قبول الحق والعمل به
إن أعظم ما يبعث الأمل، ويقرب من النجاح ويُنَمِّي الملكات، ويبعث على العمل النافع لصاحبه وللناس، قبول الحق والعمل به، وما قيمة الإنسان إذا كان معرضا عن الحق منصرفا عنه؟ لكبر أو لهوى أو حتى لعناد وإعجاب برئيه ؟ ومن ألطف ما يذكر في الإعجاب -فيما قرأت- ما ذكره العلامة اليماني عبد الرحمن المعلمي رحمه الله حيث قال في التنكيل وهو يعدد مسالك الهوى فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى و قد جربت نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي فيلوح لي فيها معنى، فأقرره تقريراً يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرم بذاك الخادش و تنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه و غض النظر عن مناقشة ذاك الجواب، و إنما هذا لأني قررت ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني فصرت أهوى صحته، هذا مع أنه لا يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش؟ فكيف لو لم يلح لي الخدش و لكن رجلاً آخر أعترض علي به؟ فكيف إذا كان المعترض ممن أكرهه؟ هذا و لم يكلف العالم بأن لا يكون له هوى؟ فإن هذا خارج عن الوسع، و إنما الواجب على العالم أن يفتش نفسه عن هواها حتى يعرفه ثم يحترز منه و يمعن النظر في الحق من حيث هو حق، فإن بان له أنه مخالف لهواه آثر الحق على هواه .اهـ
قلت: وهذا التقرير العجاب والكلام من هذا العلم الهمام في العلماء، فكيف بمن سواهم، وممن هو دونهم علماً وعملاً وتقوى؟! ولذا كان من القواعد العلمية المتقررة والتي يكاد يكسوها الإجماع ويحليها الاجتماع قبول الحق ممن جاء به أي كان ومهما كان.
وقد يرى الإنسان من خلال علمه، وفكره، وبواعثه أن في الرجوع عن الخطأ إلى الصواب، وعن الباطل إلى الحق، منقصة ولا سيما إذا كان الحق مع مخالفه الأصغر سننا، أو الأقل علما، أو الأبعد عن المنهج الحق، وما ذلك الإ من تلبيس إبليس لصرفه عنه، وتعمية الطريق عليه إليه.
ومن أجل هذا كان صاحب العمل الطيب، والفكر النظيف، والباعث الطاهر، والمنصف لنفسه ولغيره يقبل الحق ممن جاء به بقطع ا لنظر عن ديانته ومنهجه، ورتبته ومنزلته، ومكانته وعلمه، دون تعصب مقيت، أو تحجر مميت.
ألا ترى معي أن ملكة سبأ في حال كونها تسجد للشمس من دون الله هي وقومها لما قالت حقا صدقها الله فيه، ولم يكن كفرها مانعا من تصديقها في الحق الذي قالته البتة، وذلك في قولها فيما ذكر الله عنها: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً) فقد قال الله تعالى مصدقا لها في قولها: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)، وكذلك فإن الشيطان لما قال لأبي هريرة -رضي الله عنه-: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي-من أولها حتى تختم الآية_( الله لا إله إلا هو الحي القيوم)_البقرة: 256-؛ فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولن يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أما إنه قد صدقك وهو كذوب))، ولقد كان اليهود وغيرهم يحدثون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأشياء فيصدقهم في الحق الذي يتكلمون به، بل ويقرره.
و ختاماً..فلله در من قال:
لا تحقرن الرأي وهو موافق ... ... حكم الصواب إذا أتى من ناقص
فالدُّرُّ، وهو أعز شيء يُقتنى ... ... ما حَطَّ قيمتَه هوانُ الغائص
كتبه
أبوعبدالله بكر البعداني