بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله فالقِ الإصباحِ ، وجاعلِ الليلِ سكنا ، والشمسِ والقمرِ حسبانا ، والصلاة والسلام على المبعوثِ للخلقِ بشيراً ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، أما بعد:
فهناك بعض الشباب المبتدئين في الطلب من يطالع كتب العلامة ابن حزم ، وقد يخفى عليهم ما فيها من مخالفات لمنهج السلف في عدد من الجوانب أهمها العقيدة ، فأحببت من باب النصيحة للمسلمين تبيين بعض الأمور التي يُحذر منها في أقواله وكتبه ، وذلك بذكر النقول عن بعض المحققين من العلماء
وقبل الشروع في النقل أحب أن أبين أمرا مهما وهو :
أن الكلام المنقول هنا في الإمام ابن حزم ـ رحمه الله ـ ليس انتقاصا منه ، ولا تقليلا لشأنه ، ولكن ليحذر الجاهل من تقليده فيما غلط فيه .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 4/543 :
ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم ، والدين من الصحابة ، والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة أهل البيت ، وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونا بالظن ، ونوع من الهوى الخفي ، فيحصل بسبب ذلك مالا ينبغي اتباعه فيه ، وإن كان من أولياء الله المتقين ، ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه ، فتريد تصويب ذلك الفعل ، وابتاعه عليه.
وطائفة تذمه ، فتجعل ذلك قادحا في ولايته ، وتقواه ، بل في بره ، وكونه من أهل الجنة ، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان ، وكلا هذين الطرفين فاسد .
والخوارج ، والروافض ، وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا ، ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم ، وأحبه ، ووالاه ، وأعطى الحق حقه ، فيعظم الحق ، ويرحم الخلق ، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنان ، وسيئات ؛ فيحمد ، ويذم ، ويثاب ، ويعاقب ، ويحب من وجه ، ويبغض من وجه ، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج ، والمعتزلة ومن وافقهم.
وقال ابن القيم في أعلام الموقعين 3/220 :
فصل: ولابد من أمرين أحدهما أعظم من الآخر ، وهو النصيحة لله ، ولرسوله ، وكتابه ، ودينه ، وتنزيهه عن الأقوال الباطلة المناقضة لما بعث الله به رسوله من الهدى ، والبينات التي هي خلاف الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل وبيان نفيها عن الدين وإخراجها منه وإن أدخلها فيه من أدخلها بنوع تأويل ، والثاني معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه ، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول ، فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها لا يوجب اطراح أقوالهم جملة ، وتنقصهم والوقيعة فيهم فهذان طرفان جائران عن القصد ، وقصد السبيل بينهما فلا نؤثم ، ولا نعصم ، ـ إلى أن قال ـ ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح الله صدره للإسلام ، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين جاهل بمقدار الأئمة ، وفضلهم ، أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث الله بها رسوله ، ومن له علم بالشرع ، والواقع يعلم قطعا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح ، وآثار حسنة ، وهو من الإسلام ، وأهله بمكان ، قد تكون منه الهفوة ، والزلة هو فيها معذور ، بل ومأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يتبع فيها ، ولا يجوز أن تهدر مكانته ، وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين .
ونحوه في كلام شيخ الإسلام في بيان الدليل على بطلان التحليل ص152.
وقال ابن رجب في الحكم الجديرة بالإذاعة [المجموع]1/244:
فأما مخالفة بعض أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم خطأ من غير عمد ، مع الاجتهاد على متابعته ، فهذا يقع فيه كثير من أعيان الأمة من علمائها ، وصلحائها ، ولا إثم فيه ، بل صاحبه إذا اجتهد فله أجر على اجتهاده ، وخطأه موضوع عنه ، ومع هذا فلم يمنع ذلك من عَلِمَ أمر الرسول الذي خالفه هذا أن يبين للأمة أن هذا مخالف لأمر الرسول ، نصيحة لله ، ولرسوله ولعامة المسلمين ، وهب أن هذا المخالف عظيم له قدر وجلالة ، وهو محبوب للمؤمنين إلا أن حق الرسول مقدم على حقه وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم .
فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول ، وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم ، ويأمرهم باتباع أمره ، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة ، فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ، ويقتدي به من رأي مُعَظّّم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ .
ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العلماء على كل من خالف سنة صحيحة ، وربما أغلظوا في الرد لا بغضاً له بل هو محبوب عندهم ، معظم في نفوسهم لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليهم ، وأمره فوق كل أمر مخلوق .
فإذا تعارض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأمر غيره فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يقدم ويتبع ، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره ، وإن كان مغفوراً له ، بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه ـ إلى أن قال ـ
فههنا أمران أحدهما : أن من خالف أمر الرسول في شيء خطأ مع اجتهاده في طاعته ، ومتابعة أوامره فإنه مغفور له لا تنقص درجته بذلك .
والثاني : أنه لا يمنعنا تعظيمه ، ومحبته من تبين مخالفة قوله لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونصيحة الأمة تبيين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ، ونفس ذلك الرجل المحبوب المعظم لو علم أن قوله مخالف لأمر الرسول فإنه لأحب من يبين ذلك للأمة ذلك ، ويرشدهم إلى أمر الرسول ، ويردهم في قوله في نفسه ، وهذه النكتة تخفى على كثير من الجهال بسبب غلوهم في التقليد ، وظنهم أن الرد على معظم من عالم ، وصالح تنقص به ، وليس كذلك.
وقال العلامة المعلمي في التنكيل1/6 : من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل ، ومن أمضى أسلحته أن يرمي الغالي كل من يحاول رده إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم ، يرى بعض أهل العلم أن النصارى أول ما غلوا في عيسى عليه السلام كان الغلاة يرمون كل من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره ونحو ذلك فكان هذا من أعظم ما ساعد على أن انتشار الغلو لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نسبوا إلى ما هم أشد الناس كراهية له من بغض عيسى وتحقيره ، ومقتهم الجمهور ، وأوذوا فثبطهم هذا عن الإنكار ، وخلا الجو للشيطان ، وقريب من هذا حال الغلاة الروافض وحال القبوريين ، وحال غلاة المقلدين اهـ.
فليحذر غلاة ومقلدة الظاهرية من التغاظي عن هذه الأمور ، أو محاولة الترقيع السمجة ؛ تعصبا لابن حزم ؛ فالحق أحق أن ينتصر له .