شريعة الجهاد في الإسلام لمحو الكفر ودفع العدوان

س: قتال الكفار الذي شرعه الله وسماه جهادًا في سبيله, هل شرع لكفرهم أو لحرابهم؛ فإن كثيرًا من الكتّاب يزعم أن الجهاد شرع دفاعًا إذا حاربونا, ولا يجوز أن نبدأهم بالقتال, أفتونا مأجورين؟
ج: الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد: فهذه مسألة مهمة عظيمة, وقع فيها الغلط من كثير من الناس في هذا العصر, واشتبهت على بعض العلماء فلذا اختلفوا فيها, فقال بعضهم: إنما شرع جهاد الكفار لدفع عدوانهم على المسلمين, وشبهة هذا القول: أنه لا يقاتل ولا يقتل إلا المقاتلة دون من لم يقاتل من النساء والزمنى والرهبان والشيخ الفاني, ومن شبهتهم: فرض الجزية على من أبى الإسلام من المقاتلة, والصواب: أن الجهاد شرع دفاعًا وشرع ابتداءً لكفرهم عند القدرة على ذلك، حتى تكون كلمة الله هي العليا بإسلامهم أو بذلهم الجزية, فمن أدلة النوع الأول قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ), وقوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) على أحد الوجوه في المراد بالموصول في قوله تعالى: (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ) ويدل للنوع الثاني من الجهاد: أن الله أمر بقتالهم ابتداءً حتى يسلموا أو يعطوا الجزية, قال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ...) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) الحديث.
وقد أناط الله قتالهم بوصف الشرك ووصف الكفر, كما قال تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ), وقال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ), وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً...) الآية، وقال عز وجل: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُ مْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) الآية.
وعلى هذا فلو كان قتالهم لحرابهم لما جاز أن نقاتلهم إلا إذا حاربونا, وعليه فلا يشرع إلا جهاد الدفع إذا بدؤونا بالقتال ولا يجوز أن نبدأهم, والله أمر بقتالهم حتى يسلموا, أو يعطوا الجزية، كما في الآيات المتقدمة، وأيضاً لو كان الجهاد إنما يشرع لدفع المعتدي, لما طعن المستشرقون من الكفرة الحاقدين على الإسلام والمسلمين بشعيرة الجهاد؛ لأن دفع المعتدي لا ينكره أحدٌ ولا يلوم عليه، وإنما ينكر أولئك الطاعنون بدْأنا بقتالهم؛ ليسلموا أو ليعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون, ومعلوم أن المشروع في الجهاد: قتال الكفار لهاتين الغايتين: الإسلام أو بذل الجزية, لا قتلُ كل كافر, وإنما يقتل المحارب ويقاتل حتى يسلم أو يؤدي الجزية, ثم بعد ذلك لا يجبر أحد على الدخول في الإسلام, فالغاية العامة للجهاد: أن تكون كلمة الله هي العليا, وهذا يحصل إما بالإسلام أو بدفع الجزية؛ وبذلك تكون السيادة للدولة الإسلامية, وأما النساء والذرية فلا يقاتَلُون؛ لأنهم ليسوا من أهل القتال, وإذا ظُهِرَ عليهم فإنهم لا يقتلون, بل يُستبْقَون سبياً للمسلمين الغانمين, ويكونون تحت الرق إلا من يحرر منهم, وفي هذا الرق سعادة لهم؛ لأن الغالب أنهم يسلمون.
تنبيهات:
1) إنه لا يجوز ابتداء الكفار بالقتال إلا بعد دعوتهم إلى الإسلام, وتعريفهم به وجوبًا أو استحبابًا, إذا كان قد سبق دعاؤهم إلى الإسلام.
2) يجب أن يعلم أن قتال الدفع لعدوان الكافرين ليس كقتال البغاة من المسلمين, بل إذا قاتلهم المسلمون ثم ظهروا عليهم وانهزموا؛ فأنهم يتبعون فيجهز على جريحهم, ويقتل مدبرهم, وتغنم أموالهم, وتسبى نساءهم وذريتهم.
3) إذا عُلم أن غاية الجهاد في سبيل الله: إعلاء كلمة الله بإخراج من شاء الله من الظلمات إلى النور؛ وذلك بالدخول في الإسلام, أو بفرض سيادة الإسلام ونشر عدالته والتعريف بحقيقته، فيجب مع ذلك أن يعلم أنه لا يكفي أن تفتح لنا دول الكفر أبوابها, وتسمح لنا بدعوة شعوبهم إلى الإسلام ولهم السيادة على بلادهم، كما يزعم بعض الناس في هذا العصر أنهم إذا فعلوا ذلك لم يجب قتالهم! وهذا الرأي محدث لا أصل له في كتاب ولا سنة ولا في كلام العلماء. وفي هذا الزعم تلطف مع الطاعنين على الإسلام والمسلمين بشريعة الجهاد في سبيل الله, بل لابد من الجهاد في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا؛ إما بإسلامهم أو بذلهم الجزية، فتكون السيادة للدولة الإسلامية إلا أن تقتضي مصلحة الإسلام والمسلمين معاهدتهم مدة معلومة أو مطلقة غير مؤبدة.
4) قد أنكر بعض المعاصرين ما يسمى بجهاد الطلب! والمراد به: ابتداء الكفار بالقتال, وزعَم أنه ليس في القرآن ولا في السنة ولا في كلام الأئمة المتقدمين جهاد دفع وطلب! وإنما كان فيه ذكر الجهاد بإطلاق؛ فجعل كون اللفظ محدثًا, دليلًا على نفي معناه، وهو ابتداء الكفار بالقتال, وهذا من المغالطة في الجدل! فإذا كان المعنى صحيحًا فلا يضر التعبير عنه بأي لفظ يدل عليه, وفي الحقيقة: إن طلب الكفار ومطاردتهم، وهم الذين أباح الله قتالهم جاء معناه في القرآن قال تعالى: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) أي في طلبهم وقال: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) ولم يقل: فإن كفوا فخلوا سبيلهم, فعلم أن هذا القتال ليس من جهاد الدفع للعدوان, لكن إذا طلب الكفار الصلح ووقف القتال مدة معينة أو مطلقة غير مؤبدة؛ جاز ذلك إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين, قال تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِ ينَ. وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ)الآ ة .
نسأل الله أن يرفع راية الإسلام، ويقيم علم الجهاد، ويقمع أهل الشرك والزيغ والعناد، إنه على كل شيء قدير, ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أملاه: عبد الرحمن بن ناصر البراك
الأستاذ (سابقاً) بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
حرر يوم الجمعة 20/3/1433هـ