بسم الله ..
خط صاحبُ الفضيلة الشيخ / عبد الله بن محمد الزهراني بيراعه الكريم ورقةً حوت تصورات واضحة للتوحيــد عند أهلِ السنة من طرف و جعل ابن تيمية أنموذجاً ناطقا بلسانهم , و معبراً عن طريقتهم , و مبيناً عن سبيلهم ,
و أهلِ الكلام من الطرف الآخر , عرض ثمَّ نقولاتٍ من صميم كتبهم , و عن كبار نظارهم , فجلّى بصنيعه هذا موقف الفريقين , و نظرة الطائفتين , فجزاه الله خيراً على حسن صنيعه , و نفع به و بما كتب .
و فيما يلي بريق حرفه , و سطوع بيانه .
( التوحيد بين أهل السّنّة "ابن تيمية أنموذجا" وأهل الكلام )
· توطــئــــة :
يعدّ مبحث الوحدانية أشرف مباحث هذا العلم ، ولذلك سمّي باسم مشتق منها ، فقيل :"علم التوحيد" ، ولعظم العناية به كثر التنبيه والثناء عليه في الآيات القرآنية ، كقوله تعالى :" وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ " والمراد به هنا عند المتكلمين : وحدة الذات والصفات والأفعال ، بمعنى عدم النظير فيها .[1]
وهذا إنما هو على سبيل الإجمال ، وإلا فإن اعتماد الأشاعرة في إثبات الوحدانية قد أخذ عدّة اتجاهات من حيث التقعيد والاستدلال .
فأبو الحسن الأشعري يثبت الوحدانية عن طريق دليل التمانع ، فيقول :" فإن قال قائل : لِم قلتم إن صانع الأشياء واحد ؟ قيل له : لأن الاثنين لا يجري تدبيرهما على نظام ولا يتسق على إحكام ، ولا بدّ أن يلحقهما العجز أو واحدًا منهما ، لأن أحدهما إذا أراد أن يحييَ إنسانًا وأراد الآخر أن يميته لم يخلُ أن يتمّ مرادهما جميعًا أو لا يتمّ مرادهما ، أو يتمّ مراد أحدهما دون الآخر . ويستحيل أن يتمّ مرادهما جميعًا ؛ لأنه يستحيل أن يكون الجسم حيًّـا ميتــًا في حال واحدة . وإن لم يتمّ مرادهما جميعًا وجب عجزهما ، والعاجز لا يكون إلهــًا ولا قديمًا . وإن تمّ مراد أحدهما دون الآخر وجب عجز من لم يتمّ مراده منهما ، والعاجز لا يكون إلهــًا ولا قديمًا . فدلّ ما قلناه على أن صانع الأشياء واحدٌ . وقد قال تعالى :" لو كان فيهما ءالهةٌ إلا الله لفسدتا " فهذا معنى احتجاجنا آنفًا " .[2]
وأبو بكر الباقلاني اعتمد أيضا على دليل التمانع ، ويرى أن وحدانية الربّ تعالى تعني : عدم مشابهته سبحانه أو مناظرته لأي من المخلوقات .
فيقول مقرّرا هذا الاستدلال :" فإن قيل : فيجوز ألّا يختلفا في الإرادة . قلنا : هذا القول يؤدي إلى أحد أمرين اثنين ، إما أن يكون ذلك لقول أحدهما للآخر : لا تُرِد إلا ما أُريد ، فيصير أحدهما آمرا والآخر مأمورا ، والمأمور لا يكون إلها . أو يكون كل واحد منهما لا يقدر أن يريد إلا ما أراده الآخر ، ولو كان ذلك كذلك لدلّ على عجزهما ، إذن لا يتم مراد أحدهما إلا بإرادة الآخر ، وإذا ثبت هذا بطل أن يكون الإله واحدا " .[3]
وكذلك صنع : عبدالقاهر البغدادي وأبو المظفر الإسفراييني ، حيث اعتمدا في إثبات الوحدانية على دليل التمانع ، وإن كان يقع بينهم اختلاف في طريقة تحصيل النتيجة .[4]
وأما أبو المعالي الجويني ، فيقرّر أن الباري واحد ، وأن الواحد في اصطلاح الأصوليين الشيء الذي لا ينقسم ، ولو قيل الواحد هو الشيء لوقع الاكتفاء بذلك . وذكر أنه قد يراد بتسميته واحدا أنه لا مثل له ولا نظير ، ويترتّب على اعتقاد حقيقة الوحدانية إيضاح الدليل على أن الإله ليس بمؤلّف .. .[5]
وفي تقريره لدليل التمانع سار على نهج من تقدّمه من علماء الأشاعرة ، كالباقلاني وغيره ، حيث ذكر حالات الاتفاق والاختلاف بين الآلهة .[6]
وأما أبو حامد الغزالي فيقرّر أن الواحد قد يطلق ويراد به : أنه لا يقبل القسمة ، أي لا كميّة له ولا جزء ولا مقدار . والباري تعالى واحد ، بمعنى : سلب الكميّة المصحّحة للقسمة عنه ؛ فإنه غير قابل للانقسام .
وقد يطلق ويراد به : أنه لا نظير له في رتبته ، كما تقول : الشمس واحدة ، والباري تعالى أيضاً بهذا المعنى واحد ؛ فإنه لا ندّ له . ثم يقرّر الغزالي بعد ذلك دليل التمانع وتقدير صوره الثلاث .[7]
وأما الفخر الرازي فيرى أن الوحدانية تطلق ويراد بها : نفي الكثرة في الذات ، ونفي الشريك .[8]
ويرى أن الواحد هو الشيء الذي لا ينقسم من جهة ما قيل له : إنه واحد .[9]
والرازي على طريقة أسلافه من الأشاعرة في إثبات الوحدانية عن طريق دليل التمانع .[10]
فيلاحظ اعتماد أغلب الأشاعرة على دليل التمانع ، ولهذا قال الآمدي :" وعليه اعتماد أكثر أئمتنا " .[11]
وذكر الفخر الرازي أنه أقوى أدلة المتكلمين .[12]
وقال ابن زكري التلمساني :" اعتماد أكثر الأئمة من أهل السّنة عليه " .[13]
فالخلاصة أن التوحيد عندهم يتألّف من ثلاث صفات : انتفاء الكثرة ، وانتفاء النّظير ، وانتفاء المماثلة .
والمراد بانتفاء الكثرة : نفي انقسام الذات والصفات والأفعال ، ويسمى عندهم بـ"الكم المتصل" .
والمراد بانتفاء النّظير : نفي تعدّد الذات والصفات والأفعال ، ويسمّى عندهم بـ"الكم المنفصل" . ويلزم منه : وجوب انفراده باختراع جميع الكائنات ، وامتناع استناد التأثير لغيره سبحانه في شيء من الممكنات .
والمراد بانتفاء المماثلة : نفي مماثلته سبحانه للحوادث .[14]
وأشهر هذه الصفات عندهم وأقواها هي القول بوحدانيته في الأفعال "الاختراع" ، وبهذه الصفة يفسّرون معنى الشهادة "لا إله إلا الله" . ومعنى توحيد الألوهية عندهم –إن ذُكر- فهو القدرة على الخلق والاختراع ، ولذا اشتهر عندهم أن معنى لا إله إلا الله ، أي : لا خالق إلا الله تعالى .[15]
والأشاعرة مختلفون في "الوحدة" هل هي من قبيل الصفات السلبية ، أو النفسية ؟
فجمهورهم على أنها من الصفات السلبية ، ونُقل عن أبي المعالي الجويني وغيره أنها من الصفات النفسية .[16]
وأما المعتزلة فتحدّثوا عن دليل الوحدانية في كثير من المناسبات ، لا سيّما عند ردودهم على الثنويّة المجوسيّة ، والنصارى القائلين بالتثليث ...
فهذا القاضي عبدالجبار يقرّر أن الله تعالى واحد لا ثاني له يشاركه فيما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا على الحدّ الذي يستحقه ، والإقرار . ولا بدّ من اعتبار هذين الشرطين : العلم والإقرار جميعا ؛ لأنه لو علم ولم يقرّ ، ولو أقرّ ولم يعلم لم يكن موحّدا .
ويقرّر أن الواحد قد يستعمل في الشيء ، ويراد به : أنه لا يتجزأ ولا يتبعّض على مثل ما نقوله في الجزء المنفرد أنه جزء واحد .. وقد يستعمل ويراد به : أنه يختص بصفة لا يشاركه فيها غيره ، كما يقال فلان واحد في زمانه .
والمعنى الثاني هو المراد بوصفه تعالى بأنه "واحد" فالمقصود مدح الله تعالى بذلك ، ولا مدح في أن يقال : لا يتجزأ ولا يتبعّض .[17]
والقاضي عبدالجبّار في هذا التقرير متابع لشيخه أبي هاشم الجبّائي ، فقد نقل عنه أنه يذهب إلى أن القديم يوصف بأنه واحد على ثلاثة أوجه :
(1) أنه لا يتجزأ ولا يتبعّض ، ولا يمتدح بذلك لمشاركة سائر الأشياء له .
(2) كونه متفردا بالقدم لا ثاني فيه .
(3) متفرّد بسائر ما يستحقه من الصفات النفسية من كونه قادرا لنفسه ، و عالما ، و حيّا .
ويرى الجبّائي أن الله تعالى إنما يمتدح على الوجهين الأخيرين دون الأول .[18]
وأما دليلهم في إثبات الوحدانية فهو دليل التمانع ، كما بسطه القاضي عبدالجبار .[19]
ويرى سيف الدين الآمدي أن سلوك مسلك دليل التمانع لإثبات الوحدانية مسلك ضعيف ، وعلّل ذلك بقوله :" منشأ الخبط ومحزّ الغلط في هذا المسلك : إنما هو في القول بتصور اجتماع إرادتيهما للحركة ، وليس ذلك مما يسلّمه الخصوم ، ولا يلزم من كون الحركة والسكون ممكنين ، وتعلق الإرادة بكل واحد منهما حالة الانفراد أن تتعلّق بهما حالة الاجتماع . و وزانه ما لو قدّرنا إرادة الحركة والسكون من أحدهما معا فإنه غير متصوّر ، ولو جاز تعلّقها بكل واحد منهما منفردا ، وليس هذا إحالة لما كان جائزا في نفسه ، فإن ما كان جائزا هو إرادته منفردا . والمحال إرادته في حال كونه مجامعا . وبهذا يندفع قول القائل : إن ما جاز تعلّق الإرادة به حالة الانفراد جاز تعلّقها به حالة الاجتماع ؛ إذ الاجتماع لا يصيّر الجائز محالا . وهذا الكلام بعينه في الإرادة هو أيضا لازم في صفة القدرة ، وأما القول بأن عجز أحدهما يستدعي عجزا قديما ومعجوزا عنه فيلزم مثله في القدرة ، فإن القادر قادر بقدرة قديمة ، فإن استدعى العجز قدم المعجوز عنه ؛ وجب أن تستدعى القدرة قدم المقدور " .[20]
ومن عجيب ما ذهب إليه المتكلمون لمّا قيل لهم : إن الإنسان يسمّى واحدا ، وكذلك الفرس . ومع ذلك فإنها مركّبة من أجزاء وأبعاض ، أجابوا عن ذلك بأن هذه التسمية إنما هي على سبيل المجاز لا الحقيقة . فيقول الجويني مقرّرا لهذا الجواب :" إن أهل اللسان من حيث تجوّزوا سمّوا الشخص إنسانا واحدا .. وإن رُدّ الأمر معهم إلى التحقيق ، وقرّر لهم انقسام الإنسان وتجزئه ، قالوا : هو أشياء وآحاد موجودات " .[21]
ومن خلال ما تقدّم من تقريرات المتكلمين وغيرها ، لا نجد من أنواع التوحيد ما هو مقرّر عندهم إلا : الربوبية ، والأسماء والصفات ، على ما في تقريرهما من أغلاط . بينما توحيد الألوهية الذي لأجل تقريره بعثت الرسل وأُنزلت الكتب ؛ لا يكاد يذكر في كتبهم إلا على سبيل النُّدرة .[22]