قال تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ الْحُجَّةِ وَالْقِيَامَ بِهَا يَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ يَرْفَعُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: بِالْعِلْمِ. فَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ وَالْأَقْدَارِ عَلَى قَدْرِ مُعَامَلَةِ الْقُلُوبِ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فَكَمْ مِمَّنْ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَآخَرُ لَا يَنَامُ اللَّيْلَ وَآخَرُ لَا يُفْطِرُ وَغَيْرُهُمْ أَقَلُّ عِبَادَةً مِنْهُمْ وَأَرْفَعُ قَدْرًا فِي قُلُوبِ الْأُمَّةِ فَهَذَا كُرْزُ بْنُ وَبَرَةَ وكهمس وَابْنُ طَارِقٍ يَخْتِمُونَ الْقُرْآنَ فِي الشَّهْرِ تِسْعِينَ مَرَّةً وَحَالُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ سِيرِين وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْقُلُوبِ أَرْفَعُ. وَكَذَلِكَ تَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ لَبِسَ الصُّوفَ وَيَهْجُرُ الشَّهَوَاتِ وَيَتَقَشَّفُ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ لَا يُدَانِيهِ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ أَعْظَمُ فِي الْقُلُوبِ وَأَحْلَى عِنْدَ النُّفُوسِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِقُوَّةِ الْمُعَامَلَةِ الْبَاطِنَةِ وَصَفَائِهَا وَخُلُوصِهَا مِنْ شَهَوَاتِ النُّفُوسِ وَأَكْدَارِ الْبَشَرِيَّةِ وَطَهَارَتِهَا مِنْ الْقُلُوبِ الَّتِي تُكَدِّرُ مُعَامَلَةَ أُولَئِكَ وَإِنَّمَا نَالُوا ذَلِكَ بِقُوَّةِ يَقِينِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكَمَالِ تَصْدِيقِهِ فِي قُلُوبِهِمْ وَوُدِّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنَّ أَرْفَعَ دَرَجَاتِ الْقُلُوبِ فَرَحُهَا التَّامُّ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْتِهَاجُهَا وَسُرُورُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} الْآيَةَ.تفسير سورة المجادلة لشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله