أدب شعر الانحطاط وأثره في شعر النهضة!
بقلم: الدكتور/ خالد إبراهيم يوسف*
درج مؤرّخو الأدب علي تحديد العصور الأدبيّة بحدود زمنيّة، وهم واهمون، أو علي علم أنّ الأحداث علي جلالها لا تقوي علي مسح المخزون الثقافي والفكري والمعرفي عند الشعوب، بين ليلة وضحاها، بل تحتاج إلي أجيال متعاقبة، وأحداث متوالية، وتجاذب مستمرّ وعنيف بين ما كان وما هو كائن وسيكون. وقد يبقي، وإلي الأبد، الماضي استمرارا في الحاضر. ورغم ذلك يصرّ بعض الدّارسين، في الأدب العربي، علي نعت الفترة الممتدّة ما بين غزو هولاكو بغداد (سنة 656 هـ/ 1258 م) وغزو نابليون مصر (سنة 1213 هـ/ 1798 م) بعصر الانحطاط.
لا شكّ أنّ هذه الفترة فترة حالكة خيّمت علي العرب قرابة خمسة قرون، لم يعد لهم فيها حكم ولا نفوذ، لا سيّما في أواخرها. فترة شهدت تداعي مداميك المجد المتألّق الذي بني صرحه العرب منذ عهد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -. فترة مشحونة بالمآسي والويلات من قتل وتهديم وتهجير وسلب ونهب وسبي (1) ... ففي هذا الجوّ المكفهرّ بتوالي المحن والكروب، من تدمير الحواضر، وتقتيل العلماء، وتحريق الجوامع والمكتبات، وسيطرة العنصر العجمي واستبداده ... من الطبيعي أن تتخدّر العقول، وتنحطّ الآداب والعلوم.
أمّا ما أتحفّظ تجاهه، وأري فيه شيئا من التجنّي والإجحاف، وعدم تحرّي الدّقة، فهو تعميم تسمية (عصر الانحطاط) علي الفترة ما بين عامي (1258 و1798) وشموليّتها، حتّي باتت تشمل كلّ المرافق، وتوسم العصر بميسم التخلّف والجدب والخمول ... فبات مفزعة يتحاشاها الدّارسون. وألقت هذه التسمية بثقل ظلّها علي هذا العصر، فأعرض عنه الباحثون.
ما أراه، أنّ صورة عصر الانحطاط هذا، لم تكن كما رسخت في عقول النّاس، صورة يغشاها الظلام الدّامس. إنّما لاح لنا في هذا اليمّ القاتم، المشحون بمظاهر التخلّف ووجوه الانحطاط، جزر لألاءة تذكّرنا علي الأقلّ بمنائر السّلف، إن لم تتخطّها، والجمود أو السبات والثبات والركود ... برأيي، وإن لا يشكّل خطوة إلي الأمام، فهو علي الإطلاق ليس تراجعا إلي الوراء.
الحقيقة أنّ الانحطاط السياسي هو علّة العلل التي جرجرت بأذيالها الانحطاط الاقتصادي والاجتماعي والفكري ... ولا بدّ أن يحدث هذا تدنيّا في الجمالية، وجفافا في الأريحيّة، وإغراقا في التكلّف والصناعة.
ومن عجائب الأمور أن تلقي اللّغة العربيّة كلّ هذه الأهوال، التي ذكرتها، ثمّ تصمد حيّة قويّة قرونا من الزّمن، عزلاء لا قوّة سياسيّة تسندها، ولا سطوة أدبيّة مستجدّة، تجعلها مرهوبة الجانب. لم تندثر شأن غيرها من اللّغات الأخري التي اندثرت وبادت! فما سرّ ذلك؟
الواقع أنّ اللّغة العربيّة، لغة القرآن الكريم، هي لغة الدين الذي اعتنقته معظم الدول التي توالت علي البلاد العربيّة. لا نستثني من ذلك المغول (2). ثمّ وإن حصر هؤلاء همّهم في الإجهاز علي العرب، إلاّ أنّ سعيهم في سبيل علومهم كان بأكثره عربيّا، وكتب باللّغة العربيّة.
ناهيك أنّ مصر والشّام كانتا قبل أن يستولي عليهما العثمانيّون، ملاذ الأدباء والعلماء الفارّين من وجه المغول، أو من وجه الفرنجة بالأندلس. فالمماليك، وإن لم يكن لهم آصرة علي اللّغة العربيّة، إلاّ أنّهم عطفوا علي أهلها وقرّبوا أصحابها واعتمدوا عليهم في تنظيم شؤون دولتهم، فأكثروا المدارس في مصر والشام، واعتمدوا علماء العرب في التأليف، وفي تولّي أمور دواوينهم (3) ... فانتقلت بذلك مراكز العلم والأدب والمعرفة من بغداد وبخاري والرّي وقرطبة وإشبيلية إلي القاهرة والإسنكدريّة ودمشق وحلب وحمص وحماه وغيرها من مدن مصر والشّام، حتّي اقترنت أسماء كثيرة من العلماء والأدباء ينسبهم إلي مدنهم؛ القاهري والسيوطي والمحلي والدمشقي والحلبي والمقدسي ...
وعلي شاكلة المماليك، كان العثمانيّون باديء أمرهم، في جهلهم وخشونتهم لا يعرفون غير السيف والحرب، فاعتمدوا اللّغة العربيّة برهة من الزّمن. وعندما استتبّ لهم الأمر، وتحضّرت لغتهم، وأصبحت قادرة علي استيعاب العلوم والآداب، عمدوا إلي تتريك رعاياهم، وإضعاف عصبيّتهم. فهبطت اللّغة في عهدهم هبوطا أفقدها رونقها، وفسدت ملكة البلاغة، وجفّت القرائح ... وخيّم ليل طويل جلته مدافع نابليون.
جملة القول: إنّ اللّغة العربيّة لم تنحدر في عهد المماليك انحدارها علي عهد بني عثمان. وإن يكن ضعف أولئك، أعني المماليك، في اللّغة قد جعلهم يؤثرون الأزجال العاميّة علي الشّعر الفصيح، فغلب القوّالون علي الشّعراء، والعاميّة علي الفصحي. سيّما وما زلنا رغم ذلك نستنير، في هذا الليل الطويل، بانوار كواكب لامعة في مجالات العلم والأدب (4).
ففي ميدان الشّعر يطالعنا كثير من أصحاب القصائد البديعة التي جمعت بين الرّقة والجزالة، من أمثال: الشاب الظريف، وشرف الدين البوصيري، وابن الوردي، وصفي الدين الحلّي، وابن نباتة وغيرهم.
وفي المعاجم وعلوم اللّغة، من نحو وصرف وعروض وبلاغة ... نبغ رجال ما زالوا حتّي يومنا مقصد الألسنيين ومحطّ إعجابهم وتقديرهم، وعلي رأسهم: ابن مالك الطائي، وابن منظور، وصاحب الآجرّميّة محمّد بن داود الصنهاجي، وابن
هشام، والفيروزبادي، وأبو القاسم السمرقندي، وسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني وآخرون.
وفي العلوم الشرعيّة، وإن كنّا لا نجد في هذه الحقبة أعلاما يضاهون السّلف، إلاّ أنّنا نجد فقهاء ومحدّثين ومجتهدين ... لا يقلّون علما ومعرفة، في علوم الدين، عن الأئمّة والفقهاء السابقين. فلا يجر أنّ أحد علي الغض من شأن ابن قيّم الجوزيّة، أو عبد الله بن عمر البيضاوي، أو محبّ الدين الطبري، أو حافظ الدين النّسفي، أو مظفّر الدين بن السّاعاتي البغدادي، أو حسن بن علي بن داوود، أو عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، فلكلّ من هؤلاء العلماء الأجلاّء أكثر من مؤلّف في علوم الشريعة ومتفرّعاتها.
وفي العلوم الكونيّة، من طبّ وصيدلة وكيمياء ورياضيّات ومنطق، لم يبخل علينا هذا العصر برجالات تركوا بصماتهم عميقة راسخة في علوم الغرب الحديثة. منهم: ابن النفيس، وقطب الدين محمود الشيرازي، وابن كثير، وعضد الدين الايجي، وابن الهائم، والدميري، وبدر الدين محمّد المارديني.
وخلّف كتّاب السّير، في هذه الحقبة، ما لا بدّ من الرّجوع إليه رجوعا أساسيّا في دراسة علم من العلوم، أو فرع من فروع المعرفة عند العرب. ومن أشهر هؤلاء الكتّاب: تاج الدين أبو طالب بن أنجب البغدادي، وابن خلّكان، والقزويني، هؤلاء الكتّاب: تاج الدين أبو طالب بن أنجب البغدادي، وابن خلّكان، والقزويني، وأبو الفداء وشمس الدين الذهبي، وصلاح الدين الصّفدي، وابن كثير، وابن بطّوطة، وابن خلدون، والمقريزي، والعسقلاني.
كما خلّفت لنا هذه الحقبة موسوعات امتاز أصحابنا بكمال التوسّع في كثير من علوم عصرهم، وأهمّهم: النويري، وابن فضل الله العمري، وعلي بن محمّد الجرجاني، والقلقشندي، والأبشيهي.
ورغم كون الحقبة العثمانيّة أقتم صفحة من صفحات العروبة، إنسانا وعلما وأدبا وحضارة، ومع أنّها فصل الشحائح الذي ساد العقل العربي، ما يقارب أربعة قرون، مع كلّ ذلك لا نفتقر إلي عقول نجت من هذا الجفاف، وأعطت علما وافرا وأدبا جمّا، وأسهمت في شتّي مجالات المعرفة. أمثال: ابن أيّاس، وعبد الوهاب الشعراني، وابن طولون، وإبراهيم الحلبي، وداود الانطاكي، وبهاء الدين العاملي، وشهاب الدين الخفاجي، وعبد القاهر البغدادي، وعبد الغني النّابلسي، ومصطفي بكر الصديق، والسّيد مرتضي الزبيدي، وغيرهم الكثير.
فهذا العرض السريع والموجز، لما سمّي بعصر الانحطاط، قد يظهر ما في التّسمية من تجنّ وإجحاف أرهبا الدّراسين، وأجفلا الباحثين. ونظرة سريعة علي نتاج هذا العصر ورجالاته، ربّما أبانت صحّة وصدق ما نراه. وربّما جلت هذا الغموض الذي شابه، بسبب تلك الفكرة السّائدة عند أكثر الدّراسين؛ إنّ هذا العصر هو عصر الضعف والانحطاط والتخلّف ... وبسبب قلّة الدراسات الوافية التي تناولت آدابه، والعناية بها كما عني بآداب العصور السّابقة من جاهليّة وإسلاميّة وأمويّة وعبّاسيّة.
ولعلّ في إهمال دراسة هذه الحقبة إختلاطا في الأمر. إذ جعل بعضهم تاريخ سقوط بغداد (656 هـ) حدّا فاصلا بين قوّة الدّولة العربيّة وبين ضعفها وانحلالها، وزعم أنّ هذا التّاريخ هو كذلك الحدّ الفاصل بين أدب القوّة والتجدّد، وأدب الضعف والانحلال.
ومهما قيل في سمات هذا العصر وعلومه وآدابه، من ضعف وانحلال وانحدار إلي أدني الدّركات، وافساد اللّغة بوابل منهمر من العناصر الأعجميّة، وفصاحة آضت إلي العجمة والرطانة، وأساليب قديمة ومعان مبتذلة ... مهما يكن من أمر، فإنّ هذا العصر جدير بالدّراسة والعناية اللازمتين، لأنّه حلقة من حلقات تاريخنا وفكرنا وأدبنا وفنوننا وعلومنا ...
ومهما قيل في علماء هذا العصر وأدباء، بأنّهم ضغطوا مسائل العلم، وحقائق المعرفة في تعاريف وحواشي اكتنزت فيها المعاني إكتنازا مبهما غامضا، أو تكرّرت فيها تكرارا مملاّ، فإنّ هذه المتون علي ما بها من علل، قد حفظت الجوهر، وحرصت عليه من الضياع، في عصر الذلّ العربي. فلو لا حفظة التراث، لكان العرب والعروبة نسيا منسيا، ولولّت ريحهم في مياه دجلة والفرات، وحرائق دمشق، وتتريك الآستانة.
ومن منطق احترام الماضي كعنصر يسهم في تكوين الحاضر، وفي التهيئة للمستقبل وثباته، ندعو إلي فهم أفضل لعالمنا الحديث والمعاصر، بدراسة ماضيه وأصوله. لعلّ الإنجازات النبيلة والمتأصّلة في الماضي تعبّر عن نفسها، وعن فعاليتها من خلال الحاضر، الحبل غير المنقطع الذي يشدّ المستقبل بالماضي.
ولمّا كان (للقديم جماله، نشعر به نحن شعورا منقوصا وكان القدماء يشعرون به شعورا كاملا) (5)، سنحاول، قدر الإمكان، أن نجبر أنفسنا علي إتقان لغتهم وحياتهم وظروفهم المختلفة، لنشعر من الجمال بما كانوا يشعرون به. كان للإنتصارات التي حقّقها بعض القادة المسلمين، أثر كبير في إثارة كوامن الفخر والإعتزاز، وبعث العاطفة الدينيّة. إذ كثيرا ما مثّل القائد الدين، ودافع عن مقدّساته وحرماته.
إنّ حروب الإفرنج المعروفة بالحروب الصليبيّة، التي انبعثت من الغرب الأوروبي المسيحي، في العصور الوسطي، مرتدية في هجومها علي بلاد المسلمين رداء الدين، وحاملة شعار الدّفاع عن مسيحيّي الشّرق، وحماية الأماكن المقدّسة، لا شك أنّها كانت تضمر بين طيّاتها أسبابا أخري، وتهدف إلي قطف ثمار أبعد من حماية بيت المقدس، وتأمين سلامة الحجّاج (6). فالأسباب الدينيّة إلي جانب أوضاع أوروبا الدّاخلية والخارجيّة، السياسيّة منها والتجاريّة، بالإضافة إلي ضعف المسلمين آنذاك وتفرّقهم ... كانت كلّها كافية لإيقاظ الشعور العدائي عند النّصاري تجاه المسلمين، وجعل القبر المقدّس هدفا يحرّض البابا (أربان الثاني Urban" المؤمنين من النّصاري علي حمل الصليب والزّحف إلي فلسطين.
(و من الدلائل البارزة علي تغلّب العنصر التجاري عند المحاربين، أنّهم حين احتلوا مدينة دمياط في الحملة الخامسة، عرض عليهم الملك الكامل أن يعطيهم بيت المقدس، ومعظم مدن فلسطين، مقابل تركهم لدمياط والسواحل المصريّة، ولكنّهم رفضوا هذا العرض، ولو كان غرضهم دينيّا فقط ما تردّدوا في قبوله، بعد أن وضح لهم أنّ السلطان الكامل ينزل لهم عن مدينة بيت المقدس و غيرها من المدن المتّصلة بأصول الديانة المسيحيّة، وهي التي قامت الحروب الصليبيّة من أجلها بادّعاء المنادين لها) (7).
علي كلّ حال، إنّ حروب الفرنجة التي التي اتسمت بالصليبيّة، ولوّثت طهر الصليب في مجازر رهيبة ضدّ المسلمين وغيرهم، كان من نتائجها أن راح المسلمون يناصبون النّصاري العداء، حتّي ولو كانوا من قومهم وأبناء جنسهم.
والشّاعر العربي لم يكن غافلا عمّا يدور في بلاده من أحداث، ولا براض عن الحالة التي استكان إليها في ظلّ الغلبة والقهر والإستعباد. إنّما كان كلّما استبشر بفتح، أو لاحت له بارقة أمل في قائد، أو توسّم الخير في غد أفضل، كان يهبّ ليعبّر عمّا يجيش في صدره. لا بل كان للشعراء المسلمين أثر واضح في حثّ القادة، ودفع المقاتلين إلي بذل التضحيات واسترجاع البلاد ومقدّساتها من أيدي الفرنجة. كما كانوا عقب كلّ نصر ينتهزون الفرصة للتعبير عن تطلعاتهم إلي تحقيق نصر آخر، بشعر صادق العاطفة، منبعث من نفوس مخلصة، ورغبة ملحّة في طرد الغزاة وتحقيق أماني الشّعب في استعادة بلاده ومقدّساته.
ومن هذا القبيل قصيدة الشّهاب محمود الحلبي التي مطلعها: (الحمد للّه ذلّت دولة الصّلب) (8)، والتي خلّد فيها استيلاء الأشرف خليل علي مدينة عكّا (سنة 690 هـ)، وهي من أكبر المدن المتبقّية في أيدي الصليبيين، وسقوطها يعني نهايتهم.
ومع مطلع القرن العشرين، سقطت رابطة الخلافة الإسلاميّة التي اتصلت حلقتها بين العرب والترك خلال ثلاثة عشر قرنا ونصف القرن. وبقي الإسلام محرّك العواطف القوي علي موطن الخلافة أثناء الحرب العالميّة الأولي، وفي السنوات التي تلتها. فعلي الرّغم من إعلان انجلترا حمايتها علي مصر، وزوال سيادة تركيا عليها، ومع كم الأفواه، وكبت المشاعر وتوالي (الفرمانات) السلطانيّة ... ظلّ الرأي العام المصري علي ولائه للخلافة، وزاد ضيق المصريين بالانجليز. (وقد كان معظم هذا الضيق يرجع في بداية الأمر إلي أنّ إعلان الحماية قد وضع شعبا مسلما تحت سيطرة سلطات مسيحيّة) (9). ويخطيء من يهمل العنصر الديني. فالواقع أنّ الإنجليز لم يتنكّروا لوجود (ما يقابل هذا الشعور الإسلامي من عصبيّة مسيحيّة في بلادهم. وهذا هو اللورد ويفل ... ينقل عن إحدي المجلات الإنجليزيّة صورة رمزيّة للقائد الإنجليزي اللنبي في عودته من حرب فلسطين وقد كتب تحتها: العودة من الحروب الصليبيّة. وأخذت الصحف الإنجليزيّة تلحّ في المطالبة بإخراج التراك من الآستانة ... وأرسل اثنا عشر أسقفا في الآستانة برقيّة إلي رئيس أساقفة كانتربري يدعونه فيها إلي المساعدة علي إخراج الأتراك من الآستانة ... وأرسل أسقف نيويورك إلي رئيس أساقفة كانتربري برقيّة بهذا المعني بالنيابة عن مائة أسقف وشكره علي المساعي التي يبذلها في الحروب الصليبيّة التي تبذل ضدّ بقاء الأتراك في الآستانة. فرد رئيس الأساقفة معربا عن أمله في أن تشترك أمريكا في القيام بنصيبها في حماية الشعوب الشرقيّة المظلومة. ويصرّح القائد الفرنسي بيير كيللر بهذه الدوافع الصليبيّة حين يقول في كتابه عن القضيّةالعربيّة . إنّ مصالح فرنسا في الشرق الأوسط هي قبل كلّ شيء مصالح روحيّة. وتعود هذه العلاقات علي عهد الصليبيين، حيث وقعت معاهدات لحفظ الأماكن المقدّسة) (10).
ويكاد اليأس يقتل نفوس المسلمين علي مصير الآستانة، وقد تقاسمها الإنجليز والطليان والفرنسيون، لو لا أن ترامت إليهم ثورة الترك في الأناضول، بقيادة مصطفي كمال، وتمرّدهم علي إرادة الاحتلال، وما أملته علي تركيا في معاهدة (سيفر). فإذا التمرّد ثورة، والثورة انتصار تجلّي في إجلاء اليونان عن الأناضول كلّه في أواخر سنة 1922 م.
(والذي يقرأ قصائد الشعراء الذين هلّلوا لهذا الانتصار يحسّ أنّهم كانوا يعتبرونه إنتصارا للإسلام علي المسيحيّة، كما يقول اللّورد ويغل) (11). وفي هذه المناسبة أنشد أمير شعراء عصر النهضة، أحمد شوقي، قصيدته الشهيرة (انتصار الأتراك في الحرب والسياسة) (12)، وقد قرن فيها مصطفي كمال برجالات الإسلام من أمثال خالد بن الوليد، وصلاح الدين الأيوبي، وانتصاره بانتصار المسلمين ببدر. وقد أسّس لبناتها من طيف قصيدة الشهاب محمود السّابقة الذّكر، وأعجب بمطلعها وكاد به يفتتح قصيدته غير مكتف بالبحر والقافية والروي.
فالشّهاب، بعد حمد الله، في مطلع قصيدته، يحيل عزّة الإسلام، والحلم الحقيقة، إلي الأتراك، حي يقول:
الحمد للّه زالت دولة الصّلب وعزّ بالترك دين المصطفي العربي
هذا الذي كانت الآمال لو طلبت رؤياه في النّوم لاستحيت من الطلب
وهذا ما يكاد شوقي يردّده في مطلع قصيدته، حيث يقول:
الله أكبر كم في الفتح من عجب يا خالد التّرك جدّد خالد العرب
يا حسن ؤمنية في السيف ما كذبت وطيب ؤمنية في الرّأي لم تخب
فالحمد والتكبير من ينبوع واحد، وكذلك الآمال والأماني. إنّما نشوة النّصر عند الأوّل ألذّ وأحلي، لأنّ الاقدام عنده كان ضربا من المغامرة، ومن المستحيلات التي استحالت حقيقة. في حين، وإن جعله الثاني عجيبة من العجائب، إلاّ أنّه بني ذلك علي أسس ثابتة في علم الحروب؛ سيف لا يخطيء ورأي لا يخيب ... فأبطل بذلك الأعجوبة، وباتت واقعا لا مكان للمفاجآت فيه، لا بل العكس هو عين الصواب، فالهزيمة في هذه الحال هي العجب العجاب.
انظر معي إلي تلك الصّورة التي صوّرها الحلبي جيوش الكفر المنهزم، وذاك الفرار العشوائي غير المنظّم، أمام الأشرف، وقد خبط جند الأعداء خبط عشواء، كلّ يولي الأدبار، يودّ النجاة برأسه.
لم يبق بعدها للكفر إذ خربت في البرّ والبحر ما ينجي سوي الهرب
ألا توحي إليك هذه الصّورة أنّ الهول والرّعب وفداحة الخطب وفقدان الرّشد ... تخيّم علي عكّا؟
وانظر معي كذلك إلي شوقي وقد قال:
لم يدر قائدهم لما أحطت به هبطت من صعد أم جئت من صبب؟
أخذته وهو في تدبير خطّته فلم تتمّ وكانت خطّة الهرب.
ألم يعقلن شوقي هذه الصّورة؟ ألم يجمع شتات فكر قائد اليونان بعد تشتّت ليضع خطّة هرب محكمة؟ ألا يوحي إليك ذلك أنّ رباطة الجأش والمتّسع الزمني الذي يسمح برسم خطّة وإحكام تنفيذها إكبار للقائد المنهزم السّاعي إلي نجاة جنده؟ ألم يحجّم شوقي الصورة، ويحيي الأمل في نفوس من جعلهم الشهاب علي قاب قوسين من الموت أو أدني، يصارعونه برّا وبحرا؟
أعتقد أنّ في ذلك شيئا من الايجاب، ولو كان الجوّ سبيلا للنجاة، عهد الشهاب، لما تخلّف عن ذكره. فما بال الأمير، وهو ربيب الطائرة والصاروخ والمدفع ... قد قصّر في هذا المجال؟
ثمّ بعد، كيف تلتقي (خطّة الهرب) وقوله:
لمّا صدعت جناحيهم وقلبهم طاروا بأجنحة شتّي من الرّعب
جدّ الفرار فألقي كلّ معتقل قناته، وتخلّي كلّ محتقب؟
أمّا ابتهاج المسلمين بنصرهم، فقد عبّر عنه الشّهاب محمود بقوله الموجز الشامل:
لم يبلغ النّطق جهد الشكر فيك فماعسي يقوم به ذو الشّعر والخطب
فقرّ عينا بهذا الفتح وابتهجت ببشره الكعبة الغرّاء في الحجب
فأخذ شوقي المعني، وجعل يمدّه، ويطوّله، ويفصّله، ويقلّبه علي وجوهه، ولكنّه لم يجوّده، ولم يأت فيه بطائل، ولم يبلغ منه ما بلغ سلفه. ومما جاء في ابتهاجه الذي ضمّنه حوالي عشرة أبيات:
لمّا أتيت ببدر من مطالعها تلفّت البيت في الأستار والحجب
وهشّت الرّوضة الفيحاء ضاحكة إلي المنوّرة المكيّة الترب
ومسّت الدّار طيبها وأتت باب الرسول فمسّت أشرف العتب
وأمّا ساحة المعركة، فقد صوّرها كلّ من الشاعرين، وقد استوحيا موادهما من القرآن الكريم. فقال شوقي:
ما كان ماء (سقاريا) سوي شعر طغت فأغرقت الإغريق في اللّهب
لمّا انبرت نارها تبغيهم حطبا كانت قيادتهم حمّالة الحطب
صورة لا بأس بها، وشعر يحتفظ بشيء من الجمال، رغم إسرافه البديعي، لا سيّما في البيت الأوّل، إلاّ أنّه أخذ من قول الشهاب في عكّا:
أضحت أبا لهب تلك البروج وقد كانت بتعليقها (حمّالة الحطب).
قول فيه المبالغة والاقتصاد، وفيه اللّفظ الرصين يدلّ علي المعني الجيّد، ذوّبه شوقي دون أن يصل إلي شيء.
أخيرا في هذا الجوّ الميداني الذي يكاد يكون واحدا عند الشاعرين، لا بدّ من سؤال تقليدي وبديهي: أيّ الشّاعرين أشعر؟
لا شكّ أنّ شوقي من أعظم المحدثين في إقام المجد الشّعري في الأدب العربي الحديث، إلاّ أنّه من أبرع مقلّدي المتقدمين معني وصورة ولفظا. فقد عارض في قصيدته هذه، قصيدة أبي تمام (فتح عموريّة) والتي مطلعها:
السّيف أصدق أنباء من الكتب في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب
فهي من البسيط ورويها حرف الباء مكسور. وكان قد سبقه إلي ذلك الشهاب محمود الحلبي الذي اقتبس، بالكامل، بيت أبي تمّام:
لمّا رأت أختها بالأمس قد خربت كل الخراب لها أعدي من الجرب.
إنّما استيحاء الحلبي جاء يمثّل عصره، ويصوّر نصره بوقعه وهوله وعدده وعدّته ... في قصيدة مفتوحة الأفق، موجزة اللّفظ، شاملة المعني.
أمّا قصيدة شوقي الطويلة، المحدّدة بتفاصيلها، و(التي تصف انتصارا ضخمًا بعد الحرب الكبري فلا تعرض في وصفها الطويل المفصّل للمدفع ولا للطيارة ولا للتنك ولا لغيرها من أدوات الحرب في العصر الحديث، وإنّما اكتفت بالخيل والسيف والرمح والدّرع ... ) (13).


(للحديث صلة بإذنه تعالى)
__________
(*) أستاذ الأدب العربي في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية. الفرع الخامس.
(1) راجع في فظائع المغول: طه ندا - فصول من تاريخ الحضارة الإسلاميّة، ص 165 وما بعدها، وابن خلكان - وفيات الأعيان - في ترجمته لياقوت الحمودي، وستودارد - حاضر العالم الإسلامي، ص 16 وما بعدها.
(2) اعتنق بعض حكام المغول الإسلام، وجعله (غازان محمود) سنة 1304 م دين الدّولة الرسمي وفرضه علي رعاياه.
(3) انظر: د. نقولا زيادة - دمشق في عصر المماليك - مكتبة لبنان - بيروت - 1966.
(4) راجع علي سبيل المثال لا الحصر: السيّد أحمد الهاشمي - جواهر الأدب - جـ 2، و شاخت ويوزورث - تراث الإسلام، ولوثروب ستودارد - حاضر العالم الإسلامي.
(5) طه حسين - الأعمال الكاملة - المجلد 12 - القسم 1 - ص 381 - دار الكتاب اللبناني - بيروت 1974.
(6) راجع في هذا الموضوع: نور الدين حاطوم - تاريخ العصر الوسيط في أوروبه، وفيليب حتي - تاريخ العرب، وستيفن رنسيمان - تاريخ الحروب الصليبيّة، ومحمد مصطفي زيادة كفاحنا ضدّ الغزاة، ولوثروب ستودارد - حاضر العالم الإسلامي.
(7) د. محمد علي الهرفي - شعر الجهاد في الحروب الصليبيّة في بلاد الشام، ص 109.
(8) م. ن. ص 111 - عن المنتخب في تكملة تاريخ حلب (مخطوط)، ص 207.
(9) د. محمّد محمّد حسين - الاتجاهات الوطنيّة في الأدب المعاصر - جـ 2 - ط 3، ص 10، دار النّهضة العربيّة - بيروت 1972.
(10) م. ن.، ص 24.
(11) م. ن.، ص 26.
(12) الشوقيّات - م 1 - جـ 1، ص 59 وما بعدها - دار الكتاب العربي - بيروت؟.
(13) طه حسين - م. ن.، ص 383.