شذرات من السيرة النبوية المعطرة

بقلم- فالح الحجية

تمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم

( وما ارسلناك الا رحمة للعالمين)

الصلام والسلام على سيدنا محمد نبي الرحمة ورسول الامة وكاشف الغمة ومنير الظلمة بنور الايمان والاسلام وعلى اله واهل بيته الاطهار واصحابه الاخيار .

وبعد:

السيرة المعطرة هي سيرة الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم . المبعوث رحمة للعالمين وهذه السيرة الطيبة هي من اشرف العلوم وأسناها وأفضلها اعلاها بعد القرآن الكريم .

وقد ألهمني الله تعالى في هذا اليوم ان اكتب في هذه السيرة المعطرة بعد ان كتبت الكثير في القران الكريم: ستة كتب لحد الان في سلسة ( التفسير الموضوعي للقران الكريم ) منها: اصحاب الجنة في القران الكريم والقران في القران الكريم والادعية المستجابة ويوم القيامة في القرآن الكريم ....) ولا زلت بحمد لله وفضله اكتب فيه . ونظمت خمسة دواوين شعرية .. وعشرا ت الكتب في الادب والشعر والقصة والثقافة ... اسال الله تعالى ان لا يجف مداد قلمي مادمت على قيد الحياة ... ويفتح ا مامي سمتا واسعا في سبيل خدمة الانسانية ولما يحب ويرضى ...

النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هو الشخصية العظيمة والفريدة في التاريخ والكتابة فيها لا تنضب ولا تنتهي انما معادا او مكرورا لما دونه اولئك الافذاذ من علماء الحديث والتاريخ والتراجم وغيرها منذ القدم وقد كتبت فيه ملايين الكتب والدراسات واسال الله تعالى ان يجعل كتابتي فيه بعضا من وفاء لما اسداه للبشرية من نور الايمان والاسلام .

فقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يمتاز بكمال الاخلاق الحميدة وتمام الخلق العظيم قال تعالى :
( وانك لعلى خلق عظيم) سورة القلم – 4

وكان خاتم الانبياء المرسلين الا ان رسالته كانت افضل الرسالات واسناها سموا وهداية ورفعة وخدمة للانسانية جمعاء وان كان الانبياء والرسل من قبله قد ادوا رسالاتهم وما امرهم به الله تعالى الا انها كانت ليست مثل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعثه رحمة للعالمين وارسله للناس جميعا فكل الرسالات التي قبله كانت دون رسالته قال تعالى :

( قل يا ايها الناس اني رسول الله اليكم جميعا الذي له ملك السموات والارض لا اله الا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الامي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ) الاعراف - 158

فهو رسول الله تعالى صلى الله عليه وسلم الى الناس جميعا وكل الديانات والرسالات التي اتت قبله قد ا نضوت في رسالته وبامر من الله تعالى وفي هذه الاية امر من الله تعالى لجميع بني البشر من كل الملل والاديان ان يكون ايمانهم المطلق بالله تعالى وبالنبي محمد صلى الله عليه وسلم فهو النبي الامي الذي يؤمن بالله تعالى وبكلماته ( القران الكريم ) وان يتبعوه ولا يتبعون غيره ابدا لعلهم الله تعالى يهديهم الى صراط مستقيم وسبيل مبين وطريق موصل الى الهداية والتقى ففي هذه الاية دعوة من الله تعالى باتباعه صلى الله عليه وسلم .

واذا خلصنا – كما سلف – تبين لنا ان النبي محمد تاج البشرية وسناؤها ومصدر علمها وبهاؤها لذا يحق لاي احد ان يكتب فيه ويظهر اي نفحة من نفحات هذه الشخصية الفذة .

فاقول – وبالله التوفيق- ان الله تعالى يوم خلق السموات والارض وخلق ادم من تراب خلق فيه نطفة طيبة زكية غرسها في صلب آدم عليه السلام وباركها فتنقلت هذه النطفة من صلب طاهر الى صلب طاهر حتى انحدرت في صلب ابي الانبياء ابر اهيم عليه السلام

اختار الله تعالى ابراهيم عليه السلام نبيا وخليلا وارسله الى الناس نبيا ورسولا فلما بدء بدعوة الناس للايمان والاسلام ارسل اليه النمرود – ولا تزال اثار ملكه شاخصة تقع جنوب بغداد في منطقة يقال لها ( عكركوف ) وقد زرتها وتجولت في اثارها - وحاجه في قصة ذكرت في القران الكريم .
قال تعالى:
( الم تر الى الذي حاج ابراهيم في ربه ان آتاه الله الملك اذ قال ابراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال انا احيي واميت قال ابراهيم فان الله ياتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لايهدي القوم الظالمين *) البقرة\ 258

ثم عاد ابراهيم عليه السلام الى بابل وفي يوم العيد والناس مشغولون بافراحهم فيه . حطم ابراهيم عليه السلام اصنامهم وعلق الفأس التي حطم فيها الاصنام في عنق الصنم الاكبر ولما رجعوا عرفوا انه هو الذي قام بتحطيمها فاخبروا الملك فاصدر قراره بموته حرقا ورميا في النار على فعلته بعد محاججته تلك . فبنوا جدارا كبيرا وجمعوا احطابا واخشابا كثيرة واوقدوها فلما استعرت رموه فيها وقيل ان ابليس اللعين حضر مع الجمهور بصفة رجل منهم وهو الذي اشار عليهم بذلك فاخذ الملك باستشارته . الا ان النار لم تحرق ابراهيم عليه السلام باذن الله تعالى فخرج منها سالما و لم يحترق ولم يصبه اي اذى .
قال تعالى:
(ولقد آتينا ابراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين* اذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي انتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين * قال لقد كنتم انتم واباؤكم في ضلال مبين * قالوا أ جئتنا بالحق ام انت من اللاعبين * قال بل ربكم رب السموات والارض الذي فطرهن وانا على ذلكم من الشاهدين * وتالله لأكيدن اصنامكم بعد ان تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذا الا كبيرا لهم لعلهم اليه يرجعون * قالوا من فعل هذا بآلهتنا انه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم * قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون * قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا ياابراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم ان كانوا ينطقون * فرجعوا الى انفسهم فقالوا انكم انتم الظالمون * ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون * قال أتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * اف لكم ولما تعبدون من دون الله افلا تعقلون * قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم ان كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني برد ا وسلاما على ابراهيم * وارادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين *)
الانبياء \51-70
وكذلك ذكر هذا الموضوع مفصلا ومكررا في سورة الصافات الايات\83-113.

قرر ابراهيم عليه السلام الرحيل من ارض بابل فخرج مهاجرا الى ربه ومعه زوجته سارة ابنة عمه بعد ان آمنت ايمانا تاما بالله تعالى و بالاسلام – فهي على دين زوجها ابراهيم الخليل عليه السلام فكانت اول من آمن به فهي ابنة عمه وزوجته - واتجه غربا الى الشام الى ارض فلسطين ولما وصل الى ارض الملك الجبار خاف على زوجته منه - وكانت زوجته احسن النساء خلقا وحسنا وجمالا –
فقال لها :
- ان علم هذا الجبار بانك زوجتي سيغلبني عليك فان سألك فاخبريه أنك اختي . وانك حقا اختي في الاسلام واني لا اعلم في الارض مسلما غيري وغيرك.

فلما دخل ارض الملك الجبار اخبره الناس قائلين له :
- دخل ارضنا اليوم رجل يدعى ابراهيم و معه امراة لا تصلح الا لك ايها الملك .
فارسل الملك الجبار الجبار اليها . فاخذوها اليه فقام ابراهيم عليه السلام الى الصلاة فلما دخلت اليه انبهر بها ولم يتمالك نفسه الا ان بسط يده اليها فشلت يده باذن الله تعالى وقبضت قبضة شديدة
فقال لها :
- ادعي الله ان يطلق يدي. ولك الله ان لا اضرك .
ففعلت فعادت يده صحيحة كما كانت فعاد لبسط يده اليها فقبضت يده مرة ثانية قبضة اشد من الاولى فكرر القول عليها قائلا :
ادعي ربك ان يعيد حركة يدي ولك علي ان لا اضرك . فا نبسطت يده فعاد اليها ثالثة فقبضت يده اشد من القبضتين الاوليتين فقال لها :
- ادعي الله ان يطلق يدي ولك الله علي ان لا اضرك.

ففعلت فاطلقت يده فدعا بالرجل الذي جاء بها اليه فقال له:
- انما جئتني بشيطان ولم تاتني بانسان فاخرجها من عندي

فخرجت من عنده بعد ان اكرمها و اعطاها ( هاجر) جارية لها فلما رآها ابراهيم عليه السلام اقبلت عليه مع جاريتها قال لها:
- مهيم..؟؟؟ يعني ماذا وراءك.؟
قالت :
- خيرا . ..كف الله يد الفاجر وأخدم خادما .
وفي رواية اخرى وردت في صحيح البخاري :
ان ابراهيم لما سئل عن سارة قال هي اختي ثم رجع اليها فقال لها لا تكذبي حديثي فاني اخبرتهم انك اختي والله ما على الارض مؤمن غيري وغيرك فارسل بها اليه فلما حضرت اليه قام اليها فقامت تتوضأ وتصلي فقالت :
اللهم ان كنت امنت بك وبرسولك واحصنت فرجي الا على زوجي فلا تسلط علي يد هذا الكافر.
فضغط على الجبار حتى ركض برجله الارض فقالت:
اللهم ان يمت يقال هي قتلته .

فعاد صاحيا سالما فقام اليها ثانية ففعلت مثلما فعلته في الاولى فقبض الملك الجبار فدعت الله تعالى بنفس دعائها في المرة الاولى فقام اليها الثالثة فدعت الله تعالى فقبض عن الحركة اشد ايضا فلما فكته بدعائها لله تعالى لمرة ثالثة قال لحاشيته:
- والله ما ارسلتم لي الا شيطانا ارجعوها الى ابراهيم واعطوها (هاجر) .
فرجعت الى ابراهيم ومعها (هاجر ) فقالت له:
- اشعرت .. ان الله كبت الكافر وأخدم وليده .

ثم استوطن ابراهيم عليه السلام ارض الشام في فلسطين وكانت زوجته سارة عاقرا فلم تنجب له ولدا فلما اعطاها الملك الجبار ( هاجر ) جارية لها اعطت سارة الجارية الى زوجها ابن عمها لعله ينجب منها فواقعها ابراهيم عليه السلام فحملت وولدت له ولدا ( اسماعيل ) فدبت الغيرة في نفس سارة وطلبت منه ابعادها وولدها عنها فأمره الله تعالى ان يخرج بهاجر وولدها الى ارض مكة في الحجاز .

فاخذها ابراهيم عليه السلام وولدها معها الى ارض الحجاز فلما وصل ارض مكة انزلهما في بقعة محاطة بالجبال من كل جانب وتركهما في اكمة ومعهما شنة من ماء وجعبة فيها طعام وعاد .

فلما رأته زوجته انه تركهما ورجع لحقته وهي تنادي عليه وهو ساكت لا يرد فلما وصلا الى منطقة ( كداء) نادته من ورائه :
- يا ابراهيم اين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به انيس او اي شيء ..
قالت له ذلك مرارا وهو مستمر في سيره لا يلتفت اليها فقالت له:
- الله امرك بهذا؟؟؟
قال : نعم
قالت : اذن لا يضيعنا الله
وفي رواية اخرى قالت:
- الى من تكلنا الى الله ؟
- قال: نعم
- قالت : رضيت لا يضيعنا الله .
ثم رجعت .
وهذه هي المرة الاولى التي تطأ اقدام ابراهيم عليه السلام ارض مكة وموقع البيت العتيق .

عاد ابراهيم عليه السلام الى الشام في ارض فلسطين الى زوجته سارة . ولما نزلت الملائكة لتصب العذاب على قوم لوط نتيجة اجرامهم وفعلهم المنكر ونزلوا على ابراهيم عليه السلام ضيوفا فنحر لهم عجلا سمينا الا انه شاهد ان ايديهم لا تصل الى الطعام فنكرهم وخافهم فاخبروه انهم رسل الله تعالى الى لوط عليه السلام فلما سمعت سارة بالحكاية لفت نفسها بخرقة ( صرة ) واتت اليهم مسلمة فضحكت فبشروها وزوجها ابراهيم بالبشرى بالولد .

فحملت سارة فانجبت له (اسحاق) ورزقه الله تعالى من بعد اسحاق ولده يعقوب قال تعالى :
( ولقد جاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث ان جاء بعجل حنيذ* فلما راى ايديهم لا تصل اليه نكرهم واوجس منهم خيفة قالوا لاتخف انا ارسلنا الى قوم لوط* وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها باسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب ) هود \71 .

رجعت ( هاجر ) الى ولدها بعد ان غاب عن عينها زوجها ابراهيم راجعا الى ارض فلسطين فجعلت تشرب من الشنة فيدر لبنها فترضع ولدها حتى نفد الماء فعطشت وعطش وليدها واصبحت تنظر اليه وهو يتلوى من العطش والجوع وأضامها الضيم في نفسها وصارت تتهيب ان تنظر الى وليدها وهو يتلبط من العطش فنظرت الى جبل ( الصفا ) فاسرعت اليه صاعدة فوقه لعلها ان تجد فرجا او منقذا او تجد شيئا ما يروي عطش وجوع ولدها فلم تر شيئا فنزلت ثم نظرت الى جبل يقابله وهو جبل ( المروة ) لعلها تجد ضالتها فيه فسارت اليه مسرعة فلم تجد شيئا فبقيت تجري بين الصفا والمروة سبع مرات لعلها تجد ما يعينها على حاجتها حتى تعبت .

فقالت في نفسها لأذهب فأرى الطفل ماذا يفعل وماذا حل به فاذا هو على حاله يتضور جوعا و كأنه ينشغ للموت فكانت هذه المرات السبع هي اشواط السعي السبعة بين الصفا والمروة من شعائر الله عند الحج والعمر ة
قال تعالى : ( ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت او اعتمر فلا جناح عليه ان يطوف بهما ومن تطوع خير فان الله شاكر عليم ). سورة الحج الاية \
ومن هنا شرع السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة سبعة اشواط .
واذا بصوت سمعته فقالت :
- أغث ان كان عندك خير ...
فاذا بجبريل عليه السلام يقول:
- بعقبه على الارض ...

فنظرت الى الطفل وهو يضرب بعقب رجليه الارض ينازع الموت والحياة فانبثق الماء من تحت عقب الطفل فكان ( زمزم ) فشهقت شهقة فرح ثم اخذت تغرف الماء في سقائها ثم شربت وارضعت ولدها . وفي هذا قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم :
- (رحم الله ام اسماعيل لو تركت زمزم – او قال لو لم تغرف الماء- لكانت زمزم عينا معينا) اي عينا سائلة جارية .
فقال لها جبريل عليه السلام :
-( لا تخافي الضيعة فان ههنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وابوه ان الله لا يضيع اهله ).

وكان البيت مرتفعا قليلا عن الرابية فتأتيه السيول من الجبال المحيطة بهذه البقعة فتاخذ عن يمينه وشماله فبقيت ساكنة قرب الماء ( زمزم ) فكان لها ولولدها رواءا وغذاءا حتى جاءت قافلة بهم رفقة من جرهم مقبلين من ( كداء) فرأوا طيرا تحوم في السماء فقالوا :
- هذا طائر يبحث عن الماء .
فارسلوا من ينظر اليهم فلما جاء الجري فوجدوه ماءا فاقبلت القافلة مع من فيها وقالوا لام اسماعيل عليه السلام :
- اتقبلين ان ننزل عندك ؟؟
- قالت: نعم ولكن لا حق لكم بالماء
- قالوا: نعم
فارسلوا الي اهليهم فنزلوا معهم في هذه البقة . فكانت( مكة ).

جاء ابراهيم عليه السلام متفقدا زوجته وولده وكان ابنه اسماعيل قد بلغ السعي في العمل واكتمل يافعا . فلما وصل مكان البيت الحرام حيث وجدهما ساكنين . وفي الليل راى في المنام رؤيا ان الله يأمره بذبح ولده اسماعيل وكان ذلك في ليلة اليوم الثامن من ذي الحجة فأجل الامر الى النهار للتروي والتفكر في نفسه وليعلم هل هذه الرؤيا من الله تعالى ام من الشيطان فسمي اليوم الثامن من ذي الحجة ( يوم التروية ) . الا ان الرؤيا جاءته في الليلة التالية ايضا في ليلة اليوم التاسع من ذي الحجة فعرف ان هذه الرؤيا رؤيا حق وانها من الله تعالى وهنا قد صدق الرؤيا وسمي هذا اليوم يوم ( عرفة ) ثم راى نفس الرؤيا في ليلة اليوم العاشر من ذي الحجة فتاكد الخبر انه امر من الله تعالى يامره ان ينحر ولده ( اسماعيل ) فهم بنحر ولده لذلك سمي اليوم العاشر من ذي الحجة ( يو م النحر) عند ذلك اخبر ولده اسماعيل بالامر بشفقة و حنان ليأخذ رأيه في هذا البلاء العظيم فاطاع اسماعيل اباه فيما اراد فقال له:
-(يا بني اني ارى في المنام اني اذبحك فانظر ماذا ترى).
وكان يعلم ان امر الله تعالى لابد نافذ وكذلك ليعلم ما عند الفتى اليافع من الصبر والجلد عند تلقي هذا الامتحان العظيم .
فقال له اسماعيل بكل طاعة وتوقير لابيه وطاعة واستسلام لامر الله تعالى :
- ( يا ابتي افعل ما تؤمر ستجدني انشاء الله من الصابرين) على قضائه وقدره والممتثلين لامره سبحانه وتعالى .

فاستسلما لامر الله تعالى اذعانا لامره وحكمته وهمّ ابراهيم عليه السلام بذبح ولده اسماعيل واسلم الولد نفسه لابيه فوضعه على الارض باتجاه البيت واخذ السكين في يده وكبر( الله اكبر) وقرب السكين من رقبة ولده اسماعيل لذبحه . وهنا جاء الفرج حيث سمع ابراهيم عليه السلام نداءا من السماء ( ان يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا ) وقد حققت ما امرناك به في المنام من التسليم بذبح ولدك اسماعيل . لقد مننا عليك وجاءك الفرج من عندنا وانقذناك من الكرب العظيم وبمثل هذا الجزاء سنجزي المحسنين المطيعين لامرنا امثالك فهذا هو البلاء المبين وامر الله تعالى ان يذبح كبشا سمينا كبيرا بدلا من ذبح ولده فداءا له وفي رواية اخرى قيل انزل الله سبحانه وتعالى كبشا من السماء ليذبحه ابراهيم عليه السلام فداءا عن ولده اسماعيل عليه السلام .

عند ذلك قام بفك رباط ولده اسماعيل عليه السلام واخذا بعضهما باحضان الاخر وهما يبكيان فرحا بهذا الامر وتنفيذا لامر الله تعالى واخذ ابراهيم عليه السلام الكبش ونحره فكان اضحية عن اسماعيل ومن هنا سنت الاضاحي في الاسلام .
وقيل ان اسماعيل قال لابيه :
( ياابت اشدد رباطي حتى اصبط ولا اضطرب عند النحر واكفف ثيابك وشمر عن ساعدك لئلا ينتضح شيء من دمي على ملابسك فتراه امي فتحزن او تراه انت فتتذكر الحالة فتحزن واسرع مرور السكين عند الذبح ليكون الذبح اهون علي وكبني على وجهي لكي لا ترى وجهي عند الذبح لئلا تنظر اليه فترحمني ) وهذه هي المرة الثانية التي جاء بها ابراهيم عليه السلام الى ارض مكة وموقع البيت العتيق .
قال تعالى:
( فلما بلغ معه السعي قال يابني اني ارى في المنام اني اذبحك فانظر ماذا ترى قال ياابت افعل ما تؤمر ستجدني انشاء الله من الصابرين * فلما اسلما وتله للجبين * وناديناه ان يابراهيم * قد صدقت الرؤيا انا كذلك نجزي المحسنين * ان هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه في الاخرين * سلام على ابراهيم * كذلك نجزي المحسنين *) الصافات\ 102- 110

فلما شب اسماعيل وتعلم العربية فاعجبهم فزوجوه احدى بناتهم واختاره الله تعالى نبيا .

ومرت الايام والسنون حيث ماتت هاجر زوج ابراهيم ام اسماعيل عليهما السلام فجاء ابراهيم عليه السلام يتفقد زوجته وولده فدلوه على بيته فعرف ان زوجته قد ماتت وان ولده تزوج فسأ ل زوجة ولده عن حالتهم ومعيشتهم وهيأتهم فاخبرته انهم في ضيق وشده وشكت اليه .
فقال لها :
- اذا جاء زوجك اقرئ عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه
فلما جاء اسماعيل عليه السلام فكأنه آنس شيئا فقال لزوجته – هل جاءكم من احد؟
قالت : نعم جاءنا شيخ صفته كذا وكذا فسألني عنك فاخبرته وسالني كيف عيشنا فا خبرته في جهد وشدة .
فقال اسماعيل عليه السلام لزوجته :
- فهل اوصاك بشيء ؟
قالت : نعم امرني ان اقرأ عليك السلام ويقولك غيّر عتبة بابك .
فقال : ذاك ابي وقد امرني ان افارقك فألحقي باهلك .
فطلقها وتزوج بغيرها .
وهذه هي المرة الثالثة التي جاء ابراهيم عليه السلام الى ارض مكة وموقع البيت الحرام.

ولبث ابراهيم عليه السلام مدة غير قصيرة في فلسطين ثم قدم الى مكة حيث ترك ولده ليتفقد حالته فلما جاء سال زوجته عن زوجها ولده اسماعيل عليه السلام فاعلمته انه ذهب للصيد ورجته النزول عندها لاقرائه
فسالها عن طعامهم وشرابهم فاخبرته ان طعامهم اللحم وشرابهم الماء.
فقال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم .
وسالها عن عيشهم وهيأتهم ؟
فقالت : نحن بخير وسعة وأ ثنت على الله تعالى .
فقال لها : اذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وأخبريه ان يثبت عتبة بابه .
ثم رجع قافلا الى الشام وهذه هي المرة الرابعة التي جاء ابراهيم عليه السلام فيها الى ارض مكة وموقع البيت الحرام .

و جاء اسماعيل عليه السلام الى بيته و سال امراته ان كان احد جاء اليهم فاخبرته بنعم شيخ حسن الهيئة – واثنت عليه- وقالت :
- سالني عنك فاخبرته و سالني كيف عيشنا فاخبرته انا بخير
قال لها: وهل اوصاك بشيء؟
قالت نعم : هو يقرؤك السلام ويأمرك ان تثبت عتبة بابك .
فقال: ذلك ابي وقد امرني ان امسكك .

وقيل لما عاد ابراهيم عليه السلام قافلا الى الشام فلما وصل الى ( الثنية) من ارض مكة - موقع معروف - توجه الى ربه تعالى بالدعاء مستقبلا البيت الحرام قائلا:

( ربنا اني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل افئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون )

ومكث ابراهيم عليه السلام مدة ثم جاء اخرى يتفقد ولده اسماعيل عليه السلام فوجد ه جالسا يبري النبال تحت دوحة فوق زمزم فلما راى اسماعيل عليه السلام اباه قام اليه مشغوفا فتعانقا او صنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد عند لقائهما من فراق طويل .
وقال ابراهيم عليه السلام :
- يا ا سماعيل ان الله امرني بأمر.
فاجابه اسماعيل عليه السلام :
- فاصنع ما امرك به ربك .
- او تعينني ؟؟
- وأعينك ..
- فان الله امرني ان ابني ههنا بيتا .
واشار الى اكمة مرتفعة على ما حولها وهو موقع الكعبة المشرفة المباركة فاخرج اسسها . فعند ذلك بدءا بالعمل فكان اسماعيل عليه السلام ياتي بالحجارة ويناولها لابيه وابوه عليهما السلام يبني البيت .

فرفعا القواعد من البيت حتى اذا ارتفع البناء جاء بالحجر فوضع له وهما يدعوان الله:
( ر بنا تقبل منا انك انت السميع العليم )
ال عمران \ 7 12
وكان ابراهيم عليه السلام - لما رتفع البناء- يقف على حجر ثم يبني الجدار فكان هذا الحجر هو مقام ابراهيم عليه السلام بجوار الكعبة المشرفة قال تعالى ( واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى ). وهذه هي المرة الخامسة والاخيرة التي جاء فيها ابراهيم عليه السلام الى مكة المكرمة وبنى فيها هو وولده اسماعيل عليها السلام الكعبة المشرفة .

ومن هنا كانت الليالي العشر التي اقسم الله تعالى فيها في سورة الفجر قال تعالى( والفجر وليال عشر*) من الايام الفضيلة وصيامها مشروع عند الله تعالى وفيها تتم مناسك الحج وتنتهي بعيد الاضحى المبارك . ومن المهم ان اذكر ان كل ما حدث لابراهيم الخليل وولده اسماعيل عليهما السلام وما قامت به زوجته (هاجر ) اصبحت مناسك في الاسلام يتوجب الالتزام بها خاصة في الحج والعمرة وعيد الاضحى المبارك مثل الاضاحي والسعي والصلاة بجوار مقام ابراهيم عليه السلام و ماء زمزم وغيرها .

فقد اتخذ الله تعالى ابراهيم عليه السلام خليلا ونبيا ورسولا وانعم الله تعالى عليه بان رزقه اسماعيل واسحاق عليهما السلام .
فمن ذرية اسماعيل عليه السلام امة العرب وفيهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن ذرية اسحاق يعقوب والعيص ومن ذرية يعقوب بني اسرائيل اذ ان يعقوب هو اسرائيل ذاته واولاده - الاسباط – يوسف واخوته- ومن العيص الروم فهم اولاد العيص بن اسحاق بن ابراهيم عليهم السلام جميعا .

ومن الاء الله تعالى على ابراهيم عليه السلام ان جعل في ذريته النبوة والكتاب حيث جعل كل الانبياء من ذرية ابراهيم عليه وعليهم السلام وجعل كل الانبياء من ذرية اسحاق بن ابراهيم عليهم السلام وبعثهم الى اقوامهم او الى اممهم بينما جعل النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحده من ذرية اسماعيل بن ابراهيم عليهم السلام وجعله خاتم الانبياء والمرسلين وبعثه الى الناس جميعا - كما مربنا – وفضله على انبيائه كلهم وجعله رحمة للعالمين قال تعالى (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ) اية 27
ومن الائه ان بين له قواعد البيت الحرام فبناها بمعاونة ابنه اسماعيل عليهما السلام كما بينا قال تعالى :
( واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم ) ال عمران الاية\ 127 .


وهكذا صارت ولاية البيت ومكة لاسماعيل وبنيه من بعده انتشرت ذريته في الحجاز وكانوا على دين الاسلام دين سيدنا ابراهيم عليه السلام قرونا طويلة ولا يزالون على ذلك سيبقى الى اخر الدنيا –الا من شذ منهم - فصححه الانبياء من بعده وكان خاتمهم الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم فهو النبي المجتبي والرسول المهتدى و رحمة للعالمين ولاجله الف هذا الكتاب .


فالح نصيف الحجية
الكيلاني

العراق- ديالى -بلدروز


**************************