(تشويه التاريخ لهدم الخلافة الإسلامية)

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:فنحن بحاجة لدراسة التاريخ دراسة صحيحة بعيدًا عن التزوير والتشويه الذي تمَّ على أيدي الملاحدة والزنادقة بغرض إبعاد الأمة عن دين ربها وقطع الطريق لعودة الخلافة الإسلامية؛ لذا حرص أعداء الإسلام على قلب الحقائق والنظر في معاني التاريخ بعين حاقدة صوروا الخلافة العثمانية على أنها خلافة فقر وجهل ومرض، وأنها كانت استعمارًا للأمة العربية، وتناسوا أن هذه الخلافة هي التي حمت هذه الأمة من الهجمات الأوربية طيلة أربعة قرون.

ووقف السلطان عبد الحميد -وهو آخر سلاطين الدولة العثمانية- في مواجهة الإغراءات اليهودية السَّخية لإقامة دولة لهم في فلسطين، فقد رفض خمسين مليونًا ذهبية عرضها عليه هرتزل ومن بينها مليون لخزانته الخاصة، وقال -رحمه الله- لهرتزل: "إنَّ الدولة العلية لا يمكن أن تختبئ وراء حُصون بُنيت بأموال أعداء المسلمين".

وأوضح له أنَّ أرض فلسطين فتحها عمر، وأنها ملك للمسلمين لا يحق لأحد أن يتصرف فيها.. فكان جزاؤه -رحمة الله عليه- أن أطاح به اليهود حيث وجدوه عقبة في سبيل إقامة دولتهم اليهودية، ولم يعدموا بعد ذلك صورًا هزيلة تبيع البلاد والعباد، وصار من لا يملك يُعطي من لا يستحق.
لقد تابع الجهال أعداء الإسلام والمسلمين في تشويههم الخلافة العباسية والأموية، صوروا تاريخ المسلمين على أنه ثورات وحروب، قتل وخيانة ومؤامرة، واشتهرت خلافة هارون الرشيد في حسِّ العامة بأنها خلافة رقص وغناء قصور وجواري وخمور!!

وفي ذلك يقول الخميني في كتاب (الحكومة الإسلامية ص133): "وها هو التاريخ يُحدثنا عن جُهَّال حكموا الناس بغير جدارة ولا لياقة، هارون الرشيد أية ثقافة حازها؟ وكذلك من قبله ومن بعده".
ولا بد من إنصاف هارون الرشيد؛ فالعدل أساس الملك، وبه قامت السموات والأرض، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].لقد كان هارون الرشيد يغزو عامًا ويحج عامًا، وكان يُخاطب السحابة ويقول: "سيري أينما شئت أن تسيري، فسيأتيني خراجك". وكثرت الفتوحات في عهده واتسَّعت رقعة هذه الأمة. بل كتب لنقفور ملك الروم يقول له: "أما بعد، فمن هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، فإنّ الأمر ما ترى لا ما تسمع".

لقد كانت عزة إيمانية افتقدناها في عصورنا المتأخرة، ومهما قيل في حق هؤلاء فقد كانوا يُطبقون شرع الله، والهفوات أو الجنايات التي بدرت منهم سيسألون عنها بين يدي من لا تخفى عليه خافية، ولا يصح تحميل أخطاء البشر -سواء كانوا حكامًا أو محكومين- على دين الله جلَّ وعلا؛ فكل امرئ بما كسب رهين ولا تزرُ وازرة وزر أخرى، وكما قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134].

وقد انتصب علماء الأمة يردون الحكام قبل المحكومين لكتاب الله ولسُنَّة رسول الله ، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، وشواهد ذلك كثيرة، كما في موقف الإمام أحمد من المأمون، وسعيد بن جبير مع الحجاج بن يوسف الثقفي، وأبو حازم مع سليمان بن عبد الملك.

ومن طالع كتب التاريخ سيجد أنَّ محاولات الدس والتشويه لم تقتصر على هؤلاء بل تعدتهم إلى صحابة النبي الذين اصطفاهم ربنا لصحبة خير البرية صلوات الله وسلامه عليه، فنالهم من الطعن والتجريح ما يكفي لهدم الدين وانصراف الدنيا عنه، لولا أن الله تعالى تكفل بحفظه وحفظ من يقوم به.. صوروا الصحابة الكرام على أنهم طُلاّب دنيا لا همَّة عندهم إلاَّ في المحافظة على كراسي الحكم، حتَّى وإن تأدى بهم ذلك إلى الخداع والقتل، وهم لأجل ذلك يرفعون المصاحف على الأسنة ويقول أبو موسى الأشعري: أنا أخلع عليًّا كما أخلع خاتمي هذا.

فينتهزها عمرو بن العاص فرصة وكان داهية -كما يصفونه- فيقول: وأنا أُثبت معاوية -أي في الحكم- كما أُثبت خاتمي هذا.
لقد نال معاوية الكثير من صور الطعن والتجريح، يقول الخميني عن معاوية: "وقد حدث مثل ذلك في أيام معاوية، فقد كان يَقْتل على الظنة والتهمة، ويحبس طويلاً، وينفي من البلاد، ويُخرج كثيرًا من ديارهم بغير حق إلاّ أن يقولوا ربنا الله". ثم يقول: "ولم تكن حكومة معاوية تُمثل الحكومة الإسلامية من قريب ولا بعيد"!!

إن معاوية -رضي الله عنه- هو أعظم ملوك الإسلام كما وصفه الإمام ابن كثير، وهو شمس سطعت على الدنيا بعد شموس أربعة -أي الخلفاء الراشدين- ملأت الدنيا ضياءً، فخفت ضوء شمس معاوية بجوار الشموس الأربعة، كما ذكر ابن العربي في كتابه القيم "العواصم من القواصم".
ومعاوية هو أخو أم حبيبة -أم المؤمنين- وهو خال المؤمنين، وهو أحد كتَّاب الوحي تولَّى الإمارة زمن عمر بن الخطاب وزمن عثمان بن عفان، وقد اختلف مع علي بن أبي طالب، فأصاب عليّ وأخطأ معاوية، وكان معاوية هو ولي دم عثمان وقد وافق اجتهاده اجتهاد أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير حواري رسول الله في الجنة، وكانوا يرون ضرورة تعجيل القصاص من قتلة عثمان، ورأى علي أنَّ القصاص حق، ولكن ظروف الأمة لا تسمح بذلك، وكان يحتضن معاوية ولم يزد على قوله: إخواننا بغوا علينا. وقال: قتلاي وقتلى معاوية في الجنة.

وكان في كلا الفريقين أناسٌ ممن شهد بدرًا "وكأن الله اطّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" (رواه البخاري ومسلم).
إنَّ الواجب علينا أن نُمسك عما حدث وشَجَر بين صحابة رسول الله ونترضَّى عليهم، فهم خيار أولياء الله المتقين، ولا نسمح بالطعن فيهم، فكل صحابي أفضل من كل من جاء بعده كما يقول الإمام النووي، وكلهم عدول وجهل أحدهم لا يضره كما هو مقرر في علم الرجال، وبالتالي فليعرف كل منَّا قدره وليلزم حدَّه، ولا يتطاول على الأكابر والأفاضل الذين هم نقلة الشريعة.

كان أيوب السختياني يقول: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من صحابة رسول الله فاعلم أنهم أرادوا أن يجرحوا شهودنا؛ ليعطلوا العمل بالكتاب، والجرح بهم أولى وهم زنادقة".
نحن نرفض الطعن في صحابة رسول الله ونُبغض ونُعادي من صنع ذلك، كما نرفض اختزال التاريخ الإسلامي في الخلاف الذي حدث بين عليٍّ ومعاوية، فإذا ما قلنا: لا بد من العودة لدين الله.

ردوا علينا وقالوا لنا: هل تطلبون العودة للخلافة العثمانية وخلافة هارون الرشيد وللخلاف بين عليٍّ ومعاوية؟!!
ومن طالع كتب التاريخ التي تُدرس لأبناء المسلمين في الكثير من البلدان وجدها قاصرة على هذه المسائل المشبوهة المُزوَّرة التي تلقَّفها الجهال عن المستشرقين وغيرهم دون تمحيص. لقد ثبت فضل الصحابة بيقين وقطع، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. وفي الحديث المتفق عليه: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". وورد في الخبر: "أصحابي أصحابي لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه" (رواه مسلم).وعن ابن عمر: (كان أصحاب رسول الله خير هذه الأمة قلوبًا، وأعمقهم علمًا، وأقلهم تكلفًا، اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه ونقل دينه).

إن معاني التاريخ بحاجة لإعادة صياغة؛ فالمنهج الإسلامي في تفسير الحوادث مستقل عن كافة المناهج الوضعية، ويتميز عليها باستمداده من المصادر الشرعية (الكتاب والسُّنَّة)، والعلماء المسلمون عرفوا هذا المنهج في تفسير التاريخ والنظر إلى حوادثه، وقد استفادوا من طريقة القرآن في عرض الأحداث التاريخية، ودعوته إلى إدراك السُّنن، والإفادة من التجارب البشرية السابقة إن لم يفردوا ذلك بمؤلفات مُستقلة، حيث كانت الصورة واضحة في أذهانهم عن الهدف من دراسة التاريخ.
وفي حين القارئ في العصور الإسلامية الأولى لديه من الفهم لعقيدته وإسلامه وإدراك مقتضياتهما ما يجعله يُدرك الحق من الباطل، وكانت لديه المقدرة على وزن الأمور والأحداث بميزان الكتاب والسُّنة، إلاَّ أنه شوهد الانحسار في مفهوم الإسلام في العصور المتأخرة حيث حُصِر في شعائر التَّعبد من الصلاة والصوم والحج، وفُصل بينه وبين الحياة في الواقع العملي في كثير من بلاد المسلمين، مع محاولة التأصيل الفكري لهذا الانحراف بنشر الأفكار العلمانية وتحريف التاريخ الإسلامي وتفسيره، وفق المناهج الغربية.

لقد وُجدت مذاهب كثيرة لتفسير التاريخ، وبعض هذه المذاهب أعطى التاريخ أهمية أكبر من حجمه الحقيقي، بل قد جعلوه مصدر الإلهام وطلبوا منه إعطاء التصور عن الكون والحياة والإنسان وتفسير الطبيعة -كما يقولون- فأدَّى بهم خطأ التصور عن التاريخ إلى أن وضعوه في منزلة الإله الذي يُتلقى منه نظام الحياة والتصور الصحيح عن الكون والإنسان، ويُسْتفتى في حل المشكلات، وساهمت المدرسة الاستشراقية في هذه اللوثة لأبعد حد، فإذا رجعنا إلى التفسير الإسلامي وخصائصه وجدنا صحة التصور والواقعية والتوازن والشمول والصدق.
إنّ المؤرخ يجب أن تتوافر فيه شروط: العدالة، والقدرة على التمييز بين المقبول والمردود من الروايات، والعلم بأصول الأحكام الشرعية، وبمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم، وبمدلولات الألفاظ ومواقعها، مع مصاحبة الورع والتقوى بحيث لا يأخذ بالتوهم، ولا بد من الضبط لما يراه أو يسمعه وتجنب الغرض والهوى، وأن يكون حسن التصور للموضوع الذي يكتب فيه، جيد العبارة، عفّ اللسان عن المنكر من القول.

أما بالنسبة للرواية: فلا بد من اعتماد اللفظ دون المعنى، وذلك بأن ينقل الكلام بنصه دون أن يتصرف فيه، وأن يُسمي المؤرخ المصدر الذي نقل عنه معلوماته، وأن يكون نقله مضبوطًا.
وفي الحديث: "إيَّاكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث" (متفق عليه).

وورد: "كفى بالمرء كذبًا أن يُحدث بكل ما سمع" (رواه مسلم).
لا بد من إحسان الظن بعلماء الأمة وصالحيها، وحمل تصرفات المسلمين على أحسن محاملها؛ فالأصل البراءة والتهمة تتطلب بيِّنة أوضح من شمس النهار، والمسلم يتلمس للناس المعاذير، أمَّا المنافق فهو الذي يتلمس الزلات، والعبد إذا كثر خيره وصلاحه كان إلى العفو أقرب.

إنَّ الخصومة حجاب ساتر عن رؤية الحقيقة؛ ولذلك كان لا بد من نقل العدول الثقات، فالقول في الأحكام الشرعية وفي النظم الإسلامية وفي تقدير رجالها وتاريخها لا يُؤخذ إلاّ من المسلم العارف الثقة، أما غير ذلك فلا اعتبار لقوله ولخلافه لو خالف.
لا بد من وقفة حق وكلمة صدق نذبُّ بها عن تاريخ هذه الأمة، وعن أعراض هؤلاء الأفاضل، ونرد بها الحق إلى نصابه.والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المصدر: موقع المختار الإسلامي