فكر معي .. كيف نرتب جدولنا الاسلامي .. ؟
محاولة شخصية
كنت مرة أتأمل ماهي "أولوياتنا" في حياتنا الدعوية ؟
ماهي المحاور الرئيسية التي يجب أن يدور عليها الخطاب الدعوي في هذه المرحلة ؟
كيف يمكن أن ننظم "تفكيرنا الاسلامي" أمام تشتت هذه الحياة الصاخبة ..
فتوصلت إلى أن هناك ثلاث محاور "جوهرية"..
(التأويل الديني, الفساد المدني, امكانيات الاسلاميين)
طبعاً ليست هذه كل المسؤوليات الدعوية .. فثمة حقول دعوية كثيرة .. لكن أعني أن هذه تشكل مثلث الضروريات الدعوية الملحة ..
فأما "التأويل الديني" أو "تأويلات المثقفين للاسلام", بمعنى "إعادة صياغة الاسلام" بشكل لاتعرفه القرون المفضلة ليتناسب مع ضغوطات المنظومة الفكرية الغربية المعاصرة فهو أخطر تحدٍ يواجه الدعاة اليوم ..
وقد توفر على إنتاج هذه التأويلات باحثون كثيرون, ومؤسسات بحثية غنية, ويتصدر قائمة المنتجين لهذا الخطاب "المدرسة الفرانكفونية/المغاربية" .
وجوهر هذا الخطاب هو "تبديل مضامين الشريعة من خلال آليات التأويل المتاحة لتجاوز الفهم المبكر للاسلام وإنتاج فهماً عصرياً يتناسب مع قيم الثقافة الغربية الحديثة".
بمعنى التفتيش عن "سند تراثي" للمضامين العلمانية الغربية بشكل تلفيقي لاعلمي.
(كمثال:
استغلال مفاهيم المصلحة المرسلة والاستحسان وأقضية عمر لتأسيس مرجعية المصلحة واستبعاد النص الجزئي.
أو استغلال مفهوم "أسباب النزول" و "مقامات النبي" لتأسيس مفهوم التاريخانية بمعنى أن النص كان يتناسب مع فترة تاريخية وانتهت.
ونحو ذلك من المضامين العلمانية التي تبحث عن سند تراثي)
طبعاً يؤلمنا أن هذه الطاقات البحثية لم تضخ جهودها في تجديد حياتنا المدنية كالاصلاح السياسي والتنمية الاقتصادية والاحتراف الاعلامي والتوعية الاجتماعية ونحوها من الحقول المدنية المهمة .. بل بعثرت هذه الطاقات البحثية مخزونها في "تأويل الاسلام" بما يتناقض مع فهم القرون المفضلة له.
وهذا الخطاب مؤداه بكل بساطة تبديل مضامين الشريعة وهدي النبي وأصحابه, ومن المهم أن نشير إلى أن الرغبة الجامحة في تبديل الشريعة لتتناغم مع الذوق والمألوف هي مكون إنساني واجه دعوة الوحي بشكل مبكر, ولذلك يحكي لنا القرآن كيف تجسدت هذه الرغبة التأويلية في أول تمثلاتها فيقول تعالى:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ, قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي, إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ, إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (15) سورة يونس
وهذه الرغبة كما تمثلت عند الكفار فقد تمثلت أيضاً في الداخل المسلم كما يقول تعالى:
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (15) سورة الفتح
على أية حال .. سيظل أشهر "نموذج تاريخي" لنظرية التأويل الديني هي حادثة السبت في التاريخ اليهودي .. فقد نهاهم الله عن الصيد "يوم السبت" .. فنشروا شباكهم يوم الجمعة وطووها يوم الأحد ..
فمن حيث المنطق التأويلي يعتبرون قد راعوا النص تماماً .. لكنهم في المنطق الشرعي راعوا اللفظ وخانوا المعنى..!
وقد قص الله خبر ذلك النموذج التأويلي بقوله:
{واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (163) سورة الأعراف
ولقد كانت العقوبة الالهية على هذه "الممارسة التأويلية" في غاية الكارثية عبر مسخهم الى كائنات حية وضيعة .. كما يقول تعالى:
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (65) سورة البقرة
كم هو مؤلم أن نشاهد "الممارسات السبتية" تملأ الخطاب العربي اليوم ..
أما الزاوية الثانية في مثلث الضروريات الدعوية فهي "الفساد المدني" .. ومنبعها تلك الطغم السياسية العربية المستبدة التي سطت على حق الأمة في التولية, والرقابة, والعزل, والادارة .. والتهمت معايشها وتركتها تلهث في دوامة العمل اليومي المضني فلاهي بلغت كفافها ولاهي ماتت فاستراحت ..
تلك النخب السياسية العربية التي أهانت كرامة الفرد المسلم وجعلته يستمرئ أن يتنفس لغة المديح والخنوع, ودرَّسته كيف يستجدي على أبواب الجامعات وتحت سرر المستشفيات وأمام طابور القروض السكنية ..
ومن المهم أن نشير إلى أن من أهم العوائق التي حالت بين كثير من الأخيار وبين التصدي لـ "العمل السياسي الشرعي" هو أنهم حصروا العمل السياسي الشرعي في "جبهة المواجهة" .. والمواجهة تفضي غالباً إلى الصدام الذي قد يتسبب في مفاسد دينية أعظم, ويستتبع إرهاقات تبيد همة المواصلة ..
والواقع أن "العمل السياسي الشرعي" أوسع من ذلك بكثير .. فالتصدي لمصالح المسلمين المدنية كهدر المال العام وأزمة الاسكان والرعاية الصحية وحق التعليم الجامعي واختناقات الطرق وكارثة الأسهم والبطالة المتنامية وغيرها لاتحتاج إلى لغة حرب .. بقدر ماتحتاج إلى تخصص ومأسسة ولغة توعية مستمرة ومنظمة ..
مقاومة "التأويل الديني" تنتمي إلى باب العقيدة
ومقاومة "الفساد المدني" تنتمي الى باب السياسة الشرعية.
ذلك أن المثقفين العرب يفسدون أديان الناس ..
وهؤلاء الساسة العرب يفسدون دنيا الناس ..
وقناعتي الشخصية أن "التأويل الديني" يحتل مرتبة الخطر رقم (1) اليوم ..
وبعض الطيبين يزهِّد كثيراً في مقاومة "التأويل الديني" حيث يتوهم أن ظاهرة "التأويل الديني" هي انعكاس مباشر لواقع "الفساد المدني" ..
بمعنى أن التأويل والعلمنة كلاهما مجرد "إجابة" على إشكالية التخلف.
ويكرر أصحاب هذه الرؤية هذا المبدأ: أصلحوا الحياة المدنية للمسلمين وسينتهي حينها التأويل والعلمنة ..
والواقع أن هذا تصور غير علمي للواقع والتاريخ ..
فالتأويل الديني ليس إجابة على إشكالية التخلف أصلاً, وإنما التأويل الديني في الحقيقة هو "منفذ متاح" للتهرب من عبء المرجعية الشرعية, والتخلص من سيادة الدين.
ولذلك تفشى "التأويل الديني" في ألمع لحظات التألق الحضاري في تاريخ المسلمين !
ولو كان التأويل الديني مجرد انعكاس لإشكالية التخلف لما وجد التأويل الديني في تلك اللحظات الزاهية!
تاريخياً .. تسرطن "التأويل الديني" في عصر الامبراطورية الاسلامية وبين معاهد العلوم والفلك والعمارة!
بل إن أغلظ مراحل الزندقة وهي "النفاق" إنما ظهر في "عصر النبوة" ذاته في المدينة, أي بعد انتصار المسلمين وخضوع جزيرة العرب !
هذا يعني أن "التأويل والعلمنة" ليسا مجرد إجابة على سؤال التخلف..
بل التأويل الديني هو شكل من الاشكال الثقافية التي تختفي فيها الأهواء المتضايقة من قيود الشريعة.. والمتبرمة بمرجعية الوحي ..
هذه هي الحقيقة ..
أما ارتباطها باشكالية التخلف فهو مجرد "مبرر" تحتمي وراءه !
الحقيقة بلا رتوش .. هي أن أقلام "التأويل الديني" تستغل التخلف لتبرير طروحاتها, لاأنها تحاول الاجابة عنه!
كما أن كثيراً من الكتاب الليبراليين اليوم يستغلون "الارهاب" لتبرير طروحاتهم, أكثر من كونهم يحاولون الاجابة عنه!
بمعنى لو أن المجتمع المسلم اليوم قفز الى الازدهار المدني وأصبح الناس يعيشون في مجتمع متطور فستبقى تلك الأقلام تلوك اشكالياتها .. تشكك في صحة السنة النبوية, وتندد بمرجعية النص الجزئي, وتنتقص أحكام المرأة "الحجاب والقوامة والدية والتعدد" , وترفض الحدود والجلد, وتدافع عن الفوائد الربوية, وتستخف بمفهوم الولاء والبراء, الخ
لو كانت تلك الأقلام صادقة في البحث عن "النهضة" لرأينا جهدها الأبرز ينصب مباشرة في حقل الحياة المدنية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً .. لكن جهدها الأبرز والغ في "إعادة تأويل الاسلام" ..
وبعض الأفاضل يتساهل كثيراً في مقاومة ظواهر التأويل الديني بحجة أنها مجرد "إشكاليات نخب ثقافية" !
والواقع أن تهميش دور "النخب العلمية" وتأثيرها الخطير يتعارض مع فقه السلف الذين اعتنوا كثيراً كثيراً بمفهوم "الإحداث في الدين" وتنافسوا في مقاومة المحدثات الدقيقة التي لايعرفها إلا المختصون, ولم يقولوا هذه مجرد إشكاليات نخب!
وهذه رؤية دقيقة من أئمة السلف, ذلك أن المؤثرين في المجتمعات طوال التاريخ ليسوا عامة الناس ودهماءهم!
وفي عصرنا اليوم فإن قادة التأثير هم النخب التي تسيطر على الوعي وتتحكم في تشكيل القناعات والخلفيات عبر وسائل صناعة الرأي العام، فالعمود الصحفي والحوار الفضائي والنص السينمائي والتقارير الإخبارية كلها إنما يصوغها "نخب ثقافية" ليتلقاها المستهلك النهائي ويتشرب مفاهيمها الضمنية، فتعيد ترتيب جدول أولوياته وموازين قيمه!
الذين يديرون الحياة اليوم في أمريكا وأوروبا ليسوا هم "عامة الناس" بل هم "النخب"
والذين يديرون الصحافة العربية اليوم ليسوا هم العامة بل هم النخب!
والذين يصنعون "التعليم" في العالم العربي اليوم ليسوا هم العامة بل هم النخب!
هذا يعني أن قولنا "هذه مجرد اشكالية نخب" ليس حجة للانسحاب, بقدر ماهو حافز على الاهتمام!
ولو تأملت بشكل دقيق في مجتمعنا القريب لرأيت أن بوصلة السياسي هي حصيلة توازات القوى الفكرية في المجتمع .. وهذه نتيجة خطيرة جداً ..
فهذا يعني أن قوة "الخطاب التأويلي والتغريبي" سينعكس على بوصلة السياسي حتماً, وسيميل المؤشر السياسي بمقدار زيادة الوزن التغريبي !
طبعاً من المهم أيضاً أن نفرز "منهج التحرير" عن "منهج التأويل"
فتحرير العلوم الشرعية يقصد به تحقيق وفحص قضاياها بشكل منهجي ..
فلو أخذنا نموذج تراثي كابن تيمية سنجده لم يكتف بنقل ماتناقله المتأخرون, بل قام يتحرير وتحقيق ذلك للعودة الى المنهج الفقهي والعقدي للمتقدمين من السلف.
ولو أخذنا نموذج معاصر ففي علم الحديث مثلاً ثمة عدة أقلام كالمليباري والشريف حاتم واللاحم وأضرابهم يكتبون من زاوية "تحرير" العلم, أي تحقيق مانقله المتأخرون إلينا بشكل منهجي, بهدف العودة الى منهج المتقدمين.
مفهوم التحرير والتحقيق في العلوم الشرعية هو لون من التجديد لكنه "تجديد منهجي"
وهذا يختلف جذرياً عن "منهج التأويل الديني" الذي يراجع ماكتبه المتأخرون لابهدف العودة الى فقه القرون المفضلة بل للانقلاب على ذلك كله!
أما الزاوية الثالثة في مثلث "الضروريات الدعوية الملحة" فهي "تنمية إمكانيات الاسلاميين"
فمن المؤلم أن كثيراً من الاسلاميين اليوم لايملكون إلا خلفية شرعية سطحية جدا, فهم بحاجة الى دورات تأهيلية شرعية منظمة.
ومن المؤلم أن كثيراً من طلاب العلوم الشرعية يعانون من قدراتهم المحدودة في أدوات البحث العلمي والعرض والتحليل والاستنتاج, ومهارات التأثير, وأساليب العمل المؤسسي, والجهل المدقع بخريطة التيارات الفكرية والسياسية الحديثة, وغيرها من القدرات والامكانيات ..
وخصوصاً ضعف الالمام بالمداخل الضرورية في العلوم الانسانية التي هي المعادل الموضوعي لعلومهم الشرعية..
طالب العلم اليوم بحاجة ماسة إلى تشكيلة منظمة من العلوم الحديثة .. فالعلوم الشرعية هي المضمون, وهذه العلوم الحديثة هي الوعاء المعاصر.. ولذلك فإن البارود الأصيل لاينفعه مالم يكن معه سلاحاً من الطراز الحديث!
إذن نحن بحاجة إلى :
-مقاومة "التأويل الديني"
-ومقاومة "الفساد المدني"
-وتنمية "إمكانيات الاسلاميين"
هذه كانت تأملات مبعثرة غير منظمة .. أردت بها فقط أن أحرث ذهنك ..
مودتي ..
ابوعمر