*** و للعذابِ بناياتٌ في سورة الكهف ... فاللهُ سبحانًه يصوِّرُ انحباسَ الكُفّارِ في بنايةٍ من نارٍ ... نعمْ ... بنايةٍ من نار يُضيَّفُونَ فيها بشرابٍ يَشْوي وجوهَهم... ويُضيَّفُون بسوء المآلِ ... يقولُ تعالى : " وَقُلِ الحقُّ منْ ربِّكم فَمَن شاءَ فَلْيُؤمنْ ومنْ شاءَ فلْيَكْفُرْ إنَّا أَعْتَدنَا للظَّالمين نَاراً أحَاطَ بهم سُرَادِقُهَا وإنْ يستغيِثُوا يُغَاثُوا بماءٍ كالْمُهْلِ يشوي الوجوهَ بئِسَ الشَّرابُ وساءَتْ مُرْتَفَقَا 29)هل تأمّلنا مدى التحوّل في الخطاب الإلهي من سياقِ الرحمة إلى سياق العذاب ... ؟! هل تأمّلنا مدى المسافة الشاسعة بين الضيافة الإلهية التي أُعِدّتْ لأصحاب الكهف إلى حدّ تسخير سننِ الكونِ تمكيناً لهم من الخلاص والنجاة بدينهم وتفعيل معجزتهم ... ، وبين استضافة الظالمين الكافرين في سرادقٍ من النار حيثُ الطعامُ والشرابُ والمأوى نارٌ ... وليس غير النارِ ...؟! هل رأينا الفارق المبهر بين تسخير الكهف الصخري لفتية الكهف يحيطُ بهم حيثُ تقلبهم يدُ الله ذات اليمين وذات الشمال وتُبقِي كلبهم في هيئة اليقظة والحراسة - باسطا ذراعيه بالوصيد - وبين هؤلاء الذين" أحَاطَ بهم سُرَادِقُهَا " ... ؟! ما أبعد الفارق بين الإحاطتين ... **إنّ عدلَ اللهِ باهرٌ مبهرٌ ... إنَّ الكافرين كانوا في بنايةٍ من الغفلة والكفر والجحود أوصلتهم - بعدلِ اللهِ - إلى بنايةِ النَّار- هكذا يصفُهم تعالى في قولِه تعالى : " الَّذينَ كانتْ أَعْيُنُهُم في غِطاءٍ عنْ ذكْرِي وكانُوا لا يستطيعُونَ سمْعا 101 ) أّفَحِسِبَ الذينَ كفروا أنْ يّتَّخِذوا عِبادِي منْ دُوني أَولياءَ إنَّا أعْتَدْنَا جهنَّم للكافِرينَ نُزُلاَ 102)

...
إذن مثلما كان الإيمانُ كهفا لفتية الكهف وكان قربانا تقبّلهم اللهُ به وسخّر لهم كهفا في العراء ، كذلك كانت الغفلة والكفرُ بناية حبس الكفار فيها أنفسهم عن وجه الله فاستحقوا بها بناية النار وسرادق العذاب ونُزلاً في جهنّم ... *** جدارٌ آخر جعلهُ اللهُ نعمةً مُهداةً لأحدِ عبادِه ، وابتلاءً له بالخير ... هذا الجدارُ كان نعمةً محفوفةً بنعمةٍ ... كان جنتين من الأعنابِ مُسوّرتين بالنخيلِ فتنةً مجسّدة وتمحيصًا لما في الصدور ... كانَ الجدارُ عزَّاً وثراءً وَجَاهاً وَمشهَدَا مُصغّرا من مشاهدِ النعيم في الآخرة ... هكذا كان حالُ " صاحبِ الجنّتين " في سورة الكهف ... والذي لم يسمّه اللهُ باسمه ، بل جعل صفة نعمته وجنَّتيه بمثابة اسمه وهويّته ...، فأصبح على مدار تاريخنا الإنساني لا يُذكرُ إلاَّ بصاحب الجنّتين ...وكأنّه أصبح رمزا للإنسان المُفتون بالنّعم ... رمزا لكلِّ جاحد لله فينا ... يقولُ تعالى :
"واضْرِبْ لهُم مثلاً رَجُلينِ جَعَلنا لأحدِهما جنّتينِ منْ أعنابٍ وحَفَفْناهُما بنخلٍ وجَعَلْنا بينهُما زرعَا 32) كلتَا الجَّنتينِ آتتْ أُكُلَها ولَم تَظلِم منه شيئاً وفجَّرنَا خلاَلَهُما نهَرا33 ) وكانَ لهُ ثمرٌ فقالَ لصاحبهِ وهو يُحاوِرُهُ أناَ أكثَرُ منكَ مالاً وأعزُّ نفراَ 34 ) ودخلَ جنَّتَهُ وهو ظالمٌ لنفسهِ قالَ ما أظنُّ أنْ تبيدَ هذه أبدا 35) وما أظنُّ السَّاعةَ قائمةٌ ولَئنْ رُدِدتُ إلى ربّي لأحدنَّ خيراً منها مُنقَلَبا 36 )
** ولمَّا وقع صاحبُ الجنّتين في شرك إبليس ... لمَّا وقع في أفخاخ زينة الحياة الدنيا إلى حدّ الجحود بخالق هذه الزينة ... لمّا أطغتهُ النعمةُ وأدّته إلى الجحود والكفرِ وإنكار البعث والآخرة سقط جدارُ الحمايِة والحفاظ الإلهي الذي كان يحمي جنّتيه ... نزع اللهُ يدَ رحمته وعنايته عن نعمة هذا الجاحد ، عقاباً دنيويّا وتحدِّيا لهذا الكِبر والغرور الذي تعالى على الخالق واعتقد أنه تمكّن من هذه النعمة بسعيه وجهده واستحقاقه ... ؛ فجعلها اللهُ في العراء ... ، بأنْ ضربَ حولها جدارا من الفناء والإبادة ... لقد أحاط اللهُ بثمره أي سوّره بسورٍ من غضبه ونقمته وعذابه فأبلاه ومكّنَ منه عوامل الـــ بَدّد ... يقولُ تعالى : " وأُحيطَ بثمَرِهِ فأصبحَ يُقلّبُ كفَّيه على ما أنَفَقَ فيها وهي خاويةٌ على عُروشِها ويقولُ يا ليتني لم أُشرِك بربّي أحدا 42) .
كذلك أصبح حالُ صاحب الجنّتين ...أصبح بعد أنْ نزع اللهُ منه رحمته ورعايته في العراء دونَ نُصرةٍ دون مساندةٍ دونَ أسوارٍ أو جُدُرِ تقيه عذاب الله ونقمته ... أصبح وجنّتيه في الهباء ...يقولُ تعالى : " ولَمْ تكُنْ لهُ فئةٌ ينصُرُونَه من دونِ اللهِ وَمَا كانَ مُنْتَصِرا " 43

### إنَّ التأمّل في وضعية هذه البنايات وهذه الجُدُر في سورة الكهف تؤدّي بنا إلى خلاصة يقينيّة هي أنّ الإيمانَ بالله هو البنايةُ الحقيقية التي أرادَ اللهُ إبرازها في هذه الأمثلة القرآنية العظيمة الموُحية المُعجزة ... الإيمانُ بالله هو - وحده - البنايةُ الفخيمةُ التي تمثِّلُ أنِعمنا وخلاصَنا ونجاتَنا من عذاب الله ... هي البنايةُ الوحيدة التي أوجبَ اللهُ بها على ذاته إثابتنا وإكرامنا في خالدِ نعمِه ورائعِ رضاه وإقبالِ وجهه علينا ...

هذه البنايةُ هي التي تُمنح قوانا وقدراتنا أبعاداً إعجازيّة خارقة ، وهي - وحدها - البنايةُ الحقّ التي لا يمسُّها الهباءُ والعدمُ ... ، وفيما عَداها كلُّ شئٍ هالكٌ بائدٌ ... بل إن الحياة الدنيا بأسرها تُوصف بالبدد والهباء والتشظِّي في تصوير قرآنيٍ معجز حيثُ يقول اللهُ تعالى - سورة الكهف - :
" واضْرِبْ لهم مثلَ الحياةِ الدُّنيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ من السَّماءِ فاخْتَلَطَ بهِ نباتُ الأرضِ فأصبحَ هَشيماً تذرُوهُ الرّياحُ وكانَ اللهُ على كلِّ شئٍ مُقتَدِرا " 45 )

##هكذا بدَت الحياةُ الدنيا بزينتها وكتلتِها الزّاعقة في حواسّنا - بدتْ في هذه الآية الثريّة - نعمةً وزينة وفتنةً عاريةً من أي حماية بدت هَشِيما وكياناتٍ متروكة لفعل الرياح ... لقد أبرزها اللهُ في هذه الآية غيرَ محفوفة بأسوارٍ أو جُدُرٍ تمكّنُها من البقاء أو الــ استمرار ...! أو لا تتفقُ هذه الدلالة مع وصف الله تعالى للحياة الدنيا بأنّها مستقرٌ لنا ومتاعٌ إلى حينٍ ؟! ... فهلْ أدركنَا المدى الزمني لهذا الــ حين ... ؟ ! إنّه ما بين صمتِ الرياح وانطلاقها للإطاحة بكلّ شئٍ ... ! ...! ... !
.......................................................
****************************** ******
بقلم : جاميليا حفني
مدوّنة " أدركتُ جلالَ القرآن "
http://greatestqoran.blogspot.com/2012/12/blog-post_6.html