توسعة وجوه معاني القرآن
د. الشريف حاتم العوني

الجمعة 01/03/2013
صح عن عدد من السلف وصف القرآن الكريم بأنه: (حَـمّالٌ ذو وجوه)، فما هي طبيعة هذه الوجوه التي يحتملها القرآن الكريم؟
من هذه الوجوه:
1- احتمال بعض آياته لاختلاف الأفهام وتعددها، دون إنكارٍ على أيِّ فهمٍ منها، ودون قطعٍ بخطأِ واحدٍ منها. وهو الاحتمال المتحقق في الدلائل الظنية الموجودة في كثير من آيات الكتاب الكريم . بخلاف الدلائل اليقينية فيها، والتي لا تقبل تَـعَـدُّدَ الأفهام، ولا تُجيز الاختلافَ فيها . وقد تبلغ المعاني الظنية المتعددة في درجة قوتها حدا قريبا من التساوي، عند المفسر، مما يجعله عاجزا عن الترجيح بينها، ولا يكون لديه فيها راجحٌ ومرجوح، فيقول: ولعل الله تعالى أراد كذا، أو أراد كذا! فإن بلغ التقارب بين المعنيين حدَّ التساوي، فسوف يقول المفسر حينئذ: تحتمل الآية معنيين، كلاهما صحيح! وهذا هو الوجه التالي :

2 - احتمال التركيب في عبارة الآية لأكثر من تفسير صحيح، وقد يستويان في المرجحات، فيجب حمل الآية عليهما كليهما .
كاختلاف معنى الآية باختلاف الوقف فيها: كاختلاف المعنى في الوقف عند لفظ الجلالة (إِلَّا اللهُ) أو عند لفظ (الْعِلْمِ) في قوله تعالى (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) . وكاختلاف المعنى باختلاف الوقف على (لَا رَيْبَ) أو على ( فِيهِ ) في قوله تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ).
3-المشترك اللفظي: إذا لم يُرجِّحِ السياقُ إرادةَ أحدهما على الآخر .
كقوله تعالى (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ)، فـ(عسعس) من الأضداد، والأضداد صورة من صور المشترك، فهي تأتي بمعنى: أقبل، وبمعنى: أدبر أيضا، والآية ليس فيها ما يرجح أحد المعنيين على الآخر، فقد يكون الله تعالى قد أقسم بالليل إذا أقبل، وقد يكون أقسم بالليل إذا أدبر، وقد يكون سبحانه أراد القسم بكليهما معًا. ومع عدم وجود المرجح، نرجح الاحتمال الأخير، فنقول : أقسم الله تعالى بالليل في حالتي الإقبال والإدبار معًا.

4- القراءات ذات المعاني المختلفة، حتى لقد قرر العلماء في ذلك قاعدة شهيرة تبين عظم أثر القراءات في تعدد المعاني، حيث قالوا: إن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة، كان لهما حكم الآيتين .
وقد صُنف في بيان أثرها في التفسير عدد من المصنفات.
وهذا كاختلاف التفسير باختلاف القراءة في قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)، ففي قراءة أخرى: (نُشُـرًا)، ويختلف معنى كل قراءة عن الأخرى اختلافا تاما.

5- أفراد العمومات الذين يشملهم اللفظ العام، فقد يغيب عن الذهن شمولُ اللفظ العام لبعض أفراده في زمن من الأزمان وعند بعض المفسرين، وتحضر تلك الأفراد في زمن آخر، ويتضح عند المفسرين شمولُ العموم لها . وذلك كقوله تعالى ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) . فقوله تعالى (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أتاح فيه عمومُ اسم الموصول (ما) استحضارَ وسائل التنقل الحديثة (من سيارات وطائرات وقطارات)، في سياق تذكير الله تعالى لنا بإنعامه علينا بنعمة المركوبات، مع أن هذه المركوبات الحديثة لم تكن تخطر ببال السلف، ولا ببال أحد قبل اختراعها في العصر الحديث . وهي اليوم أكثر حضورا في شعور الناس، وأشد في الامتنان بها: من تلك المركوبات المعينة بالاسم من وسائل التنقل القديمة (الخيل والبغال والحمير) . ووازنوا الآن بين فهمنا نحن لهذه الآية وفهم السلف لها، لتعلموا الأثر الواضح والفرق الكبير بين فهم السلف لذلك العموم وفهمنا نحن، مما لم ينتج عن قصور في فهم السلف، لكنه نتج عن عظمة كلام الله تعالى وعن تعدد وجوه فهمه، بسبب العمومات التي قد يعجز العقل عن حصر كل أفرادها، حين يكون لذلك الحصر أثرٌ في فهم المراد من كلام الله عز وجل.

6- الآيات التي تتضمن أصولا كليةً وقواعدَ فقهيةً وأُسُسًا فكريةً أو معرفيةً أو قضائيةً عدليةً، لتحتكم العقولُ إليها في الوقائع المتجددة، وفي الصور الكثيرة جدا التي لا تكاد تتناهى . خاصة عندما تكون تلك الآيات هي النص الوحيد من نصوص الوحي (كتابا وسنة) الذي يُبينُ هدايةَ الله تعالى في بعض تلك الوقائع والصور، فتأتي كليةُ تلك الآيات لتتيح استخراجَ أحكامٍ شرعية، ولتُوفِّـقَ المستنبطين إلى استلهام هداياتٍ ربانية لا تكاد تنحصر . ومن أمثال هذه الآيات الكلية : قوله تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، وقوله تعالى (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )، وقوله تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وقوله تعالى (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ)، (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا). فهذه كلها أصول كلية، وقواعد عامة، تتيح الاجتهاد في تنزيلها على الوقائع التي لا تكاد تنتهي؛ إلا بنهاية الدنيا .

7- المتشابه الذي يُحمل على المحكم، فهو من جهة: حمال ذو وجوه، ولذلك يرجع إليه الذين في قلوبهم مرض، ليحملوه على ما يوافق هواهم من وجوهه. وهو من وجه آخر لا يحتمل إلا المعنى الذي تحدده المحكمات. وبهذا تتبين توسعة كتاب الله تعالى في الفهم، في كل هذه الوجوه ؛ إلا الوجه الأخير منها، الذي لا يتوسع به إلا الذين في قلوبهم زيغ، ممن يقلبون منهج الحق في المتشابه، فلا يُرجعون المتشابه إلى الـمُحْـكَم، بل يُرجعون المحكم إلى المتشابه، ليشتبه بهذا المنهج الباطلِ (المتشابهُ) و(المحكمُ) جميعًا، ويَضِلَّ الناسُ بهما معًا، وهما اللذان كان يجب أن يهتدي بهما جميعا الناسُ كلهم! ومع كثرة وجوه معاني القرآن الكريم، على ما سبق بيانه؛ إلا أن ذلك لا يبيح التجرؤ على معانيه بغير علم ! فهي وجوه تُوسِّعُ للعالم التقي وحده، وتوجب عدم تناهي هداية كتاب الله، وتُحقِّق وصفَ الكتاب العزيز: من أن عجائبه لا تنقضي، وأن حِكَمَه لا تنفد، وأن جديده لا يَخْـلَـقُ مع كثرة الترديد؛ ولكنها على غير العالم التقيّ صعوبةٌ توجب عليه التوقف والتخوف وعدم الكلام بغير علم .
ومن اللطائف أن أحد أقوى طرق أثر (القرآن ذو وجوه) هو ما صحَّ عن أبي قِلابة عبدالله بن زيد الجرمي أنه رواه مرسلا عن أبي الدرداء (رضي الله عنه)، أنه قال: «إنك لن تفقه كلَّ الفقه، حتى ترى للقرآن وجوهًا»، فسأل حماد بن زيد شيخه أيوب السختياني عن معناه، قائلا «قلت لأيوب : أرأيت قوله : حتى ترى للقرآن وجوها ؟ فأُسْكِتَ يتفكَّر . قال حماد: فقلت: هو أن يرى له وجوهًا , فيهاب الإقدامَ عليه؟ قال: هو هذا، هو هذا» . والحقيقة : أن هذه الهيبة من تفسير كتاب الله العزيز إن كانت هي إحدى ما تفيده حقيقةُ كون القرآن الكريم ذا وجوه متعددة من المعاني، فليست هي أظهر إفاداتها، خاصة لأهل العلم ؛ خلافا لما يوحي به جوابُ أيوب السختياني (رحمه الله)! بل المعنى الأظهر لعبارة «إنك لن تفقه كل الفقه، حتى ترى للقرآن وجوها» هي: أنك لن تفقه الفقه الحقيقي حتى تدرك سعة ما يحتمله النص القرآني من المعاني، وأن تستخرج ما تقدر عليه من كنوزه المخبوءة، وبذلك فقط سوف تَفقهُ كل الفقه (حسب تعبير الأثر)! أما لو كان عامة شأن المتفقه أن يهاب تفسير القرآن، وأن يتحير في فهم مراد الله تعالى، بسبب تعدد معانيه وغزارة مراميه، فكيف إذن سيفقهه بعض الفقه ( ا كل الفقه)؟! وبذلك يتبين أن تفسير أيوب (رحمه الله) لكلمة أبي الدرداء (رضي الله عنه) اقتصر فيه على أحد معانيها، ولم يذكر أهم معانيها وأظهر مراد يقتضيه لفظها، ويقتضيه معناها من كون (الفقه) لا يتحقق بالتحيّر والتردد والتوقف، ويقتضيه الجمعُ بين وصفين ثابتين للقرآن الكريم: وَصْفِه بتعدد المعاني وأنه حمال ذو وجوه، ووَصْفِه الأظهر وخاصيته الأشهر من كونه مبينا واضحا: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ)، (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ)، (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) . وإننا لكما نخشى من تجرؤ الجهال والذين في قلوبهم مرض على كتاب الله، فإننا نخشى من جمود العلماء وأهل التقوى، ومن تشريع الجمود والتقليد، بحجة هيبة القرآن الكريم!

ولَـجمودُ أهل القرآن أخطر على القرآن من تطاول الجهلاء؛ لأن الجمود هو الذي يتيح للفوضى باسم الاجتهاد أن تدعي تسور مراقي الاجتهاد؛ ولأنه لو وُجد في الأمة العلماء المجتهدون لن يجد الجاهلون سوقا لهم في الأمة، ولا أمكن لمقولات الجهل أن تبرز فيها وتحرف معاني كلام الله تعالى، باسم رفض التَّـبَـعِـيّـ ةِ والتقليد!
وأخيرا: ما هاب القرآنَ من لم يأتمر بأمره، ومن لم يعمل بموجب إنزاله وبالهدف من إكرامنا به : بتدبره والتعمق في فهمه وفي اقتباس أنواره الظاهرة والخفية: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).