فالله عز وجل يُعاملُ العبد في ذنوبه بمثل ما يُعاملُ به العبد الناس في ذنوبهم.
فإذا عرف العبد ذلك كان في ابتلائه بالذنوب من الحكم والفوائد ما هو انفع الأشياء له.
ومنها:انه إذا عرف هذا فأحسن إلى من أساء إليه، ولم يقابله بإساءته إساءة مثلها تعرض بذلك لمثلها من ربه تعالى، وأنه سبحانه يُقابل أساءته وذنوبه بإحسانه، كما كان هو يُقابل بذلك إساءة الخلق إليه، والله أوسعُ فضلاً وأكرمُ، وأجزلُ عطاءً، فمن أحب أن يقابل الله إساءته بالإحسان فليقابل هو إساءة الناس إليه بالإحسان، ومن علم أن الذنوب والإساءة لازمة للإنسان لم تعْظُم عنده إساءة الناس إليه.
فليتأمل هو حاله مع الله، كيف هي؟ مع فرط إحسانه إليه وحاجته هو إلى ربه، وهو هكذا له.
فإذا كان العبد هكذا لربه فكيف يُنكرُ أن يكون الناس له بتلك المنزلة؟!
ومنها: انه يقيم معاذيرُ الخلائق، وتتَّسع رحمته لهم، ويزول عنه ذلك الحصر والضيق والانحراف وأكل بعضه بعضاً، ويستريح العُصاةُ من دعائه عليهم، وقنوته عليهم، وسؤال الله أن يخسف بهم الأرض ويسلط عليهم البلاء؛ فإنه حينئذ يرى نفسه واحداً منهم، فهو يسأل الله لهم ما يسأله لنفسه، وإذا دعا لنفسه بالتوبة والمغفرة أدخلهم معه؛ فيرجو لهم فوق ما يرجو لنفسه، ويخاف على نفسه أكثر مما يخاف عليهم، فأين هذا من حاله الأولى وهو ناظر إليهم بعين الاحتقار والازدراء لا يجد في قلبه رحمةً لهم ولا دعوة، ولا يرجو لهم نجاةً؟ فالذنب في حق مثل هذا من أعظم أسباب رحمته، مع هذا فيُقيمُ أمر الله فيهم طاعةً لله ورحمةً بهم وإحساناً إليهم إذ هو عين مصلحتهم، لا غلظةً ولا قُوةً ولا فظاظة.
ومنها: أن يخلع صولة الطاعة من قلبه، وينزع عنه رداء الكبر والعظمة الذي ليس له، ويلبس ردءا الذل والانكسار والفقر والفاقة، فلو دامت تلك الصَّولةُ والعزَّة في قلبه لخيف عليه ما هو من أعظم الآفات كما في الحديث:" لو لم تُذنبوا لخفتُ عليكم ما هو أشدُّ من ذلك؛ العُجْبَ"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فكم بين آثار العُجْبِ والكبر وصولة الطاعة وبين آثار الذل والانكسار! كما قيل: يا آدم لا تجزع من كأس ذُلٍّ كانت سبب كيسك، فقد استخرج منك داء العُجْبِ، وأُلْبستَ رداء العبودية! يا آدم لا تجزع من قولي لك: اُخرج منها، فلك خلقتُها، ولكن انزل إلى دار المجاهدة وابذر بذر العبودية، فإذا كَمُلَ الزرع واستحصد فتعال فاستوفه.لا يوحشنَّك ذاك العَتْبُ إنِّ لهُ .... لُطفاً يُريك الرِّضا في حالة الغضب
فبينما هو لابسٌ ثوب الإذلال الذي لا يليقُ بمثله تداركه ربُّهُ برحمته، فنزعهُ عنه، وألبسهُ ثوب الذُّلِّ الذي لا يليق بالعبد غيرهُ فما لبس العبد ثوباً أكمل عليه ولا أحسن ولا أبهى من ثوب العبودية، وهو ثوب المذلَّة الذي لا عزَّ له بغيره.
ومنها: إن لله عز وجل على القلوب أنواعاً من العبودية؛ من الخشية والخوف والإشفاق وتوابعها؛ من المحبة والإنابة وابتغاء الوسيلة إليه وتوابعها.
وهذه العبوديات لها أسبابٌ تهيجها وتبعث عليها، فكل ما قيَّضه الربُّ تعالى لعبده من الأسباب الباعثة على ذلك المهيجة له فهو من أسباب رحمته له، ورُبَّ ذنبٍ قد هاج لصاحبه من الخوف والإشفاق والوجل والإنابة والمحبة والإيثار والفرار إلى الله مالا يهيجهُ له كثير من الطاعات!
وكم من ذنب كان سبباً لاستقامة العبد وفراره إلى الله وبُعده عن طرق الغيِّ! وهو بمنزلة من خلط فأحس بسوء مزاجهِ، وكان عنده أخلاطٌ مزمنةٌ قاتلةٌ وهو لا يشعر بها، فشرب دواءً أزال تلك الأخلاط العفنة التي لو دامت لترامت به إلى الفساد والعطب، وان من تبلغ رحمته ولطفه وبرُّهُ بعبده هذا المبلغ وما هو أعجبُ وألطفُ منهُ لحقيقٌ بان يكون الحبُّ كلُّهُ له، والطَّاعاتُ كلُّها له، وأن يُذكر فلا يُنسى، ويُطاعَ فلا يُعصى ويُشكر فلا يُكفر.
ومنها: أنه يعرِّف العبدُ مقدار نعمته مُعافاته وفضله في توفيقه له وحفظه إياه؛ فإنه من تربَّى في العافية لا يعلمُ ما يُقاسيه المُبتلى، ولا يعرف مقدار النعمة، فلو عرف أهلُ طاعة الله أنَّهُم هم المُنعَمُ عليهم في الحقيقة، وأن لله عليهم من الشُّكر أضعاف ما على غيرهم - وإن توسَّدوا التُّراب ومضغوا الحصى - فهم أهلُ النَّعمة المُطلقة، وأن من خلَّى الله بينهُ وبين معاصيه فقد سقط من عينه، وهان عليه، وان ذلك ليس من كرامته على ربه - وان وسَّع الله عليه في الدنيا ومد له من أسبابها - فإنهم أهل الابتلاء على الحقيقة.
فإذا طالبت العبد نفسُهُ بما تُطالبهُ من الحُظوظ والاقسام وأرتهُ انه في بليَّةُ وضائقةٍ تدَارَكَهُ الله برحمته، وابتلاهُ ببعض الذنوب، فرأى ما كان فيه من المُعافاة والنَّعمة، وأنه لا نسبة لما كان فيه من النعم إلى ما طلبتهُ نفسه من الحُظوظ، فحينئذٍ يكونُ أكثرُ أمانيه وآماله العود إلى حالة وان يُمتعهُ الله بعافيته.
ومنها: أن التَّوبة تُوجبُ للتائب آثاراً عجيبةً من المعاملة التي لا تحصلُ بدونها، فتُوجبُ لهُ من المحبة والرقة واللطف وشكر الله وحمده والرضا عنه عبوديات أُخر، فإنه إذا تاب إلى الله قَبِلَ الله توبته فرتب له على ذلك القبول أنواعاً من النعم لا يهتدي العبدُ لتفاصيلها، بل يزالُ يتقلَّبُ في بركتها وآثارها ما لم يُنقضها ويُفسدها.
ومنها: أن الله سبحانه يُحبَّهُ ويفرحُ بتوبته أعظم فرح؛ وقد تقرر أن الجزاء من جنس العمل؛ فلا ينسى الفرحة التي يظفرُ بها عند التوبة النصوح.
وتأمل كيف تجدُ القلب حياً فرحاً وأنت لا تدري سبب ذلك الفرح ما هو، وهذا أمرٌ لا يُحسُّ به إلا حيُّ القلب، وأما ميَّتُ القلب فإنما يجدُ الفرح عند ظفره بالذنب، ولا يعرفُ فرحاً غيره.
فوازن إذاً بين هذين الفرحين، وانظر ما يُعقبُه فرحُ الظَّفر بالذنب من أنواع الأحزان والهُموم ولغُموم والمصائب؛ فمن يشتري فرحةَ ساعةً بغمِّ الأبد؟
وانظر ما يُعقبُهُ فرحُ الظفر بالطاعة والتوبة النصُوح من الانشراح الدائم، والنعيم، وطيب العيش، ووازن بين هذا وهذا، ثم اختر ما يليق بك ويناسبُك! وكلٌّ يعملُ على شاكلته، وكلُّ امرئٍ يصبو إلى ما يُناسبُه.
ومنها:انه إذا شهد ذُنوبهُ ومعاصيهُ وتفريطهُ في حقِّ ربه استكثر القليل من نعم ربه عليه، ولا قليل منه؛ لعلمه أن الواصل إليه فيها كثيرٌ على مُسيءٍ مثله، واستقلَّ الكثير من عمله لعلمه بأن الذي ينبغي أن يغسل به نجاستهُ وأوضارهُ وأوساخه أضعافُ ما يأتي به، فهو دائماً مستقلٌ لعلمه كائنا ما كان، مستكثرٌ لنعمة الله عليه وإن دقَّت.
وقد تقدم التَّنبيهُ على هذا الوجه، وهو من ألطف الوجوه، فعليك بمُراعاته، فله تأثيرٌ عجيبٌ.
ولو لم يكن في فوائد الذنب إلا هذا لكفى به، فأين حالُ هذا من حال من لا يرى لله عليه نعمة إلا ويرى أنه كان ينبغي أن يُعطي ما هو فوقها وأجلَّ منها! وانُّهُ لا يقدر أن يتكلم؟ وكيف يُعاندُ القدر وهو مظلومٌ مع الربِّ لا يُنصفهُ ولا يُعطيه مرتبتهُ، بل هو مُغرىً بُمعاندته لفضله وكماله، وأنه كان ينبغي له أن ينال الثُّريَّا ويطأ بأخمصهِ هُنالك، ولكنَّهُ مظلومٌ مبخوسُ الحظَّ!
وهذا الضَّربُ من ابغض الخلق إلى الله، وأشدهم مقتاً عندهُ، وحكمةُ الله تقتضي أنهم لا يزالون في سفالٍ، فهم بين عتبٍ على الخالق، وشكوى لهُ، وذُلٍّ لخلقه، وحاجة إليهم، وخدمةٍ لهم، أشغلُ الناس قلوباً بأرباب الولايات والمناصب، ينتظرون ما يقذفون به إليهم من عظامهم وغُسالة أيديهم وأوساخهم، وأفرغُ الناس قلوباً عن معاملة الله، والانقطاع إليه، والتلذذ بمُناجاته، والطُّمأنينة بذكره، وقُرِّة العين بخشيته والرضاء به.
فعياذاً بالله من زوال نعمته وتحوُّل عافيته، وفجأة نقمته، ومن جميع سخطه.
ومنها: أن الذنب يُوجبُ لصاحبه التقُّيظَ والتَّحرُّز من مصائد عدوَّه ومكامنه، ومن أين يدخُلُ عليه اللصوص والقُطَّاع ومكامنهم، ومن أين يخرجون عليه، وفي أي وقت يخرجون، فهو قد استعدَّ لهم وتأهب، وعرف بماذا يستدفعُ شرهم وكيدهم فلو أنه مرَّ عليهم على غرة وطمأنينه لم يأمن أن يظفروا به ويجتاحوه جملةً.
ومنها: أنَّ القلب يكونُ ذاهلاً عن عدوه مُعرضاً عنه، مشتغلاً ببعض مهماته، فإذا أصابهُ سهمٌ من عدوه استُجمعت له قوته وحاسته وحميته، وطلب بثأره إن كان قلبه حُراً كريماً، كالرجل الشجاع إذا جُرح؛ فإنه لا يقومُ له شيءٌ، بل تراه بعدها هائجاً طالباً مقداماً، والقلب الجبان المهين إذا جرح كالرجل الضعيف المهين إذا جرح ولَّى هارباً والجراحاتُ في أكتافه، وكذلك الأسد إذا جرح فإنه لا يُطاق.
فلا خير فيمن لا مُروءة له بطلب أخذ ثأره من أعدى عدوه، فما شيءٌ أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوه، ولا عدوَّ أعدى له من الشيطان، فإن كان قلبه من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد جد في اخذ الثأر، وغاظ عدوه كل الغيظ، وأضناه، كما جاء عن بعض السلف: إن المؤمن ليُنضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيرهُ في سفره.
ومنها: أن مثل هذا يصيرُ كالطبيب ينتفع به المرضى في علاجهم ودوائهم، والطبيب الذي عرف المرض مباشرة وعرف دواءهُ وعلاجه أحذقُ واخبرُ من الطبيب الذي إنما عرفه وصفاً، هذا في أمراض الأبدان؛ وكذلك في أمراض القلوب وأدوائها، وهذا معنى قول بعض الصوفية: اعرفُ الناس بالآفات أكثرهم آفاتٍ!
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تُنقضُ عُرى الإسلام عُروة عُروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية.
ولهذا كان الصحابة أعرف الأمة بالإسلام وتفاصيله، وأبوابه وطرقه، وأشد الناس رغبةً فيه، ومحبة له، وجهاداً لأعدائه، وتكلُّماً بأعلامه، وتحذيراً من خلافهِ؛ لكمال علمهم بضدَّه، فجاءهم الإسلامُ كل خصلة منه مضادة لكل خصلةٍ مما كانوا عليه، فازدادوا له معرفةً وحبَّاً، وفيه جهاداً؛ بمعرفتهم بضدَّه، وذلك بمنزلة من كان في حصرٍ شديدٍ وضيقٍ ومرضٍ وفقرٍ وخوفٍ ووحشةٍ، فقيَّض الله له من نقلهُ منه إلى فضاءٍ وسعةٍ وأمنٍ وعافيةٍ وغنىً وبهجةٍ ومسرَّةٍ، فإنه يزدادُ سُرورُهُ وغبطتهُ ومحبتهُ بما نقل إليه بحسب معرفته بما كان فيه.
وليس حالُ هذا كمن ولد في الأمن والعافية والغنى والسرور، فإنه لم يشعر بغيره، وربَّما قُيَّضت له أسبابٌ تخرجهُ عن ذلك إلى ضدَّه وهو لا يشعر، وربَّما ظن أن كثيراً من أسباب الهلاك والعَطَبِ تُفضي به إلى السلامة والأمن والعافية، فيكونُ هلاكهُ على يدي نفسه وهو لا يشعر.
وما أكثر هذا الضَّرب من الناس! فإذا عرف الضَّدَّين، وعلم مباينة الطرفين، وعرف أسباب الهلاك على التفصيل كان أحرى أن تدُوم له النعمة ما لم يؤثر أسباب زوالها على علم، وفي مثل هذا قال القائل:عرفتُ الشرَّ لا لِلشرَّ لكن لتوقِّيهِ .... ومن لا يعرفُ الشرَّ من الناس يقع فيه
وهذه حالُ المؤمن! يكون فطناً حاذقاً، أعرف الناس بالشرَّ، وأبعدهم منه، فإذا تكلَّم في الشرَّ وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته وعرفت طويَّتهُ رأيتهُ من أبرَّ الناس.
والمقصود أن من بُلىَ بالآفات صار من أعرف الناس بطُرُقِها، وأمكنه أن يَسُدَّها على نفسه وعلى من استنصحهُ من الناس ومن لم يستنصحهُ.
ومنها: انه سبحانه يُذيقُ عبده ألم الحجاب عنه والبعد وزوال ذلك الأُنس والقُرب؛ ليمتحن عبده، فإن أقام على الرضا بهذه الحال ولم يجد نفسه تطالبُهُ حالها الأول مع الله بل اطمأنت وسكنَتْ إلى غيره: عَلِمَ انه لا يصلُحُ، فوضعه في مرتبته التي تليق به، وإن استغاث استغاثة الملهوف وتفلق تفلق المكروب، ودعا دعاء المضطر، وعلم أنه قد فأتتهُ حياتهُ حقاً فهو يهتف بربه أن يرد عليه حياتهُ ويعيد عليه مالا حياة له بدونه: علم أنه موضع لما أُهل له، فرد عليه أحوج ما هو إليه، فعظمت به فرحته، وكمُلت به لذته، وتمت به نعمته، واتصل به سروره، وعلم حينئذ مقدارهُ فعض عليه بالنواجذ وثنى عليه الخناصر، وكان حاله كحال ذلك الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المُهلكة إذا وجدها بعد مُعاينة الهلاك.
فما أعظم موقع ذلك الوجدان عنده!
ولله أسرارٌ وحكمٌ ومُنبَّهاتٌ وتعريفاتٌ لا تنالها عقولُ البشر.
فَقُل لِغَليظِ القلبِ وَيْحَكَ ليسَ ذا .... بِعشّك فادْرُجْ طالباً عُشَّكَ البالي
ولا تَـكُ مِمَّن مدَّ باعاً إلى جَنَىً .... فَقَصَّرَ عـنهُ قالَ ذا ليسَ بالحالي
فالعبدُ إذا بُلى بعد الأنس بالوحشة، وبعد القُرب بنار البعاد اشتاقت نفسُه إلى لذَّةِ تلك المُعاملةِ، فحنَّت وأنَّت وتصدَّعت وتعرَّضت لنفحات من ليس لها منهُ عوضٌ أبداً، ولا سيَّما إذا تذكرت بِرَّهُ ولُطفه وحنانه وقُربَهُ، فإن هذه الذكرى تمنعُها القرار وتهيَّج منها البلابل، كما قال القائل- وقد فاته طواف الوادع فركب الأخطار ورجع إليه-:ولَمَّا تَذكَّرْتُ المنازلَ بالحِمى .... ولمَ يُقْضَ لي تَسليمةُ المُتزوَّدِ
تَيَقَّنْتُ أنَّ العَيشَ ليسَ بِنافعي .... إذا أنا لَم انظُر إليها بموعـدِ
وإن استمر إعراضُها ولم تحن إلى معهدها الأول، ولم تُحِسَّ بفاقتها الشديدة وضرورتها إلى مراجعة قُرْبِها من ربها؛ فهي ممن إذا غاب لم يُطلب، وإذا ابق لم يُسترجع، وإذا جنى لم يُستَعتَبْ.
وهذه هي النُّفوسُ التي لم تُؤهَّل لما هنالك.
وبحسب المعرض هذا الحرمانُ، فإنَّهُ يكفيه، وذلك ذنبٌ عقابهُ فيه.
ومنها: أن الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الإنسان، وهاتان القوَّتان فيه بمنزلة صفاته الذاتية، لا ينفكُّ عنهما، وبهما وقعت المحِنَةُ و الابتلاءُ، وعُرِّض لنيل الدرجات العُلى، واللَّحاق بالرَّفيق الأعلى، والهُبوط إلى أسفل سافلين.
فهاتان القوَّتان لا يدعان العبد حتى يُنيلانه منازل الأبرار أو يضعانه تحت أقدام الأشرار، ولن يجعل الله من شهوتُهُ مصروفة إلى ما أعد له في دار النعيم، وغضبُهُ حميَّةٌ لله ولكتابه ولرسوله ولدينه، كمن جعل شهوتُهُ مصروفةٌ في هواه وأمانيه العاجلة، وغضبُهُ مقصورٌ على حظه، ولو انْتُهِكَ محارمُ الله وحدوده وعطلت شرائعه وسننه بعد أن يكون هو ملحوظاً بعين الاحترام والتعظيم والتوقير ونفوذ الكلمة!
وهذه حالُ أكثر الرؤساء - أعاذنا الله منها - فلن يجعل الله هذين الصنفين في دارٍ واحدةٍ، فهذا ركض بشهوته وغضبه إلى أعلى علَّيَّين، وهذا هوى بهما إلى أسفل سافلين.
والمقصود أن تركيب الإنسان على هذا الوجه هو غاية الحكمة، ولا بد أن يقتضي كل واحد من القوَّتين أثره، فلا بدَّ من وقوع الذنب والمخالفات والمعاصي، فلا بد من ترتب آثار هاتين القوتين عليهما، ولو لم يخلقا في الإنسان لم يكن إنسانا، بل كان ملكا، فالترتب من موجبات الإنسانية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" كل بني آدم خطاءٌ وخير الخطائين التوابون"(6)، فأما من اكتنفته العصمة، وضُربت عليه سُرادِقاتُ الحفظ فهم أقل أفراد النوع الإنساني، وهم خلاصته ولبه.
___________
(6) رواه أحمد(3/244) عن أنس بسند حسن