أساليب المنصريْن للوُصُول إلى أهدَافهم في المجتمعَات الإِسلاميَّة المُعاصِرة
د. مهدي رزق الله أحمد
المصدر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد 22، 297-327
قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهلِ الكِتَابِ لَو يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّن عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ}[1] {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُل إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعتَ أَهْوَاءَهُم بَعدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلمِ مَالَكَ مِنَ اللهِ مِن وَليٍّ وَلاَ نَصِير}[2] {وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّن أَهلِ الكِتَابِ لَو يُضِلُّونَكُم وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشعُرُونَ}[3] {لَتُبلَوُنَّ فِي أَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم وَلَتَسمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَمِنَ الَّذِينَ أَشرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِن عَزمِ الأُمُورِ}[4] صدق الله العظيم.
والكفر ملة واحدة.. اتفقوا في الأهداف.. وتشابهت وسائل وأساليب تحقيق تلك الأهداف. وفي الصفحات التالية خلاصة لأهم الأهداف والوسائل والأساليب التي تضمنتها حركة التنصير في العصر الحديث بصفة خاصة.
الأهداف:
1 - نشر المسيحية من منطلق عقدي.
2 - نشر المسيحية لتكون عاملاً عظيماً في توطين الحكم الاستعماري.
3 - توهين القيم الإسلامية، وبالتالي تفتيت وحدة الشعوب العربية الإسلامية والشعوب الإسلامية غير العربية وإبعاد المسلمين عن دينهم، وذلك حتى يسهل القضاء عليهم[5].
ومن الواضح من خلال تاريخ التنصير في العالم أنّ نشر الدين المسيحي من الأمور الثانوية جداً عند المنصرين، وقليل منهم هم الذين يسعون لنشر المسيحية من منطلق عقدي بحت، بل إن الكثيرين من الذين يمولون حملات التنصير ومن الذين يأتون في بعثاته لا صلة بين أهدافهم الحقيقية وبين الدين الذي يزعمون أنهم قد جاءوا لنشره، والدليل على ذلك أن الغرب النصراني نفسه أحوج من الشرق الإسلامي للحياة الروحية والمحبة والسلام الديني. فبينما نرى فرنسا دولة علمانية في بلادها نجدها الدولة التي تحمي رجال الدين في الخارج، ونجد أن اليسوعين المطرودين من فرنسا هم خصوم فرنسا في الداخل وأصدقاؤها الحميمون في مستعمراتها. وكذلك إيطالية التي ناصبت الكنيسة العداء وحجزت البابا في الفاتيكان، كانت تبني جميع سياساتها الاستعمارية على جهود المنصرين، ودعت إلى مجمع مسكوني في موسكو وحملت إليه المؤتمرين في طائراتها، وشرّف ستالين نفسه أولئك المؤتمرين بمقابلته، كل ذلك عندما أرادت أن تحقق لنفسها توسعاً إقليمياً وسياسياً تنافسياً مع الدول الغربية، وكثيراً ما كان العسكريون الإنجليز يحضون حكوماتهم على بث المنصرين في العالم. وجاء كثير من أفراد المنصرين إلى الشرق من منطلقات وطموحات شخصية[6].
وقد كتب رشيد الخوري في العصبة الأندلسية عام 1947م، ع4 متألماً من أمثال هؤلاء[7]. وأمثال هؤلاء هم الذين عناهم ((حسب)) عند حديثه عن التنصير في سورية. وفي ذلك يقول: "إن بعض هذه الأديرة كان مقراً للفاحشة".
إذن فالأهداف السياسية هي المحرك الأساسي لحركة التنصير، وإن هذا الهدف السياسي هو إضعاف المسلمين ليكونوا أداة طيعة في أيدي الشرق والغرب والصهيونية العالمية.
ولعل الإنسان يعجب إذا علم أن لليهود أصابع وبصمات بارزة في هذا المجال إذ أن العامل الأول في تطوير سلاحي الاستشراق والتنصير في القرنين التاسع عشر والعشرين عائد إلى اليهود الذين تظاهروا باعتناق النصرانية لهدمها من الداخل ومن ثم الزحف على أي قوى روحية دينية أخرى عند الإنسان، أي الدين عموماً. ووجهوا الحكومات الغربية ضد الدين[8].
إضافة إلى ذلك نجد – مثلاً – أن صمويل زويمر، الذي عمل في التنصير لمدة ستين سنة في البلاد العربية، لم يكشف عن يهوديته إلا عند احتضاره سنة 1952م، وذلك عندما طلب حاخاماً يهودياً يلقنه الشهادة. واحتفظت الكنيسة بهذا السر لأسباب تعلمها، كما يقول التل[9].
والذي نراه أن هدف اليهود من ذلك هو استغلال المسيحية الغربية لحرب الإسلام بسلاح التنصير، وفي النهاية إضعاف الدين عند المسلمين كما أضعفوه عند الغربيين. ومن الشخصيات البارزة في هذا المجال إلى جانب زويمر: وليام جيفورد بالكراف، الذي قال: "متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه"[10].
وهاهو بلفور اليهودي – وزير خارجية بريطانية سنة 1917م، وصاحب الوعد المعروف – وعد بلفور – يعلن عن أهمية مؤسسات التنصير في خدمة أهداف السياسة[11].
لقد بدأ التنصير في البلاد الإسلامية بصفة خاصة والعالم بصفة عامة يدخل مرحلة جديدة بأساليب جديدة بعد أفول شمس الاستعمار العسكري، منطلقاً من فكرة الشاعر في قوله:
ينال الفكر ما تعيا الجيوش به كالموت مستعجلاً يأتى على مهل
ومنطلقاً من وصية القديس لويس التاسع، ملك فرنسة وقائد الحملة الصليبية الثامنة، الذي اندحرت جيوشه أمام عزيمة وإيمان قوات المسلمين في مصر ووقوعه في الأسر بمدينة المنصورة المصرية، إذ أنه عندما فدى نفسه من الأسر وعاد إلى بلاده، أدرك عدم جدوى الحرب المكشوفة مع المسلمين، لأن روح الجهاد والاستشهاد كانت أقوى مما يتصور. ورأى أن من الحكمة اتخاذ سبيل آخر للدخول إلى بلاد المسلمين وكان ذلك السبيل الذي أوصى به النصارى هو الغزو الفكري التنصيري والدخول في بلاد المسلمين تحت أقنعة مختلفة وبأساليب متعددة لإحداث التنصير المطلوب. وقد نفَّذُوا وصيته. ومنذ ذلك الحين كانت البعثات التنصيرية في طليعة عوامل تنصير المسلمين ونشر الثقافة الغربية بينهم خاصة في آسية وأفريقية.
لقد أدت البعثات التنصيرية خدمات كبيرة للإستعمار لتحقيق أهدافه التي عجز عنها بقوة السلاح، إذ عمد المنصرون إلى وسيلتين في غاية الخطورة لتنصير الآسيويين والأفريقيين بصفة خاصة. الوسيلة الأولى هي إنشاء المدارس النصرانية، والثانية هي تقديم الخدمات الطبية المختلفة للناس.
ونتيجة للأثر الفعال للتعليم في التغيير الاجتماعي والثقافي والعقدي فقد لوحظ تركيز مؤتمرات التنصير على أهمية التوسع فيه. ففي البحث رقم (20) من أبحاث مؤتمر المنصرين المنعقد بولاية كلورادو الأمريكية سنة 1978م، وصل الأمر بأن يقترح ريتشارد بيلي إنشاء كلية تكنولوجية في بنجلاديش كوسيلة من وسائل التنصير.
وركز جورج بيترز، مقدم البحث رقم (26) لذات المؤتمر، على أهمية إنشاء المدارس لتمكن الإرساليات من القيام بواجبها نحو تنصير المسلمين وخاصة مدارس البنات في الشرق الأوسط، وَذَكَّرَ المؤتمرين بدور الكليات والجامعات التنصيرية في البلاد الإسلامية، مثل: كلية روبرت باستنبول والجامعة الأمريكية ببيروت والقاهرة والكلية الفرنسية في لاهور بباكستان.
وكان من بين بنود جدول أعمال المؤتمر السنوي للبعثة التنصيرية لشمالي أفريقية المنعقد في عام 1979م: الاهتمام بالتعليم وفتح المدارس في أكبر عدد من البلدان حيث أن هذه المدارس تكون وسيلة فعالة لنشر تعاليم النصرانية واجتذاب أكبر عدد من سكان بلدان شمالي أفريقية.
ومن الأدلة الواضحة على أهمية التعليم النصراني، قول لوشاتليه[12] في مقدمته عن إرساليات التنصير البروتستانتية: "ينبغي لفرنسة أن يكون عملها في الشرق مبنياً قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية".
وقوله، بعد أن ركز على أن السبيل الوحيد إلى هذا هو التعليم: "... وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنساوية"[13].
وقول الكاردينال لافيجري[14] – مؤسس جمعيات التنصير – وهو: "... لا حاجة لنا إلى الدعوة لنفس الدين، بل الحاجة هي إلى التعليم والتمريض".
وقد سجل دعاة التنصير هذه الحقيقة في كثير من تصريحاتهم ومؤلفاتهم. ففي المؤتمر التنصيري لسنة 1924م، وجه المؤتمر إلى الاهتمام بأطفال المسلمين قائلين: "... في كل حقل من حقول العمل يجب أن يكون العمل موجهاً نحو النشئ الصغير من المسلمين.."[15].
وتقول المنصرة أنامليجان: "ليس ثمة طريق إلى حصن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة"[16].
ويرى هنري جسب[17]: أن التعليم في مدارس الإرساليات النصرانية إنما هو واسطة إلى غاية فقط، وأن تلك الغاية هي تنصير الناس وليس تعليمهم المهارات المختلفة.
ويقول تاكلي، أحد أعمدة التنصير: "يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد زعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية.."[18].
ويقول زويمر – عميد التنصير في الشرق الإسلامي لنصف قرن –: "ما دام المسلمون ينفرون من المدارس المسيحية فلابد أن ننشئ المدارس العلمانية، ونيسر لهم الالتحاق بها، هذه المدارس التي تساعدنا على القضاء على الروح الإسلامية عند الطلاب..."[19].
ولقد أورد الدكتوران مصطفى الخالدي وعمر فروخ[20] كثيراً من آراء المنصرين حول أهمية التعليم في التنصير، وعقدا فصلين – الثالث والرابع – خاصين لذلك في كتابهما المشهور: (التبشير والاستعمار في البلاد العربية..).
و
كذلك الجندي في كتابه: ((الإسلام في وجه التغريب)) تناول هذا الأمر في فصل بعنوان: ((التعليم في أحضان التبشير)) – ص167 – 173.
وممن فطن إلى خطر المدارس الأجنبية في مصر خاصة، الشيخ محمد عبده، ولذلك اقترح على مجلس المعارف الأعلى الذي ألف عام 1881م أن يتقرر جعل جميع مدارس الأجانب في مصر تحت مراقبة الحكومة وتفتيشها.. وتوقف مسعى محمد عبده بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر، حيث جاء دنلوب – القسيس والمنصر الإنجليزي ومسئول التعليم في مصر – لينفذ سياسة الاستعمار والنصرانية في مصر[21].
وقد تأكدت النتائج الخطيرة التي حققها التعليم النصراني في تقريب المسافة بين الاستعمار وأهل الأوطان الإسلامية، إذ أن الذين حملوا لواء التشهير بالدولة العثمانية، وعملوا على تمزيق الرابطة الإسلامية بين العرب والأتراك، وتمكين الاستعمار في بلاد نفوذ الأتراك، كانوا ممن تعلموا في المدارس التنصيرية وكان منهم معظم أصحاب الدعوات القومية والعنصرية والإقليمية والعلمانية، والإنحلالية[22].
وقد فرضت أغلب هذه المعاهد على طلابها المسلمين الإلتزام بتقاليدها الخاصة، ومن ذلك حضور الصلوات في الكنيسة[23]. ومما يؤسف له أن تتلقى مثل هذه المؤسسات التنصيرية دعم بعض الحكومات في البلاد العربية الإسلامية[24].
أما الوسيلة الثانية – تقديم الخدمات الطبية المختلفة – فقد كانت واضحة في خطط المنصرين للعمل في المناطق التي يرتادونها. فمثلاً نجد منذ سنة 1959م أن الأمريكيين يعتبرون الطب مشروعاً مسيحياً[25]، ويقول الطبيب الأمريكي بول هاريسون في كتابه: (الطبيب في بلاد العرب): ص277: "لقد وُجِدنا نحن في بلاد العرب لنجعل رجالها ونساءها نصارى"[26].
ويوضح س.ا. موريسون، في مجلة العالم الإسلامي التنصيرية الحكمة من ذلك، وهي أن الطبيب يستطيع أن يصل إلى جميع طبقات البشر حتى أولئك الذين لا يخالطون غيرهم. وفرضوا أن يكون الطبيب المبشر نسخة حية من الإنجيل[27].
ففي عام 1924م أقام المنصرون مؤتمراً عاماً عقدوا جلساته في القدس وإسلامبول وحلوان المصرية وبرقانا اللبنانية وبغداد. واهتموا بصفة خاصة في جلسة القدس بالتطبيب على أنه وسيلة إلى التنصير، وفصلوا طرق ذلك[28].
لا غرو بعد هذا إذا رأينا مستشفياتهم ومستوصفاتهم تملأ الأرض في كل بلاد المسلمين، بل نجد منهم من يصرح أن نفراً من المنصرين قد أنشأوا مستوصفاً في بلدة الناصر بجنوبي السودان، لا يعالجون المريض فيه أبداً إلا بعد أن يحملوه على الاعتراف بأن الذي يشفيه هو المسيح[29].
واستخدموا أسلوب الاستعانة بالموسيقى والفانوس السحري لجذب الناس إلى اجتماعاتهم[30]. ومحاولة كسب الشباب المسلم وذلك بالتحدث إليهم في موضوعات اجتماعية وخلقية وتاريخية ثم ينطلقون منها إلى مباحث الدين[31].
واعتمدوا كثيراً على الصحف والكتب والسينما والمسرح في إذاعة الآراء التي تحقق إخراج المسلمين من مقومات فكرهم[32].