تقريظُ الشيخِ العلَّامة شعيب الأرنؤوط حفظه الله
لكتاب "خلاصة الكلام شرح عمدة الأحكام "
للشيخ فيصل المبارك رحمه الله
ولتحقيق الشيخ الفاضل محمد الجوراني وفقه الله
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد ..
فإنَّ كتاب «عمدة الأحكام» الذي جمعه العلَّامة الحافظ عبد الغني الجمَّاعيلي المقدسي:، قام بشرحه والاعتناء به جمعٌ من أهل العِلْم ، وممَّن شرَحه ابنُ دقيق العيد في إملاءاته ، وسار فيه على طريقة الأَقْدَمِين في الاستنباط من هذه الأحاديث، وهو كتابٌ يَتدرَّب طلبة العِلْم عليه، ويَفِيدون منه عِلْماً كثيراً، وتتكَّون عندهم مَلكة اجتهاديَّة تُعينهم على تخطِّي التَّقليد ومجاوزته، وتَحمِلهم على دراسة النُّصوص الحديثية في باب الأحكام والموازنة بينها واختيار ما هو أقرب إلى الصَّواب، وهذا المنهج يقوم على اتباع الدَّليل، وهو بَرزخٌ بين الاجتهاد والتقليد .
وقد كان ابن دقيق العيد : الذي شرح هذا الكتاب من هذه الطبقة، حتى إنَّ كثيراً من أهل العلم يصفونه بالمجتهد ، ثُمَّ توالت الشُّروح والحواشي بعد ذلك .
ومما وقفتُ عَليْهِ مُؤخَّراً من هذه الشُّروح النَّافعة الطيِّبة ، شرح الشَّيخ العلَّامة فيصل آل مُبارك : الموسوم : «خلاصة الكلام» وللشيخ : ثلاثة شروح على «العُمدة» موسَّع ، وأخصر منه ، وخلاصة .
وقد أودع في «الخلاصة» ما جاء في الشَّرْحَيْن من الأحكام المستنبطة من حديث رسول الله ^، وقد دوَّن فيها ما يحتاج إليه طالب العِلْم من التَّفقه في حديث النَّبيِّ ^، والوقوف على ما يُستفاد فيه من الأحكام الشَّرعيَّة، حتى يكون مَدرجةً ومَدْخلاً إلى الكتب الكِبَار التي أُلِّفَت في بابه.
وحَسبُك جلالةً بقيمة هذا الشَّرح الوجيز النَّفيس أنه حين وصل للشَّيخ العالِـم المفضال صاحب التآليف النَّافعة الشَّيخ عبد الرحمن السَّعدي : نظر فيه ، فأثنى على صنيع الشَّارح خيراً وشَكر جُهْدَه وسعيه ، وهذه شهادةٌ من عالم في قيمة هذا الكتاب المبارك من الشيخ آل مبارك رحمهما الله تعالى .
هذا وإنَّ طالب العِلْم لَيلْمَح في كتابه هذا القُدْرة على إبانة المسائل وتوضيحها، وإبراز الرَّاجح منها، بإيجاز غير مُخلٍّ ولا مُملٍّ، وهذا يدلُّ على أنَّ المؤلِّف : كانت لديه المقدرة العِلْميَّة المتينة، ولا غَرْو في ذلك ، فقدكان من أبرز عُلماء عَصْره مُتفَنِّنٌ في جميع العلوم لاسيِّما في التفسير والحديث والفقه، وقد بارك الله له جهوده فألَّف كتباً في مَوضُوعاتٍ شَتَّى، والذي أثار انتباهي أنَّ الشيخ : كان يُعْني بمتون الحديث والاستنباط منها، فهو يَتخيَّر منها أَصحَّها وأكثرها انطباقاً على المسألة التي هو بصَدَدِها .
وإنك لَتجِدُ في مُؤلَّفه عناية كبيرة في الإفادة من أهل العِلْم الذين كانوا قبله ممن لهم قدمٌ راسخة في العلوم، وحازَ على رتبة الاجتهاد في عصره كابن دقيق العيد، والحافظ ابنِ حَجرٍ، والإمام النَّوويِّ، وأمثالهم ممَّن قدَّموا خدمات جُلَّى لطلَّاب عِلْم الشريعة، وسهَّلوا لهم فَهْم النُّصوص الحدِيثيَّة، وإيضاح المشكلات، وحلِّ المعضِلات، والتَّوثُّق من المنقولات .
ويظهر لي أنَّ هذا الشَّيخ الذي قرأتُ شيئاً من سَيرته، مما كتبه تلميذنا المُحقِّق الشَّيخ محمد بن يوسف الجوراني ، قد أمضى سِنيِّ حياته منذ بُـكُورها في دراسة العِلْم والاهتمام بتحصيله، وتخيَّر الشُّيوخ الذي كانوا في بلده، ولم يَكتفِ بذلك بل سَمَتْ همَّتُه إلى أنْ يرحل في طلب العلم؛ ليأخذ عَنْ العلماء ما يكون مزيداً في عِلْمه ودينه .
وقد أكسبتْهُ الرِّحلة في طلب العلم ، أنْ رُزِق أسلوباً ماتعاً سَهلاً لا غموض فيه، وطريقةً في التأليف تَلْمح منها أسلوباً مميزاً يجدُ فيه طالب العِلْم وضوح الفِكْرة ، وحُسْن العَرْض، وقوَّة الدَّليل، ودقَّة التعليل .
ومن خلال التآليف التي ظهرت للشيخ :، وممَّـا سمعته من قراءة الشَّيخ الُمحقِّق، يدلُّ على أنَّه عالِـم مُفْتَنٌّ مَوسُوعيٌّ يتكلَّم في فنون العلم والمعرفة بأصالةٍ، وحُسْن تَفهُّم، في التفسير، والحديث، والفقه، والعربيَّة، وغيرها .
وممَّـا أبدع فيه الشَّارح: أيضاً، أنه هذَّب كتب من تقدَّمه من العُلماء الفُحول الكبار، كُتب عُلماء مَشهودٌ لهم بالعِلْم والمعرفة وحُسْن التَّصنيف، فقام باختصار «فتح الباري» للحافظ ابن حجر: الذي يُسمَّى «قاموس السُّنة»، وكذا «نيل الأوطار» للشَّوكاني : الذي شرح فيه «مُنتقى الأخبار» الذي جمعه المجد ابن تيميَّة : ، وهو جدُّ شيخ الإسلام:، ويعدُّ هذا «المنتقى» مصدراً رئيساً في أحاديث الأحكام التي اعتمدها الإمام أحمد : وعوَّل عليها في اجتهاداته، وهو من أحسن كتب الحنابلة .
ومما خرج مُؤخَّراً شرحه «المرْتَع المُشبِع في شرح مَواضع من الرَّوض المُربع» وهو في عشرة مجلدات على مذهب الإمام أحمد، وهو كعادته قد يخالف ما في المذهب ويرجِّح ما استبان أنه صواب تبعاً للدَّليل، وهذه طريقة مُثْلى، ينتهي إليها العلماء المحقِّقون المخلصون .
والشَّيخ المبارك مع ما له من هذه المؤلَّفات المتقنة المحرَّرة ، قد خلَّف تلامذة نجباء، أخذوا عنه وانتفعوا به، وصارت لهم منازل علمية كبيرة، كما هو مُقيَّد في ترجمة الشارح.
وقد قرأ عليَّ صَاحِبي الطيِّب المُحقِّق الشَّيخ محمَّد بن يوسف الجورانيُّ العسقلاني بَلدِيُّ الحافظ ابن حَجَر العسقَلاني :، هذا الشَّرح المُفيد بتحقيقه النَّافع المتميِّز، فوجدتُ أنَّ طريقته مُثْلى، ومنهجه مَرْضي فيما يُناسب هذا الكتاب من الإيجاز والاختصار، وإنَّ عمله ليدلُّ دلالة واضحة على خلفيَّة علميَّـة تُبوِّئُه في أرقى منازل التَّحقِيق والضَّبط، وأرجو من الله أن يُوفِّقه إلى الاستمرار في تحقيق الكتب العِلْمية النافعة، وتقريبها إلى طلبة العلم، وتيسير الفائدة لهم، وهو أهلٌ لذلك بما أعلمه منه، راجياً من الله سبحانه أن يسلك في عداد العلماء، ويُقدِّم للأمَّة الإسلامية من التَّحقيقات والتآليف الشيء الكثير، فأوصيه بتقوى الله في ذلك، والإخلاص في كلِّ ما يصدر عنه، والتَّميز الذي أعرفه منه .
فأسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أنْ يجزل للشَّارح والمحقِّق الثواب، وأنْ ينفع المسلمين بأعمالهما العِلْميَّة، وأن يكون لهما في الآخرة حُسن مآب .
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين .
والحمد لله ربِّ العالمين