثيرة، زيادة عن كونها «مقابلة على أصل صحيح مقابَل» كما نص عليه الناسخ في أواخر الجزء الثاني [2/ق291/ب].
    ورأيتُ عليها خطوطًا لبعض المحدثين منهم: العلامة المحدث محمد بن الحسن بن علي بن عيسى تقي الدين اللخمي تلميذ الشهاب الأبرقوهي والشرف الدمياطي وغيرهما، وهو شيخ مدرسة الحديث الفارقانية، توفي سنة ( 738 هـ )، وهو مُتَرْجَم في «ذيل التقييد» وغيره.
    وخطُّ هذا الإمام ثابت في طرَّة المجلد الثالث بأسفل عنوان الكتاب، وكذا في آخر هذا الجزء، وقد وقع تسمية الكتاب كاملة على طرة المجلد الثاني هكذا:
    «كتاب المستدرك الجامع الصحيح على شرط الإمامين محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري أو واحد منهما مما لم يُخْرِجاه».
    وهذه تسمية نادرة تطابق معنى الكتاب، وقد اختصرها مَنْ اختصرها بعد ذلك إلى «المستدرك على الصحيحين».
    وهذه النسخة العزيزة محفوظة برواق المغاربة بالمكتبة الأزهرية الزاخرة بالنفائس، وعليها وُقُوفٌ وتملُّكات بخطوط أصحابها.
    والنسخة مكتوبة بخط الشيخ الإمام المحدث محمد بن أبي القاسم ناصر الدين الفارقي المصري (676هـ - 761هـ ) أحد مشايخ الحافظ العراقي، وأحَدُ نُجَباء تلامذة الحافظ شرف الدين الدمياطي. وهو مترجَم في «الدرر الكامنة» وغيرها.
    وقد ذكر في آخرها أنه فرغ من نسخها سلخ ذي الحجة سنة ثمانية وعشرين وسبع مائة بالقاهرة المُعِزِّية.
    وهذه النسخة: ما زال لنا بها جَمَالٌ وأُنْسٌ منذ أمد وحتى وقتي هذا، فما فتَأتُ أفزع إليها في استدراك تلك السِّقَاط والتحريفات التي لم أعْدمْها حتى الآن في مطبوعات كتاب: «المستدرك»!
    وهذا الكتاب الجليل لا أعرف له طبعة محترمة حتى ساعتي الآن! ولقد ظللْتُ أعوامًا أرْقُبُ في مطبوعاته بَرِيدَ الظَّفَر، وَأتَرَصَّدُ منها سَوَانِح الفُرَص، وأتتبَّع مَخَايِل الرَّجَاء، حتى تَرَاجَعتْ عَنْ الغاية منها آمَالي، وضعُفَ فِيما أبتغيه رَجَائي!
    وهو يحتاج عملًا وجهدًا وتحريرًا كثيرًا، فضلًا عن الدراية والمعرفة واليقظة لمن أراد أن يطأ بقدميه تلك الآجَام المُسْبِعَة ثم يخرج منها مُظفَّرًا يجرُّ ذيول النُّجْح.
    تنبيه مهم حول كلام الذهبي في تلخيصه
    وهنا غفلة سافرة يقع فيها جماعات من المتأخرين ممن شُغِفوا بكلام الذهبي في «تلخيصه» إذا كان موافقًا لصاحب الأصل!
    فطريقة الذهبي في كثير من التعليقات إنما هي حكاية ألفاظ الحاكم وحسب، وقد يتصرف في قليل منها بما لا يخل بمعناها، وقصْدُه بذلك المحافظة على كلام صاحب «المستدرك» عقب تخريجه الأحاديث؛ سواء كان من بابة التصحيح والتعليل، أو من بابة الجرح والتعديل، ونحو ذلك.
    فإذا قال الحاكم مثلا: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اختصر الذهبي ذلك بقوله: «خ.م»، أو قال الحاكم: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» اكتفى الذهبي بقوله: «صحيح» فإذا زاد الحاكم شيئًا آخر غير الحكم على الحديث، اجتهد الذهبي في إثبات ما يراه بحسب فتوره ونشاطه، وقد يجيء به تامًا كلفظ الحاكم، وقد يتصرف فيه بما لا يغير معناه.
    فجاء جماعات من المتأخرين تَسَقَّطُوا كلام الذهبي على غير وجهه، واستدرجوه إلى أغراض لم يُخْلَقْ لها! ونسبوا ما يحكيه الذهبي من كلام الحاكم إليه، ونهضوا بقلة الإدراك إلى ما يتحاشى دونهم العارفون بالتعويل عليه.
    وجعلوا يتَقَفَّون آثار كلام الذهبي فيما ينقله عن الحاكم متى اتفق لهم، وانتصبوا بالاستظهار به على دُعامة ما لاحتْ أنوار صحته عندهم ولديهم.
    فإذا نقلوا عن الحاكم قوله في حديث: «صحيح على شرط البخاري ومسلم»! لم يترددوا أن ينقلوا مثله عن الذهبي متى وقع لهم ترديد ذلك من كلامه!
    هكذا َأَفْرَخَتْ بَيْضَةُ الْقَوْم لهم!
    والذي كان يتصرف به بعض المحققين إزاء عمل الذهبي في هذا المقصد: هو قولهم: ( صححه الحاكم ووافقه الذهبي)! فكانوا يعترفون بسكوت الذهبي عن إنشاء كلام آخر مماثل بعينه –أو بنحوه- لكلام الحاكم عقب تخريج الحديث، لكنهم كانوا يرون سكوت الذهبي بمثابة الإقرار على التصحيح عندهم!
    وهذا الصنيع: أولى بكثير من ذلك الصنيع قبله بتقويل الذهبي ما لم يقله ابتداءً ولا انتهاءً! ونِسْبة ما يحكيه من الأقوال إليه نفسه!
    وأوْلَى من هذا كله: قول القائل: (صححه الحاكم وسكت عنه الذهبي).
    مدار حديث أبي موسى على يونس
    ومدار هذا الحديث على يونس بن عمرو الهمداني، وهو شيخ صالح الحديث، فالإسناد حَسَنٌ بَسَنٌ قَسَنٌ.
    وهو ثابت من طريق ابن فضيل وأبي نعيم الملائي كلاهما عن يونس به.
    وقد مضى الإجابة عما في طريق ابن فضيل من كلام، ورجحنا هناك صحة إسناد مشكدانة عنه، وبه يُجْبَر ذلك الضعف الواقع في متابعة من تابعه، أعني الأخنسي والرفاعي، فهما وإن كانا شيخين ضعيفين؛ غير أن متابعة مشكدانة لهما تدل على كونهما لم يغلطا في إسناده إن شاء الله. وهذه فائدة متابعات الثقات للضعفاء والمغموزين.
    من فوائد متابعة الضعفاء للثقات
    ولا ريب أن رواية الضعفاء- المُحْتَمَلِين غير المتروكين- تنفع في أصل ثبوت الحديث إذا تُوبِعوا عليه ممن فوقهم حِفْظًا وضبطًا.
    ففي متابعة هؤلاء الضَّعَفة للثقات عدة فوائد قد نَثَرْناها في غير هذا المكان، ولا بأس إنْ ذكرْنا بعضها هنا فنقول:
    منها: تقوية أصل الراوية، فلا ريب أن الحديث لو صح من طريق ثقة-لا سيما إذا كان في حِفْظِه كلام يسير- واشتهر عنه، ثم جاء من رواية مَنْ كان محْتمَل الضعْف يرويه عن شيخ ذلك الثقة، لكان ذلك تثبيتًا لأصل الخبر، هذا مع اشتراط عدم المخالفة في السياق بما يناقض رواية مَنْ اشتهر به من الأثبات أول الأمر، وكذا أن لا يكون مما أنكره عليه بعض النقاد نصًّا أو إشارة.
    وذلك: مثل حديثٍ يرويه العلاء بن المسيب الأسدي –وهو ثقة له أوهام- عن الحَكَم بن عتيبة عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة، ولا نعلم أحدًا من الثقات رواه عن الحكم غير العلاء.
    ثم رأينا أبا حنيفة الإمام-وضَعْفُه مُحْتَمَلٌ- قد تابع العلاء عليه عن الحَكَم، ولم ينكره أحدٌ على أبي حنيفة نصًّا أو تلويحًا، فهنا يزداد الناقد تبصُّرًا بثبوت الخبر عن الحكم بن عتيبة، ويزداد هذا التبصُّر بازدياد أفراد المتابعين ممن كان حالهم الرواية كحال النعمان فقيه العراق في وقته.
    ومنها: بيان عدم تفرد مَن اشتهر الحديث بروايته من الثقات، لا سيما إذا كان هذا الثقة ممن وقعت الغرائب في حديثه، أو وَسَمَه النقاد برواية الأفراد.
    ومنها: ما يتعلق بالمتن من تفسير مُبْهم، أو إيضاح مشْكل-لا سيما إذا كان في سياق الحديث قصة- طالما كانت تلك الأشياء لا تخالف أصل رواية الثقة، أو تشذ عن سياق رواية الثقات في أحاديث أخرى مما تشهد لأصل الخبر.
    وهذه الفوائد: لها دلائل معروفة وقعتْ في تصاريف أئمة الجرح والتعديل، والنقد والتعليل، فلستُ بالذي افْتَرَعها، ولا كنتُ يومًا أبَا عُذْرِها!


    تابع البقية: ....

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    المشاركات
    10,731

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    جزاكم الله خيرا
    لا إله إلا الله
    اللهم اغفر لي وارحمني ووالديّ وأهلي والمؤمنين والمؤمنات وآتنا الفردوس الأعلى

  6. #6

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    شرْح حال يونس إجمالًا
    ولم يخف علينا كلام من تكلم في يونس من أئمة الدين ممن سيأتي أخبارهم، لكننا لم نستحل بكلامهم إهدار حديث الرجل جملة، والتنكب به عما صح عندنا من ثقته وحفْظه وأمانته وضبطه فيما صح لنا من حديثه، وغير ذلك مما ثبَّته فيه طائفة من علماء هذا الشان.
    وقد سَلَكْنا بيونس سبيلَ الاعتدال الذي سلكناه في غيره من الرواة والنقلة الذين اختلف فيهم أقوال النقاد، وقد نظَرْنا في حاله نظرة المُتيقِّظ، واستقرَيْنا كثيرًا من أخباره، فوجدنا الرجل غير مدفوع عن حِفْظ وكثرة حديث وسعة رواية ورثها عن أبيه أبي إسحاق السبيعي.
    وكان أبو إسحاق حافظ الكوفة في زمانه، وكان يصطحب معه ابنه يونس في رحلاته وغزواته، فيطوف به على بُيوتات أئمة الرواية، وفساطيط أهل الحفظ والحديث ممن أدركهم أبو إسحاق من تلك الطبقة.
    فكان يونس يسمع مع أبيه ما انفرد به أبو إسحاق عن كثير من أقرانه، وقد شاركه يونس في كثير من كبار مشيخته دون صَحْب النبي –صلى الله عليه وسلم- فقد أحصينا له منهم عشرة شيوخ من النقَلَة والمحدثين، منهم: « بريد بن أبي مريم , وناجية أبو خفاف, والعيزار بن حريث، وجُرَيُّ بن كُليب النهدي، وخَيْثَمة بن عبد الرحمن الجُعْفي، وأبو بردة ابن أبي موسى الأشعري، وسعيد بن وهب الثوري الهَمْدَاني ... » وغيرهم.
    بل قال ابن سعد عن يونس: « وَكَانَتْ لَهُ سِنٌّ عَالِيَةٌ، وَقَدْ رَوَى عَنْ عَامَّةَ رِجَالِ أَبِيهِ».
    ومثله في كثرة الحديث، ووفْرة المشيخة، مع تلك السن العالية التي شارك به أباه وطبقته في شيوخهم؛ كانت الهِمَم منصرفة إلى التحمُّل عنه والسماع منه؛ حتى انتشر حديثه، وعَلَا كَعْبُه، وطار ذِكْرُه، وأمسى محدثَ الكوفة بعد أبيه كما يقول الحافظ الذهبي.
    لكن: أدركتْه غفلة المُكْثرين، لا سيما في حديثه عن أبيه، فلم يَصُنْ نفسه بالتثبت فيما يرويه، ولَمْ ينأى بها عن مظنة التساهل فيما كان يقع فيه، فحدَّث من حفظه، وربما تنكب عن كتابه في كثير من أوقاته- مع ما كان يعتريه من اختلال الضبط- فانكشفت له أخطاء في الأسانيد، وزيادات في متون الأخبار، كما أشار النقاد.
    مراتب حديث يونس
    وحديثه على عدة مراتب:
    1- ما يرويه عن أبيه: فذا ضعيف لا يحتج به، لكونه كان لا ينهض به ، ولا يُحْسن السبيل لإقامته وتجويده ، بل غلط عليه كثيرًا في الأسانيد والمتون؛ زيادة عن كونه لم يتصدر بالتحمُّل عن أبيه قديمًا، كأنه انشغل عنه بالسماع على مشايخ الكوفة؛ خشية أن يفوته كبير منهم، ففرَّط بذلك في حقه من أبيه، ولم يتصدر للكتابة عنه إلا بعد أن أصاب أبا إسحاق داءُ الاختلاط!
    وقد نصَّ على ذلك الحافظ ابن نمير، وأشار إليه غيره، ولهذا ضعفه الإمام أحمد في أبيه صريحًا، وقدَّم عليه ابنه إسرائيل في أبي إسحاق.
    2- ما يرويه عن غير أبيه مما يخالفه غيرُه فيه: فهذا مما تُقَدَّمُ فيه رواية مَنْ هو أضبط منه على روايته، لا سيما في متون الأخبار خاصة، فقد وصمه الإمام أحمد وغيره بالزيادة في الأخبار، وهذا شيء قد جرَّبْناه عليه، وشاهدناه في جملة من حديثه، فينبغي التمهل بالنظر في مخالفة من خالفه في سياق الحديث وإنْ وافقه في سنده، فما وقع في رواية يونس من الزيادة فهو من أوهامه التي راجتْ عليه، فحدَّثَ بها على السلامة!
    وكذا ينبغي اليقظة لِمَا يذكر فيه يونس سماع مشيخته لمن فوقهم، سيَّما إذا كان عدم السماع هو المحفوظ في حديث بخصوصه، أو نص أحد النقاد عليه.
    3- روايته عن غير أبيه مما انفرد به أو توبع عليه من الثقات: فهذا القسم جيد مقبول، يُحْتَجُّ بمثله في دين الله، ما لم ينكره عليه أحد حُذَّاق تلك الصناعة من أئمة هذا الشان وحسب.
    وهذه المراتب من حديث يونس: لخَّصْتُها وانتخبتُها من كلام النقاد، ومما أدركتُه من تصاريفهم إزاء أخباره ومروياته.
    أما أصل كلامهم عليه، ومَجْمع أحكامهم فيه، وتصاريفهم فيما انتهى إليهم من حديثه، فدونك إياها مع النَّصَفة فيما يقع لنا من ذلك، وبيان الطريق إلى تأويله، والكشف عن سبيله.
    ذِكْرُ مَنْ ضعَّف يونس أو غَمَزَه
    كلام النقاد في رواية يونس عن أبيه:
    قال أبو بكر الأثرم: «سمعتُ أبا عبد الله [يعني: الإمام أحمد] وذكر يونس بن أبي إسحاق، وضعَّف حديثه، عن أبيه. وقال: حديث إسرائيل أحب إلي منه». نقله عنه العقيلي في «الضعفاء».
    وقال الإمام أحمد في رواية أبي طالب المشكاني عنه: «يونس بن أبي إسحاق حديثه فيه زيادة على حديث الناس. قلت: يقولون: أنه سمع في الكتب فهي أتم. قال: إسرائيل ابنه قد سمع من أبي إسحاق، وكتب، فلم يكن فيه زيادة مثل ما يزيد يونس». نقله عنه ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل».
    وقال الفضل بن زياد القطان: قال أبو عبد الله (يعني أحمد بن حنبل): «يونس بن أبي إسحاق حديثه فيه زيادة على الناس. قلت له: يقولون إنما سمعوا من أبي إسحاق حفظًا، ويونس ابنه سمع في الكتب فهي أتم. قال: من أين قد سمع إسرائيل ابنه من أبي إسحاق، وكتب وهو وحده فلم تكن فيه زيادة مثل يونس. قلت: من أحب إليك يونس أو إسرائيل في أبي إسحاق؟ قال: إسرائيل. قلت: إسرائيل أحب إليك من يونس»؟ نقله عنه الفسوي في «المعرفة والتاريخ».
    قلت: قول أبي طالب: « يقولون: أنه سمع في الكتب فهي أتم» ومثله قول الفضل بن زياد: « ويونس ابنه سمع في الكتب فهي أتم»؛ فيه إشارة إلى أن يونس كان له كتاب عن أبيه دوَّن فيه حديثه فيما يقال، وقد أنكر الإمام أحمد على من يتخذ من هذا وليجة على تصحيحه روايته عن أبيه لكونها من كتاب، والتنكب عن رواية غيره لكونها سماعًا! وعلَّل ذلك الإمام أحمد بأن إسرائيل بن يونس كان له هو الآخر كتاب عن جده أبي إسحاق، لكن لم تكن فيه تلك الأغاليط والاضطرابات التي يجيء بها أبوه يونس عن جده!
    وهذا مرَدُّه عندي إلى أمرين:
    أولهما: أن يكون يونس ترك كتابه، واعتمد على ذاكرته، فوقعت لك تلك الأخطاء الفاحشة في حديثه عن أبيه!
    وثانيهما: أن يونس – مع سماعه من أبيه بآخرة- كان لا يقوم بحديثه أصلًا! ولا يُحْسِن أن يسوقه كما يسوقه مساق غيره من ثقات الآخذين عن أبيه، وقد مضى أن يونس كانت فيه غفلة انبثقتْ منها سجِيَّة حَفِظَها عليه بعضهم، كما سيأتي من كلام يحيى القطان وغيره.
    وهذا الأمر الثاني أرجح عندي، وهو ما يشير إليه كلام الإمام أحمد.
    وقد كان يونس لا يستحي من البوح بتقديم غيره عليه في أبيه؛ بل كان الإنصاف يحمله على أن يعترف بفضل رواية ابنه إسرائيل على روايته نفسه عن أبي إسحاق!
    فقَالَ أَحْمَدُ بنُ دَاوُدَ الحُدَّانِيُّ: سَمِعْتُ عِيْسَى بنَ يُوْنُسَ يَقُوْلُ:
    «كَانَ أَصْحَابُنَا سُفْيَانُ وَشَرِيْكٌ ... وَعَدَّ قَوْمًا، إِذَا اخْتَلَفُوا فِي حَدِيْثِ أَبِي إِسْحَاقَ، يَجِيْئُوْنَ إِلَى أَبِي [يعني: يونس بن أبي إسحاق] فَيَقُوْلُ: اذْهبُوا إِلَى ابْنِي إِسْرَائِيْلَ، فَهُوَ أَرْوَى عَنْهُ مِنِّي». نقله عنه الخطيب في «تاريخه».
    وقال أبو حاتم الرازي: « حدثني ابن أبي الثلج ثنا شبابة قال: قلت ليونس بن أبي إسحاق: أمْلِ عليَّ حديث أبيك، قال: اكْتُبْه عن إسرائيل فإن أبي أملاه عليه». نقله عنه ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل».
    قلت: وقد نص الحافظ أبو عبد الرحمن ابن نمير على كون يونس لم يسمع من أبيه إلا بعد تغيُّره واختلاطه!
    فقال أبو زرعة الرازي سمعت ابن نُمَيْر يقول: « سماع يونس بن أبي إسحاق، وزكريا، وزهير، من أبي إسحاق، بعد الاختلاط ». نقله عنه الحافظ أبو عثمان البرذعي في «سؤالاته».
    فتحصَّل من هذا: أن يونس مَهِيض الحديث في أبي إسحاق.


    تابع البقية: ...

  7. #7

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    غَمْزُ شعبة ليونس
    قال العقيلي في «الضعفاء»: «حَدثنا مُحمد بن عيسى، قال: حَدثنا بُندار، قال: قال سَلم بن قُتَيبَةَ: قَدِمت مِن الكُوفَة فقال لي شُعبة مَنْ لَقيتَ؟ قال: لَقيت فُلانًا، وفُلانًا، ولَقيت يُونُس بن أَبي إِسحاق، قال: ما حَدَّثك؟ فَأَخبَرتُهُ، فَسَكَت ساعَةً، وقُلت لَه، قال: حَدثنا بَكر بن ماعِز قال: فَلَم يَقُل لَكَ: حَدثنا عَبد الله بن مَسعُود»!
    قلت:
    كأن شعبة ينكر عليه تصريحه بالسماع ممن لم يثبت سماعه منهم، كبكر بن ماعز الكوفي ذلك الثقة العابد!
    ويونس
    : قد نص البخاري وأبو حاتم وجماعة على أن له رواية عن بكر، وصرَّح يونس بالسماع منه في عدة أخبار وحكايات، ويونس لا يُنْكَر عليه السماع من بكر، فقد أدرك من هو أقدم منه.
    ومع هذا:
    ما يسعنا إلا التسليم لغمْزِ شعبة في صحة سماع يونس من بكر، فنعدُّ تصريح يونس بالسماع منه إنما كان على سبيل الخطأ والتوهُّم الذي ما عصم الله منه أحد.
    وقد وقفتُ ليونس على حديث منكر يرويه عن بكر قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «
    لَا يُنْقَعُ بَوْلٌ فِي طَسْتِ فِي الْبَيْتِ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ بَوْلٌ يُنْقَعُ، وَلَا تَبُولَنَّ فِي مُغْتَسَلِكَ».
    أخرجه الطبراني في «الأوسط» قال: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ [ وهو ابن زهير الحافظ] قَالَ: نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَغَوِيُّ قَالَ: نا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ أَبُو عَبَّادٍ قَالَ: نا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ به.
    ثم قال الطبراني: «لَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ يَزِيد إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِهِ: يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ».
    قلت:
    ويحيى صدوق صالح له أوهام، ومن دونه ثقات مشاهير، فإذا كان حفِظَه عن يونس؛ فقد تحمَّل يونس تبِعَتَه لا محالة، فلعله سمعه من غير ثقة عن بكر، أو حدَّث به على التوهُّم؛ فالإسناد معلول؛ لِمَا أوردناه قبلُ من غمْزِ شعبة في سماع يونس من بكر.
    ثم جاء أبو محمد ابن حزم وبَنَى من الحَبَّة قُبَّة! وقال في «المحلّى» [9/49]: «يونس قد ضعَّفه شعبة بأقبح التضعيف! .... وقال فيه شعبة: أما قال لكم: حدثنا ابن مسعود»!
    وهذا من تهويلاته التي تَجَشَّأَنا من الشبَع منها مرارًا! لأن ما أدركه شعبة على يونس لا يقتضي التضعيف الشديد ولا كاد؛ لأنه لا يخلو أن يكون يونس قد تعمد ما يقول شعبة أو لم يتعمده.
    1-
    فإن كان قد تعمده – وحاشاه الله-:
    فهو كذاب مكشوف الحال! لكونه يدعي سماع ما لم يسمع! ولم يكن يحل لشعبة أن يسكت عن بيان كذبه! فلما سكت هو وغيره عن هذا؛ أدركنا أن يونس لم يتقصَّد هذا الأمر في حديثه.
    ولقد كان أبو جعفر العبْسي الحافظ يحمل حمْلًا شديدًا على أبي هشام الرفاعي لكونه كان يذكر السماع في حديثه عمن لم يسمع!
    فقال الحافظ الأمين الحسين بن إدريس الأنصاري: «سألت عثمان [يعني: ابن أبي شيبة] أنا وحدي عن أبي هشام الرفاعي، فقال: لا تخبر هؤلاء أنه يسرق حديث غيره فيرويه! قلت: أعلى وجه التدليس أو على وجه الكذب؟ فقال كيف يكون تدليسًا وهو يقول حدثنا ». نقله عنه الخطيب في ترجمة الرفاعي من «تاريخه».
    2-
    وإن كان لم يتعمده:
    فلا يعدو أن يكون وهمًا وقع فيه يونس؛ من جرَّاء تلك الغفلة التي أصابتْه!
    وقد حفِظ النقاد هذا الوهم على من هو أجلُّ من يونس في الحفظ والضبط والكِياسة! وهو المحدث الحافظ فِطْر بن خليفة الكوفي!
    فقد أنكر عليه يحيى القطان تصريحه بالسماع من عطاء! وقال: «وما يُنتَفَع بِقَوله: «حَدثنا عَطاء»، ولَم يَسمَع منه؟ ». نقله عنه العقيلي في كتابه.
    ونقل العقيلي أيضًا عن علي ابن المديني أنه قال ليَحيَى القطان عن فطر بن خليفة: «فتعتمد على قَولهِ: «حَدثنا فُلان»... قال: لا، قُلتُ: كانت منه سَجيَّةً؟ قال: نَعَم».
    ومع هذا فقد: «كان يحيى القطان يرضى فطر، ويحسن القول فيه، ويحدث عنه»، كما يقول أبو حاتم الرازي.
    فإنْ لم يُعْجِب أبا محمد ابن حزم هذا وقال لنا
    : ما فعلتم شيئًا سوى الزيادة في التشغيب بما لا يصيب مرادكم! لأن فِطر بن خليفة لم يكن مرضيَّ الحديث عندنا هو الآخر، وقد كشفنا حاله في مواضع من كُتبِنا!
    قلنا له:
    قد رضينا منك ما ترجح عندك بشأن يونس أو فِطْر أو غيرهما؛ لكونك عندنا إمامَ المجتهدين في كل فن، ولكن ما ترى في صنيع شعبة بن الحجاج في هذا الصدد نفسه! فقد ذكر ابن المديني: أن أئمة الحديث «وجدوا على شعبة غير شيء يذكر فيه الأخبار عن شيوخه ويكون منقطعًا »! كما نقله عنه ابن رجب في «شرح العلل».
    فهل يجرؤ أبو محمد الفارسي لو وقف على مَنْ أخذ شعبة بهذا وأنكره عليه؛ أن يقول في حقه مثل ما قال في حق يونس مما فهمه من كلام شعبة نفسه فيه؟
    على أنا نحمل ما سبق عن يونس وشعبة وغيرهما: أنه ما كان يقع لهم إلا على سبيل التوهُّم والاشتباه، نعم: ليس غلط يونس في تلك البابة كغلط شعبة وأضرابه! لأن يونس كان يُشبَّه له كثيرًا؛ بل كان فيه سجية –لا سيما في حديثه عن أبيه- كما قال يحيى القطان.
    لكنا ألزَمْنا أبا محمد ابن حزم بطريقته فيما فهمه من كلام شعبة في يونس؛ وأنه لا يعدو أن يكون يونس غلط في التصريح بالسماع وحسب.
    وسبيل النَّصَفة في هذا
    : أن ينظر الناقد في حديثه بعين اليقظة؛ فما أدرك عليه من ذلك الوهم- بالاتكاء على كلام بعض الحفاظ، أو بما أدركه هو من شواهد وملابسات الحال- تركه وتنكب عنه، وما لم يُدْرِك عليه فيه شيئًا من ذلك، أخذ به وقَبِلَ حديث يونس، وحمله على السلامة.
    أما التهويل بكلام شعبة أو القطان في يونس؛ فلا يلتفتُ له العارف بعد أن وقف على حقيقة
    الحال؛ واستقرأ شواهد الأحوال.
    محاولة بعضهم إسقاط يونس جملة!
    وقد تلقَّف بعض الوقَّاعين هذا الغمز عن شعبة وجعل يُحاكِيه بالطعن به في يونس يبغي منه ما لا يبغي أبو بسطام!
    وهذا المغامر الوقَّاع:
    هو عبد الله بن سلمة الأفطس البصري، ذلك المجروح عند النقاد بما تراه في ترجمته من «الميزان» و«لسانه».
    فقال أبو سعيد البرذعي في «سؤالاته» أبا زرعة الرازي [2/ 328/329]:
    «وسمعتُه [يعني: أبا زرعة] ذكر عبد الله بن سلمة الأفطس فقال: «كان عندي صدوق، ولكنه كان يتكلم في عبد الواحد بن زياد ويحيى القطان.
    وذُكِرَ له يونسُ بن أبي إسحاق، فقال: لا ينتهي يونس حتى يقول: سمعت البراء!
    قال لي أبو زرعة: فانظر كيف يَرُدُّ أمْرَه»؟!
    ثم قال أبو زرعة: «كل مَنْ لم يتكلم في هذا الشأن على الديانة، فإنما يعْطِب نفْسَه! كل من كان بينه وبين إنسان حِقْد أو بلاء يجوز أن يذكره. كان الثوري، ومالك يتكلمون في الشيوخ على الدين فنفذ قولهم، ومن لم يتكلم فيهم على غير الديانة يرجع الأمر عليه».
    قلت
    : فانظر كيف انتصر أبو زرعة ليونس من هذا البَجْباج النَّفَّاج وردَّ عليه قولَه، وأنه كان يريد بكلامه في يونس رَدَّ أمره كله جملة واحدة! كما كان يفعل مع يحيى القطان وعبد الواحد بن زياد وغيرهما من الأئمة الأثبات بالطعن فيهم وهو المطعون فيه ذلك المسكين!
    وكان هذا المُتَشَبِّع بما لَمْ يُعْطَ ربما تشاجر مع يحيى بن معين-إمام الجرح والتعديل- بمكة فينتفخ ويقول: «دعوني فأنا له قِرْن»! ومَنْ كان هذا حالُه لا يُلْتفَتُ إلى كلامه.
    ثم إنَّ هذا الخسَّاف المتهوِّر كأنه كان لا يُحْسِنُ سوى أنْ يَرْمِيَ الناس بدائه نفسه! فتراه يُشنِّع على يونس ببعض أوهامه في التصريح بسماع من لم يسمع؛ مع كونه نفسه كان يدعي السماع من موسى بن عقبة ويقول: «ثنا موسى» وهو لم يسمع منه ولا رآه أصلًا! وإنما قدِمَ المدينة بعد موت موسى باثني عشر شهرًا! كما شهد عليه بذلك الحافظ الفلاس!
    لكن
    : مَنْ جرَّ ذيول الناس بالباطل جرَّ الناسُ ذيوله بحق!
    [تنبيه مهم]
    ظاهر من سياق الحكاية الماضية أن قوله: (وذُكِرَ له) يعني لــ: (عبد الله بن سلمة الأفطس) بدليل إنكار أبي زرعة عليه بقوله عقب كلامه: (فانظر كيف يرد أمره)!
    وقد وهم بعضهم في هذا الموضع، ولم يفهم كلام أبي زرعة على وجهه، ونسب إليه ما أنكره أبو زرعة على قائله!
    فأدرج تلك الحكاية: صاحبُ الكتاب النافع: «التذييل على تهذيب التهذيب» [ص/482/طبعة أضواء السلف] قائلا:
    «قال البرذعي قال أبو زرعة: لا ينتهي يونس حتى يقول: سمعت البراء!
    قال لي أبو زرعة: فانظر كيف يَرُدُّ أمْرَه»؟!
    ومثل هذا الخطأ المكشوف
    : وقع فيه الفاضل سعدي الهاشمي في تعليقه على «سؤالات البرذعي» إلا أنه لَجَّ في الخطأ وقال بالهامش [2/ 329]: «ومعنى قول أبي زرعة: أن يونس كان يسقط الواسطة بينه وبين البراء، وهذا تدليس! وقد ذكره ابن حجر في الطبقة الثانية من طبقات المدلسين»!
    كذا قال وفهم! ولم يفعل شيئا! وتعقيب أبي زرعة عقب تلك الحكاية يناقض مسلكه! لا سيما مقولة أبي زرعة النفيسة: (كل من لم يتكلم في هذا الشأن على الديانة، فإنما يعطب نفسه .... ) الخ.
    فهو يشير بهذا إلى باعث كلام عبد الله الأفطس في حق يحيى القطان وعبد الواحد بن زيد ويونس بن أبي إسحاق وغيرهم، وأنه لم يكن يتكلم فيهم ديانة، وإنما
    سهام الأغراض يُطْلِقها الرجل حيثما اتفق له! وقد كان الأفطس وقَّاعًا في الناس على ضعْفِه عند النقاد!

    تابع البقية: ....

  8. #8

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    غَمْزُ يحيى القطان ليونس
    قال إمام علل الحديث في زمان: عليُّ بن عبد الله بن المديني: «سَمِعتُ يحيى بن سعيد يقول: كان يونس بن أبي إسحاق فيه سجية، وكان يقول حدثني أبي ، قال : سَمِعتُ عدي بن حاتم يقول : «اتقوا النار ولو بشق تمرة».
    قال يحيى: وهذا حدثناه سفيان وشعبة عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معقل عن عدي بن حاتم.
    قال يحيى: وكان فيه غفلة، يَعني يونس بن أبي إسحاق». نقله ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل»، وكذا أبو القاسم البغوي في «الجعديات»، وعنه أبو أحمد الحاكم في «الأسامي والكنى»، والعقيلي وابن عدي وغيرهما في كتبهم.
    قلت: غاية هذا أن يكون يونس غلط في إسناده؛ وهذا ما جزم به أيضًا عبد الله بن الإمام أحمد؛ فقال أبو القاسم البغوي في «الجعديات»: «قال لي عبد الله بن أحمد: إن يونس بن أبي إسحاق رواه عن أبيه قال: سمعت عدي بن حاتم! وأوهم فيه أيضًا».
    وهكذا غلط فيه أيضًا علي بن الجعد –مع حِفْظِه وضَبْطِه- فرواه عن شعبة عن أبي إسحاق فقال سمعت عدي بن حاتم! وهذا ليس بشيء! والمحفوظ عن شعبة مارواه الجماعة عنه عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معقل عن عدي بن حاتم.
    وهذا رواه الثوري وغير واحد عن أبي إسحاق.
    وإنما أُتِيَ يونس من تلك الغفلة التي أشار إليها القطان وغيره من الأئمة، لا سيما في حديثه عن أبي إسحاق خاصة، فهو لا يضبط حديثه ولا يقوم به؛ لكونه انشغل عنه بمشيخة أهل الكوفة؛ فلم ينهض للتحمُّل عنه إلا بآخرة كما نصَّ عليه الحافظ ابن نمير وغيره.
    وقول القطان: « كان يونس بن أبي إسحاق فيه سجية» يعني عادة في الغلطِ بِذِكْرِه السماع فيما لا يكون فيه سماعٌ! والظاهر أن تلك العادة لَحِقَتْه في حديثه عن أبيه وغيره، وهذه السجية هي في إلْفِ التصريح بالتحديث عن مشيخته فيما لم يُعْرَف أنهم سمعوه ممن فوقهم!
    وهذه السجية: حفظها النقاد على من كان فوق يونس حِفْظًا وضبطًا، وهو الحافظ جرير بن حازم محدث البصرة في زمانه!
    فنقل عبد الله بن أحمد بن حنبل في «العلل» عن أبيه، أنه قال:
    «كان سجية في جرير بن حازم، يقول: «حدثنا الحسن، قال: حدثنا عمرو بن تغلب؛ وأبو الأشهب يقول: «عن الحسن، قال: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمرو بن تغلب... ».
    قال ابن رجب الحنبلي في «شرح العلل»: « يريد: أن قول جرير بن حازم: «حدثنا الحسن: حدثنا عمرو بن تغلب »، كانت عادة له، لا يرجع فيها إلى تحقيق ».
    وقد ذكر أبو حاتم وغيره نحو هذا في أصحاب بقية بن الوليد- وفيهم ثقات مشاهير- أنهم كانوا يَرْوُون عنه، عن شيوخه، ويصرحون بتحديثه عنهم، دون أن يكون له سماع منهم!
    ومع ذلك: فلم يستجز الإمام أحمد أن يأخذ جريرًا بهذه الهفوة فيسقط كل حديث يرويه عن الحسن مُظْهِرًا فيه سماعه ممن فوقه!
    كما لم يستجز أبو حاتم وغيره التنكب عن كل رواية يذكرها أصحاب بقية بن الوليد عنه مُظْهِرين فيها سماعه من شيخه!
    وإنما يلجأون إلى هذا النوع من التعليل إذا احتاجوا إليه فيما لا يكون لهم سبيل إلا ركوب هذه المَطِيَّة التي لا يُحْسِن ركوبَها كلُّ أحد!
    وعليه: فينبغي استعمال الحِياطة فيما يذكر فيه يونس سماع بعض مشيخته الذين أدركنا عليهم عدم سماعهم فيما حدَّثوا عمن فوقهم.
    فإذا نصَّ أحد النقاد على عدم سماع أبي إسحاق السبيعي- أو غيره من مشيخة يونس- من شيخ بعينه-أو دلَّتْ شواهد الحال على ذلك- ثم روى يونس عن أبيه عن ذلك الشيخ مُظْهِرًا السماع منه؛ فهنا يتوجُّه الحُكْم بوهم يونس في التصريح بذلك السماع.
    وكذا يكون الحال لو خولف يونس فيما يأتي به من التصريح بالسماع فيما بين مشيخته ومن فوقهم، وهذا ليس على إطلاقه كما هو معلوم، وإنما يكون الأمر دائرًا في فلك يقظة الناقد ما مع عنده من الشواهد والملابسات المتعلقة بما هو بصدد تحريره.
    والأصل في حديث يونس: هو حمْلُه على السلامة مطلقًا، اللهم إلا فيما يرويه عن أبيه خاصة؛ فهو ضعيف فيه، وما عداه فمحمول على الاستقامة ما لَم ْيخالفه مَنْ يُلْتَفَتُ إلى مخالفته؛ أو يأت بزيادة منكرة لا تستسيغها الأذواق السلمية.
    أما التعلق بهذه العلة في ردِّ كل حديث ينفرد به يونس مما لم يخالفه فيه أحد؛ أو لا يكون في سياقه ما دعا أحد النقاد الأوائل إلى التعلل به في التنكب عن قبول خبره؛ فهذا يكون من ضيق العَطَن وقلة الاطلاع على مراتب الرواة فيما يروون.
    بل ولا يتجشم سلوك هذا السبيل في معالجة أخبار الثقات إلا مَنْ ضاقتْ عليه مَسَالِك أئمة النقد والتعليل حتى صارتْ عنده أضْيَقَ مِنْ بَياض المِيم!
    فهنا غَلَطَ يونس وذَكَر سماع أبي إسحاق من عدي بن حاتم في هذا الحديث! مع أن أبا إسحاق لم يسمعه منه؛ إنما سمعه من عبد الله بن معقل عن عدي بن حاتم، هكذا رواه شعبة والثوري وغيرهما من الكبار عنه.
    لكن: يُشْبِه لي أن الغفلة دخلتْ على يونس من كون أبي إسحاق ممن لقي عدِيًّا وربما سمع منه حرفًا أو حرفين.
    فقد صح عن أبي إسحاق أنه قال: «قال رأيت عدي بن حاتم رجلا جسيما أعور فرأيته يسجد على جدار ارتفاعه من الأرض». أخرجه عنه يعقوب الفسوي في «تاريخه».
    وفي لفظ آخر قال: « قال رأيت عدي بن حاتم رجلا طويلا أعور حسن الوجه يصلي في مقدم المسجد يسجد على جدار قدر ارتفاعه من الأرض ذراع». أخرجه عنه ابن سعد في «طبقاته».
    ومن هنا: دخل الداخل على يونس لمعرفته سماعَ أبيه من عدي في الجملة؛ فغلط عليه وذكر سماعه منه في الحديث الماضي! وربما يكون أبو إسحاق دلَّس « عبد الله بن معقل» عندما ذاكَرَ يونس به، فظن يونس أنه سمعه من عدي بن خاتم؛ فحدَّث به على ذلك الوجه الذي أنكره عليه القطان وغيره.
    [تنبيه] وقع في «تهذيب التهذيب»: «وقال صالح بن أحمد عن علي بن المديني سمعت يحيى وذكر يونس بن أبي إسحاق فقال: كانت فيه غفلة «شديدة» .... »!
    كذا بزيادة لفظ: «شديدة»! ولم أجدها عند الذين أخرجوا هذه الحكاية من طريق صالح بن أحمد، ولا عند من رواها من غير طريقه! وليست هي في أصل: «تهذيب المزي» الذي اختصره الحافظ بــ «تهذيبه»! فكلهم لم يذكروا سوى «كانت فيه غفلة» وحسب، أما وصْفُها بــ: «الشديدة»! فأخشى أن تكون من كِيس الناسخ أو بعضهم!
    [تنبيه آخر] هوَّل أبو محمد ابن حزم –كعادته- وزعم في «المحلى» أن يَحْيَى الْقَطَّان قد ضعَّف يونس جدًا! وقد عرفتَ ما وراء الأكمَة؟
    وأبو محمد ابن حزم: كان له غَرامٌ بحكاية الجرح دون التعديل إذا قصد التعرض بالغمز في بعض النقَلَة! وما كان يسلك مسلك التوسط في أولئك الرواة المختلَف فيهم! بل كان يَجُوس في كلام أئمة هذا الفن بالإقدام والعَجَلة؛ ثم يخرج منه في حق كثير من الناس بما يستقيم وحرارةَ أنفاسه!
    ولأجل ذلك: استقام له الطريق إلى اختيار سبيل التجريح في حق أقوام ثقات بما اعْتَلَج في فهمه من كلام القوم! وقد تتبَّعه في ذلك القُطْبُ الحلبي في «القِدْح المُعَلَّى» وكذا تلميذه الحافظ العلاء مغلطاي البكجري في «الأخذ بالحزْم في ذِكْرِ ما فيه خُولِف ابنُ حزم».
    تضعيف أحمد ليونس
    قال عبد الله بن أحمد في «العلل»: سألت أبي: «أيما أصح حديثا عيسى، أو أبوه يونس؟ قال: لا، عيسى أصح حديثًا».
    و قال أيضًا في «العلل» : «سألت أبي عن يونس بن أبي إسحاق، فقال: حديثه مضطرب ».
    وقال في موضع آخر : «سألت أبي عن عيسى بن يونس، فقال: عن مثل عيسى يسأل؟ قلت : فأبوه يونس؟ قال : كذا وكذا».
    قال الذهبي عقب نقْلِه تلك الجملة في «الميزان»: «هذه العبارة يستعملها عبد الله بن أحمد كثيرًا فيما يجيبه به والده، وهي بالاستقراء كناية عمن فيه لِين».
    قلت: الإمام أحمد قد كشف ليونس عن أخطاء سافرة في حديثه عن أبيه، وعن زيادات ينفرد بها لا يتابعه عليها الأثبات؛ وغير ذلك مما رآه كافيًا في تَخَلُّف يونس عن مسار الثقات في الرواية عنده.
    وغير أحمد كابن معين وابن مهدي والنسائي وطائفة لم يخف عليهم ما وقع لهم من أغلاط يونس – لا سيما عن أبيه- غير أنهم لَمْ يَرَوْها كافية للقعود بحديث يونس عن درجة القبول والاحتجاج، فلذلك وثقوه وثبَّتوه واحتجوا بحديثه.
    وهناك من النقاد مَنْ نظر في حال يونس بعين النَّصَفة، فوجد أن غالب أوهام يونس إنما وقعت في حديثه في أبيه؛ وما عداه فهو على الاستقامة، ومن هؤلاء: الحافظ الناقد المُفضَّل الغلَّابي فإنه قال في «تاريخه»: « كان يونس بن أبي إسحاق مسْتَوي الحديث في غير أبي إسحاق، مضطربًا في حديث أبيه ».
    وهذا القول هو ما أقول لك.
    [تنبيه] أفرط أبو محمد اليَزَيدي في «المحلى » وادَّعى أن الإمام أحمد قد ضعَّف يونس جدًا! وليس في يده برهان على ذلك سوى ما سُقْناه من كلام أحمد مما لم يقف هو على أكثره!
    وهكذا شأن أبي محمد من كلام النقاد؛ يستعْظِم منه الصغير، ويهون في عينه الكبير! مما أوقعه في مآزق في الجرح والتعديل، والنقد والتعليل!


    تابع البقية: .... .

  9. #9

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    كلام أبي حاتم الرازي فيه
    وقال أبو حاتم : «كان صدوقًا إلا أنه لا يحتج بحديثه ». نقله عنه ابنه في «الجرح والتعديل».
    قلت: كم كان أبو حاتم يقول تلك العبارة فيمن كان فوق يونس حفظًا وعِلْمًا وضبطًا!
    ومعلوم تعنُّت ابن إدريس في الرجال، وأنه كان ممن يُؤاخِذ بالغلطة والغلطتين، وكلام الذهبي في ذلك معروف مشهور.
    وهذا عُمَر بن ذر الإمام الثقة الأمين الواعظ الصالح على بدعة فيه، وقَفَ له أبو حاتم على بعض أغلاط فراح يتكلم فيه ويقول: «لا يحتج بحديثه هو مثل يونس بن أبي إسحاق»!
    فانظر: كيف أطلق عدم الاحتجاج بحديث ابن ذر مع أنك تعلم ثناء الأئمة عليه في الحديث! ثم انظر إلى تسويته بيونس بن أبي إسحاق؛ يتبين لك تعنُّت أبي حاتم في الرجلَيْن جميعًا!
    ولا يقول قائل: لعل غمْزَ أبي حاتم لعمر بن ذر إنما هو لأجل بدعة الإرجاء التي ذكروها بشأنه! وكم بين أهل الحديث مَنْ كان يُسْقِط الراوي جملة لأجل بدعته؟
    والجواب: أن ذلك الاحتمال ضعيف مدفوع بقول أبي حاتم عن عمر: (هو مثل يونس بن أبى إسحاق)، ويونس غير معروف ببدعة، فاستبان بهذا أن عمر كان مثل يونس في ضعْفِ الحال عند أبي حاتم وحده!
    قال الذهبي في ترجمة أبي زرعة الرازي من «سير أعلامه»: « يعجبني كثيرًا كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل، يَبِينُ عليه الورع والمَخْبرة، بخلاف رفيقه أبي حاتم، فإنه جَرَّاح».
    قلت: وقد مضى نِفَاح أبي زرعة الرازي عن يونس إزاء مجازفة بعضهم في حقه!
    ما نقله الساجي في يونس
    قال الساجي : «صدوق ، كان يقدِّم عثمان على عليّ، وضعَّفه بعضهم». نقله عنه الحافظ في «تهذيبه».
    قلت: لعله يقصد بــ: «بعضهم»: الإمامَ أحمدَ فيما مضى النقْلُ عنه، وفي هذا الإبهام إشارة إلى عدم الاعتداد بذلك التضعيف عند الساجي، ولذلك قال عنه في صدْر كلامه: «صدوق».
    وأما قوله عن يونس: « كان يقدِّم عثمان على عليّ»، فدليل على كون يونس كان على اعتقاد مشيخة أهل السنة في تفضيل مولانا عثمان على مولانا عليٍّ- رضي الله عنهما- بل كان يونس شديدًا على غلاة المُتَشَيِّعة لا سيما الروافض منهم.
    فقال الإمام الحافظ أبو عمرو الفزاري: «قُلْتُ: لِيُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ ثُوَيْرٌ [يعني: ابن أبي فاختة] لِأَيِّ شَيْءٍ تَرَكْتَهُ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ رَافِضِيُّ , قُلْتُ: إِنَّ أَبَاكَ يَرْوِي عَنْهُ , قَالَ: هُوَ أَعْلَمُ »! أسنده عنه الخطيب في «الكفاية» بإسناد مستقيم.
    كلام أبي أحمد الحاكم فيه
    وقال أبو أحمد الحاكم عن يونس في «الأسامي والكنى» : «ربما يهم في روايته ».
    قلت: وهذا غَمْزٌ خفيف من أبي أحمد، وما سلم من الوهم أحد قط! سوى مَنْ عصمه الله من الأنبياء في مَوْرِد الوحي، وكذا مَنْ شاء الله من خلْقه.
    وقد حفظْنا على يونس غفلتين، غفلة فاحشة في حديثه عن أبيه، وقد ضعَّفه مَنْ ضعَّفه لأجلها، وغفلة أخرى يسيرة في حديثه عن باقي مشيخته، وما بمثلها يسقط حديث الرجل!
    إيراد ابن عدي ليونس في كتابه
    وأورده ابن عدي في «الكامل» وساق أقوال النقاد فيه، ثم قال: « له أحاديث حِسان وروى عنه الناس، وإسرائيل بن يونس ابنه، وعيسى بن يونس ابنه، وإسرائيل وعيسى أخوان وهم من أهل بيت العِلْم والروايات وحديث الكوفة يدور عليهم».
    قلت: وهذه العبارة أقرب إلى تمشية حال يونس منها إلى غيرها، لا سيما ولم يأت أبو أحمد الجرجاني في ترجمته بما يخدش في ثقته كما يفعل مع غيره، وإنما ساق له من كلام يحيى القطان حديثًا غلط في إسناده وحسب! وقد مضى النظر فيه.
    وكذا أدرجه أبو جعفر العقيلي في «الضعفاء» وأورد اختلاف النقاد بشأنه، ولم يَرْمِه بشيء مِن عنديَّاتِه.
    تنبيه حول مسلك ابن عدي والعقيلي في كتابيهما
    [تنبيه مهم] إيراد يونس في كتابي ابن عدي والعقيلي لا يوجب ضعْفَه عندهما.
    أما ابن عدي: فقد ذكر في آخر ترجمته ما يدل على صلاح حال يونس في الجملة، وأنه من بيت عِلْم وحديث، وهذا هو رأي الرجل فيه.
    وأما العقيلي: فقد ساق أقوال مَنْ ضعَّفه وقولَ مَنْ أثنى عليه على السواء، ولَمْ يقدم بين يدي ترجمته بما يدل على رأيه فيه كما يفعل مع غيره من الضعفاء، وإنما سكت عنه؛ اكتفاءً بما أورده. وقد فعل مثل ذلك مع جماعة غيره من المتكلم فيهم، فلا يُنْسَب إليه تضعيفهم هكذا جُزافًا بمجرد إيرادهم في كتابه!
    بيان عادة جماعة ممنْ صنَّف في طبقات الضعفاء
    وعادة الساجي والعقيلي وابن عدي وغيرهم في كتبهم في الضعفاء: هو ذِكْرُ كل من تُكُلِّم فيه وإن كان ثقة مأمونًا، ولا يُنْسَب إليهم تضعيف أحد النقلة بمجرد ذلك، اللهم إلا إنْ حُفِظ عنهم كلام بشأنه يدل على أن الراجح من حال الراوي عندهم كونه مأمونًا أو مغموزًا!
    فهذا الحافظ زكريا الساجي رأيناه أورد يونس بن أبي إسحاق في كتابه «الضعفاء» ثم قال: « صدوق، كان يقدِّم عثمانَ على عليّ، وضعَّفه بعضهم» كما نقله الحافظ عنه في «تهذيبه».
    فأدْرَكْنَا رأيَ الساجي في يونس بقوله عنه: «صدوق»، ولو أنه ساق أقوال النقاد فيه ثم سكت؛ لم نكن نستجيز أن نجازف في حق الساجي بكونه يرى ضعْف الرجل بمجرد أنه ساق كلام من تكلم فيه ولو كان هذا الكلام كله في تجريح يونس!
    إذا عرفتَ هذا: أدركتَ أن قول بعضهم في حق بعض الرواة: «ضعَّفه الساجي أو ابن عدي أو العقيلي، أو ابن الجارود، أو أبو بشر الدولابي، أو أبو العرب القيرواني» أو غيرهم ممن صنَّف في «ضعفاء الرجال» بمجرد ذِكْرِهم لهذا البعض في كتبهم؛ لا يكون إلا مجازفة باردة، وضَرْبًا مِن التخَرُّص لا مُتَعَلِّقَ لصاحبه فيه إلا كل مَنْ كان بَعِيدَ المَزَاعِم يهْوَى التعلُّق بِحِبَال القَمَر!
    كلام ابن خراش في يونس وكلمةٌ في إنصافه وغيره
    وقال الحافظ ابن خراش: «في حديثه لِين». نقله عنه الذهبي في «الميزان».
    قلت: وهذا القول لا يوجب تضعيفًا، مع ما عُرِف من حرارة أنفاس أبي عبد الرحمن ابن يوسف المروزي في تقويم الرجال! لكنه يتكلم كلام العارف في مواطن كثيرة، ولم يُصِب من أهدر كلامه في الرجال لكلام مَنْ تكلم فيه!
    كما رأيتُ بعضهم يفعل مع أبي الفتح الأزدي وأبي العباس ابن عقدة وغيرهما! بل لبعضهم ذوقٌ حَدِيثي لا أعرف مثله فيمن جاء بعدهم! اللهم إلا أن يكون أبا الحسن الدارقطني الحافظ وحدَه، وكان الحافظ الأزدي أعلمَ الثلاثة وأنهضهم في معرفة الرجال وعلل الحديث.
    كلام ابن حزم في يونس
    ثم جاء أبو محمد ابن حزم وغمزَ يونس في موضعين من كتابه: «المحلى» [1/ 176]، و[7/ 550/طبعة دار المعرفة].
    فقال في الموضع الأول يعلُّ حديثًا: (عَلَى أَنَّ يُونُسَ بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ).
    وقال في موطن آخر: (عَلَى أَنَّ يُونُسَ قَدْ ضَعَّفَهُ شُعْبَةُ بِأَقْبَحِ التَّضْعِيفِ، وَضَعَّفَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ جِدًّا، وَقَالَ فِيهِ شُعْبَةُ: أَمَا قَالَ لَكُمْ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ)!
    قلت: لا بأس على أبي محمد في تضعيفه يونس فإنه مسبوق بذلك من الإمام أحمد كما علمتَ، على أنه جازف في كون يونس كان ضعيفًا جدًا عند شعبة والقطان وأحمد! وقد رددنا عليه ذلك فيما مضى، فلا تهولنَّك عبارة الرجل فإنا خَبَرْنَاها وأمثالها فلم نجد وراءها ما يَرْمِي إليه فضلًا عن أن يكون ممنْ يملأ العَيْن!


    تابع البقية: ....

  10. #10

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    إيراد ابن الجوزي ليونس في «الضعفاء».
    وذكره أبو الفرج البَكْرِي في كتابه «الضعفاء والمتروكين»، إلا أنه غلط-كعادته- وجاء في حق يونس بما دُونَه «شَيْبُ الْغُرَاب»! فزعم أن النَّسَائِيّ قال عن يونس: «ضَعِيف»! وأن ابن معين قال: « لا شَيْء»!
    وهذا الذي نقله عن النسائي وابن معين إنما كان عارِضًا مِن الآمال أخْلَف وَدْقَه، وبارِقًا مِن المُنَى كذَبَ بَرْقُه! ومن يتعلق به إنما يتعلق منه بأحَادِيث المُنَى، ويَرُوم منه مرامًا بَعِيدًا.
    والمحفوظ عن النسائي: أنه قال عن يونس: «لا بأس به» واحتج به في «صحيحه » أيضًا كما سيأتي.
    والمحفوظ عن ابن معين: هو توثيق يونس قولًا واحدًا؛ روى ذلك عنه عثمان الدارمي وعباس الدوري وابن الجنيد وابن طهمان وإسحاق الكوسج وابن أبي مريم، وهؤلاء هم أصحاب ابن معين المُقدَّمين فيه.
    كلمة في هفوات ابن الجوزي في «الضعفاء»
    فلا يكون ما نقله ابن الجوزي هنا إلا وهمًا محضًا، وهو بَعِيد الخَطْو في الأوهام في كتابه «الضعفاء» بما تنْحَلُّ معه حَبْوَةُ المُسْتريب!
    ولقد خَبرْتُ كتابه هذا أيام عمَلِي في «الرحمات» فقضيتُ منه العجب! وكنت مارسته قبل ذلك فإذا الأوهام والتخاليط قد ضرَبَتْ عليه أطنابها! وما أرى صاحبه قد تعب فيه بقدر ما أتعب مَنْ يتعقبه ممن ينظر في كلامه بعين التبصُّر! وإنما هو ألفاظٌ مسرودة يسوقها الرجل دون تحرير، وكلماتٌ شوارد تُكال في حق الناس جزافًا دون تحقيق!
    انظر إليه تجده ينقل كلام النقاد في غير مواضعها، ويخطيء في إصابة مَنْ قِيلَتْ فيه، ويتصرف كثيرًا في ألفاظ النقاد فيأتي عنهم بما ينفرد به دون أهل الأرض! وينقل عن بعض النقاد من التجريح في حق بعضهم ما يكون المحفوظ عنه خلافه، فضلًا عن التقميش فيما ينقله مما لا يستبين صحة جميعه البتة، ناهيك عن أوهامه في الجمْع والتفريق، وغير ذلك مما فاته فيه رائِدُ التوفيق!
    وما أشبه حاله في صناعة هذا الكتاب بذلك المثل السائر: « بَنَى فُلانٌ ثُمَّ قَوَّض»! إِذا أحْسَن ثُمَّ أساء، والله يقضي مِن خَلْقِه ما يشاء!
    ولقد جرَّد الحافظُ الناقد المتفنِّنُ العلاءُ مغلطاي تصنيفًا حافلًا تعقب فيه ابن الجوزي بما تُسَرُّ له العيون النواظِر، وكان قد أسماه: «الاكتفاء بتنقيح كتاب الضعفاء/طُبِع بعضُه حديثًا» كشف فيه الستار عن أغاليط أبي الفرج بما لا مزيد عليه.
    وهكذا كان ابن الجوزي، قليل التحقيق في كتبه؛ ضعيفَ التعليل في مصنفاته، وقد صدَقَتْ فيه كلمةُ السيفِ أحمد ابن المجد الحافظ: «هو كثير الوهم جدًّا»! ونقل الذهبي في «التذكرة» عن العلامة الإخباري أبي محمد عَبْد اللطِيف بن يوسُف المَوصِلِي أنه قال في حقه: « كان كثير الغلط فيما يصنِّفه، فإنه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبره».
    قال الذهبي: « نعم، له وَهَمٌ كثير في تواليفه، يدخل عليه الداخل من العجلة والتحويل إلى مصنف آخر، ومن أنْ جُلّ عِلْمِه من كتب صُحُف، ما مارس فيها أرباب العِلْم كما ينبغي».
    قلت: وقد رُوِّينا عن أَبَي بَكْر ابن نُقْطة الحافظ أنه قال: «قيل لأبي مُحَمَّد بْن الأخضر: ألَا تُجيب ابنَ الجوزي عن بعض أوهامه؟ قال: إنّما يُتَتبَّع على مَنْ قَلّ غَلَطه، فأمّا هَذَا فأوهامه كثيرة »!
    والكلام في أبي الفرج طويل الذيل، وهو على شرطنا في كتابنا «المحارب الكفيل» وسنجمع في ترجمته ما يَقْضِي المُتَشَوِّفُ فيها ما يرغب مما يَسْتَنْبِئُ به حال الرجل من سائر العلوم، بعون الله وتوفيقه.
    ولقد ذكَّرني قولُ ابن الجوزي عن يونس فيما نقله عن ابن معين: « لا شَيْء»! بقوله في حق: « أحمد بن بَشير المَخزومي» في كتابه: «الضعفاء» [1/ 66]: «قال يحيى [يعني: ابن معين]: هُوَ مَتْرُوك»! وقد تعقبه في ذلك مغلطاي في «الاكتفاء» وفي «إكمال التهذيب».
    وأكثرُ إمامين يغلط ابن الجوزي عليهما، ويُخَلِّط في النقل عنهما في كتابه المذكور: هما الحافظان أبو حاتم الرازي وأبو زكريا ابن معين؛ فكنْ من ذلك على ذُكْرٍ في أمرك؛ تَرْقَ به في سماء الإجادة؛ ويعود عليك موصول التنَبُّه - إن شاء الله- بعائد الإفادة.
    إيراد الذهبي ليونس في الضعفاء
    وقد أورد الذهبي ترجمة ليونس في جملة من كتبه في «الضعفاء»، على عادته – وهي طريق الحفَّاظ قبله- في إيراد كل من تُكُلِّم فيه وإنْ كان من الجبال الرواسي!
    إلا أن الذهبي أنصفه في بعضها، فقال في «الميزان» بعد أن ساق غَمْزَ بعضهم ليونس: «قلت: بل هو صدوق، ما به بأس، ما هو في قوة مسعر ولا شعبة ».
    حول تدليس يونس
    قد سبق وسطرنا كلام النقاد في يونس، واستقصينا في ذلك غاية الاستقصاء، وطلبناه من كل حَدبٍ يُطْلَب مثله، وجمَعْنا مُفْتَرقَ الآراء بين مُوَثِّق وغامز، فلم نقف ولا أدركنا قط أن ثمة مَنْ وصَمَ يونس بالتدليس أو رماه به!
    ثم مضت السنون والشهور، وكرَّتِ الأيام والدهور، وسلفَتِ الأزمان والعصور؛ حتى جاء أحد المغامرين في ذيل تلك القرون المتأخرة! وحاول أن يَرْمي يونس بالتدليس في حديثٍ أورده له، وظن بذلك أن الدهر قد أسْعَفَهُ بِمُرَادِه! وأنه قد قَضَى من الأمر نَهْمَتَه، واغْتَبَط بِفَلَج مَسْعَاه!
    وهذا المغامر وقف على كلامه الحافظُ ابن حجر، إلا أنه لم يُسَمِّه! غير أنه نقل لنا شُبْهَته التي راجت على بعض ما استهان الغمز في الثقات بكل ما يقع في يده!
    غير أن الحافظ قد كان يقظًا –كعادته- فأبَى أنْ لا يذكر تلك التهمة في حق يونس إلا ويسبقها بما يشير إلى ضَعْفِها ابتداءًا! لكنه لم يُصِب في إيرادها أصلًا في كتابه ساكتًا عليها؛ لقصور منزلة المتأخرين –كافة- عن مساورة أئمة هذا الشان في إدراك مسالكهم في وَصْمِ الرواة بالتدليس في الأخبار، والتمويه في الأحاديث والآثار!
    فقام الحافظ بإدراج «يونس بن أبي إسحاق» في «المرتبة الثانية» من كتابه: «طبقات المدلسين»! وهذه المرتبة هي لمن: «احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في «الصحيح» لإمامته وقلة تدليسه في جَنْب ما روى كالثوري، أو كان لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة»، كما يقول الحافظ نفسه في مقدمة كتابه.
    قال الحافظ: «يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي حافظ مشهور كوفي يقال: إنه روى عن الشعبي حديثًا -وهو حديثه عن الحارث عن علي رضي الله عنه: حديث: «أبو بكر وعمر سيدَا كهول أهل الجنة»- فأسقط الحارث»!
    قلت: هذا هو المستند الزائف في وَصْمِ يونس بالتدليس! وقد أيْقَن بالْيَأس مِمَّا طَلَبَ كلُّ من حاول أن يتعلق به في هذا المقام.
    وقد تعرَّضْنا لتخريج هذا الحديث في كتابنا «الرحمات» [عقب رقم/533]، غير أننا لم نشْفِ منه المراد.
    وحاصله: أن الثقات الأثبات من أصحاب يونس قد رووه عنه فقالوا: عن الشعبي عن علي بن أبي طالب به....
    هكذا رواه عنه وكيع وجماعة، لكن اختلف فيه عن وكيع؛ فرواه عنه عبد الله بن هاشم الطوسي –وهو ثقة مأمون- فقال: عن يونس عن الشعبي عن الحارث عن علي به ....
    فزاد فيه واسطة-وهي الحارث- بين الشعبي وعليٍّ!
    وهذا وجه محفوظ عن وكيع، وهو من الأثبات في يونس، فيكون يونس قد حدَّث به على الوجهين جميعًا عن الشعبي.
    وقد رُوِيَ الحديثُ من وجهين آخرين عن يونس لا يثبتان عنه ولا يصحان، كرواية من رواه عنه فقال: يونس بن أبي إسحاق فقال: عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن علي به ...
    وكرواية مَنْ رواه عن أبي قتيبة سلم بن قتيبة فقال عن يونس بن أبي إسحاق عن الشعبي عن أبي هريرة به ...
    وهذا غلط ممن رواه عن أبي قتيبة، والمحفوظ عنه بهذا الإسناد متن آخر غير هذا.
    والحاصل: أن يونس كان يروي هذا الحديث عن الشعبي عن علي، ولا يذكر فيه بينهما أحد، ورواه مرة فزاد فيه «الحارث الأعور» بينهما!
    وكلا الوجهين محفوظان عن الشعبي نفسه، فدعوى أن يكون يونس قد أخطأ فيه –فضلا عن أن يكون اضطرب في روايته- غير مسموعة هنا؛ لأن جماعة من أصحاب الشعبي قد رووه عنه على الوجهين، فصح بهذا أن الشعبي هو الذي كان يتلوَّن في روايته، والظاهر أنه سمعه من الحارث ثم كان يسقطه، وكأنه كان يفعل ذلك لضعْف الحارث عنده، بل صح عنه أنه رماه بالكذب!
    فإذا كان ذلك كذلك: فما ذَنْب يونس بن أبي إسحاق هنا! هذا شأن الشعبي لا يتدخل فيه يونس ولا غيره!
    وبهذا التحرير: يطيش زَعْمُ الزاعم من تدليس يونس في حديثه عن عامر بن شراحيل؟
    ثم لو ثبت هذا التدليس هنا عن يونس لكان بعينه تدليس «التسوية» الذي اشتدتْ كلمات النقاد في الإنكار على من كان يعالجه في حديثه عن الثقات! فأين كانوا عن يونس منه إذا كان أحدهم قد حفظه عليه في حديثه؟!
    ولأجل هذا: غمَزَ الحافظُ السخاوي تلك الدعوى الممجوجة في حق يونس، فقال بعد أن أخرج حديث يونس –المشار إليه- عن الشعبي عن عليّ، في كتابه: «البلدانيات» [ص/ 273- 274/طبعة دار العطاء]: «هذا حديث حسن. وسنده منقطع؛ فالشعبي لم يسمعه من علي؛ إنما رواه عن الحارث الأعور، وهو ضعيف. وَحِينَئِذٍ فَفِيهِ تَدْلِيس التَّسْوِيَة، وَنُسِبَ صَنِيعُه ليونس، وَفِيه نظر ».
    ثم ذكر السخاوي أن جماعة رووه عن الشعبي بإسقاط الحارث؛ فمَاذا على يونس من إسقاطه وقد سقط الرجل قبل أن يسمع يونس هذا الحديث من عامر!
    والحاصل: أنا لا نعرف أحدًا يُعْتدُّ بكلامه قد وصَم يونس بالتدليس؛ فإذا وجدنا ما يشبهه في حديث يونس؛ حملناه على الوهم والغفلة دون التدليس الذي يستوجب حِرْفة وعملًا قد نزَّه الله عنهما أبا إسرائيل الفقيه المحدث العالِم!
    ولو صح أنْ نحمِل كلَّ وهم يقع فيه الثقات – مما يشبه التدليس بأحد وجوهه- على أنهم قَصْدًا فعلوه لغرض وقع لهم؛ لَمَا سلم معنا أحدٌ من الأكابر منْ أنْ يُوصَم بتلك الوصْمة في تدليس الأخبار!
    وصورة التدليس لا تقتضي ثبوته في حق مَنْ وقعتْ عليه مما لا يُعْرف به بين أوساط النقَلَة العارفين بأخباره وحديثه، فما تكون قيمة مجازفات المتأخر بعد سكوت الحَفَظَة النَّقَدَة!


    تابع البقية: ...

  11. #11

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    تثبيت جماعة من المتقدمين والمتأخرين ليونس
    وقد أثنى على يونس وثبَّتَه طائفةٌ من أئمة هذا الشان، وممن يُشار إليهم بالبَنان، ونحن نذكر ما وقع في «تهذيب الكمال» و«تهذيبه» من ذلك، ثم نُرْدِفُه بما وقع لنا ووقفنا عليه مما أغفله الذهبيُّ والمِزِّي وابن حجر في ترجمة يونس من كتبهم! فنقول:
    قال ابن مهدي: «يونس بن أَبي إسحاق لم يكن بِهِ بأس».
    وروى أصحاب ابن معين عنه أنه قال فيه: «ثقة»، وقال مرة: «ليس به بأس».
    وذكره الحافظ أبو الحسن العجلي في «تاريخه» وقال: «ثِقَة» وَقَالَ مرّة: «جَائِز الحَدِيث».
    وقال ابن سعد في «الطبقات الكبرى»: « يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ وَيُكْنَى أَبَا إِسْرَائِيلَ وَكَانَتْ لَهُ سِنٌّ عَالِيَةٌ وَقَدْ رَوَى عَنْ عَامَّةَ رِجَالِ أَبِيهِ .... وَكَانَ ثِقَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ».
    وَقَال النَّسَائي: «ليس به بأس».
    وقال الحافظ أبو زكريا الساجي: « صدوق».
    وذكره ابن حبان في «الثقات»،
    وذكره ابن شاهين في «الثقات».
    وقال الذهبي في (الميزان) بعد أن ساق كلام النقاد فيه: (قلت: بل هو صدوق، ما به بأس، ما هو في قوة مسعر ولا شعبة).
    وقال في صدر ترجمته من (سير النبلاء): (محدث الكوفة، أبو إسرائيل، وابن محدثها.. كان أحد العلماء الصادقين، يُعَدُّ في صغار التابعين.).
    ثم قال في ختامها: (قلت: ابْناه أتقن منه، وهو حسن الحديث).
    وقال الذهبي في (العبر) عن يونس: (وكان صدوقًا كثير الحديث)
    وقال في الكاشف: (صدوق).
    وقال في (المغني): (صدوق).
    وقال في رسالته: (ذِكْرُ أسماء مَنْ تكلم فيه وهو موثق): «ثقة».
    وقال في «ديوان الضعفاء»: « صدوق يُغْرِب ».
    وقال في «تاريخه الكبير»: « كان من علماء الكوفة، وهو من بيت عِلْم وحديث».
    وقال الحافظ في (التقريب): «صدوق يهم قليلًا».
    وكذا وثقه الشهاب البوصيري في مواضع من «مصباح الزجاجة» [1/ 123/طبعة الدار العربية]، و[4/ 102].
    زياداتي على المزي والذهبي وابن حجر في توثيق يونس
    وقال البزار في (مسنده) [8/ 112]: (يُونُسَ بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ ثِقَةٌ).
    وذكره أيضًا ابن حبان في كتابه: «مشاهير علماء الأمصار» وشْرْطُه فيه إملاء: «مشاهير علماء الأمصار، وأعلام فقهاء الأقطار، دون الضعفاء والمتروكين وأضداد العدول من المجروحين» كما نصَّ على ذلك في مقدمته.
    وقال الطحاوي في (مختصر اختلاف العلماء) [3/ 115/طبعة دار البشائر الإسلامية] عن يونس: (مِمَّن قد حُمِلَ عَنهُ الْعِلْم وَقُبِلَتْ رِوَايَته).
    وقال ابن القطان في (بيان الوهم والإيهام): (ويونس ثقة حافظ).
    ونقل ابن القيم في (حاشيته على السنن) [9/ 240]، عن بعض المحدثين أنه حسَّن ليونس حديثًا يرويه عن أمه عن عائشة، ثم قال عن يونس: (ثقة ثبت).
    إنصاف الحافظ الغَلَّابي وفوائد حول «تاريخه»
    ومن أكثر الكلمات إنصافًا في حق يونس: قول الحافظ العلامة الإخباريّ أبي عبد الرحمن المفضَّل بن غسان- صاحب يحيى بن معين- أبو عبد الرحمن الغَلابيُّ في «تاريخه»: « كان يونس بن أبي إسحاق مستوي الحديث في غير أبي إسحاق، مضطربًا في حديث أبيه». نقله عنه ابن رجب في «شرح العلل» [2/ 258].
    وهذا كلامٌ قد حُصِّنَ عن نَظَر الناقد، لكونه قولَ رجل عارفٍ يدري ما يقول، كأنه مارس حديث يونس وخَبَره فوجده كما قال، وقد أصاب كَبِدَ الحقيقة حتى أدْماها.
    وكلام هذا الإمام في الجرح والتعديل-على قِلَّته- عليه سِمَة الإنصاف بادية، فله كلمات في جماعة من المتكلَّم فيهم تشِفُّ عن عدل ومعرفة تامة بأخبار القوم.
    وقد حققتُ حال طائفة من المتكلم فيهم فرأيتُ الأمر كما حكم فيهم هذا الناقد البصير.
    فمن ذلك: قوله في ترجمة «خالد بن مخلد القطواني» من «تاريخه»: « يُؤْخَذ عنه مشيخة المدينة، وابن بلال قط». نقله عنه ابن رجب في «شرح العلل».
    وهذا هو التحقيق في حال خالد.
    ومن ذلك: أنه قال في ترجمة «خالد بن حيان الرقي» من «تاريخه»: « قد سمع منه يحيى بن معين وزعم أنه خراز، وليس به بأس». نقله عنه الحافظ في «تهذيبه».
    والأمر كما قال بشأن ابن حيان..
    وقد كان ابن رجب يستكثر تلك المعرفة على هذا الإمام، ويرى أنه إنما أخذ بعض ما يقول من صاحبه ابن معين ولم يُسَمِّه!
    فقال ابن رجب في «شرح العلل» [2/ 144]: « وفي تاريخ الغلابي: «يزيد بن إبراهيم عن قتادة : ليس بذاك»، والظاهر أنه حكاه عن ابن معين»!
    قلت: وهذا تخرُّص لا يُلْتَفتُ إليه، وإنما حمَل ابنَ رجب على هذا شهرةُ رواية الغلابي ونقولاته عن ابن معين، وهو صاحب «سؤالات» عنه، مع قلة كلام الغلابي في الرجال استقلالًا فيما وقع لابن رجب.
    وكان للغلابي «تاريخ» حافل ينقل فيه عن ابن معين وابن حنبل وأضرابهم، رواه عنه ابنه أبو أمية الأحوص بن المفضل بن غسان وجماعة، قال ابن عساكر: «صنف تاريخًا كثير الفائدة، واختصره في أصغر منه».
    وقد وقع هذا «التاريخ» لابن عساكر فأكثر النقل عنه في «تاريخه» كما وقع قبله للدارقطني والبيهقي والخطيب وابن السمعاني وطائفة من المحدثين.
    فحدَّث به الخطيب –ومثله ابن عساكر والسمعاني-من طريق أبي الأحوص عن أبيه. وحدَّث به الدارقطني والبيهقي – وكذا الخطيب أيضًا- عن أبي بكر الشافعي عن جعفر بن محمد بن الأزهر عن المفضل به.
    وحدَّث به الحافظ أبو عمر المنتجيلي الصدفي في «تاريخه الكبير» الذي لا مثيل له في كثرة الفوائد، عن أبي الحسن محمد بن محمد بن عبد السلام الخشني، عن أبيه، عن الغلابي به.
    ومن هذا الطريق الأخير: انتشر النقل عن المفضل بين المغاربة، كما تراه في كتب أبي علي الجياني، وأبي بكر ابن خلفون، وأبي القاسم ابن بشكوال وجماعة.
    وما أرى المزي وابن رجب ومغلطاي وابن حجر وغيرهم من المتأخرين ينقلون عنه إلا بواسطة، أما الحافظ ابن الذهبي فقد وقع له منه نسخة أشار إليها في مقدمة «تاريخه الكبير».
    والحافظ الغلابي على شرْطِنا في كتابنا: «الْمُحَارِبُ الْكَفِيل بِتَقْوِيمِ أَسِنَّةِ التَّنْكِيلِ» وسنذكر له فيه ترجمة مَلِيحة بعون الله.
    [فائدة] الغَلَّابي: بتشديد اللام نسبة إلى غَلَّاب، وهو والِد خالد بن غلَّاب البصري، كذا ضبطه ابن السمعاني في «الأنساب» وغيره، وقد غلط من قال بتخفيف اللام في هذا الموضع، كما وقع لجماعة!
    بعض المجازفات في توثيق يونس
    أما قول الحاكم في (المستدرك) [2/ 187/الطبعة العلمية]: (لَسْتُ أَعْلَمُ بَيْنَ أَئِمَّةِ هَذَا الْعِلْمِ خِلَافًا عَلَى عَدَالَةِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ)!
    فهذا الإطلاق كقوله الآخر: « لا أعلم خلافًا بين أكثر أئمة أهل النقل في عدالة بهز بن حكيم»! وأنت تعرف قول أبي حاتم فيه؟
    ومثله قوله: « لا أعلم خلافًا في عدالة عمرو بن شعيب! إنما اختلفوا في سماع أبيه من جده »! وأنت تعرف ما اشتهر من كلام النقاد في عمرو نفسه!
    فإطلاقه هنا في حق يونس إما أن يُحْمَل على أصْل الصدْق في حديثه، أو يكون ذلك حسب ما انتهى إليه عِلْمُ الحاكم وحسب، فلا ينافي معرفة غيره بخلافه في حق يونس.
    ثم جاء المحقق الفاضل مشهور حسن سلمان وجازف هو الآخر في تعليقه على (موافقات الشاطبي) [4/ 376/طبعة ابن عفان] وقال عن يونس: (متفق على ثقته)!
    وهذا ضَرْبٌ مِن التخَرُّصِ بَعِيد عن مَرْمَى السَّدَاد! ولو سألناه البرهان على تلك الدعوى؛ لضاقتْ عليه الأرض بما رحبَتْ!
    وأعجب من هذا: أنه بعد ستة أسطر من تلك الدعوى التي تضيق عنها عمائم أُولِي العزائم! نقل هذا الفاضل قول المنذري في يونس: «تُكُلِّمَ فيه»!
    فنَعُدُّ تلك الهفوة من جملة هنَاتِ مَنْ كان مُكْثرًا من جَمْع الفوائد، متألِّقًا في تقييد الشوارد، مفيدًا فيما يكتب للطالبين، مُعينًا بشريف تحقيقاته جماعةَ الباحثين، من أمثال هذا الفاضل العالِم المُحْتَرم.
    وجمهور المتأخرين على تمشية حديث يونس والاحتجاج به ما لم يخالف أو يأت بما ينكره عليه أحد حُذَّاق الأئمة.
    تابع البقية: ...

  12. #12

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    ذِكْرُ مَنْ صَحَّح حديث يونس من الغابرين واللاحقين
    وقد صحح له من أحاديثه، وحسَّن له من أخباره: جماهيرٌ من الأئمة المتقدمين والمتأخرين: منهم:
    الترمذي (في الجامع).
    والنسائي (في المجتبى/وكله صحيح عنده).
    وابن الجارود (في المنتقى/وقد سماه بعضهم بالصحيح).
    وأبو عوانة (في مستخرجه).
    وابن خزيمة (في صحيحه)،.
    وأبو علي الطوسي (في مختصر الأحكام).
    وابن حبان (في صحيحه).
    والحاكم (في مستدركه).
    والطحاوي (في بيان المشكِل).
    والضياء المقدسي (في المختارة).
    وابن عبد البر (في التمهيد).
    وابن عساكر في (معجمه).
    وأبو منصور ابن عساكر (في الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين).
    والمنذري (في مختصر السنن).
    والنووي (في المجموع).
    وشيخ الإسلام ابن تيمية (في شرح العمدة).
    وابن القيم (في الزاد، وفي حاشيته على سنن أبي داود).
    وابن دقيق العيد (في الإمام).
    والذهبي ( في تاريخه الكبير).
    ومغلطاي (في شرح سنن ابن ماجه).
    والتاج ابن السبكي (في معجم شيوخه).
    والشمس ابن عبد الهادي (في التنقيح).
    والحافظ (في الإصابة والفتح وغيرهما).
    والبدر العيني (في العمدة).
    والشهاب البوصيري ( في إتحاف الخيرة، وفي مصباح الزجاجة).
    والولي العراقي (نقله عنه السيوطي في حاشيته على النسائي).
    وابن التركماني (في الجوهر النقي).
    والسخاوي (في البلدانيات).
    والسيوطي والمناوي وغيرهم، ولستُ أرغب الاستيعاب في هذا الباب.أما الذي صححوا أو حسَّنوا ليونس مما أدركناهم من الشيوخ والأقران فلا يحصون كثرة، ومنهم فرسان لا تُبَارَى، وكُمَاةٌ لا تُجارَى، في الحديث وعلومه.
    ومعلوم أن التصحيح فرع التوثيق، فكل مَنْ صحَّح ليونس حديثًا فهو عنده مَرْضِي مقبول الرواية، إما ثقة أو دون الثقة، وقد نزَّه الله مَنْ أتينا على أسمائهم عن الاحتجاج في دين الله بالضعيف من الأخبار، والمطروح من الآثار، فضلًا عن تصحيح ما يعلمون غير صحته، وتثْبِيت ما يشهدون بوَهَن رُواته وحمَلَتِه.
    وهذه التوثيقات والمحامِد التي سطرناها في حق يونس: لا تكاد تجدها في مكان آخر كما تجدها هنا منظومة مجموعة. ولله الحمد.
    التحقيق في حال يونس
    وبهذه النقول: يستبين لك أن يونس في الجملة صدوق متماسك صالح الحديث لا بأس به، وخبره قائم على الاحتجاج ما لم يأت بما ينكره عليه الحُذَّاق من أئمة هذا الشان، أو يخالفه مَنْ هو أوثق منه من فرسان هذا الميدان.
    فليس هو بالثقة الثبت، كما أنه فوق الضعيف اللَّيِّن، فهو وسط لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وقد خلَصَ جماعة من المحققين إلى هذا الرأي في يونس، فلم يرفعوه إلى مراتب الثقات الأثبات، كما لم ينزلوا بحديثه إلى دركات الضَّعَفَة من الرُّواة.
    ومن هؤلاء: الحافظ الذهبي في مواطن من كتبه، منها قوله في (الميزان) بعد أن ساق كلام النقاد فيه: «قلت: بل هو صدوق، ما به بأس، ما هو في قوة مسعر ولا شعبة».
    ومنهم: الحافظ ابن حجر في «تقريبه» حيث قال: «صدوق يهم قليلا»، وهو الذي ساق أقوال النقاد فيه بــ: «تهذيبه».
    ومنهم: جماعة من نبلاء العصر، وطائفة من فضلاء هذا الدهر، منهم شيخ شيوخنا، وإكليل تاج أهل زماننا: الإمام الحجة الناصر الألباني في مواضع من كتبه، منها قوله عن يونس في «السلسلة الضعيفة» [12/909]: «هو وسط يُحتجُّ بحديثه إذا لم يخالف».
    ومنهم: الشيخ المحدث النبيل سَعد بن عَبد الله بن عَبد العَزيز آل حُميَّد في تعليقه على «مختصر تلخيص الذهبي/لابن الملقن» [5/ 2564]، فقال بعد أن ساق أقوال النقاد في يونس: « والراجح من حاله أنه صدوق .... وهذا ما رجحه الشيخ عبد العزيز التخيفي في رسالته عن «المتكلم فيهم من رجال التقريب» (2/ 339).... ».
    وهناك جماعة غير هؤلاء من شيوخنا ونظرائنا ممن صح عندهم ما صح عندنا بشأن أبي إسرائيل الهمداني، ولم نشأ التعرض لغير من ذكرنا، ففيه الكَفاء والغناء.
    ومع هذا التحقيق: فلا بد من اليقظة إلى أن يونس ضعيف في أبيه، غير ناهض بحديثه، لا يقوم به على سَنَنٍ محمود، ولا يسير بما تحمَّله عنه على الطريق المعهود، فلذلك كثرتْ منه الأخطاء والهفوات ، وانتشرت عليه الأوهام والعثرات، حتى ضعفه الإمام أحمد في هذا الصدد كما مضى بيانه، وإلا فهو مستوي الحديث في غير أبيه كما قاله الحافظ المفضل الغلابي.

    تابع البقية: ...

  13. #13

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    ذِكْرُ مَنْ صحح حديث أبي موسى الأشعري
    مضى أن هذا الحديث صححه ابن حبان بإخراجه له في «صحيحه».
    وقد صححه الحاكم في موضعين من «المستدرك»، قال في أولهما: « هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه».
    وقد تعقّبه –في هذا الموضع- الحافظُ العراقي في «المغني» [ 3/133] بقوله: «وفيه نظر»!
    وتعلَّق بهذا النظر بعضهم! وظن أن العراقي يرْمِي بضعْفِ الحديث إلى «يونس بن أبي إسحاق»! وليس به؛ لأن تلك الدعوى ليست بأظهر من أن يكون العراقي يرمي بذلك النظر إلى : «أحمد بن عمران الأخنسي» راويه في طريق الحاكم عن محمد بن فضيل عن يونس بن أبي إسحاق!
    وهذا هو الأصوب في نقْدي؛ لأن «الأخنسي» متروك الحديث عند العراقي نفسه، وقد أعل به حديثًا في «المغني» [4/ 214] فقال: « أخرجه ابن أبي الدنيا في «كتاب القبور» من حديث بريدة، وشيخه أحمد بن عمران الأخنسي متروك».
    وإذا كان ذلك كذلك: فهذا النظر عند العراقي يصيب هذا الطريق الذي وقع فيه الأخنسي وحسب، أما طرقه الأخرى مما ليس فيها الأخنسي وأمثاله فلم يتعرض له الرجل.
    وقد مرَّ عليَّ تحسينُ الحافظ العراقي لبعض أحاديث يرويها يونس بن أبي إسحاق؛ لكنْ غَبِيَ الآن علينا الاهتداءُ إلى موضع كلام العراقي في هذا الصدد! فلو عُثِرَ عليه لكان شاهدًا صالحًا على نفْي رَوْمِ العراقي لـــ: «يونس» في ذلك النظر الذي تعقب به الحاكم.
    التحقيق في قضية التصحيح على شرط الشيخين
    وصحح الحاكم هذا الحديث في موضع آخر فقال: « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».
    قلت: ما لهذا الحديث وشرْط الشيخين يا أبا عبد الله! ويونس لم يحتج به مسلم أصلًا! وليس له في «صحيحه» سوى حديث واحد متابعة لم يسق مسلم لفظه أيضًا! أما البخاري فقد تحاشى يونس وحديثه كله!
    ثم لو صح احتجاج الشيخين بيونس لم يكن حديثه هنا على شرطهما البتة؛ لكونهما لم يُخْرِجا له شيئًا بتلك الهيئة المجموعة من روايته عن أبي بردة عن أبيه!
    ثم لو صح احتجاجهما بتلك الهيئة من حديث يونس لم يكن ذلك دليلًا على تصحيحهما أحاديث تلك الترجمة «يونس عن أبي بردة عن أبي موسى» في الجملة!
    ثم لو صح تصحيحهما أحاديث تلك الترجمة في الجملة؛ لم يكن هذا دليلًا على ثبوت هذا الحديث بخصوصه عندهما!
    والتحقيق: هو عدم الجزم بصحة أيِّ حديث بكونه على شرط الشيخين أو أحدهما وإنْ كانا أخرجا لرواته بالشروط التي ذكرها المحققون في اكتساب شرطهما؛ وذلك لأن أحاديث «الصحيحين» إنما كانت موضوعة بمزيد انتقاء وانتخاب وتحرير روايات الثقات الأكابر أنفسهم، ومعلوم أن الثقة قد يغلط فيأتي بالمناكير، وقد يُغَمَّى عليه فيما يرويه عن الأثبات مما لا يفطن لهفوته كل أحد؛ بل قد يُشبَّه له فيروي الموضوع والهابط!
    وكان الشيخان على معرفة جامعة بمراتب أخبار النقَلَة في هذا الباب؛ فقد حَكُّوا مَعْدِنَهم، وَسَبَروا غَوْرَهم، وعَجَمُوا عُودَهُم حتى قَلَّبُوه بَطْنًا لِظَهْر! ففطِنوا لغرائبهم، ووقفوا على هفواتهم، وانتخبوا من حديثهم ما أيقنوا صِحتَه؛ وأدركوا ثبوته ومَنَعَته، فلما اطمئنَّتْ جُنُوبُهم إلى هذا المَضْجَع، أودعوا «صحيحيهما» من ذلك ما هَدَأَتْ به ضُلُوعُهُما، وَثَابَتْ إِلَيْهِ نَفْسهما، وَارْفَضَّتْ عَنْهُما به الْمَخَاوِف والعثار.
    قال الحافظ في «النكت» [1/316] ضمن كلام نفيس على أقسام «مستدرك الحاكم» :
    «الثاني: أن يكون إسناد الحديث قد أخرجا لجميع رواته لا على سبيل الاحتجاج بل في الشواهد والمتابعات والتعاليق أو مقرونًا بغيره، ويلتحق بذلك ما إذا أخرجا لرجل وتجنَّبا ما تفرد به أو ما خالف فيه، كما أخرج مسلم من نسخة العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - ما لم يتفرد به.
    فلا يحسن أن يقال: إنَّ باقي النسخة على شرط مسلم؛ لأنَّه ما خرج بعضها إلا بعد أن تبين أنَّ ذلك مما لم ينفرد به، فما كان بهذه المثابة لا يلتحق أفراده بشرطهما. ».
    قلت: فأنَّى يلْحَق المتأخرُ هذه الرتبة في المعرفة العِلْم، وأين له في هذا المقام- مساورة جبال الحِذْق والفهم، وماذا ينفعه قوله عن حديث احتج الشيخان برجاله ولو على نَسَقٍ تامٍّ: «هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين»؟ ومن أين له أن الشيخين قد أبْصَرَا صحة هذا الحديث بخصوصه مع احتجاجهما بإسناده وهيئته المعروفة في الجملة!؟
    والكلام هنا طويل الذيل؛ قد أفصحنا عن عيونه في مكان آخر، وقد كنا مشينا زمانًا على هذا السنَن من تصحيح الأحاديث على شرطهما – مع اعتبار الشروط المذكورة في مواضعها- ثم تنكَّبْنا عن تلك الخُطَّة لِمَا انكشف لنا من عَوَارها، واستبان الأمر عن فسادها، وما كان منا قبل ذلك فهو فَرْطَةٌ سبَقَتْ، وفَلْتةٌ بدَرَتْ.
    بيان خطأ من صحح الحديث على شرط مسلم.
    وقد صحح الإمام الألباني هذا الحديث على شرط مسلم!
    فقال في تخريج حديث أبي موسى في «السلسلة الصحيحة» [1/ 312] يردُّ على الحاكم تصحيحه على شرط الشيخين:
    «أقول: إنما هو على شرط مسلم وحده، فإن يونس لم يخرج له البخاري في «صحيحه» ، وإنما في «جزء القراءة »!
    وتابعه على هذا غير واحد من المتأخرين!فقال شيخ اليمن ومحدثها مقبل بن هادي الوادعي في تعليقه على «المستدرك» [2/477/طبعة دار الحرمين]:
    «وقول الحاكم : «على شرط الشيخين» ليس بصحيح ، بل لو سلم متنه من النكارة لكان على شرط مسلم؛ لأن البخاري لم يخرج ليونس بن أبي إسحاق السبيعي في «الصحيح»، كما في التقريب ».
    وقال المحقق مشهور حسن سلمان في كتابه: «قصص الماضين من حديث سيد المرسلين» [ص/324-325]، بعد أن ساق تصحيح الحاكم له على شرطهما:
    « قلت: ليس على شرط البخاري؛ إذ لم يخرج ليونس في «الصحيح»، وإنما هو على شرط مسلم وحده! ».
    قلت: وهذه هفوة قد سَحَبْنا ذَيْلنا عَلَى الواقع فيها، وعَرَكْنا غلَطَه بجَنْبِنا، بل وأقَلْنَاه عَثْرَتَه، وَوهَبْنا لَهُ فَعْلَتَه؛ إذْ كان الموصوم بها من أهل العلم والمعرفة.
    وقد مضى غير مرة أن قضية احتجاج مسلم بيونس في «صحيحه» ما هي إلا أَمْرٌ ليس له شَبَحٌ إلا فِي محْض الوَهْمِ، ولا خَيَالٌ إلا فِي مُطْلَق التمَنِّي!
    وقد رأيتُ الإمام الألباني قد اعترف بكون مسلم إنما كان ينتقي ليونس ما علم أنه من صحيح حديثه، أو ما تابعه عليه الثقات، فقال في «السلسلة الضعيفة» [11/ 518]: «يونس بن أبي إسحاق، وإنْ كان قد احتج به مسلم؛ فلعل ذلك منه على سبيل الاختيار والانتقاء من حديثه»!
    قلت: قد أحسن في هذا، لكنه لا يزال مُصِرًّا على أن احتجاج مسلم بيونس!
    وهناك مَنْ يعتقد أن كل رجل يُخَرَّج حديثه في «الصحيح» فهو على شرْطه ولا بد! وهذا قصور لا مشاححة فيه من عارف!
    قال التقي ابن الصلاح في « صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط » [ص/100/طبعة دار الغرب]: « مَنْ حَكَم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في «صحيحه» بأنه من شرط الصحيح عند مسلم؛ فقد غفل وأخطأ، بل ذلك يتوقف على النظر في أنه كيف روى عنه؟ وعلى أي وجه ؟».
    من غرائب الحاكم في مستدركه
    وقد كان أبو عبد الله ابن البَيِّع الحافظ: صاحب النصيب الموفور في تلك الخُطِّة بــ: «مستدركه» خاصة! فكان يزعم احتجاج الشيخين- لا سيما مسلم- برجال قد أدرك العارفون منزلة روايتهم في «الصحيح»!
    وكمْ كان يَضْرِب-بشأن هؤلاء- فِي أوْدِية الحَدْس، ويأَخَذ فِي شِعَاب الرَّجْم!
    بل وتراه يصحح لبعضهم في كتابه على شرط الشيخين أو أحدهما؛ مع كونه نصَّ في مكان آخر على أن الشيخين أو أحدهما لم يُخْرِجا لهذا البعض إلا استشهادًا أو متابعة!
    قال الحافظ في «النكت» [1/ 316]: «وقد عقد الحاكم في كتاب «المدخل» بابًا مستقلًا ذكر فيه مَنْ أخرج له الشيخان في المتابعات، وعدد ما أخرجا من ذلك، ثم أنه مع هذا الاطلاع يُخرج أحاديث هؤلاء في «المستدرك» زاعمًا أنها على شرطهما»!
    قلت: هكذا صِرْنا مِن تصرفات أبي عبد الله النيسابوري إِلَى غيْر كَافٍ، ونَزَلْنا منها في كل مرة بِوَادٍ غيْر مَمْطُور، وصدَرْنا عنْها بآمَالٍ كَواذِب!
    بل ربما اتسع ما بين مَرْمَى أوهامه في زَعْمِه احتجاجَ البخاري أو مسلم برجال ما خُرِّجَ لهم في «الصحيح» أصلًا! كـــ: «أبي همام الدلال البصري صاحب الدقيق! وكَـ: «مَروان بن سالم المقفع»! وغيرهما.
    وقد أدركنا على أبي عبد الله في كتابه هذا كلماتٍ مُتَناكِرة تُعَارِضُ أَعْجَازَهَا هَوَادِيهَا، ويَدْفع آخِرَها أوَّلُها! وكأن صاحب «المستدرك» حاكمٌ آخر غير الذي نعرفه! وما علمتُ حافظًا من طبقته انْتَشَرَ عَلَيْه رَأْيُه كما انتشر على الحاكم في هذا الكتاب! كأنه كان بينه وبين كثرة الزَّلَل فيه مَوْعِدَة! حتى تمَنَّى الذهبيُّ أنه ليْتَه ما صَنَّفَه!
    وقد كنت جمَعْتُ جَرَامِيزَ هفواته في: «إتْحافُ النَّاقِم بِمُحاكَمَة الحَاكِم»! ولم أكمله، وذكرتُ في أوله ما ذكروه من وجوه الأعذار له في تصنيف هذا الكتاب، وبيَّنْتُ ما يحتمله الحال منها مما لا يحتمل.
    لكن أكثر هذه الأوهام إنما أصابت الحاكم في «مستدركه» أما في نحو كتبه الأخرى كــ: «علوم الحديث» و«المدخل» فهو فيها يقِظٌ في الجملة، بل له فيها آثار محمودة في تمييز مَنْ احتج بهم الشيخان ممن أخرجا لهم في غير مورد الاحتجاج، وكتابه الأخير عمدة في هذا الباب.
    والحاصل: أن الإسراف في دعوى احتجاج الشيخين أو أحدهما برجال قام البرهان على إخراج الشيخين لهم في غير موارد الاحتجاج؛ لا ريب أن فيه غمْزًا من معرفة الشيخين وذوقهما في انتقاء رجال «الصحيح»، مع انتخاب ما يكون على شرطهما ولو كان ذلك الانتخاب من حديث ذلك الثقة المجتمع عليه عندهم! فكيف بالمختلف فيه؟ فكيف بمن يضعفه صاحبا الصحيح أو أحدهما في مكان آخر! فكيف بمن يسطر أحد الشيخين إعلال روايته- نصًّا أو إشارة- عقب أو بصدد إخراج حديثه في «الصحيح»؟!
    ورأيتُ بعض المحققين يستخدم عبارة: (من رجال مسلم) يطلقها على من لم يحتج به صاحبا الصحيح ولكن أدرجوا روايته في كتابيهما من بابة الشواهد والاعتبار والمتابعة، وهذه العبارة أولى من سواها في هذا المقام.
    وأولى منها وأدق وأسلم: التمييز بين المحتجِّ بهم في «الصحيح» فيقال: «فلان احتج به البخاري أو مسلم أو الشيخين»، وبين من خرَّجا حديثه في الاعتبار والمتابعات فيقال: «وفلان حديثه عند البخاري أو مسلم أو الشيخين في الشواهد أو الاعتبار».
    ومعرفة كون رجال الشيخين أو أحدهما في الشواهد والمتابعات: يحتاج نظرًا وبصيرة وجهدًا وفضْلَ اطلاع، وكثير من المتأخرين يغلطون في هذا الباب، ويأتون بكَلام لَمْ يُرْزَق حَظّه مِنْ التثَبُّت، وَلَمْ تَتَوَلَّهُ رَوِيَّة صادِقة، وقد أصَبْنا منهم مُتَرَقَّعًا واسعًا فيما وقع لنا من هفواتهم!
    لكني: رأيتُ جماعة من المتأخرين-ومنهم الإمام الألباني- يطلقونها في مرادف عبارتهم الأخرى: « وفلان احتج به مسلم»! فينبغي التيقظ لمثل هذا في تصاريف القوم.

    تابع البقية: ...

  14. #14

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    من أوهام الإمام الألباني
    وقد كان الإمام الألباني يرى أن التحقيق في شأن يونس كونه «صدوقًا يهم قليلا»، كما قاله الحافظ في «التقريب»، وقد نص الإمام على هذا في مواطن من «السلسلة الصحيحة» قال في بعضها [5/ 457]: « ويونس بن عمرو هو يونس بن أبي إسحاق: عمرو بن عبد الله السبيعي، وهو صدوق يهم قليلًا، كما قال الحافظ».
    بل رأيته أعلَّ حديثًا بعدة علل في «السلسلة الضعيفة» [12/909] كان منها يونس بن بعمرو!
    فقال هناك: «الثالثة: ضعْفٌ في يونس بن أبي إسحاق؛ فإنه وإن كان من رجال مسلم فقد اختلفوا، كما ترى أقوالهم فيه في « التهذيب » و« الميزان » للذهبي ، بل وأورده في « الضعفاء » أَيْضًا ، وقال اَلْحَافِظ في « التقريب »: «صدوق يهم قَلِيلًا ».
    قلت: فهو وسط يحتج بحديثه إذا لم يخالف».
    ثم ذكر بعضًا مما قيل فيه، إلى أن قال: «والعدْلُ ما تقدم عن الحافظ ... »، يعني من كونه: «صدوقًا يهم قليلًا».
    قلت: ومع ذلك فقد كان الإمام لا ينْزل بحديثه هذه الدرجة من الثبوت، بل كان يرفع حديثه إلى مرتبة الصحة في مواضع كثيرة من كتبه، بل ربما صرح بكونه ثقة أيضًا!
    فانظر مثلا: «السلسلة الصحيحة» منها: [1/ 355]، و[3/ 93 ]، و[4/ 243]، و[5/ 315]، و[6/ 15]، و[11/ 10 ]، و[12/ 26 ]، وفي «الإرواء» [1/ 237 ]، و [2/ 172، 312]، و«صحيح أبي داود/الأم» [1/ 259]، و«ظلال الجنة» [2/ 251]، وغير ذلك.
    والإمام كان يتوخَّى الدقة في آثار إطلاقاته التي يتابع فيها الحافظ في «تقريبه»، بشأن تقويم الرجال ومنازلهم، فكان يُطْلِق التصحيح على حديث الثقة وحده، أما مَن دونه –غير الضعيف- فكان يرى حديثه حسنًا أو صالحًا أو جيدًا ونحو ذلك، وربما أيَّد نزوله بحديث الراوي من الصحة إلى ما دونها بما سطره الحافظ في حق هذا الراوي بـــ: «تقريبه»، وهذا أمر مشهور عنه، وقد خَبرْتُه كثيرًا في تصرُّفه.
    غير أنه تنكب عن هذا المسلك هنا في حق أبي إسرائيل الكوفي؟
    لكن هذا كله من الإمام مقبول منه؛ لكونه يدور في دائرة القبول جملة، لأنه قد يكون من تغيُّر الاجتهاد، فقد يكون الإمام كان يرى يونس صدوقًا حسن الحديث، ثم تبين له بعد ذلك أنه ثقة صحيح الحديث.
    لكنَّ غير المقبول أصلًا: أن يجيء الإمام بعد ذلك بالتي تملأ الفَم! فرأيته مرة صحَّح حديث يونس على شرط البخاري!
    انظر إليه يقول في «صحيح أبي داود/الأم» [1/ 259] بعد أن ساق حديث يونس عن الشعْبي عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه في المسح على الخفين، ثم قال:
    « إسناده: حدثنا مسدد: ثنا عيسى بن يونس: ثني أبي عن الشعبي.
    وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري!والحديث أخرجه أحمد (4/255) قال: ثنا وكيع: ثنا يونس بن أبي إسحاق: سمعته من الشعبي... به.
    وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين»!
    قلت: وهذه غفلة مكشوفة لم يظهر لها في سماء الاعتدال سحاب! وما كان لِمَعِدَتي أنْ تهضم مثلها أصلًا!
    وكان الإمامُ انتبه لهذا قديمًا غير مرة، وجزم في مكان آخر بكون يونس ليس على شرط البخاري، فقال يردُّ على الحاكم تصحيحه هذا الحديث هنا- «عجوز بني إسرائيل»- على شرط الشيخين في «السلسلة الصحيحة»:
    «أقول: إنما هو على شرط مسلم وحده ، فإن يونس لم يخرج له البخاري في «صحيحه» ، وإنما في « جزء القراءة ».
    بل رأيته أنكر على بعضهم تصحيح حديث ليونس على شرط الشيخين! كما ترى ذلك في «السلسلة الضعيفة» [12/913]. وهذه هي حقيقة الحال دون مواربة.
    الكلام على احتجاج مسلم بيونس في «صحيحه».
    وقد مضى أن يونس لم يحتج به مسلم احتجاجه بغيره، وإنما أخرج له حديثًا توبع عليه وعلى أصله، فمنزلته عنده في بابة المتابعات والشواهد، دون الأصول والمقاصد، كما كان يفعل مسلم مع غير يونس من المُتَكَلَّم فيهم، فكان ينتقي لهم ما توبعوا عليه في الجملة.
    قال الحافظ الجمال الزيلعي في «نصب الراية» [ 1/ 341]: «بل خُرِّجَ في «الصحيح» لِخَلْقٍ ممن تكلم فيهم، ومنهم جعفر بن سليمان الضبعي، والحارث بن عبيد الإيادي، وأيمن بن نابل الحبشي، وخالد بن مخلد القطواني، وسويد بن سعيد الحدثاني، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي، وغيرهم، ولكن صاحبا الصحيح -رحمهما الله- إذا أخرجا لمن تُكُلِّم فيهِ، فإنهم ينتقون من حديثه ... » .
    إذا عرفتَ هذا: علمتَ أن قول الحاكم في «المستدرك» [1/ 48/الطبعة العلمية] عقب حديث آخر أخرجه: «وَاحْتَجَّ مُسْلِمٌ بِيُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ»!
    ليس منه بأوَّل قارورةٍ كُسِرَتْ!
    ومثله قول المنذري في «مختصر سنن أبي داود» [ 4/120 ]، : «ويونس - وإنْ تُكُلِّم فيه - فقد احتج به مسلم في «صحيحه»... »!
    وتابعهما على ذلك جمهرة من المتأخرين وكثير من الشيوخ والأقران!
    ولا أدري ما وجْه هذا التتابع على تلك الدعوى!
    وليس ليونس عند مسلم سوى رواية واحدة لا أُختَ لها! ذكرها في آخر باب: «باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول» فقال:
    «حدثني محمد بن رافع حدثنا أبو المنذر إسماعيل بن عمر حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني حدثنا عبد الله بن أبي السفر عن عامر عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة الصائدي قال: «رأيت جماعة عند الكعبة ... ».
    قال مسلم: «فذكر نحو حديث الأعمش».
    يعني مسلم بحديث الأعمش: ما ساقه أول الباب عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: « دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة ... ». وساق الحديث.
    فأين احتجاج الرجل به يا عباد الله؟ فروايته من باب المتابعات كما ترون، وفي إعراض مسلم عن ذكر سياقة حديث يونس؛ لعل فيه تصوُّنًا بتحاشي ما ذكره الإمام أحمد عن يونس من كون حديثه كان فيه زيادة على حديث الناس! فربما كان مسلم اطلع على زيادة في حديث يونس دعتْه إلى التنكب عن سياقه.
    وهذا التصرف من تمام حِذْقِ أبي الحسين وإتقانه الصنْعة الحديثية في كتابه، وأتقنُ منه وأعلمُ بهذا الفن: شيخُه محمدُ بن إسماعيل في كتابه.
    وكثير من الناس يغفلون عن دقائق طرائق الشيخين في «صحيحهما»؛ فيتناولون رجالهما وحديثهما بما يعود على المتكلم بقلة الذوْق الحديثي فيما يأخذه، فضلًا عن إتيان بعضهم ما تصْطكُّ منه المسامع!
    ثم بعد هذا ترى النَّشْوَ منهم يتَبَذَّخ أو يتَمدَّح على أقرانه بِخَطَرَانِه في «الصحيح» خَطَرَانَ الفَحْل بكل جُرْأة غير محمودة! مع كونه عند التحقيق لا يجيد سوى التجشُّأ مِنْ غير شِبَع! أو هو كذلك الحادِي وليْس له بَعِير!
    من أغلاط الحنفية وغيرهم في طبقاتهم!
    ثم جاء المحدِّث عبد القادر القرشي وقال في ترجمة يونس من (الجواهر المضية) [2/ 236]،: (الإِمَام ابْن الإِمَام أَبُو إِسْرَائِيل الْكُوفِي .... روى لَهُ الْجَمَاعَة)!
    وهذا من أغلاطه التي لا يشك فيها عارف، ويونس بن أبي إسحاق كان ممنْ ضُرِبَ بينهم وبين «صحيح البخاري» بحِجَاب! وإنما روى له مسلم وحسب على سبيل المتابعة أيضًا.
    نعم: ذكر البدر العيني في «مغاني الأخيار» أن البخاري أخرج ليونس في «كتاب القراءة خلف الإمام»، وسبقه إلى هذا الجَمَال المزي في «تهذيبه»، وهو كما قالا.
    وإن العجب لينتشر على المتعَجِّب من إدراج الحنفية ليونس في «طبقاتهم»؟ كما فعل عبد القادر القرشي في «الجواهر» وتبعه التقي التميمي في: «الطبقات السنية» [ترجمة/ 2788]!
    وليس في يدهم سوى كلمة ثناء أدْلَى بها يونسُ في حق بَلَدِيِّه النعمان!
    وهذه الكلمة: أخرجها الشيخ المُحدِّث مُحَمَّد بْن حَمَّادِ بْنِ الْمُبَارَكِ المصيصِيُّ فِي «سِيرَةِ أَبِي حَنِيفَةَ» ومن طريقه أبو القاسم ابن أبي العوام في « فضائل أبي حنيفة وأخباره ومناقبه» [ص/ 157]، قال: ثنا الحسين بن إبراهيم قال: ثنا عيسى بن يونس قال: سمعت أبي يقول: « كان النعمان بن ثابت شديد الاتباع لصحيح حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن عسر عليه ما يستدل به من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بما صحت الرواية به عن أصحابه من عِلْم أهل الكوفة، فإن خُولِف في ذلك إلى غير عِلْم أهل بلده، لم يجاوز ما أدرك عليه أهل الكوفة عن أهل الكوفة».
    قلت: فهذه شهادة في حق النعمان من رجل معدود من أقرانه [وقد توفي يونس بعد النعمان بعامين كما صححه الحافظ] مُخالِط لأخباره في الفقه، عليمٍ بمراتب الناس في استحقاق درجات الاجتهاد والطَّلَب.
    ويبدو من كلمة يونس أنه كان والنعمانَ ممن تَمكَّنَتْ بيْنهما الأُلْفَة، ولَبِسَ كلٌّ منْهما صاحِبَه دهْرًا مَلِيًّا، وربما جمَعَتْ بيْنهما وَحْدَة الهَوَى، فكلاهما كوفي النشأة والمذهب.
    لكن كما ترى: لا تعْدُو أن تكون كلمة يونس مدْحة بحق أو شهادة مأثورة في جناب النعمان، فَبِأيِّ برهانٍ استجاز مَن استجاز أن يذْكَر يونسَ في عداد الأحناف من أجلها أو مَثِيلاتها!
    وقد توسَّع الحنفية جدًا في إدراج كل مَنْ ذَكَر النعمانَ بشيء يحْسن ذِكْرُه في «طبقات فقهائهم»! وهذا إسراف يهْتِك سِتْرَ الإنصاف في إنزال الناس منازلهم.
    نعم: رأيتُ ابن أبي العوام قد عقد بابًا في كتابه: « فضائل أبي حنيفة » [ص/ 143] قال فيه: « ذِكْرُ ما انتهى إلينا من العلماء والفقهاء والمحدِّثين الذين أخذوا عن أبي حنيفة الحديث والفقه». ثم أفرط في تعْدادهم جدًا! وذكر منهم «يونس بن أبي إسحاق»، ولم يستطع إقامة الشاهد على تصديق ما عنْوَن به بابه في حق يونس إلا بتلك الكلمة الفذَّة التي سُقْناها من قبل!
    وهكذا فعل الرجل مع غير يونس مثلما فعل مع يونس، يسوق بضع كلمات من الثناء –بعضها مدخول الإسناد أيضًا!- من أقران النعمان ومشيخته وأندِّائه ومن فوقه عِلْمًا وعملًا ومعرفة في الجملة –كأبي عبد الله الثوري وغيره- ويتخذ من تِلْكم المدائح وليجة على عنْوَنة ما يريد التدليل عليه بما لا يأتي إلا بشقِّ الأنفس!
    ومتى كان الثناء على شخص في أمر– أو حتى الأخْذُ عنه إنْ ثبتَ- موجبًا لاتباعه فيما يحتاط فيه المرء لدينه، فضلًا عن التقليد في ذات المُثْنِي! بل بعض مَنْ ذكرهم ابن أبي العوام وغيره في جملة الناهلين من بحور معارف النعمان؛ ثبَت أن المحفوظ عنهم هو التنكب عن النعمان ورأيه قولًا واحدًا بلا مَثْنَويَّة!
    التكثُّر بأفْناء الناس في طبقات المذاهب
    وهكذا ترى بقية مصَنِّفِي الطبقات من أصحاب المذاهب الأخرى؛ غلب عليهم التكثُّر بالأصحاب، وشغلهم شِعاب المَطامِع في هذا الباب، حتى تعلَّقَتْ بهم الأماني، بل وتطاولتْ دون بُغْيْتِهم الأعناق، وشاهَتْ إلى ذلك المَسْعَى نفوسُ القوم! إلى أنْ صار هذا المطلب مُنْتَجعَ خواطرهم، ومَهْوَى فؤادهم، ومَطْمَح بصرهم!
    فتراهم يتجاذبون أفْنَاءَ الناس ممن سمع شيئًا من أئمة مذاهبهم، أو حمل عنهم كتابًا، أو اجتمع بهم في مكان، أو راجَعَهم في قضية، أو أخذ بقولهم استحسانًا مرة أو مرات، أو أثنى عليهم في حديثه، أو ذَكَرهم بمحْمَدة في مَحْفل!
    وتراهم يُورِدون أحد هذه الأشياء مَوْرِدَ الاكتفاء بأن هذا المذكور معدود من أتباع أئمتهم ولا بد! بل ربما تنازعوا الرجل الواحد بينهم كُلٌّ يدعيه لإمامه ويطلبه إليه!
    كما تنازعوا الأئمةَ أصحابَ الكتب الستة في «طبقاتهم»! وغيرهم من أهل الحديث الذين لا يقلدون في دينهم الرجال، ولا يعرفون سوى الأثَر قيلًا وقال.
    بل ربما حملَ أحدَ هذه المذاهب النكايةُ في بعضهم على أن يُدْرِج الإمامَ أحمد –مثلا- في «طبقات الشافعية» لكونه أخذ ما أخذ على الشافعي! أو يُدْرِج ابنَ إدريس المطلبي في «طبقات المالكية» لكونه تفقه على إمام دار الهجرة!
    هكذا صاروا يُجاذِبون أنفسَهم بِهَذا الحَبْل، ويُكَايِلُون لبعضهم بمثل ذلك الصَّاعِ! انتصارًا لِمَا يتشَوَّفُون به إِلَى المَطَامِع البَعِيدة، حتى أصبح بعضهم في دَرَك هذا المطلب ظمآنَ وفي البحر فَمُه!
    كأنَّ الانتصار للمذهب النعماني لا يتم عند المُتحَنِّف حتى يُحْشَرَ مثلُ فقيه الحجاز -بل فقيه الدنيا - ابنُ إدريس المُطَّلِبي في جملة تبَع الأتباع من «طبقات الحنفية»!
    وكذا لا يتم الانتصار للمذهب الشافعي عند المُتَشَفِّع إلا بالزجِّ بمثل الإمام أحمد –وهو شيخ المجتهدين في زمانه، وإمام أهل الأثر في وقته- في جملة أتباع الشافعي من «طبقات الشافعية»! وربما تَنَفَّجَ شافعيٌّ على مُناوِئِه من الحنابلة بقول أبي بكر ابن خزيمة: «وهل كان أحمد بن حنبل إلا غلامًا من غِلْمان الشافعي»؟ كما صح ذلك لنا عنه.
    ولو انتهض مُنْصِفٌ لتجريد كتب طبقات أصحاب المذاهب ممن ليس على شرطهم فيما تقتضيه النَّصَفَة؛ لجَمَع من ذلك مجلدة ضخمة أو تزيد!
    والحاصل: أن يونس بن أبي إسحاق ليس مقامه أن يُذْكَر في «طبقات الحنفية»! بل الرجل كأكثر أقرانه ومشيخته من أهل بلده في العمل بما توارثوه من آحاديث وآثار وفُتْيَا الصحابة وتابعيهم ممن سكن الكوفة وأطرافها، وهذه طريقة غالب « أهل الكوفة»، في التفقه وممارسة علوم الشريعة.
    وعلى هذا المذهب: كان عثمان البَتِّي، وحماد بن أبي سليمان، وشريك القاضي، والثوري، وأبو حنيفة، وحسن بن صالح بن حي وأخوه، والفضل بن دكين، ووكيع بن الجراح، وأبو يوسف يعقوب، ومحمد بن الحسن الشيباني، ومسعر بن كدام، ويحيى القطان، ويحيى بن معين، وخلْقٌ آخرون أثْبَتْنا أسماءهم في غير هذا المكان.
    وقد كان يونس فقيهًا كأبيه وولده عيسى، وقد رسَمَهم بذلك أبو محمد الهلالي؟ فقال الحافظ أبو أيوب الشاذكوني-ولا بأس به في تلك الأخبار- حدثنا سليمان بن داود قال: «كنا عند ابن عيينة فجاء عيسى بن يونس فقال: مرحبًا بالفقيه ابن الفقيه ابن الفقيه». نقله عنه الخطيب في ترجمة: «عيسى بن يونس» من «تاريخه».

    تابع البقية: ....

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Feb 2011
    المشاركات
    314

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    أين نجد كتاب : رحمات الملأ الأعلى ؟
    قال يحيى بن معاذ: الصبر على الخلوة من علامات الإخلاص.
    وقال ابن القيم: كيف يكون عاقل من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة ؟!


  16. #16

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة احمد موسى مصطفى مشاهدة المشاركة
    أين نجد كتاب : رحمات الملأ الأعلى ؟
    يصدر عن ( دار الحديث/القاهرة) خلال أيام في نحو عشرة مجلدات ضخام.

  17. #17

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    ذِكْرُ عِلَل تعلَّق بها جماعة في تضعيف هذا الحديث
    وقد تعلق جماعة في تضعيف حديث أبي موسى الأشعري هنا بعلل لا تثبت على النقْد، ولولا أنْ ينْزِل عليها مُغْترٌّ بها؛ لَلبِسْتُها عَلَى أُذُنَيَّ، ثم اغْتَمَضْتُ عليها تَغْمِيضًا! كما خشيتُ أن تروج بين الدهماء ممن ليس لهم بهذا الفن اتصال؛ فيصيبني من ذلك ذَنْبٌ لا يَتَغَمَّدُهُ حِلْم! فرأيت التعرض لها بما تنكشفُ به عَمْياءُ الحال، وتُسْفِر عن مُحَيَّاها شواهدُ الأحوال.
    وقد سطَرْنا تلك العِلَل كما وجدناها، وربما زدْنا للقوم فيها بما يزيد ألفاظَها ويكشف مَعْنَاها، غير أننا أجْهَزْنا عليها بما يَفْرِي منها العُرُوقَ والأوْدَاج، ويُضِيءُ للحائرين لَيْلَ زَيْغِهِمِ الدَّاجِ!
    إعلال الحديث بتفرد يونس به
    فأعله بعضهم بكون يونس قد تفرَّد برواية هذا الحديث عن أبي بردة، وهو وإنْ مشَّاه بعضهم، لكنْ في حِفْظِه مقال، وأبو بردة الأشعري له أصحاب متوافرون، منهم أبو إسحاق السبيعي الذي عليه وعلى الأعمش مدار أحاديث الكوفيين، ولا نعلم أحدًا منهم آزَرَ يونسَ وشدَّ من عزْمِه على رواية هذا الحديث!
    قلت: لم يَخْفَ علينا أن يونس بن أبي إسحاق انفرد بهذا الحديث عن أبي بردة، ولا نعلم أحدًا تابعه عليه-فيما بلغنا- فهو غريب من هذا الوجه مع استقامة إسناده، وقد مضى –وسيأتي- أن يونس كان مستوي الحديث صالِحَه، وأنه متماسك الرواية؛ جَمْعًا بين كلام النقاد فيه، وقد وثقه جماعة من الكبار، وأثنى عليه آخرون، وصحح له خَلْقٌ من الأئمة لا يحصون كثرة.
    واحتج به في «الصحاح» جماعة، كأبي عبد الرحمن النسوي، وأبي علي الطوسي، وأبي محمد ابن الجارود، وأبي بكر ابن خزيمة، وأبي حاتم ابن حبان، وأبي عوانة الإسفرائيني، وأبي عبد الله الحاكم، والضياء المقدسي، وشرذمة آخرون من سادة الأئمة، ونُبَلاء هذه الأمة.
    فإن قيل: هؤلاء الذين ذكرتُم من الأئمة لم يحتجوا بيونس على الإفراد، بل صححوا له ما تابعه عليه غيره من الأثبات، أو استشهدوا بروايته فيما رأوا الحاجة باعثة إلى الاستشهاد، أو اعتبروا بروايته في بابة الاعتبار والمتابعات! فبأيِّ شيء تعلَّقْتُم بهم في هذا السبيل؟!
    قلنا: بل احتمل جماعةٌ تفرُّدَ يونس وقبِلُوه، واسترْوَحَتْ أنفسُهم إليه فأسندوه وصحَّحُوه، وطابتْ له صدُورُهم فاحتجُّوا به في دين الله وما هَجَروه.
    حديث من أفراد يونس صححه جماعة من الأئمة
    فروى حجاج بن محمد الأعور عن يونس حديثًا يرويه «عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْبَرَاءِ بن عازب»، لستُ أعلم في الدنيا فردًا تابعه عليه من الناس، ولا شاركه في سياقه أحدٌ من الأساس، بل جزم غير واحد من الأئمة بكونه لا يُعْرَف إلا من طريقه، حتى ودَّ الإمام أحمد لو سمعه من حجاج ولو افتدى به أربع مائة حديث من شريف حديثه!
    وهذا الحديث: سمعه الحجاج الأعور من يونس يحدِّث به عن أبيه أبي إسحاق عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: «كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ حِينَ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْيَمَنِ قَالَ: فَأَصَبْتُ مَعَهُ أَوَاقِيَ فَلَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: وَجَدْتُ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَدْ لَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَقَدْ نَضَحَتِ الْبَيْتَ بِنَضُوحٍ فَقَالَتْ: مَا لَكَ؟ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَحَلُّوا قَالَ: قُلْتُ لَهَا: إِنِّي أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لِي: «كَيْفَ صَنَعْتَ؟» ، فَقَالَ: قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: «فَإِنِّي قَدْ سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ» قَالَ: فَقَالَ لِي: «انْحَرْ مِنَ البُدْنِ سَبْعًا وَسِتِّينَ أَوْ سِتًّا وَسِتِّينَ، وَأَمْسِكْ لِنَفْسِكَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، أَوْ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَأَمْسِكْ لِي مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ مِنْهَا بَضْعَةً».

    أخرجه أبو داود [رقم/ 1797]-واللفظ له- ومن طريقه البيهقي في «سننه» [{قم/ 8633]، وكذا ابن عبد البر في «الاستذكار» [4/ 66]، والنسائي [رقم/ 2745]، ومن طريقه ابن عبد البر أيضًا في «الاستذكار» [4/ 66-67]، والطبراني في «الأوسط» [6/رقم 6307]، والدارقطني في الجزء الثاني من «الأفراد والغرائب» [ق9/ب/رقم 43/بترقيمي/مخطوط ظاهرية دمشق]-وسياقه عنده مختصر- ومن طريقه الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي» [2/ 269/طبعة مكتبة المعارف]، والروياني في «مسنده» [1/رقم 306/طبعة مؤسسة قرطبة]، كلهم من طريق يحيى بن معين، ثنا حجاج بن محمد به.
    قلت: فهذا الحديث قد عزَّ منالُه في الدنيا إلا من طريق يونس بن أبي إسحاق! وقد كان الإمام أحمد يتأسف لفوات سماعه من شيخه حجاج!
    فقال جعفر بن أبي عثمان الطيالسي-راويه عن ابن معين- عقب روايته عند الدارقطني والخطيب: « كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ لِي: إِيشْ عِنْدَ صَاحِبِكَ [يعني: ابن معين] عَنْ حَجَّاجٍ؟ فَذَكَرْتُ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي سَمِعْتُهُ مِنْ حَجَّاجٍ بِأَرْبَعِمَائَ ةِ حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِ»!
    فلولا أن الإمام أحمد كان يرى هذا الحديث وَعْرَ المُرْتَقَى، وَعْثَ المُبْتَغَى؛ ما كان يطلبه ولو بأن يفتدِيَه بأربعمائة حديث من حُرِّ حديثه عن الحجاج!
    وقد جزم غير واحد من الأئمة بتفرد يونس به.
    فقال الطبراني عقب روايته: « لم يرو هذا الحديث عن أبي إسحاق إلا يونس، تفرد به حجاج بن محمد».
    وقال الدارقطني: « هذا حديث غريب من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن البراء، عن علي، عن فاطمة، عليها السلام، تفرد به يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، وتفرد به حجاج، عن يونس».
    قلت: ومع هذا التفرد فقد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية في «شرح العمدة» [2/ 474]، والشمس ابن القيم في «زاد المعاد» [2/ 104]، وفي «حاشية السنن» كما نقله عنه الإمام الألباني في «صحيح أبي داود/الأم» [6/ 54]، ونقل أيضًا عن الحافظ تصحيحه في «الفتح» [3/335]، وكذا صححه جماعة من المتأخرين.
    كتاب المجْتَبَى صحيح كله عند النسائي
    وقبلهم جميعًا: صححه الحافظ الناقد الحجة أبو عبد الرحمن النَّسَوِي، وأدرَجَه «سننه المجتبى» محتجًا به.
    وكتاب: «المجتبى» كله صحيح عند النسائي، ليس فيه رواية معلولة سكت عليها.
    فقال الإمام المحدث أبو بكر ابن الأحمر - رَاوِية «السنن الكبرى» عن النسائي-: قال النسائي: «كتاب «السنن» كله صحيح وبعضه معلول، إلا أنه لم يبين علته، والمنتخب منه المسمَّى «بالمجتبى» صحيح كله». نقله عنه الحافظ في «النكت على ابن الصلاح» [1/ 484].
    وهذا نص خالص نادر، وقد كان جماعة من كبار النقاد يسمون كتاب النسائي بـــ: «الصحيح» و«الصحاح»، وعلى هذا جرى الدارقطني وابن عدي والخطيب البغدادي وجماعة من المحدثين والحفاظ سطرْنا أسماءهم في غير هذا المكان.
    فحديث يونس هنا: صحيح ثابت عند مَنْ كان شَرْطُه في الرجال أشدَّ مِن شرْط البخاري ومسلم! كما يقول سعدُ بن علي الزنجاني الحافظ.
    فها هو النسائي وطائفة من النقاد يحتملون ليونس بعضَ ما تفرد به مما لم يشاركه في روايته سواه، وما ذاك إلا لكون يونس عندهم ممن يقبل تفرده في الجملة.
    فالتعلق بتفرد يونس في رد حديث: «عجوز بني إسرائيل» مكشوفٌ مدْخولٌ لا برهان لصاحبه عليه إلا ما قيل في يونس من المغامز، ولم تنهض تلك المغامز عند النسائي وجماعة ممن قبلوا تفرد الرجل واحتجوا به، فضلًا عمن صحح حديثه مطلقًا واتكأ عليه فيما هو بسبيله من تثبيت شرائع الدين وسُنَنِه.
    الإعلال بعدم سماع يونس من أبي بردة!
    وأعله بعضهم بعدم ثبوت سماع يونس من أبي بردة! وهذا من قَبِيل التخديش في الرُّخَامِ! والذي يتعلق بهذا إنما حَدَّثَتْه نَفْسُه بما لا يكون، وَأَطْمَعَتْهُ فِيمَا لا مَطْمَع فِيه، ولا سبيل إليه!
    والرد عليه من وجهين بل ثلاثة:
    أولًا: لم يطعن أحدٌ نعلمه من المتقدمين في سماع يونس من أبي بردة، وقد نصَّ على روايته عنه: أبو محمد ابن أبي حاتم، وأبو القاسم ابن عساكر وغيرهما، وقد مضى أن شعبة غمز في سماعه من بكر بن ماعز؛ وما علمناه أو غيره غمز في سماع يونس من غيره بإطلاق!
    وثانيًا: قد صرح يونس بسماعه أبا بردة في عدة أخبار وآثار ثابتة عنه لا محالة...
    وثالثًا: قد أثْبتَ سماع يونس من أبي بردة غير واحد من أئمة هذا الفن الكبار الذين يُفْزَع إليهم في حّلِّ المُعْضِلات، وكشْفِ المُشْكِلات، أمثال: أبي الحسن ابن المديني وأبي عبد الله ابن حنبل، وأبي زكريا ابن معين، وغيرهم من الجبال الرواسي.
    فمضى أن الحاكم قال: «وَلَعَلَّ وَاهِمًا يُتَوَهَّمُ أن يُونُسَ بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ السبيعي لم يسَمِعَ مِنَ أَبِي بُرْدَةَ، وليس بعلة، فقد حَكَم أحمدُ بنُ حنبل، ويحيى بن معين، أن يونس ابن أبي إسحاق سمع من أبي بردة حَدِيثَ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ كَمَا سَمِعَهُ أَبُوهُ ».
    وقال الحاكم أيضًا في «معرفة علوم الحديث» [ص/ 231/الطبعة العلمية]: « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنْ يُونُسَ بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي بُرْدَةَ! وَلَيْسَ كَذَلِكَ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: «سَمِعَ أَبُوَ إِسْحَاقَ مِنْ أَبِي بُرْدَةَ، وَسَمِعَ يُونُس بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ مِنْ أَبِي بُرْدَةَ كَمَا سَمِعَ أَبُوهُ».
    وقال أيضًا في (المستدرك) [2/ 205/طبعة دار الحرمين]: «لَسْتُ أَعْلَمُ بَيْنَ أَئِمَّةِ هَذَا الْعِلْمِ خِلَافًا عَلَى عَدَالَةِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وأنَّ سَمَاعَهُ مِنْ أَبِي بُرْدَةَ مَعَ أَبِيهِ صَحِيحٌ».
    وكيف يبعد سماعُ يونسَ من أبي بردة وهو الذي كان يراه يصلي ويقوم ويقعد!
    فصح عن يونس أنه قال: «رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي الْهُذَيْلِ، وَأَبَا بُرَدَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ، يُصَلُّونَ بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ».
    أخرجه أبو زرعة الدمشقي في (تاريخه) قال: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قال: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ به.
    ثم لو أهمَلْنا كلام النقاد بشأن ثبوت سماع يونس من أبي بردة، وطرَحْنا ما صرح فيه الرجل بسماعه من ابن أبي موسى؛ لم يوجب هذا أن يكون الحديث مُعَلًّا! لأن قول الصدوق غير المدلس: قال فلان أو عن فلان، محمول على السماع، لا يوجب انقطاعًا إلا ببرهان سافرٍ، وأين يكون في عالَمِ الإمكان؟
    وقد كان يونس لا يعتني في تَحمُّله عن شيوخه بقضية التصريح بالسماع أو ما يوهمه، لثبوت سماعه منهم فيما يرويه عنهم، وربما صرح بالسماع عن بعض شيوخه في حديث، ثم يفْتَرُ فلا يذكر سماعًا في ذلك الحديث نفسه، شأنُه في ذلك شأن غيره من ثقات النقَلَة المأمونين.
    وقد حدَّث يونس عن أبي بُرْدَةَ: عن أَبي مُوسَى: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا , فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ فَإِنْ أَنْكَرَتْ لَمْ تُكْرَهْ».رواه عنه أبو نعيم ويحيى بن آدم وشبابة بن سوار وعيسى بن يونس، وغيرهم فذكروا فيه سماع يونس من أبي بردة صريحًا.
    ثم رواه يونس مرة أخرى فقال: قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا, فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ فَإِنْ أَنْكَرَتْ لَمْ تُكْرَهْ».
    فلم يذكر فيه سماعًا! هكذا رواه عنه عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ الحافظ، ثم سأله عقب روايته: فقال له: «سَمِعْتَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ أَبِي بُرْدَةَ؟ , قَالَ: نَعَمْ». كما أخرجه أحمد وجماعة.
    إذا عرفتَ هذا: علمتَ أن الذي يُشْغِبُ بدعوْى الغمْزِ في سماع يونس من أبي بردة فإنما يزْعُم فِي غَيْرِ مَزْعَم، وَيكَدِمُ فِي غَيْرِ مَكْدَم! ولن يستقيمَ له ما يريد ريْثما يستقيمُ ذنَبُ الضَّبِّ!

    تابع البقية: ......

  18. #18

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    حول إثبات سماع أبي إسحاق ممن حدَّثَ عنهم بمشاركة ابنه يونس
    [فائدة] قال ابن خزيمة في «صحيحه» عقب روايته عن أَبِي إِسْحَاقَ حديثَ القُنوت عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ.
    قال: «وَأَبُو إِسْحَاقَ لَا يُعْلَمُ أَسَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ بُرَيْدٍ، أَوْ دَلَّسَهُ عَنْهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا يَدَّعِي بَعْضُ عُلَمَائِنَا أَنَّ كُلَّ مَا رَوَاهُ يُونُسُ عَنْ مَنْ رَوَى عَنْهُ أَبُوهُ أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ مِمَّا سَمِعَهُ يُونُسُ مَعَ أَبِيهِ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ».
    قلت: ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي خيثمة في «تاريخه» قال: حدثنا عَبْد الرَّحْمَن بن صالح، حدثنا أبو أسامة، عن يونس بن أبي إسحاق قال: «خرجتُ مع أبي إلى خُرَاسَان في الغزو فكان يمرُّ على تلك الفساطيط فيسأل، ويمرُّ على فسطاط الأصبغ [يعني: ابن نباتة الساقط المشهور] فلا يعرض له».
    فظاهر تلك الحكاية: أن أبا إسحاق كان يصطحب ابنه معه في الغزوات، ثم يدور به على خيام وفساطيط الأئمة والعلماء الذين اتفق وجودهم في هذا المكان، فيسمع منهم ما تيسر بحضرة ابنه يونس.
    وقد مضى قول ابن سعد في «طبقاته» عن يونس: « كانت له سِنٌّ عالية، وقد روى عن عامة رجال أبيه».
    وقال البيهقي في «سننه» [7/ 108]: « قد أدرك يونس بعض مشايخ أبيه فهو قديم السماع».
    وقد أحصيتُ أسماء جماعة مِن الشِّيْخَانِ الذين شارك يونسُ أبَاه في الرواية عنهم، وهم:
    - جُرَيُّ بن كُليب النهدي .
    - خَيْثَمة بن عبد الرحمن الجُعْفي .
    - سعيد بن وهب الثوري الهَمْدَاني .
    - مجاهد بن جبر .
    - أبو المخارق مَغْرَاء العبدي .
    - أبو بُرْدَة بن أبي موسى الأشعري .
    - أبو بكر بن أبي موسى الأشعري .
    - بُرَيْد بن أبي مريم .
    - ناجية بن خفاف العنزي.
    - العيزار بن حريث.
    الإعلال بكون الصواب في الحديث الوقْف أو الإرسال!
    وأعله بعضهم بأن الصواب في هذا الحديث كونه عن أبي بردة مرسلًا، أو أنه موقوف على أبي موسى الأشعري!
    وعوَّلوا في إرساله: على قول أبي جعفر النحاس في كتابه: «معاني القرآن» [5/ 78]: «وروى يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة ... » وساق الحديث مرسلًا!
    وعوَّل مَن عوَّل على وقْفِه: بقول ابن كثير في «تفسيره» [6/ 143/طبعة دار طيبة] بعد أن ساق الحديث: « هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جَدًّا، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ! ».
    قلت: أما دعوى الإرسال فمطروحة مهجورة؛ ولا يُقِيم عُودَها ما ورد عند أبي جعفر النحاس في كتابه؛ لأنه لم يَسُقْ إسناده إلى يونس؛ وكلُّ خَبَرٍ ليس فيه: «حدثنا» و«أخبرنا» فهو خَلٌّ وبَقْلٌ كما كان يقول أبو بسطام العتكي الحافظ!
    فنحتاج إلى معرفة هذا الذي رواه عن يونس فأرسله! كما عرفنا عَيْنَ اثنين من مشيخة الحديث والرواية، ورَجُلَيْن من فرسان العِلْم والدراية، قد رَوَيَاهُ عن يونس فَجَوَّداهُ وجَمَّلَاهُ ورَفَعاهُ وأقاما إسناده مستقيمًا غَيْرَ ذِي عِوَج.
    وهذان هما الحافظان الثَّبْتَان: أبو نعيم الفضْل بن دكين، وأبو الفضْل فُضَيْل بن غزوان، وحسبك بهما ولا مزيد.
    ولو استقام الإسنادُ غيْرَ ذِي عِوَجٍ إلى هذا الذي رواه عن يونس مرسلًا؛ ووقَفْنا على عدالته؛ لاصطدمَتْ روايتُه برواية مَنْ ذَكَرْنا في الثَّبْتِ والحِفْظِ والإتقان؛ ولأمكن أن يكون أبو بردة كان يُسنِده عند النشاط، وربما كسَلَ فأرسله، كما كان يفعل في روايته حديث: «لا نكاح إلا بولي»، فقد رواه عنه أبو إسحاق السبيعي واختلف عليه في وصْلِه وإرساله.
    قال ابن حبان في «صحيحه/الإحسان» [9/394] : «سمع هذا الخبر [يعني: حديث: «لا نكاح إلا بولي» ] أبو بردة عن أبي موسى مرفوعًا، فمرَّة كان يحدِّث به عن أبيه مسندًا، ومرة يرسله، وسمعه أبو إسحاق من أبي بردة مرسلًا ومسندًا معًا، فمرة كان يحدث به مرفوعًا وتارة مرسلًا، فالخبر صحيح مرسلًا، ومسندًا معًا، لا شك ولا ارتياب في صحته».
    مناقشة ابن كثير في دعواه وقْفَ الحديث!
    أما قول العماد ابن كثير: « هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جَدًّا، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ»!
    فنقول له: أما الغرابة فمقبولة في هذا الحديث إسنادًا ومتنًا، ولا يستلزم هذا إعلالًا لأصل الخبر! و«غرائب الصحيحين» مما سارتْ بِذِكْرِها الركبان، بل ألَّف فيها الحافظ الضياء المقدسي مصنفًا حافلًا، وهو من مرويات الحافظ في «المعجم المفهرس».
    لكني وجدتُ –بالتتبع- أن ابن كثير إذا أطْلَق الغرابة الشديدة على حديثٍ أو أثَرْ فإنما يريد بذلك إعلالَه في الجملة! وهذا الاستعمال غير معروف بإطلاقه في تصرفات أئمة الصَّنْعة من المتقدمين طبَقة ورُتْبَة.
    وأما دعواه أن الأقرب في الحديث الوقْف: فهي دعوى ممجوجة لا يتَجَارَى بمثلها العارفون في حَلْبَة، وَلا يَتسايَرُ برَسْمِها المحققون إلى غاية، ما لَمْ يُقِمِ الزاعمُ عليها برهانَه المستقيم!

    تابع البقية: .....

  19. #19

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    عادة ابن كثير إذا استنكر خبرًا.
    وعادة ابن كثير في كتبه: أنه متى وقع له متن خبرٍ لا يستسيغه حُلْقُوم ذَوْقِه فإنه يكِرُّ عليه بالغرابة الشديدة ثم يُعِلُّه بالوقْف أو القطْعِ أو ما بدَا له من صنوف التعلُّل!
    وحاله في هذا الصدد: يدور في فَلَكِ أمرَيْن بل ثلاثة:
    1- أولها: ما يُقِيم فيه الحجة على دعوته، ويُسْفِرُ عن برهان تصَرُّفه مما يخرجه من مخزون جُعْبَتِه، كما فعل في جملة من الأحاديث والأخبار تجدها في «تفسيره» و«تاريخه» وغير ذلك.
    وهنا نقبل تعليل ابن كثير؛ لكون قد نَضَحَ عن نَفْسِه، وتَلَقَّى دعْوَاه بِثَبَتِها، وجاء بِنَفَذِ كلامِه، فأمْسَى حاضِرَ الدَّلِيل، صحيحَ الاستدلال.
    ومن هذا الضرْب: قوله في «تفسيره» [6/ 54/طبعة دار طيبة] عقب أنْ ذكْر حديثًا مرفوعًا من رواية مولانا أبي السِّبْطَيْن: «وهذا حديث غريب، ورفْعُه منكر، والأشبه أنه موقوف على عليّ-رضي الله عنه- كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي».
    وهو كما قال، والموقوف أخرجه عبد الرزاق [رقم/ 15590]، وغيره من رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن عليِّ به.
    2- وثانيها: ما لا يذكر فيه البرهان على صواب ما يدعيه، لكن يظهر للناقد صحة ما قاله؛ إما بتتبُّعِه لطرق الحديث؛ أو وقُوفِه على مَنْ جزم بذلك من الحُفَّاظ النَّقَدَة.
    ومن ذلك الضرْب: أنه ذكر في «تفسيره» [/679]، و[6/ 558]، و«تاريخه» [1/ 293]: حديث عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعًا في قول موسى عليه السلام: «هَلْ يَنَامُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ...»!
    ثم قال: « هذا حديث غريب جدًّا، والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع».
    وقال في موضع آخر: «والظاهر أن هذا الحديث ليس بمرفوع، بل من الإسرائيليات المنكرة».
    وقال في «التاريخ»: «هذا حديث غريب رَفْعُه، والأشبه أن يكون موقوفًا، وأن يكون أصله إسرائيليًّا».
    قلت: وقد نظرْنا في هذا الحديث فوجدنا الأمر كما يقول، وأن المحفوظ فيه كونه مقطوعًا من كلام عكرمة وحسب؛ كما شرحنا ذلك في تخريجه من كتابنا: «رحمات الملأ الأعلى» [رقم/ 6669/طبعة دار الحديث].
    3- وثالثها: ما يتجشُّم تعليله بما يستنكره باديَ الرأي؛ أو يكون في ذَوْقِه ممْجوجًا علْقمًا مثل نَقِيع الحَنْظَل! ومع ذلك لا يُبْرِزُ ما في يده من الحجة على ما يسْتَبْشِع؛ بل يكتفي بأنْ يُرَدِّد عباراته الشهيرة أمثال:
    « هذا حديث غريب جدًا، والأقرب أنه موقوف».
    أو قوله: « غريب جدًا، وقد يكون صحيحًا إلى من دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات».
    أو قوله: « هذا حديث غريب جدًا، والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع».
    أو قوله: « هو حديث غريب جدًا، بل منكر، بل موضوع، والله أعلم، وإنِ ادُّعِيَ أنه مرفوع، فأما وقْفُه على ابن عباس أو وهب بن منبه -وهو الأشبه -فغير مدفوع ».
    أو قوله: « هو منكر غريب جدًا، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس، والله أعلم. والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما يوجد في صحفهم ... ».
    أو غير ذلك من سائر عباراته المنثورة في كتبه، لا سيما «التفسير» و«التاريخ».
    فأمَّا ما يكون من تلك العبارات فيما يُنْكِره من الأخبار؛ مما يدعو الناقد إلى استقبال أمثال ألفاظه السالفة استقبالًا مُحْتَملًا، لكونه يدرك ما في أسانيد تلك الأخبار من المثالِب والعلل: فذا أمرٌ هَيْنٌ لَيْنٌ سَهْل، ولسنا نقف مع ألفاظ العِمَاد كثيرًا في تعليل تلك الأخبار.
    أمَّا إذا كانت الأسانيد مستقيمة إلى تلك المتون التي يسْحَبُ عليها العِمادُ ذَيْل إنكاره بلا يقظة أو مَزِيد حُسْبان، ولا يرْضَى لها أنْ تَخْطِرَ أمامَه دون أنْ يُغَبِّرَ في وجُوه مُخَدَّرَاتِها الحِسَان!
    فهنا نُشاحِح أبا الفداء، ولا نقبل منه تعليل صحاح الأخبار بمجرد التذوق! فذا عَهْدٌ مضى أُمَرَاؤُه منذ عُقُودٍ ولِّتْ، وأزمانٍ انْقضَتْ، والمتأخِّرُ على إياسٍ من معالجة هذا النوع من الإعلال في الانتقاد ولو حاول ركوبَ الأفلاك!
    ولو أن ابن كثير كشفَ نقاب باعثه –في كل مرة- على استنكار تلك الأخبار وهو بصدد هذا الغرض، لربما أقعدَ بجوابه الفصيحِ مَنْ للاعتراض انتهض! لكنه أبى سوى وُلُوج تلك الوِهاد بغير زاد!
    ومما وقع له في هذا الصدد غير حديث: «عجوز بني إسرائيل» هنا: أنه ذَكَر في «تفسيره» [5/362/طبعة دار طيبة] وفي «تاريخه» [1/223/طبعة مكتبة المعارف]: حديث أنس المشهور بالإسناد المستقيم جدًا، في قصة أيوب عليه السلام، ثم قال عقبه:
    «رَفْعُ هذا الحديث غريبٌ جدًا»!
    وقال في «تاريخه»: «هذا غريبٌ رَفْعُه جدًّا، والأشبه أن يكون موقوفًا»!
    وقد رددْنا عليه هذا التعليل العليلَ في تخريجنا هذا الحديث من كتابنا: «رحمات الملأ الأعلى بتخريج مسند أبي يعلى» [برقم/3617/طبعة دار الحديث]، وكان من قولنا هناك:
    « قلتُ: العمادُ ابنُ كثير -بِصَنِيعِه هذا- يُحاكِي أبا حاتِم وصاحبَه وابن المديني وأحمد وهؤلاء العمالقة! وربما يذكر الحديث في «تفسيره» بالإسناد النظيف، ثم يقول: «غريب جدًا، والأشبه أنه موقوف»! ونحو ذلك، دون برهان يؤيِّد دعواه!
    وهذا شيء لا نقبله إلا من مُتَقَدِّمي نُقَّاد هذه الصنعة وحسب؛ لأن أصول الأحاديث كانت بأيديهم يطَّلِعون عليها، وينْتقون منها، ويميزون بين الخطأ والصواب فيها، فإذا ما قال ابن المديني مثلاً: «هذا حديث خطأ، والأشبه أنه مرسل»، ولم يعارضه مَنْ هو مثله أو فوقه أو دونه ببرهان قائم؛ لزِمَنا قبولُ كلامه وإنْ لَمْ نقف على العلة التي لأجلها حَكَم على الحديث بالخطأ، ورجَّح إرساله أو وقْفَه.
    أما سائر المتأخرين من الحفاظ ونَقَدَة هذا الفن: فلا نقبل من أحدهم مثل هذا الإعلال دون حجة تُقِيمُ عِوَجَ كلامِه، وتُفْصِح عن مكنون مَرَامِه.
    فافْهَم هذا المسلك فإنه مهم للغاية؛ وكم كان ينقدح في صدري مثلما ينقدح في صدر ابن كثير من استغراب حديثٍ موصولٍ أرى أن الصواب فيه هو الإرسال أو الوقف! ثم أحْجم عن التفَوُّه بذلك؛ لعدم استطاعتي إقامةَ البرهان عليه!
    وأقول لنفسي: قِفْ يا هذا ولا تعْدُ طَوْرَك! أتُرَاك ابنَ المديني حتى تتجشم التنفيس عما يجيش بين خَلَجات صدْرك بما يكون وصمةَ عارٍ في جبينك أبَد الدهر! وإنما حسبُك اقتفاء آثار علوم ابن المديني دون أن تكون له رأسًا براس! وإياك ومخادعة نفسك لك! وقد جعل اللَّه لك مَخْرَجًا في نقاش مثل البخاري، ولكن بلسان غيرِك من أقرانه، ونُظَرَائه في هذا الفن.
    فإذا اختصم أبو حاتم وأحمد في تصحيح حديث أو تضعيفه؛ بعد أنْ ذَكَر كل واحد منها برهانَه فيما يَرُوم؛ فللمتأخر البصير: أنْ يُرجِّح بين القولَيْن بما أدَّاه إليه اجتهاده ومعرفته؛ لا أنْ يُخطِّأ الرجليْن جميعًا، ثم يُحْدِث لنفسه قولًا جديدًا في الحُكْم على الحديث! ولا يفعل هذا إلا كل مخدوع، جاهلٍ بمراتب أقدار المتقدمين من أحَلَاس هذا العِلْم. واللَّه المستعان لا رب سواه
    ». انتهى كلامنا هناك.
    ومَنْ يتأمل هذا الكلام بعين التكَسُّب للمعرفة ينكشِفْ له قِنَاع الشَّكّ عن مَحْيَا اليقِين، وبالله تعالى في كل أمرٍ نستعين.
    كلمة في عُلُوِّ كعْب ابن كثير في نقْدِ الأخبار
    ومع كل ما مرَّ: فلا يزال العماد ابن كثير لا يُلْفَى نَظِيرُه، وَلا يُدْرَكُ قَرِينُه، وَلا تُفْتَحُ الْعَيْنُ عَلَى مِثْلِه في التفتيش على الإسرائيليات في صنوف الأخبار، والتصدي لبيان ما يقع فيها من النكارة في كثير من الأحاديث والآثار.
    ومن نظر في «تفسيره» وقارنه بتفسير غيره في هذا الباب؛ استبان له أن الرجل قد تمَيَّز عن النُّظَرَاء، وَتَرَفَّع عَن الأشْكَال، وأنه في غرْبلة مرويات التفاسير كان: «جُحَيْش وَحْدِه».
    وكانت طريقته في كتبه: أنه يُقلِّب الخبر ويُدِيرُه على شَفتَيْه، فإنْ وجده طَيِّبَ الْمَضَاغِ، صادِقَ الحَلاوَة، مُشْرِقَ الديباجة؛ حَكَمَ عليه بما يقتضيه إسناده من الحُسْنِ والصحة.
    أمَّا إذا تَلَمَّظَه فانْقَبضَتْ مِنْهُ نفْسُه، ودفعَتْه لَهاتُه، ورفضَ حَلْقُه أن يُسِيغَه، وأبَى جَوْفُه أنْ يَسْتَمْرِأه؛ فإنه يدرأه ما استطاع بما وقع له من أجناس العبارات القاضية عليه بما يستحق من ألوان الاستنكار.
    وهذه المعرفة الفذَّة: إنما اكتسبها العِمادُ بمؤانسة أمثال: أبي عبد الله ابن الذهبي، وأبي الحجاج المزِّي، وأبي العباس ابن تيمية وأمثال هذه الرِفْقة الذين كانوا الغاية في بُعْدِ مَطْرَح الفِكْر، وشِدَّة التنْقِيب، وكثْرة التنْقِير، ودِقَّة الغَوْص على الحَقَائِقِ، وإثارة كَوَامِن الدفَائِن، والكشْفِ عَنْ الْغَوَامِض، فضلًا عن المعرفة الحسنة بموارِد الكلام ومصادِره، والخبرة التامة بمحاسِنِه ومساوِئِه، والعِلْم المُحيط بصحِيحِه وفاسِده، والبَصَر المستقيم بجَيِّده وسَفْسافِه.
    ونُقولات ابن كثير عن الثلاثة المشار إليهم –خاصة- منثورة في كتبه لا سيما في «تفسيره» و«تاريخه» في ذلك الصدد.

    تابع البقية: ...

  20. #20

    افتراضي رد: (1) قصْدُ السبيل بثبوت حديث عجوز بني إسرائيل.

    الإعلال بنكارة الحديث وأنَّ أصله من الإسرائيليات!
    وقد زاد بعضهم في قَيْثارة اعتراضه نغمة أخرى! وزعم أن الحديث لا يخلو من نكارة! وأنه رُوِيَ في «الإسرائيليات» فهو بها أشبه! فقد حدَّث به كعب الأحبار وإليه كان المنتهى في أخبار أهل الكتاب!
    بل ورد أصل هذه القصة في «سِفْر التكوين» فيما يتعلق بإخراج عظام يوسف -عليه السلام- وحَمْلِ بني إسرائيل لها إبَّانَ خروجهم من مصر!
    وهذا يدل على غلط يونس فيه، كأنه سمعه من بعضهم يرويه عن كتب أهل الكتاب؛ فاشتبه عليه، وضلَّ مسعاه في تحمُّله!
    واستند بعضهم - ممن لم يستطع هضْم الألفاظ النبوية في هذا الحديث- في دعواه النكارة ببعض ألفاظ ظنها مُتَّكَأً يصلح الاتكاء عليها فيما هو بسبيله!
    فرأيت بعضهم يقول: قوله في الحديث: «إنّ موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر: «ضلوا الطريق»، وفي رواية: «ضلّ عنه الطريق» ينقضه أنّ موسى إنما كان يسير بوحيٍ مِن الله تعالى، فكيف يضلّ؟
    وقال بعضهم: قوله في الحديث: «فمَن يعلم موضع قبره؟» غريب جدًا، لأن يوسف كان عزيز مصر، فكيف يُجْهَل قبره! والأعجب منه ألَّا يعرف أحدٌ مِن بني إسرائيل موضع قبر يوسف إلا امرأة عجوز!
    وقال بعضهم: جاء في الحديث: أن العجوز سألت موسى أن تكون معه في الجنة فكره أن يعطيها ذلك. ومثل لا يجوز على موسى!
    وقال بعضهم: ما جاء في الحديث: من كون عظام يوسف كانت مطمورة في بحيرة أو مستنقع ماء! هو عجيب جدًا.
    واستشكل بعضهم قوله: «عظام يوسف»؛ لِمَا ثبت في الحديث أن «الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء».
    الأجْوِبَة على دعوى النكارة الممجوجة.
    والرد على هذا التعليل يكون من وجهين، بل ثلاثة:
    1- ادعاء النكارة هنا أمر ذَوْقِي نِسْبِي؛ فما يكون مستنكرًا عند البعض؛ تجده مقبولًا مستساغًا عند آخرين؛ وكثيرًا ما يُؤْتَى المرء من اعْتِكار تذَوُّقِه فيما هو بسبيله! وعدم انفساح فِنَاء طَبْعِه لاستقبال ألفاظٍ مستقيمة عند العارفين ، فتراه يتكلم بالهُجْرِ في جملة من الكلمات مما لا يَرْتَفِعُ لها حِجَاب سَمْعِه، ولا يَنْدَى مثلها على كَبِدِه!
    وهنا تَبْرُز آيةُ الله في خلْقِه، فما يكون عند المعترض ثَقِيلًا عَلَى السَّمْع، مُتَجَافٍ عَنْ مضاجِع الرِّقَّة، مُتَجانفًا عنْ مذاهِب السَّلاسة، عليه جَفْوة الأعْرَاب، وخُشُونة الجاهِليَّة!
    تراه عند آخرين: رائِقَ المَشْرَع، عَذْب المَشْرَب، سَهْل المَوْرِدِ، رَقِيق الحوَاشِي، لَيِّن المَكاسِر، حَسَن الانسِجَامِ، يَرْتَفِعُ له حِجَاب السَّمْع، وَيُوطَأُ لَهُ مِهَاد الطَّبْع.
    وهكذا تتفاوت الأذواق في تناول الكلمات والأسماء، وبِضَدِّها تتمَيَّز الأشياء!
    استشكال عدم اهتداء موسى وقومه للطريق
    فقول القائل في هذا الحديث: إن قوله: «إنّ موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر: ضلوا الطريق»، وفي رواية: «ضلّ عنه الطريق» ينقضه أنّ موسى إنما كان يسير بوحيٍ مِن الله تعالى، فكيف يضلّ؟
    ونقول له: إن الله إذا أراد شيئًا هيَّأ له أسبابه، وريثما تتمُّ حكمة الله من العثور على «عظام يوسف» عليه السلام، اقتضى الأمر أن لا يهتديَ موسى -عليه السلام- وقومه إلى طريق الخروج من مصر.
    والتعلل هنا في نكارة اللفظ بكون موسى إنما كان يسير بوحْي؛ لا يُجْدِي عند أُولِي العلم شيئًا، لأنه كذلك كان التعلل الآخَر في رَدِّ خبر موسى –عليه السلام- في لَطْمِه مَلَكَ الموت حتى فقأ عينه! بكون موسى –عليه السلام- نبيًّا كريمًا لا يأبى الاستجابة لنداء ربه متى كان، كما ينافي ذلك معرفته بملك الموت في الجملة، وإذا كان الله يريد قبْضَ روحه فلماذا لم يُخْبِرْه بذلك عن طريق الوحي؟
    ومثل تلك التعللات المدخولة الزائفة في «حديث موسى مع ملك الموت» ترى مثلها في حديثه الآخر مع قومه عندما اطلعوا على سوأته وهو عريان ليس دون جِلْدِه شيء!
    فعهدِي ببعضهم يقول: كيف لقوم موسى – عليه السلام- أن يبصروا عورته وهو نبي كريم من أُولِي العزم والقوة؟ فهلَّا كان الوحي آتاه قبل ذلك يخبره بالتحرزِّ؛ كَيْما لا تنكشف عورته أمام الناس فيرونها عيانًا!
    وكل هذه تعليلات فاسدة غَبِيَ على أصحابها ما مضى الإشارة إليه مِنْ قُدْرَة الله على تَهْيأة الأسباب لنفوذ إرادته، وابتلاء الأنبياء يكون من وراءه حِكْمةٌ تَتْبَعها رحمة، وغاية هي من الله لخلْقِه تربية ورِعاية.
    وفي حديث أبي موسى هنا: أن يوسف -عليه السلام - حين حضره الموت أخذ على بني إسرائيل موثقًا من الله أنْ لا يخرجوا من مصر حتى ينقلوا عظامه معهم، فلما طال العهد بهذه الوصية، وهمَّ القوم بالخروج من مصر؛ شاء الله أن يضلوا الطريق؛ ريثما يهتدوا إلى قبر يوسف فيأخذونه معهم، فأين النكارة في مثل هذا؟
    استشكال خفاء قبر يوسف على بني إسرائيل
    أما قول بعضهم: جاء في الحديث قوله: «فمَن يعلم موضع قبره؟» وهذا غريب جدًا، لأن يوسف كان عزيز مصر، فكيف يُجْهَل قبره! والأعجب منه ألا يعرف أحدٌ مِن بني إسرائيل موضع قبر يوسف إلا امرأة عجوز!
    قلت: كان بين يوسف وموسى أزمنة ودهور هلَكتْ فيها أجيال وقام أجيال؛ بل روى ابن لهيعة عمن حدثه قال: «قبْرُ يوسف -صلى الله عليه وسلم- بمصر، فأقام بها نحوًا من ثلاث مائة سنة، ثم حُمِلَ إلى بيت المقدس». أخرجه عنه ابن عبد الحكم في «فتوح مصر» [ص/ 27/طبعة دار الفكر] بإسناد صحيح.
    ومعلوم أن الأرض تتبدَّل مَعالِمُها وتُخُومُها باختلاف الليل والنهار؛ وهذا يكفي في غياب كثير من المعاهد والمقابر عن أذهان الناس بما تفعله عوامل الأيام، وأغْيَار الزمان،؛ اللهم ما توارثوه جيلًا فجيلًا، وهذه المرأة العجوز كأنها كانت قد حفظتْ موضع القبر عن أسلافها من الذين كانوا يتعاهدونه.
    وليس في الحديث ما يدل أن بني إسرائيل كلهم كانوا يجهلون مكان القبر! وإنما فيه عدم معرفتهم بموضعِه، وثمة فرْقٌ بين المكان –وهي البُقْعَة- وبين الموضع الذي فيه طَيُّ الجثمان الشريف.
    ويؤيد هذا: ما جاء في خبر عكرمة الآتي: « فلَمَّا كَانَ من أَمْر مُوسَى مَا كَانَ يَوْم فرعون، فَمرَّ بالقرية الَّتِي فِيهَا قبر يُوسُف، فَسَأَلَ عَن قَبره فَلم يجد أحدًا يُخبرهُ، فَقيل لَهُ: هَهُنَا عَجُوز بقيت من قوم يُوسُف ... ».
    ففي هذا الخبر أنهم كانوا على دراية بتلك البقعة التي كان مدفونًا بها نبيُّ الله يوسف، إلا أنهم لم يهتدوا إلى موضع قبره منها، حتى دلَّتْهم العجوز عليه.
    وهذه العجوز: ليستْ امرأة مجهولة من أفْناء الناس حتى يُسْتَكْثَر عليها حِفْظُ قبر يوسف الذي لا يعرفه مَنْ غَبِيَ عليه من علماء بني إسرائيل!
    بل في حِفْظِ تلك المرأة لموضع أحد كبار أنبياء بني إسرائيل؛ ما يدل على أن لها شأنًا؟
    فوقع في خبر عكرمة: « فَقيل لَهُ: هَهُنَا عَجُوز بقيتْ من قوم يُوسُف، فَجَاءَهَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَام- فَقَالَ لَهَا: تدليني على قبر يُوسُف ... ».
    ووقع في مرسل سماك بن حرب الآتي: « قلنا يا رسول الله: وما عجوز موسى -صلى الله عليه وسلم- قال: بنت يوسف -صلى الله عليه وسلم- عُمِّرَتْ حتى صارتْ عجوزًا كبيرة ذاهبة البصر .. ».
    ووقع في خبر ابن عباس الآتي: « فَقَالَت عَجُوز يُقَال لَهَا: سارح ابنة آشار بن يعقوب: أَنا رَأَيْت عمي يُوسُف حِين دُفِن ... ».
    ووقع في خبر مجاهد الآتي: « فَخَرَجَ مُوسَى مِنْ لَيْلَتِهِ يَسْأَلُ عَنْ قَبْرِهِ، فَوَجَدَ عَجُوزًا بَيْتُهَا عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ... ».
    فحاصل هذه الروايات: أنه كان لتلك العجوز اتصال بيوسف –عليه السلام- إما اتصال نَسَب، وإما اتصال إيمان ومعرفة بخبره.
    استشكال كراهة موسى لطلب العجوز
    أما قول بعضهم: جاء في الحديث: أن العجوز سألت موسى أن تكون معه في الجنة فكره أن يعطيها ذلك، ولا يجوز هذا على نبيِّ الله موسى!
    قلت: في رواية أبي نعيم الملائي –وهي أصح ألفاظ الحديث-: « فكأنه كرِه ذلك».
    وفي رواية ابن أبي حاتم-وهي تلي رواية أبي نعيم في الصحة-: « فكأنه ثقُلَ عليه ذلك».
    هكذا بـــ: «كاف التشبيه» في الموضعين، والظاهر أن موسى –عليه السلام- توقَّف في الأمر؛ لكونها سألتْه ما لا يمْلُك! وقد وقع في حديث علي الآتي: « قالت: لا والله أنْ أكون معك، فجعل موسى يُرَادَّها»، أيْ يراجعها في هذا الطلب.
    بل وقع في رواية كعب الأحبار: « فَبَكَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنَّ الْجَنَّةَ بِيَدِي فَأَعْطِهَا مَا سَأَلَتْ، فَقَالَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَكِ ذَلِكَ .. ».
    فلمَّا قيل له: « أعْطِها حُكْمَها» أعطاها على وجْهِ الدعاء
    .
    وقائل هذا لموسى: إما أن يكون قومُه، أو أوحى الله إليه به، فإن كان الأول؛ فلا يكون موسى إلا أنْ سأل اللهَ لها ذلك، ولا يملك غير هذا.
    وإن كان الثاني: فلا إشكال في الأمر.
    وقد وقع في الروايات الصحيحة إبهام الآمِر لموسى بذلك، وفسَّرَتْه بعض الروايات الأخرى- التي في إسناده مقالٌ- بأن الله هو الذي أمره بذلك، وكلاهما مقبول.

    تابع البقية: ...

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •