وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَاناً 19 ربيع ثاني 1434 هـ
الْحَمْدُ للهِ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدَا , وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارَاً بِهِ وَتَوْحِيدَا , وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً مَزِيدَا .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنِّي لا أَدْرِي كَيْفَ أَطْرُقُ هَذَا الْمَوْضُوعَ ؟ وَلا بِأَيِّ شَيْءٍ أَبْدَأُ ؟ وَأَحْتَارُ كَيْفَ تَكُونُ طَرِيقَةُ الْكَلامِ فِيهِ ! هَلْ أَتَكَلَّمُ بُلُغَةِ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ ؟ أَمْ أُلْقِيهِ بِهَيْئَةِ النِّذَارَةِ وَالتَّبْشِيرِ ؟
إِنَّهُ مَوْضُوعٌ جَدِيرٌ بِالْعِنَايَةِ , وَحَرِيٌّ أَنْ يُتَدَاوَلَ فِي كُلِّ بِدَايَةٍ وَنِهَايَة , إِنَّهُ أَمْرٌ يَهُمُّ الْكَبِيرَ وَيَحْتَاجُهُ الصَّغِيرُ .
إِنَّهُ حَقٌّ فَرَضَهُ رَبُّ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ , وَجَعَلَهُ قُرْبَةً مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ , وَجَعَلَهُ سَبِيلَاً لِلْفَوْزِ بِرَضَاهُ وَدُخُولَ الْجَنَّاتِ , إِنَّهُ حَقٌّ أَمَرَ بِهِ اللهُ وَعَلَيْنَا قَضَاه , إِنَّهُ عَمَلٌ حَثَّ اللهُ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ وَارْتَضَاه .
إِنَّهُ حَقٌّ لازِمٌ عَلَى كُلِّ أَحَد , وَلا يَنْفَكُّ مِنْهُ شَخْصٌ أَبَدَ الأَبَد !
إِنَّهُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ...... إِنَّهُ حَقُّ الأُمِّ الْحَنُونِ وَجَزَاءُ الأَبِ الْعَطُوفِ .
فَقُولُوا لِي بِرَبِّكُمْ كَيْفَ نُوَفِّي هَذَا الْمَوْضُوعَ حَقَّهُ ؟ وَقَدْ تَكَاثَرَتْ الآيَاتُ الْقُرْآنِيَّة , وَتَعَدَّدَتْ فِيهِ الأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّة , وَأَفَاضَ فِيهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ الذِينَ هُمْ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ خَيْرُ الْبَرِيَّة !
وَلَكِنْ حَسْبُنَا أَنْ نُورِدَ عِبَارَاتٍ عَلَى سَبِيلِ التَّذْكِيرِ , وَنُعْطِيكُمْ كَلَمَاتٍ فِيهِ مَعَ اعْتَرَافِنَا بِالتَّقْصِيرِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : قَالَ اللهُ تَعَالَى (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا) وَقَالَ (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا) فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ افْتَرَضَ اللهُ تَوْحِيدَهُ وَعِبَادَتَهُ التِي هِيَ أَعْظَمُ الْحُقُوقِ عَلَيْنَا , ثُمَّ أَرْدَفَ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ بِحَقِّهِ لِيَدُلَّ عَلَى تَعْظِيمِ حَقِّ هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ .
بَلْ إِنَّ اللهَ كَرَّرَ الْوَصِيَّةَ بِهِمَا مِرَارَاً وَتَكْرَارَاً بِصُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَفِي سُورَةِ الأَحْقَافِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً) وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) وَفِي سُورَةِ لُقْمَانَ جَاءَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)
فَتَأَمَّلُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَذِهِ الْوَصَايَا الْمُتَعَدِّدَة َ مِنْ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمُنَّةُ , بِهَذَيْنِ الْوَالِدَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ , فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَهَاوَنُ عَاقِلٌ فِي بِرِّهِمَا ؟ أَوْ يَتَوَانَى مُسْلِمٌ فِي خِدْمَتِهِمَا ؟ لا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ : كَلَّا وَأَلْفُ كَلَّا .
ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَحَبِّ الأَعْمَالِ الْمُقَرِّبَةِ لِلرَّبِّ ذِي الْجَلالِ , فَتَأَمَّلُوا مَاذَا قَالَ , فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ , قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ (الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا) قَالَ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ (ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ) قَالَ : ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
بَلْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ أَقْصَى جَنُوبِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ , فَانْظُرُوا مَا الذِي أَمَرَهُ بِهِ ! فَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ (هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ) قَالَ : أَبَوَاي . قَالَ (أَذِنَا لَكَ ؟) قَالَ : لاَ . قَالَ (ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُ مَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ وَإِلاَّ فَبِرَّهُمَا) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ .
اللهُ أَكْبَرُ ! يَرَدُّهُ إِلَى الْيَمَنِ , هَذِهِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ الشَّاقَّةِ , مِنْ أَجْلِ الْوَالِدَيْنِ , فَيَا للهِ كَمْ فَرَّطْنَا فِي حَقِّ وَالِدِينَا .
أَيُّهَا الإِخْوَةُ فيِ اللهِ : إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عَمَلٌ عَظِيمٌ جَلِيلٌ وَقُرْبَةٌ كَبِيرَةٌ وَسَبَبٌ وَاضِحٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ , فَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (رِضَا اَللَّهِ فِي رِضَا اَلْوَالِدَيْنِ , وَسَخَطُ اَللَّهِ فِي سَخَطِ اَلْوَالِدَيْنِ ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ .
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَتَاهُ فَقَالَ : إِنَّ لِي امْرَأَةً وَإِنَّ أُمِّي تَأمُرُنِي بِطَلاقِهَا ؟ فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ ( الوَالِدُ أوْسَطُ أبْوَابِ الجَنَّةِ ، فَإنْ شِئْتَ ، فَأضِعْ ذلِكَ البَابَ ، أَو احْفَظْهُ ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقالَ : حَدِيثُ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
بَلْ إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ حَتَّى لَوْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ , وَلَوْ حَاوَلا فِيكَ أَنْ تَتْرُكَ دِينَكَ الْحَقَّ , فَلا تُطَاوِعْهُمَا لَكِنْ عَلَيْكَ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُمَا , قَالَ اللهُ تَعَالَى (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)
وعَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ : قَدِمَتْ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَمُدَّتِهِمْ إِذْ عَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ابْنِهَا , فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقُلْتُ : إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ (نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَهَذَا فِي الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ , فَكَيْفَ بِالْوَالِدَيْن ِ الْمُسْلمَيْنِ ؟ إِنَّهُمَا أَعْظَمُ حَقَّاً وَأَوْلَى بِرَّاً !
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : إِنَّ لِلأُمِّ مَزِيَّةٌ وَفَضِيلَةٌ فِي الْحَقِّ وَالْبِرِّ , فَحَقُّهَا أَعْظَمُ الْحُقُوقِ بَعْدَ حَقِّ اللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ (أُمُّكَ) قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ (ثُمَّ أُمُّكَ) قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ (ثُمَّ أُمُّكَ) قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ (ثُمَّ أَبُوكَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنْ يُقَصِّرَ الإِنْسَانُ فِي بِرِّ أَبِيهِ , وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنْ يَزِيدَ فِي بِرِّ أُمِّهِ دُونَ أَنْ يُقَصِّرَ فِي حَقِّ أَبِيهِ .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : لَقَدْ ضَرَبَ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَرْوَعَ الْمُثُلِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ , فَهَلْ مِنْ مُقْتَدٍ بِهِمْ أَوْ مُتَأَسٍّ بِهَدْيِهِمْ ؟
فَهَذَا أَبُوهُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ وَقَفَ عَلَى بَابِ أُمِّهِ وَقَالَ : السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أُمَّاهُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ , فَتَقُولُ : وَعَلَيْكَ السَّلامُ يَا وَلَدِي وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ , فَيَقُولُ : رَحِمَكِ اللهُ كَمَا رَبَّيْتِينِي صَغِيرَا , فَتَقُولُ : رَحِمَكَ اللهُ كَمَا بَرَرْتَنِي كَبِيرَاً ,,, وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ .
وَهَذِهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَقُولُ : كَانَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَرَّ مَنْ كَانَا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ بِأُمِّهِمَا : عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانٍ , وَحَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا , فَأَمَّا عُثْمَانُ فَإِنَّهُ قَالَ : مَا قَدِرْتُ أَنْ أَتَأَمَّلَ أُمِّي مُنْذُ أَسْلَمْتُ , وَأَمَّا حَارِثَةُ فَإِنَّهُ كَانَ يَفْلِي رَأْسَ أُمِّهِ وَيُطْعِمُهَا بِيَدِهِ وَلَمْ يَسْتَفْهِمَا كَلامَاً قَطُّ تَأَمْرُ بِهِ حَتَّى يَسْأَلَ مَنْ عِنْدَهَا بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ , مَا أَرَادَتْ أُمِّي ؟
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَخْشَى أَنْ يَأْكُلَ مَعَ أُمِّهِ عَلَى مَائِدَةٍ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : أَخَافُ أَنْ تَسْبِقَ يَدِي إِلَى مَا سَبَقَ إِلَيْهِ عَيْنُهَا , فَأَكُونَ قَدْ عَقَقْتُهَا !
وَهَذَا عَوْنُ بْنُ عَبْدِاللهِ نَادَتْهُ أُمُّهُ فَأَجَابَهَا فَعَلَا صَوْتُهُ فَخَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَقَّهَا , فَأَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ كَفَّارَةً لِذَلِكَ !
وَأَمَّا مِسْعَرُ بْنُ حَبِيبٍ الْجَرْمِيِّ الثِّقَةُ الْحَافِظُ اسْتَسْقَتْ أُمُّهُ مَاءً مِنْهُ بَعْضَ اللَّيْلِ , فَذَهَبَ فَجَاءَ بِقِرْبَةِ مَاءٍ فَوَجَدَهَا قَدْ غَلَبَهَا النَّوْمُ , فَثَبَتَ فِي مَكَانِهِ وَالشَّرْبَةُ فِي يَدِهِ حَتَّى بَرِقَ الْفَجْرُ وَأَصْبَحَ !
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : هَذَا قَلِيلٌ مِمَّا أُثِرَ عَنِ السَّلِفَ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْن ِ, فَقُولُوا لِي بِرَبِّكُمْ : مَاذَا قَدَّمْنَا لِوَالِدَيْنَا وَكَيْفَ بِرُّنَا لَهُمْ ؟
فَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ , أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغِفِرُ اللهَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوه ُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم .

الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا وَإِمَامِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
أَمَّا بَعْدُ : فَاعْلَمُوا : أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ كَمَا هُوَ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ فَهُوَ خُلُقٌ فَاضِلٌ , وَكَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَرْجُو جَزَاءَهُ فِي الآخِرَةِ فَهُوَ كَذَلِكَ يَرْقُبُ مُكَافَأَتَهُ فِي الدُّنْيَا , حَيْثُ إِنَّ اللهَ جَعْلَ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ , فَمَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ بَرَّهُ أَوْلَادُهُ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : إِنَّ أَوْجُهَ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ كَثِيرَةٌ جِدَّاً , وَلَكِنْ مِنْ أَجْمَعِهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ أَلَا وَهُوَ حُسْنُ الْخُلُقِ مَعْهُمَا , فَتَتَلَّطَفُ مَعْهُمَا وَتُحْسِنُ خِطَابَهُمَا وَتَقْضِي حَاجَاتِهِمَا , وَتَتَوَدَّدُ إِلَيْهِمَا وَتُكْثِرُ مُجَالَسَتَهُمَ ا , ثُمَّ إِنْ كَانَ لَكَ زَوْجَةٌ وَأَوْلادٌ فَتُوصِيهِمْ بِبِرِّ وَالِدَيْكَ , وَتَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَرَوْا مِنْكَ ذَلِكَ لِيَقْتَدُوا بِكَ , ثُمَّ تَجْعَلُ رِضَاكَ عَنْ زَوْجَتِكَ وَأَوْلادِكَ مَرْبُوطَاً بِإِحْسَانِهِمْ لِوَالِدَيْكَ , مَعَ الْحِرْصِ عَلَى التَّوْفِيقِ بَيْنَ حَقِّ وَالِدَيْكَ وَحَقِّ أَوْلادِكَ وَزَوْجَتِكَ !
وَمِنْ بِرِّهِمَا : أَنْ تُطْلِعَهُمَا عَلَى أُمُورِكَ الْخَاصَّةِ وَتَسْتَشِيرَهُ مَا وَلَوْ عَلَى الأَقَلِّ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ وَخَاصَّةً فِي الأُمُورِ التِي لَهُمْ خِبْرَةٌ فِيهَا , وَأَكْثِرِ الدُّعَاءَ لَهُمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِمَا وَبَعْدَ مَوْتِهِمَا .
ثُمَّ لَوْ حَصَلَ مِنْ وَالِدَيْكَ أَوْ أَحَدِهِمَا خَطَأٌ أَوْ جَفْوَةٌ فَتَحَمَّلْ ذَلِكَ وَاحْتَسِبِ الأَجْرَ عَلَى اللهِ وَخَاصَّةً عِنْدَ الْكِبَرِ , وَتَلَطَّفْ مَا اسْتَطَعْتَ مَعَهُمَا , وَاسْتَمِعْ مَاذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عِنْدَمَا يَكْبُرَانِ (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا , إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا , وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ , وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)
وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ لَا يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِمَا , فَعَنْ أَبِى أُسَيْدٍ السَّاعِدِىِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا ؟ قَالَ(نَعَمْ الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا , وَالاِسْتِغْفَا رُ لَهُمَا , وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا , وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِى لاَ تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا , وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ .
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا بِرَّ وَالَدِينَا وَارْزُقْنَا بِرَّ أَوْلادِنَا اللَّهُمَّ ارْحَمْ وَالِدِينَا كَمَا رَبَّوْنَا صِغَارَاً , اللَّهُمَّ اغْفِرْ لآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَارْضَ عَنْهُمُ وَعَنْ وَالِدِيهِمْ وَلِمَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ عَلَيْهِمْ , اللَّهُمَّ لا تُؤَاخِذْنَا بِتَقْصِيرِنَا فِي حَقِّ وَالِدِينَا , رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ , رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار , اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَقِنَا شَرَّ أَنْفُسِنَا , اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنا , وَأَصْلِحْ لَنا دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا , وَأَصْلِحْ لَنا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا , وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنا فِي كُلِّ خَيْرٍ , وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنا مِنْ كُلِّ شَرٍّ , اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَان , اللَّهُمَّ وَلِّ عَلَيْهِمْ خِيَارَهُمْ وَاكْفِهِمْ شِرَارَهُمْ . رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ , والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .