في صحيح مسلم برقم (1374)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللّهُمّ إنّإبراهيمَ حَرّمَ مَكّةَ فَجَعَلَها حَرَمًا، وإنّي حَرّمتُ المَدينَةَ حَرامًا ما بَينَ مَأزِمَيها،(وال أزم: الجبل) أن لا يُهراقَ فيها دَمٌ، ولا يُحمَلَ فيها سِلاحٌ لِقِتالٍ، ولا تُخبَطَ فيها شَجَرَةٌ إلّا لِعَلفٍ)). فظاهر هذا الحديث أن إبراهيم عليه السلام هو الذي حرم مكة، ولم تكن حراما من قبل. وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : ((إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي , وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ؛ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ , وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ , وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا ، وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ)). وظاهر هذا الحديث أن مكة محرمة بتحريم الله لها يوم خلق السموات والأرض. قال النووي رحمه الله في ((المجموع شرح المهذب)): (( (المسألة الثانية ) حكى الماوردي خلافا للعلماء في أن مكة مع حرمتها ، هل صارت حرما آمنا بقول إبراهيم عليه السلام ؟ أم كانت قبله كذلك ؟ فمنهم من قال : لم تزل حرما ، ومنهم من قال : كانت مكة حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد ، وإنما صارت حرما بدعوته ، كما صارت المدينة حرما بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانت حلالا ، واحتج هؤلاء بحديث أبي سعيد الخدريرضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جملة حديث طويل : { اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما ، وإني حرمت المدينة حراما مأزميها أن لا يراق فيها دم ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف } " رواه مسلمفي آخر كتاب الحج من صحيحه ، وفي رواية لمسلمعن أبي سعيدأيضا أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { إني حرمت ما بين لابتي المدينة كما حرم إبراهيم مكة } " وعن جابررضي الله عنه قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ، ما بين لابتيها لا يعضد عضاهها ولا يصاد صيدها } " رواه مسلم. وعن أنسأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة ، وما بين لابتيها } " رواه البخاري ومسلمهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم، وفي رواية للبخاريأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشرف على المدينة قال : " { اللهم إني أحرم ما بين جبليها ، مثل [ ص: 464 ] ما حرم به إبراهيم مكة } " . وعن رافع بن خديج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها ، يريد المدينة} " رواه مسلم.

وعن عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " { إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها ، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة } " رواه البخاري ومسلم.

واحتج القائلون بأن تحريمها لم يزل من حين خلق الله السموات والأرض بحديث ابن عباسأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : " { هذا بلد حرمه الله - تعالى - يوم خلق السموات والأرض ، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة } " رواه البخاري ومسلموعن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس } رواه البخاري ومسلم، ومن قال بهذا أجاب عن الأحاديث السابقة بأن إبراهيم عليه السلام أظهر تحريمها بعد أن كان خفيا مهجورا لا يعلم ، لا أنه ابتدأه ، ومن قال بالمذهب الأول أجاب عن حديث ابن عباسبأن المراد أن الله - تعالى - كتب في اللوح المحفوظ أو غيره أن مكة سيحرمها إبراهيم ، أو أظهر ذلك للملائكة ، (والأصح) من القولين أنها ما زالت محرمة من حين خلق الله - تعالى - السموات والأرض والله أعلم)) .