عدم ضبط الالفاظ والمصطلحات سبب للاختلاف والفتنة !!الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :-
من أهم اسباب اختلاف اهل الاسلام والتفرق والتحزب فيهم عدم ضبطهم المصطلحات والألفاظ وخالفوا بذلك الشرع واللغة والعقل ، الألفاظ والمصطلحات هي قوالب المعاني ، وهذه المعاني اذا لم تحكم ألفاظها وإصطلاحها أثر تأثيراً على مفاهيمها ، فإذا اختلفت المفاهيم انعدم تآلفها واجتماعها ، قال ابن تيمية ( والأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة لما فيها من لبس الحق بالباطل ، مع ما توقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة ، بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي تثبت معانيها فان كان مأثوراً حصلت به الألفة وما كان معروفاً حصلت به المعرفة ، فإذا لم يكن اللفظ منقولاً ولا معناه معقولاً ظهر الجفاء والأهواء !!) ( الدرء 1/271)


1- ( أهمية الألفاظ والمصطلحات ):-
ان للألفاظ والمصطلحات أهمية كبيرة في فهم الكتاب والسنة واجتماع كلمة المسلمين اذا هي ليست أمراً ترفياً أو هامشياً ..
أ- لقد جاءت النصوص الشرعية في الكتاب والسنة تحث على ضبط المصطلح واللفظ فمن هذه النصوص قوله تعالى ( ولا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) ومنها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لاناس يأتون بعده يسمون الخمر بغير اسمها وكذلك كراهيته لتغيير اسم صلاة العشاء بالعتمة وذلك حتى لا يستبدل الاسم الشرعي بغيره وهكذا في نصوص كثيرة يصعب حصرها واستيعابها ...
ب-قال ابن القيم { دلالة الأدلة اللفظية لا تختص بالقرأن والسنة بل جميع بني أدم يدل بعضهم بعضاً بالأدلة اللفظية والإنسان حيوان ناطق ، فالنطق ذاتي له ... فعلمهم الحكيم العليم تعريف بعضهم بعضاً مراده بالألفاظ كما قال تعالى ( الرحمن € علم القران € خلق الإنسان € علمه البيان € ) وقال تعالى ( وعلم آدم ألأسماء كلها ) وقال ( علم الإنسان ما لم يعلم ) فكانت حكمة ذلك التعليم تعريف مراد المتكلم فلو لم يحصل له المعرفة كان في ذلك أبطال لحكمة الله ، وإفساد لمصالح بني آدم ، وسلب الإنسان خاصيته التي ميزه بها على سائر الحيوان ..) ( الصواعق المرسلة - 641/2)
ج- ضرورة معرفة الألفاظ والمصطلحات كل الفنون والعلوم على مراد أهلها ، وألفاظ القران والرسول على وجه الخصوص لان معرفتها دين وإيمان ، قال ابن تيمية ( وهذا الحد هم متفقون على أنه من الحدود اللفظية، مع أن هذا هو الذي يحتاج إليه في إقراء العلوم المصنفة، بل في قراءة جميع الكتب، بل في جميع أنواع المخاطبات‏.‏ فإن من قرأ كتب النحو، أو الطب، أو غيرهما لابد أن يعرف مراد أصحابها بتلك الأسماء، ويعرف مرادهم بالكلام المؤلف، وكذلك من قرأ كتب الفقه والكلام والفلسفة وغير ذلك، وهذه الحدود معرفتها من الدين في كل لفظ هو في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم قد تكون معرفتها فرض عين ، وقد تكون فرض كفاية؛ ولهذا ذم الله ـ تعالى ـ من لم يعرف هذه الحدود بقوله‏:‏ ‏{‏الْأَعْرَاب أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 97‏]‏ ) ( الفتاوى - 9/ 95)
ويقول ( ومعرفتنا بلغات الناس وإصطلاحاتهم نافعة في معرفتنا مقاصدهم ثم نحكم فيها كتاب الله تعالى فكل من شرح كلام غيره وفسره وبين تأويله فلا بد من معرفة حدود الأسماء التي فيه ) ( الفتاوى - 11/25)
وهذا الكلام يدل على ان الألفاظ والمصطلحات وسائل لفهم مقصود ومراد المتكلم وعلى قدر الإخلال بالوسيلة ضبطاً واعتناءاً واستحضاراً يفوتنا المقصود والمراد من كلام المتكلم !!
ج - ومما يدل على اهمية ضبط الألفاظ والمصطلحات ان كثيراً من اهل الأهواء والبدع فضلاً عن الفلاسفة والعلمانيين والليبراليين يتسترون خلف الألفاظ والمصطلحات الشرعية وقصدهم من ذلك إيهام القارئ والمستمع أنهم على طريق الشرع وأهل العلم والدين والإيمان
قال ابن تيمية ( ولغة هؤلاء المصنفين منهم كانت من هذا النمط فأما الألفاظ التي أنزل الله بها القرآن الذي تلاه رسول الله على المسلمين وأخذوا عنه لفظه ومعناه وتناقل ذلك أهل العلم بالكتاب والسنة بينهم خلف عن سلف فهذه لا يجوز أن يرجع في معانيها إلى مجرد أوضاعهم ولا ريب أن القوم أخذوا العبارات الإسلامية القرآنية والسنية فجعلوا يضعون لها معاني توافق معتقدهم ثم يخاطبون بها ويجعلون مراد الله تعالى ورسوله من جنس ما أرادوا فحصل بهذا من التلبيس على كثير من أهل الملة ومن تحريف الكلم عن مواضعه ومن الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته ما الله به عليم ولهذا قد يوافقون المسلمين في الظاهر ولكنهم في الباطن زنادقة منافقون ) ( الفتاوى 11/ 231)
وقال ( وهم يعبرون بالعبارات المعروفة عند المسلمين عن المعاني التي تلقوها عن الفلاسفة وضعاً وضعوه ، ثم يريدون أن ينزلوا كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما وضعوه من اللغة والاصطلاح ) ( بغية المرتاد 218)
وقال ( لكن ليس المقصود هنا إلا أن أبا حامد وأمثاله يقرون بأن جعل هذه المعاني الفلسفية مسميات بهذه الأسماء النبوية هو من كلام هؤلاء المتفلسفة
فإذا وجد مثل ذلك في كلام واحد من هؤلاء علم أنه احتذى حذوهم لئلا يغتر بذلك من قد ينازع في ذلك أو يرتاب فيه أو لا يخطر بقلبه لحسن ظنه بمن يتكلم بالعبارات الإسلامية النبوية أنه لا يريد بها ما يعنيه هؤلاء المتفلسفة وما أحسن ما قال شيخ الإسلام الهروي فيمن هو أحسن حالا من هؤلاء من أهل الكلام قال أخذوا مخ الفلسفة فلبسوه لحاء السنة
وبسبب هذا ضل طوائف ممن لم ينكشف لهم حقيقة مقاصد الناس فلا يفهمون ما يقصده الأنبياء والرسل ولا ما يقصده هؤلاء حتى يقابلوا بين هذه المعاني وتلك فيعلمون هل هي متفقة متشابهة ام مختلفة بل متضادة بل قد يحرفون كلام أئمتهم إذا ظهر المسلمون فيصرفونه إلى ما يقبله المسلمون !! ) ( بغية المرتاد -219)
وهذا يبين لنا أهمية الحذر والانتباه من الانقياد والانسياق خلف من يستعمل ألفاظ الأنبياء والمرسلين بمعاني باطلة مردودة من اهل الأهواء والبدع بله العلمانيين والليبراليين الذين اتخذو هذه المصطلحات الشرعية جنة لهم ومصيدة يتصيدون بها اهل الاسلام الى مناهجهم ومذاهبهم الباطلة ، وانصح كل طالب علم ان يقرأ كتاب ( بغية المرتاد ) لشيخ الاسلام ليتبين له بطريقة عملية كيف كشف شيخ الاسلام أسلوب الفلاسفة والمتكلمين في هذا الباب وفيه قواعد وفوائد لتحقيق هذه المسألة العظيمة ...
2- ( ضوابط الألفاظ والمصطلحات ):-
وهذا هو المقصود بمقالي وهي مهمة جداً


الضابط الأول :- ( حالات المصطلح والمعنى )
استعمال مصطلح معين في معنى من المعاني أو وضع هذا المعنى لهذا اللفظ لا يخلوا من ثلاث حالات :-
1- ان يكون المعنى صحيحاً موافقاً للكتاب والسنة واللفظ يدل عليه = ( حكم هذه الحالة لا حرج من ذلك لان المسألة اصطلاحية ولا مشاحة في الاصطلاح ، قال ابن تيمية ( وكان احمد لا يكره اذا عرف معاني الكتاب والسنة أن يعبر عنها بعبارات أخرى اذا احتيج الى ذلك بل هو قد فعل ذلك ) ( الدرء - 7/ 55)
2- ان يكون اللفظ شرعياً والمعنى باطلاً =( فهذا حكمه قبول اللفظ وعدم قبول المعنى ولا استعمال اللفظ الشرعي له ، قال ابن تيمية ( المعتزلة ومن وافقهم تسمي نفي القدر عدلاً ... ومثل هذه البدع كثير جداً ! يعبر بألفاظ الكتاب والسنة عن معانٍ مخالفة لما أراده الله ورسوله بتلك الألفاظ ) ( التفسير الكبير -7/429)
3- ان يكون اللفظ والمعنى شرعياً فهذا حكمه قبول اللفظ والمعنى لأن هذا هو الأصل ..
قال ابن تيمية ( :والتعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بغيرها فان ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها وهي تنزيل من حكيم حميد والأمة متفقة عليها ويجب الإقرار بمضمونها قبل أن تفهم وفيها من الحكم والمعاني مالا تنقضي عجائبه ) ( النبوات )
الضابط الثاني :- ( الألفاظ والمصطلحات نوعان )
قال ابن تيمية ( أن نقول الأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان: النوع الأول: نوع مذكور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أهل الإجماع، فهذا يجب اعتبار معناه، وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحاً استحق صاحبه المدح، وإن كان ذماً استحق الذم، وإن أثبت شيئا وجب إثباته، وإن نفى شيئا وجب نفيه، لأن كلام الله حق، وكلام رسوله حق، وكلام أهل الإجماع حق
وهذا كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص 1-4]، وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِن} [الحشر 22-23]، ونحو ذلك من أسماء الله وصفاته
وكذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى 11]، وقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} [الأنعام 103 ]، وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة 22-23]، وأمثال ذلك مما ذكره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا كله حق
النوع الثاني: الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع
فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه يوافق الشرع ) ( الدرء - 1- 140)
الضابط الثالث ( كيفية استعمال المصطلحات في مقام الدعوة والمناظرة )
قال ابن تيمية ( إما أن نمتنع عن التكلم بالألفاظ المبتدعة وإما نقبل ما وافق معناه الكتاب والسنة
وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة ـ كما ذكر ـ فالمخاطب لهم إما أن يفصل ويقول : ما تريدون بهذه الألفاظ ؟ فإن فسروها بالمعني الذي يوافق القرآن قبلت وإن فسروها بخلاف ذلك ردت
وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا فإن امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسونه إلي العجز والانقطاع وإن تكلم بها معهم نسبوه إلي أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقا وباطلا وأوهموا الجهال باصطلاحهم : أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها فحينئذ تختلف المصلحة 1- فإن كانوا في مقام دعوة الناس إلي قولهم وإلزامهم به أمكن أن يقال لهم : لا يجب علي أحد أن يجيب داعيا إلا إلي ما دعا إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن علي الناس إجابة من دعا إليه ولا له دعوة الناس إلي ذلك ولو قدر أن ذلك المعني حق
وهذه الطريق تكون أصلح إذا لبس ملبس منهم علي ولاة الأمور وأدخلوه في بدعتهم كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك فكان من أحسن إلي مناظرتهم أن يقال : ائتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلي ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلي ما لم يدل عليه الكتاب والسنة
وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء وإذا ردوا إلي عقولهم فلكل واحد منهم عقل وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم : أن العقل أداه إلي علم ضروري ينازعه فيه الآخر فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة
وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلي المحنة وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة علي قولهم فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى { خالق كل شيء } [ الأنعام : 102 ] وقوله { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } [ الأنبياء : 2 ] وقوله النبي صلى الله عليه و سلم [ تجيء البقرة وآل عمران ] وأمثال ذلك من الأحاديث مع ما ذكروه من قوله صلي الله عليه وسلم [ إن الله خلق الذكر ] أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل علي مطلوبهم
ولما قالوا : ما تقول في القرآن : أهو الله أو غير الله ؟ عارضهم بالعلم فقال : ما تقولون في العلم : أهو الله أو غير الله ؟ ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث وكان من أحذقهم بالكلام : ألزمه التجسيم وأنه إذا أثبت لله كلاما غير مخلوق لزم أن يكون جسما
فأجابه الإمام أحمد بأن هذا اللفظ لا يدري مقصود المتكلم به وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به ولا بمدلوله وأخبره أني أقول : هو أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فبين أني لا أقول : هو جسم وليس بجسم لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإسلام فليست هذه من الحجج الشرعية التي يجب علي الناس إجابة من دعا إلي موجبها فإن الناس إنما عليهم إجابة الرسول فيما دعاهم إليه وإجابة من دعاهم إلي ما دعاهم إليه الرسول صلي الله عليه وسلم لا إجابة من دعاهم إلي قول مبتدع ومقصود المتكلم بها مجمل لا يعرف إلا بعد الاستفصال والاستفسار فلا هي معروفة في الشرع ولا معروفة بالعقل إن لم يستفسر المتكلم بها
فهذه المناظرة ونحوها هي التي تصلح إذا كان المناظر داعيا
2- وأما إذا كان المناظر معارضا للشرع بما يذكره أو ممن لا يمكن أن يرد إلي الشريعة مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلي ما يزعمه من العقليات أو ممن يدعي أن الشرع خاطب الجمهور وأن المعقول الصريح يدل علي باطن يخالف الشرع ونحو ذلك أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء ـ فهؤلاء لا بد في مخاطبتهم من الكلام علي المعاني التي يدعونها : إما بألفاظهم وإما بألفاظ يوافقون علي أنها تقوم مقام ألفاظهم
وحينئذ فيقال لهم : الكلام إما أن يكون في الألفاظ وإما أن يكون في المعاني وإما أن يكون فيهما فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع بل يسميه علة وعاشقا ومعشوقا ونحو ذلك فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلي العبارة الشرعية كان حسنا وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولي من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفا من التشبه بهم في الثياب
3-وأما إذا كان الكلام مع من قد يتقيد بالشريعة فإنه يقال له : إطلاق هذه الألفاظ نفيا وإثباتا بدعة وفي كل منهما تلبيس وإيهام فلا بد من الاستفسار والاستفصال أو الامتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات
وقد ظن طائفة من الناس ان ذم السلف والأئمة للكلام وأهل الكلام كقول أبي يوسف : من طلب العلم بالكلام تزندق وقول الشافعي : حكمي في أهل الكلام : أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل علي الكلام وقوله : لقد اطلعت من أهل الكلام علي شيء ما كنت أظنه ولأن يبتلي العبد بكل ذنب ما خلا الإشراك بالله خير له نظر في الكلام إلا كان في قلبه غل علي أهل الإسلام وأمثال هذه الأقوال المعروفة عن الأئمة ـ ظن بعض الناس أنهم إنما ذموا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة كلفظ الجوهر والسجم والعرض وقالوا : إن مثل هذا لا يقتضي الذم كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها أو سلاحا يحتاجون إليه لمقاتلة العدو وقد ذكر هذا صاحبالإحياء وغيره
وليس الأمر كذلك بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث ألفاظه فذموه لاشتماله علي معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة ومخالفته للعقل الصريح ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة وكل ما خالف الكتاب والسن فهو باطل قطعا ثم من الناس من قد يعلم بطلانه بعقله ومنهم من لا يعلم ذلك ) ( الدرء -1- 133)
وهذا الكلام النفيس نقلته بطوله لأهميته اليوم في معرفة الاحوال والمقامات التي يقوم بها الداعية في مناظرته ودعوته لمختلف طبقات المدعوين ...
الضابط الرابع :-( سبب تحريف معنى اللفظ والمصطلح )
قال ابن تيمية ( ومَنْ لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها،ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم،وعادتهم في الكلام ؛ وإلا حرّف الكلم عن مواضعه،فإن كثيراً من الناس ينشأ على اصطلاح قوم ،وعادتهم في الألفاظ،ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله، أو رسوله،أو الصحابة،فيظن أنّ مراد الله، أو رسوله،أو الصحابة بتلك الألفاظ،مايريدُ ه بذلك أهلُ عادته واصطلاحه،ويكون مرادُ الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك ؛وهذا واقع لطوائف من الناس،من أهل الكلام، والفقه، والنحو،والعامة ،وغيرهم ) ( الفتاوى /1/243)
قال ابن تيمية ــ رحمه الله ــ : ( ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله، أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث،فيريد أن يفسِّر كلام الله بذلك الاصطلاح ،ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها ) (12/ 106)
قال ابن القيم - رحمه الله - :(...... تنزيل كلام الله وكلام رسوله، على الاصطلاحات التي أحدثها أرباب العلوم، من الأصوليين، والفقهاء، وعلم أحوال القلوب، وغيرهم، فإن لكل من هؤلاء اصطلاحات حادثة، في مخاطباتهم وتصانيفهم، فيجيء من قد ألف تلك الاصطلاحات الحادثة، وسبقت معانيها إلى قلبه فلم يعرف سواها، فيسمع كلام الشارع فيحمله على ما ألفه من الاصطلاح؛ فيقع بسبب ذلك في الفهم عن الشارع، ما لم يرده بكلامه، ويقع من الخلل في نظره ومناظرته ما يقع، وهذا من أعظم أسباب الغلط عليه....) ( مفتاح دار السعادة 2/ 172)
الضابط الخامس :- ( اختلاف معنى اللفظ والمصطلح بحسب الأفراد والاقتران والإطلاق والتقييد )
وهذا ضابط مهم جداً حصل بسبب الإخلال به غلط على الشريعة ، قال ابن تيمية ( ومن علم ان دلالة اللفظ تختلف بالأفراد والاقتران ، كما في اسم الفقير والمسكين والمعروف والمنكر والبغي وغير ذلك من الأسماء ، وكما في لغات سائر العالم ، عربها وعجمها ، زاحت عنه الشبهة في هذا الباب ) ( الفتاوى -7/576)
وقال ( ان دلالة الاسم تنوعت بالأفراد والاقتران كلفظ الفقير والمسكين ... ومن هذا الموضع نشأ نزاع واشتباه ) ( الفتاوى 7/ 648) تأمل معي عدم ضبط هذه القاعدة أدى الى نزاع واختلاف بين اهل الاسلام !!
الضابط السادس :-( كيفية التعامل مع الالفاظ والمصطلحات المجملة المحدثة )
التعامل معها يكون بالاستفصال والاستفسار عن مقصود صاحبه بها فان كان معنى صحيح قبله وان كان معنى باطل رده ، والرد او القبول بلا استفصال واستفسار ينتج عنه إثبات باطل او نفي حق فيحدث تنازع واختلاف ، قال ابن تيمية ( فقد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء ..) ( الدرء 1/244)
وقال ( ولأن هذه الالفاظ فيها إجمال واشتباه وتحتمل حقاً وباطلاً صار من نفاها مخطئاً لأنه نفى الحق فيها ، ومن اثبتها صار أيضاً مخطئاً لأنه أثبت الباطل الذي فيها ) ( الدرء 1/238)
واعتبر أخي بما يقع الآن من اختلاف بين اهل السنة والجماعة ويكون السبب في الاختلاف الإجمال في الالفاظ والمصطلحات ولو استُفصل واستُفسر عن المقصود لرفع الخلاف
وقال ( أما الشرع فان علينا ان نؤمن بما قاله الله ورسوله ، فكل ما ثبت ان الرسول صلى الله عليه وسلم قاله فعلينا ان نصدق به وان لم نفهم معناه ، وما تنازع فيه الأمة من الالفاظ المجملة كلفظ التحيز والجهة والجسم .. وأمثال ذلك مما لم يتبين معناه بمجرد إطلاقه فان كان أراد معى صحيحاً موافقاً لقول المعصوم كان ما أراده حقاً، وان كان أراد به معنى مخالفاً لقول المعصوم كان باطلاً ) ( التدمرية 65)
وقال ( اما نفع الاستفسار في العقل : فمن تكلم بلفظ يحتمل معاني لم يقبل قوله ولم يرد حتى نستفسره ونستفصله حتى يتبين المعنى المراد ، ويبقى الكلام في المعاني العقلية لا في المنازعات اللفظية ) ( الدرء -1/299)
وهنا تنبيه مهم في بيان علة كراهية السلف الصالح للألفاظ والمصطلحات المجملة ان العلة هي اشتمالها على المعاني الباطلة وليس مجرد انها محدثة ، قال ابن تيمية ("ولهذا لما سئل أبو العباس بن سريج عن التوحيد فذكر توحيد المسلمين وقال: وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض وإنما بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك ولم يرد بذلك أنه أنكر هذين اللفظين فإنهما لم يكونا قد أُحدِثا في زمنه وإنما أراد إنكار ما يُعنى بهما من المعاني الباطلة ) ( التفسير الكبير -7/392)
الضابط السابع :-( مراعاة الالفاظ والمصطلحات الشرعية والمأثورة ما وجدت الى ذلك سبيلا )
قال ابن تيمية في مناظرة الواسطية - وهي مليئة بالفوائد لعل لي عودة إليها في مقال قادم - ( وذكرت في غير هذا المجلس أني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة فنفيت ما ذمه الله من التحريف ولم أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات لأنه لفظ له عدة معان كما بينته في موضعه من القواعد فإن معنى لفظ التأويل في كتاب الله غير معنى لفظ التأويل في اصطلاح المتأخرين من أهل الأصول والفقه وغير معنى لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير والسلف ولأن من المعاني التي قد تسمى تأويلا ما هو صحيح منقول عن بعض السلف فلم أنف ما تقوم الحجة على صحته إذ ما قامت الحجة على صحته وهو منقول عن السلف فليس من التحريف وقلت له أيضا ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال ليس كمثله شيء وقال هل تعلم له سميا فكان أحب إلي من لفظ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله وإن كان قد يعنى بنفيه معنى صحيح كما قد يعنى به معنى فاسد ..) ( الفتاوى -3/ 88)
والله الموفق لا رب سواه ...