خفي الأمر له يخفى
أ. عبدالله بن محمد بن بدير
المعنى الاستعمالي:
خَفِي الأمرُ لَهُ، ومضارعه يَخفَى له، فهو مِن باب فرح؛ وذلك إذا أتى امرؤٌ ما يُعاب عليه أو يُنقَم، آمنًا مِن مَعرَّته؛ لأنه لم يعلَمْ به أحدٌ ممن يخاف اطِّلاعه عليه، فلو قال قائلهم: فعلتُها وخفيت لي، لعنى: فعلتُها ولم تُدرِكني عقوبتها؛ لأن أهل العقوبة لم يطِّلعوا عليها مني.
التمثيل:
• ليَخفيَنَّ لي اليومَ وصالُ مَن أُحِب، لا عيونَ اليومَ ولا رَصَد!
• بلى أيها المغرور، نسيتَ عينَ الشهيد! واللهِ لا يَخفَى لك ولا لأحدٍ عن عين الله شيءٌ!
الاستشهاد:
1 - قال كعبٌ رضي الله عنه: فما رجلٌ يريد أن يتغيَّب إلا ظنَّ أَنْ سيَخفَى له، ما لم يَنزِل فيه وحيُ الله[1].
2 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والخائنُ الذي لا يَخفَى له طمعٌ وإن دق إلا خانه))[2].
3 - وفي الحديث: ((وكان صاحبُ المِحجَن يسرِقُ متاعَ الحاجِّ بمِحْجَنِه، فإذا خَفِي له، ذهب به، وإذا ظهَر عليه، قال: إني لم أسرِقْ؛ إنما تعلَّق بمِحْجَني))[3].
4 - وفي الحديث: ((صاحبُ النار الذي لا يمنَعُه مخافة الله من شيءٍ خَفِي له))[4].
5 - وقال الإمام مالك رحمه الله فيمَن أشرف على الهَلَكة جوعًا حتى حلَّت له الميتة، أيجوزُ له أن يقتات مِن ملك غيرِه لمكان الضرورة؟ قال رحمه الله: إن خَفِيَ له ذلك، فليأخذ منه[5].
6 - وقال عُبَيدالله بن زياد لهانئ بن عروة: ظننتَ أن ذلك يَخفَى عليَّ لك؟![6]
7 - وقال حمزة بن المغيرة بن شعبة رضي الله عن أبيه، في سياق خوفِه من الحجَّاج أن يعلم بمساعدتِه لأخيه مُطرِّف في خروجه على عبدالملك، فقال لجليسه: أخبِرني، ترى ذلك يَخفَى لي؟[7]
أهمية هذا المسلك التعبيري:
الحمد لله الذي هدى للكشفِ عن هذا المسلك التعبيري، ويسَّر الغوص على معناه الفريد في واقع استعمالات السلف رحمهم الله لهذه اللغة الشريفة، فإنه:
1 - واحدٌ مِن مسالك السلف رحمهم الله في التعبير، وهي المسالك التي تُميِّز طبقة لغتهم في طبقات تاريخ اللغة العربية بمميزاتها وخصائصها الفريدة، التي أنشأها عُرْف المستخدمين في عصر التنزيل، وهي ما يجب علينا تعلُّمها إن كانت لنا حاجةٌ بفهم القرآن والسُّنة.
2 - واحد مِن تعبيرات الحوار، أعني أنه ينتمي للغة الحوار العاديِّ المتبادل في الأحاديث اليومية، وهو ما يُساعِدنا على اكتشاف لغةٍ سَلِسَة فصيحة للحوار العادي، في مقابلِ لغة الأدب ولغة العلوم، وذلك يُعِينُنا على إحياء اللغة في الواقع اليوميِّ المعيش يومًا من الدهر، بعد أن نُحْيِيَها اليوم في واقع الدرس اللُّغويِّ السلوكي المسمى بـ"التغطيس".
3 - يعد واحدًا مِن أهم وأجلى أمثلةِ الاستدراك على المعاجم العربية، كما سأُبيِّن ذلك في الملحق الثالث.
الملحق الأول: العلاقة بين المعنى الاستعمالي والمعاني الصناعية
المعنى الصناعي لـ"خَفِي"؛ من قولهم: خَفِي لَه:
خَفِي على وزن فَعِل، ومضارعُه يَخْفَى على وزن يَفْعَل، وهذا الفعلُ وما شابهه في وزن الماضي والمضارع من الأفعال، هو ما يُعبَّر عنه بباب فَرِح؛ لأن فَرِح مضارعهُ يفرَح، وبابُ فَرِحَ هذا من معانيه أن يأتي لمطاوعةِ "أفعل" مِن مادته؛ كما يقال: أفهمتُه ففهِمَ يَفهَم، وأعلمتُه فعَلِم يعلَم، وأغضبتُه فغضِب يغضَب، وأحزَنه الشيطانُ فحزِن يحزَن، وأرضيتُ صاحبي فرَضِي يرضَى، وهلمَّ جرًّا، إلى سخِط ونسِي وشقِي وملَّ (ملِل)، وخاف (خَوِف)، كل ذلك يقال فيه: أسخطه، وأشقاه، وأملَّه، وأخافه، وقد قال الله تعالى على لسان موسى عليه السلام: ﴿ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾ [الكهف: 63]، وقال: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115].
كلٌّ يدلُّ فيه "أفعل" على إجراء الفاعل للفعلِ على المفعول، فالمُعلِّم أجرى فعل الإفهام والإعلام بالتلميذ، وكذلك الشيطان أجرى الإحزانَ بالرجل، وهلُمَّ جرًّا.
وأما "فعِلَ"، فيدل على انفعال الشخص الذي كان مفعولًا في المثال الأول، يدل على انفعاله بنفس الفعل، حتى صار فاعلًا لا مفعولًا، فهو الآن فاعل للفعل في نفسه لا في غيره، فهو الذي فهِم وعلِم وغضِب، وهلم جرًّا.
والفعل المتعدي لواحدٍ صار لازمًا، والمتعدي لاثنين صار متعديًا لواحد، فأغضب كان متعديًا لواحد فصار غضِب لازمًا، وأعلم وأفهم كان متعديًا لاثنين، يقال: أفهمتُه المسألةَ، وأعلمتُه الخبرَ، فصار يقال الآن: علِم الخبرَ، وفهِم المسألةَ.
فكذلك هذا الموضع، كأنه قيل: أخفيتُه فخَفِي يَخفَى؛ مثل: أرضيتُ صاحبي، فرَضِي يرضَى، وهكذا نرى الفعل في باب فرِح لازمًا، ونراه متعديًا لواحد في باب "أفعل".
المعنى الصناعي لـ"لام الجر" من قولهم: خَفِي لَه:
يصح أن نُسمِّي هذه اللام لامَ النصرة، فهي من باب: اكتسَبَ لولده، وتواضَعَ لجليسه، وبذَلَ القِرَى لضيفِه، وتبذَّلت لزوجها.
1 - وقد سَمَّاها المرادي اسمًا عامًّا، فقال: "الخامس: شبه المِلك؛ نحو: أَدُومُ لك ما تدوم لي"[8].
والمعنى على هذا أن الأمرَ خفِي على الناسِ لصالحِه هو، كما تقولُ: شهِد فلان لفلان على فلان، وأقام الحجةَ له عليه، ونحوها أيضًا لامُ المستغاث له.
الملحق الثاني: سياقات الشواهد
2 - مسند أحمد (15789): قال كعبٌ: وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غَزاةً يغزوها إلا ورَّى بغيرِها، حتى كانت تلك الغَزاةُ، فغزاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديد، واستقبَل سفرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَل عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمرَه ليتأهَّبوا أُهْبَةَ عدوِّهم، فأخبَرَهم بوجهِه الذي يريد، والمسلمون مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، لا يجمَعُهم كتابٌ حافظ - يريد الدِّيوانَ - فقال كعب: فقلَّ رجلٌ يريد يتغيَّب إلا ظنَّ أن ذلك سيَخفَى له ما لم ينزِل فيه وحيٌ مِن الله، وغزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابَتِ الثِّمارُ والظلُّ، وأنا إليها أَصْعَرُ"؛ صحيح على شرط مسلم.
وعند البخاري (4418): "فما رجلٌ يريد أن يتغيب إلا ظنَّ أن سيَخفَى له، ما لم ينزِل فيه وحيُ الله".
3 - صحيح مسلم (2865): ((وأهلُ النار خمسةٌ: الضعيفُ الذي لا زَبْرَ له، الذين هم فيكم تبعًا لا يبتغون أهلًا ولا مالًا، والخائنُ الذي لا يَخفَى له طمعٌ وإن دقَّ إلا خانه، ورجلٌ لا يُصبِح ولا يمسي إلا وهو يُخادِعُك عن أهلك ومالك - وذكَرَ البخلَ أو الكذب - والشِّنظِيرُ الفحَّاش)).
4 - صحيح ابن حبان (5622): ((ورأيتُ صاحبَ المِحْجَن مُتكئًا على مِحجَنِه، وكان صاحبُ المحجن يسرِقُ متاع الحاجِّ بمحجنه، فإذا خَفِي له، ذهَب به، وإذا ظهر عليه، قال: إني لم أسرِقْ؛ إنما تعلَّق بمِحجَني))؛ شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
5 - الورع لابن أبي الدنيا (178): عن يزيد بن عبدالله بن الشخِّير، قال: "كنا نُحدث أن صاحب النار الذي لا يمنَعُه مخافة الله من شيء خَفِي له"؛ حسَّنه محمد بن حمد الحمود.
6 - المسالك في شرح موطأ مالك (5/ 319):
"المسألة الثالثة: قولُه: (في الرجل يضطر إلى الميتة، أيأكل منها وهو يجد ثمر القوم؟)، هو كما قال، إن مَن وجد الميتة مضطرًّا إليها ووجَدَ ما لا يمكنه الوصول إليه، فلا يخلو أن يكونَ مما لا قطع فيه؛ كالثمر المعلَّق والزرع القائم ونحوه، أو يكون مما فيه القطع إذا أُخذ على وجه السرقة؛ كالمال في الحِرْز. فإن كان مما لا قطعَ فيه، فقد قال مالك من رواية محمد عنه: إن خفِي له ذلك فليأخُذْ منه، وأما إن وجد ثمرًا أو زرعًا أو غنمًا لقوم، فظن أنهم يُصدِّقونه ولا يُعَد سارقًا، فليأكُلْ مِن ذلك أحبُّ إليَّ مِن الميتة.
فشرَط في المسألةِ الأولى - وهو في الثمر المُعلَّق - أن يخفى له ذلك؛ لمعنيين: أحدهما: أن يعلم أنه لا إثم عليه في ذلك فيما بينه وبين الله، وإنما يجب أن يحترزَ في ذلك من المخلوقين لنفسه؛ فربما أُوذِي أو ضُرِب ولم يعذر بما يدَّعيه من الضرورة.
وشرَط في القسم الثاني أن يُصدِّقوه، وهو في الثَّمر الذي قد آواه إلى حرزِه، والغنم التي في حرزِها، والزرعُ الذي حصد وأوى إلى حرزه؛ ولذلك قال: ربما تقطع، ولم يشترِط أنْ يخفى له ذلك؛ لأن أخذه على وجه السترِ هو الذي يقطع فيه، فإنما يجبُ أن يأخذه معلنًا إن علِم أنهم يصدِّقونه، وإن لم يعلم، فلا يتعرض لذلك؛ لأنه يؤدي إلى قطع يدِه، والذي يأخذ من الثمر المعلَّق، له أن يأخذه على وجه الاستتار؛ لأن ذلك لا يوجب قطع يده بحالٍ.
7 - تاريخ الطبري (5/ 365):
"فقال له هانئ: وما ذاك أيها الأمير؟ قال [عبيدالله بن زياد]: إيه يا هانئُ بنَ عُرْوة، ما هذه الأمور التي تربص في دُورِك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين؟! جئتَ بمسلم بن عَقيل فأدخلتَه دارك، وجمعتَ له السلاح والرجال في الدُّور حولك، وظننت أن ذلك يخفى عليَّ لك! قال: ما فعلتُ، وما مسلمٌ عندي، قال: بلى قد فعلتَ".
8 - تاريخ الطبري (6/ 292): وسلِم مطرف وأصحابه فمضَوا حتى دنَوا من همذان، فترَكَها وأخذ ذات اليسار إلى ماه دينار، وكان أخوه حمزةُ بن المغيرة على همذان، فكرِه أن يدخلها فيُتَّهم أخوه عند الحجاج، فلما دخل مطرف أرضَ ماه دينار كتب إلى أخيه حمزة: أما بعد، فإن النفقةَ قد كثرت، والمؤنة قد اشتدَّت، فأمدد أخاك بما قدرت عليه من مال وسلاح، وبعَث إليه يزيد بن أبي زياد مولى المغيرة بن شعبة، فجاء حتى دخل على حمزة بكتاب مطرف ليلًا، فلما رآه قال له: ثكِلَتْك أمُّك، أنت قتلتَ مطرفًا؟! فقال له: ما أنا قتلتُه، جُعِلت فداك! ولكنَّ مطرفًا قتل نفسه وقتلني، وليتَه لا يقتلك، فقال له: ويحك! مَن سوَّل له هذا الأمر؟! فقال: نفسُه سوَّلت هذا له، ثم جلس إليه فقص عليه القصص، وأخبره بالخبر، ودفع كتاب مطرف إليه، فقرأه، ثم قال: نعم، وأنا باعثٌ إليه بمال وسلاح، ولكن أخبِرني ترى ذلك يخفى لي؟ قال: ما أظن أن يخفى، فقال له حمزة: فوالله، لئن أنا خذلتُه في أنفع النصرينِ له نصر العلانية، لا أخذله في أيسرِ النصرين نصر السريرة.
الملحق الثالث: حديث المصنفات عن هذا الموضع
لقد تتبَّعتُ هذا الموضع موضعَ "خَفِي لَهُ" في كتب اللغة، فإذا المصنفات فيه على ثلاثة أقسام:
أولًا: المصنفات التي فاتها، فلم تورده أصلًا:
أ- معاجم:
9 - ليس في تاج العروس للزَّبيدي، وتاجُ العروس هو الكتابُ الذي شرح القاموس المحيط واستدرك عليه، والقاموس المحيط هو الكتاب الذي استدرك على صَحاح الجوهري وزاد عليه زيادات جَمَّة، جمعها من العُباب الزاخر للصاغاني، والمحكم لابن سِيدَه، ثم هو فوق ذلك "صريحُ ألفَيْ مصنَّف من الكتب الفاخرة"؛ كما يقول مُؤلِّفه رحمه الله.
10 - ولا في لسانِ العرب لابن منظور، وهو الكتاب الذي جمع فيه مُؤلِّفه خمسةَ كتب؛ هي: تهذيب اللغة للأزهري، والمحكم لابن سِيدَه، والصَّحاح للجوهري، وحاشية الصحاح لابن بري، والنهاية لابن الأثير، رحمهم الله.
وتتبَّعتُه في أهم المعاجم المعاصرة التي هي بمثابة النقد والمراجعة للمعاجم القديمة، كما أن منها ما قام على وضعه ومراجعته هيئةٌ لُغَوية كاملة، فكان مَظِنةً للوقوف على أكبر قدر من فوات المعاجم، لكنني بعد البحث:
11 - لم أجده في معجم متن اللغة؛ لأحمد رضا.
يتبع