رد: عبر من سيرة العز بن عبدالسلام
موقفه من السلطان نجم الدين أيوب:
ورغم المناصب الهامة التي تولاها الشيخ في مصر، فقد التزم بقول كلمة الحق ومجاهرة الحكام بها في مصر، كما التزم بها من قبل في الشام، فهو لم يسْعَ إلى المناصب الرفيعة، وإنما هي التي سعت إليه لجدارته بها، ولم يكن يبالي بها إذا رأى أنها تحول دون الصدع بالحق وإزالة المنكرات، فقد تيقن من وجود حانة تبيع الخمور في القاهرة، فخرج إلى السلطان نجم الدين أيوب في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد العساكر مصطفين بين يديه، ومجلس المملكة، وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة، وقد خرج على قومه في زينته –على عادة سلاطين الديار المصرية، وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوىء لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال السلطان: هل جرى هذا؟ فقال الشيخ: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة! يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون- قال: يا سيدي، هذا ،أنا ما عملته، هذا من زمن أبي. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة.
وعندما سأله أحد تلاميذه لما جاء من عند السلطان –وقد شاع هذا الخبر-: »يا سيدي كيف الحال؟ فقال: يا بني، رأيته في تلك العظمة فأردتُ أن أهينه لئلا تكبر نفسُه فتؤذيه. فقلتُ: يا سيدي، أما خفتَه؟ قال: والله يا بني استحضرتُ هيبة الله تعالى، فصار السلطان قُدّامي كالقط«
بائع الأمراء:
وفي مصر تولى منصب قاضي القضاة.. وعقب فترة من الوقت لاحظ العز أن الأمراء في مصر وكذلك قادة الجيش ليسوا من أهلها وليسوا أحراراً على الإطلاق، اشتراهم السلطان من بيت المال.. وعندما شبوا وجدوا أنفسهم أمراء مماليك.. ولهذا فليس لهم أن يتزوجوا بحرائر النساء وليس لهم أن يبيعوا ويشتروا أو يتصرفوا إلا كما يتصرف العبيد.. فبدأ القاضي العز بن عبد السلام يطبق عليهم من أحكام الشريعة ما يطبق على العبيد وبهت السلطان مما صنعه الشيخ واضطرب الأمر في صفوف المماليك.. فقام السلطان بجمع كل الأمراء في القلعة بأمر من الشيخ ثم عرضوا في مزاد وغإلى الشيخ في ثمنهم حتى إذا امتنع الحاضرون عن المزايدة في الثمن لارتفاعه، تقدم السلطان فدفع ثمناً أزيد من ماله الخاص، حتى اشترى جميع الأمراء من المماليك واعتقهم لوجه الله، فأصبحوا أحراراً. وصحح الشيخ عقودهم بما فيهم عقود الزواج، من هنا يتبين لنا كم كان عالمنا حريصاً على اتّباع أدق تعاليم الإسلام.. ملحاً في الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر.
محافظته على أموال المسلمين:
عندما أراد حاكم مصر أن يقاتل التتار، رأى أن أموال خزينة الدولة لا تكفي، ورأى أن يأخذ أموالاً من الناس، فجمع العلماء وقال لهم: ما رأيكم؟ نريد أن نأخذ من الناس أموالاً نستعين بها في تجهيز الجيش، والسلاح، ودفع رواتب الجند، وما أشبه ذلك من المصالح التي لابد منها، ونحن نواجه عدوًّا اجتاح بلاد العراق والشام ووصل إلينا وما في الخزينة لا يكفي لإعداد الجيش فقال له العز بن عبد السلام: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام، وضربته سكة ونقداً وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم، في ذلك الوقت اطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا، فأحضر السلطان والعسكر كل ما عندهم من ذلك بين يدي الشيخ، وكان الشيخ له عظمة عندهم وهيبة بحيث لا يستطيعون مخالفته فامتثلوا أمره وانتصروا.
هذا الموقف تناقلته الأمة وعرفت مَنْ وراءه، وأن الذي حفظ أموالها وحماها من أن تغلب أو يؤخذ مالها بغير حق هو العز بن عبد السلام.
محاربته للبدع:
عندما توفى خطيب الجامع الأموي في دمشق "الخطيب الدولعي" تولى الخطابة مكانه العز بن عبد السلام وكان العز من أشد العلماء في الإنكار على المبتدعين فلما تولى الخطابة والإمامة في الجامع الأموي صار حرباً على المبتدعة فأبطل بدع الخطباء السابقة مثل بدعة السيف على المنبر والأعلام المذهبة ولبس السواد والسجع في الكلام وجعل الأذان أذاناً واحداً بدلاً من اثنين وأبطل صلاة الرغائب وصلاة النصف من شعبان وصار رأساً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يكن يحابي أحداً من الناس حتى أنه ترك مدح الملوك في الخطب رغم عادة سابقيه في ذلك
كراماته وبطولاته:
كان الشيخ العز بن عبد السلام له كرامات وبطولات نادرة حتى أنه وهو في السبعين من عمره خرج للجهاد ضد الصليبيين في دمياط وبانت له كرامة هائلة أثناء القتال حيث وقف في مقدمة سفينة مصرية في بحر دمياط وسفن الصليبيين مقبلة بسرعة ناحيتهم فنادى بأعلى صوته "يا ريح خذيهم يا ريح خذيهم" وهو يشير ناحية سفن الصليبيين فانقلبت الريح عاصفة وحملت سفن الصليبيين في عرض البحر حتى غرقت فكبر المسلمون وسمعوا منادياً في الهواء وهم لا يرونه : "الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من أطاعته الريح".
موقف طريف:
وكان من مواقف الشيخ العز الطريفة أنه عندما كان في دمشق حصل غلاء شديد حتى بيعت البساتين بأسعار زهيدة جداً لشدة الغلاء فقالت له زوجته "خذ هذا المصاغ واشتري لنا بستاناً نتنزه فيها ونستروح فيه" فأخذ الشيخ مصاغها ثم تصدق به على الفقراء فلما عاد قالت له "أشتريت البستان" قال لها نعم اشتريت لك بستاناً في الجنة تصدقت بثمنه على الفقراء فقالت له جزاك الله عني خيراً .
مؤلفاته:
العز بن عبد السلام كانت له كتب في الفقه والحديث والأصول والتفسير وغيرها، ولكنه مع ذلك كانت له كتب أخرى لها ارتباط بالواقع مثل:
كتاب: "الفتن والبلايا والمحن والرزايا" الذي يتكلم فيه عن المصائب والصبر عليها وما أشبه ذلك، وهذا له علاقة كبيرة بالمصائب والمشاكل التي كانت تعيشها الأمة في عصره.
وله كتاب اسمه: "ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام"، وقد ألَّفَ هذا الكتاب لما اجتاح الصليبيون بلاد الشام، وبدؤوا يحاربون المسلمين، ففزع كثير من المسلمين وبدؤوا يفرّون إلى الأمصار الأخرى، ويتركون الشام خلفهم، فكيف عالج العزّ هذا الأمر؟
لقد ألَّفَ هذا الكتاب الذي يثبِّتُ به المسلمين، ويحاول أن يجعلهم يقيمون في بلاد الشام ولا يخرجون منها؛ بل يحثّ المسلمين في الأمصار الأخرى أن يحرصوا على الانتقال إلى بلاد الشام وسكناها ومدافعة الأعداء فيها.
وله كتاب اسمه: "أحكام الجهاد" تكلم فيه عن الجهاد وأحكامه وما يتعلق به وفضله، إضافة إلى أنه هو نفسه كان يقوم بالجهاد مباشرة، ويشارك فيه حتى إنه في إحدى المرات، لما غزا التتار بلاد مصر جبن أهل مصر عنهم وضاقت بالسلطان وعساكره الأرض فاستشاروا الشيخ عز الدين فقال : اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر فامتثلوا أمره، وكان العز بن عبد السلام في جيشه يثبّت الناس، ويرفع معنوياتهم، ويقويهم، ويلهب حماسـهم، حتى كانت الدائرة على الأعـداء وانتصر المسلمون.
ومما صنّف العز بن عبد السلام وله تعلق بالواقع أيضًا، ما كتبه في الفتاوى، حيث ناقش في هذه الفتاوى بعض القضايا المتعلقة بعصره.
وكان الشيخ وهو على فراشه يسمع حكايات أخرى عن كرامته، فيغضب وينكر ما يسمع، ويستغفر الله لنفسه وللرواة، ويطالب الناس ألا يبالغوا فيما يحكون عنه فما هو إلا عبد فقير لله عمل جهده ليفيد الناس ويقيم الشريعة ويدافع عن السنة ويميت البدعة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.. وبلغ الثالثة والثمانين، فطلب إلى أبنائه أن يسندوه إلى المدرسة الصالحية التي تعود أن يدرس فيها.. وكان شديد الضعف من المرض، فحاولوا أن يثنوه ولكنه صمم.!!
وساندوه إلى المدرسة، فألقى الدرس..
كان درسه الأخير، فقد مات في المدرسة وهو يفسر الآية الكريمة: (الله نور السموات والأرض).فاضت روحه.. لتعود إلى نور السموات والأرض، التي نعمت من فيضه طوال الحياة.
وشيعته مصر كلها برجالها وأطفالها ونسائها.. وأمر السلطان الأمراء أن يحملوا نعش الشيخ، واشترك معهم السلطان نفسه في حمل النعش.
وأقيمت له في دمشق جنازة ضخمة وصلّوا عليه صلاة الغائب.
وهكذا تمضي حياة العز بن عبد السلام في كفاح متواصل، وتواضع جم، ونفس أبية مترفعة عن حطام الدنيا، فنال ثوابيْ الدنيا والآخرة. ويختاره الله إلى جواره، وتمر جنازته تحت القلعة بالقاهرة، وشاهد الملك الظاهر بيبرس كثرة الخلق الذين معها فقال لبعض خواصه: "اليوم استقر أمري في الملك، لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه لانتزع الملك مني".
رحم الله سلطان العلماء، ورادع السلاطين، ونسأله تعالى أن يرزقنا من أمثاله. اللهم آمين
رد: سيرة العز بن عبدالسلام
جزاكم الله خيرا و نفع بكم
رد: سيرة العز بن عبدالسلام