الإنسانُ الشاعرُ عندما تطولُ به الحياةُ
حقاً إن أمر الإنسان لعجيبٌ , تدعو له بطول العمر فيشعرُ بالسعادة , وتلوح بسمة الأمل والرضا على مُحيّاه , و يطول به العمر فيسأمُ من الحياة ويَملُّها وتَملُّه , وإذ به قد سئم من تكاليفها, وأخذ يردد بين الفينة والأخرى قول حكيمِ الجاهلية زهير :
سئِمتُ تكاليفَ الحياة ومـن يعِـشْ
ثـمانين حولاً ـ لا أبا لكَ ـ يسأمِ
ومن أعجب المفارقات في حياة الإنسان أن الصغير يتمنى أن يترعرع ويكبُر بسرعة , والكبيرَ يتمنى أن يرجع به قطارُ الزمن حتى يعود صغيراً , و على كلّ الأحوال فالإنسان في رحلته العُمرية يمر بثلاثة أطوار جمعها الله تعالى في قوله :{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ }(1) وتستمر رحلة الحياة بالإنسان : سرورٌ وحزن , وفرح وترح , وسقم وعافية , وأمل ويأس , وصفاء وكدر...ويمضي فيها , وتنقضي أيامُهُ ولياليه , وما يدري ما تخبئ له الأقدار , ولسان حاله :
أُمضي اللـيالـيَ والأيـامَ فـي سفـرِ
ولستُ أدري بـما يُخـفيـه لـي قدري
يمتطي الأيام , وتسير به السنون , وهو يُعالج الحياة وتعالجه , يمخر لُجج بحارها , ويغوص في كدر مستنقعها , تطربه بلابلُها وعنادلُها حيناً , وتُشجيه حمائمُها التي تسجِّع على الأفنان أحياناً أخرى , ويمر الشبابُ خُلسةً , ويتمطّى الهرمُ بصلبه فوق سنيِّ العُمْر , فيصحو المرء من سُبات دهره , وينتبّه من غفلة شروده... وإذ به قد وصل إلى مرحلة تسمى أرذلَ العمر , فيتذكر قوله تعالى : ((وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا)) . (2) ولا تغادر فِكْرَه هذه الآيةُ : ((وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ)) . (3) ويصبح المرءُ وقد اشترى قوساً يُلازمه , ودفع ثمنه غالياً من دُرر العمر وجواهرِ الأيام , و تصبح حالتُهُ كما قال الشاعر:
حنتني حانياتُ الدهر حتـى
كـأني خـاتِلٌ أدنـو لصيد
قريبُ الخطوِ يحسَب مَن رآني
ولست مقـيَّـداً أنـي بقيدِ (4)
وتشتكي منه الأعضاءُ والمفاصل , فينشد مع صاحبه أبي محلم الذي عندما كبُر كان يقول :
إذا ما امرؤٌ أحصي ثمانينَ حجةً
وعاش تشكَّى كـلُّ عضوٍ ومفصل (5)
وإذا كان أبو محلم أنشد ذلك , فإن أبا الدهماء أضاف فكرة جديدة , فهو عندما كبرت سنه , أخذ يمشي على رجلٍ , ولكن ليت شعري ! أيةُ رِجْلٍ ؟! ..إنها مصنوعة من الخشب , وفرقٌ كبير بين ما صنعه الخلق , وبين ما صنعهُ الخالق فتبارك الله رب العالمين , لذلك قال أبو الدهماء :
وكنت أمشي على رجلين معتدلاً
فصرتُ أمشي على رجل من الشجر
وقريبٌ من هذا المعنى ما قاله رجلٌ من بني عِجل:
وشانِـيَ واشٍ عند ليلى سفاهةً
فقـالت له لـيلى مقـالة ذي عقل
وخبَّرها أني عـرجت فلم تكن
كـورهـاءَ تَجترُّ الـمـلامةَ للبعل
وما بيَ من عيب الفتى غير أنني
جعلت العصا رجلاً أقيـم بها رجلي
وإذا كان ذانك الشاعران يستطيعان المشيَ مع القدم الثالثة , فإن شاعرنا التالي لا يستطيع القيام إلا بعد أن يتجرعَ غَصص الآلام ,ويتضلعَ من حميم الأوجاع , وهذا الشاعر هو أبو ضبة الذي يقول :
وقد جعلتُ إذا ما قمتُ أوجعني
ظهري , وقمتُ قيامَ الشارف الظهِرِ (6)
فالإنسان إذن عندما يبلغ من العمر عِتيّاً , ويصل إلى أرذله تتغير كثيرٌ من أحواله , فبعد الشباب شيخوخةٌ , وبعد القوة ضعفٌ , وبعد الصحة والعافية سقمٌ وبلاء ... وكثيراً ما تسألُ المرءَ : كيف حالك ؟ فيقول : بصحة جيدة ولله الحمد والمنّة , ولكن عمروَ بنَ مسعود السلمي عندما سأله معاوية كيف حالك ؟ , أجاب بالتالي :((ما يسأل أميرُ المؤمنين عمن سقطت ثمرتُهُ، وذبُلت بشَرتُه، وابيضَّ شعره، وانحنى ظهرُهُ، وكثُر منه ما يُحب أن يقل، وصعب منه ما كان يُحب أن يَذلّ، وترك المطعمَ وكان المنعمَ ، وهجر النساء وكُنَّ الشفاءَ، وقصر خطوُهُ، وذهب لهوُهُ، وكثر سهوُهُ، وثقُل على الأرض، وقرب بعضه من بعض، فقلَّ إيـحاشُهُ، وكثر ارتعاشُهُ، فنومُهُ سُبَاتٌ، وهَمُّهُ تاراتٌ)) (7)وأبو زبيدٍ الطائيُّ يرى أن طول الحياة لا خير فيه ولا سعادة , ومن الضلال أن يُؤمِّل المرء خلوداً طويلاً في الدنيا , فنراه يقول :
إنّ طُولَ الحــياةِ غَيْـرُ سُـعودِ
وَضَـلالٌ تأميـلُ طُـولِ الخلودِ (8)
وبعضهم يرى أن الحياة لا تُملُّ ولا يَسأم منها الإنسانُ, فلا أحدَ يتمنى الموت , بل كما قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه الشيخان : يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ : الْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ , وَالْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ )) والصحيح أن الذي يُمَلُّ من الحياة عند الكِبَر هو تكاليفُها , فقد أنشد محمدُ بن محمد بن أحمد الرامشيُّ ( ت: 490 ) متأسفاً قوله:
وكنت صحيحاً والشبابُ منادمي
وأنهلني صفـوُ الشـباب وعلّني
وزدتُ على خـمسٍ ثمانين حجةً
فجـاء مشـيبي بالضنى وأعلّني
سئمتُ تكاليف الـحياة وعِـلّتي
وما في ضميري من عَسى ولعلَّني (9)
ولذلك أيضاً عندما قال زهير:
سئِمتُ تكاليفَ الحياة ومن يعِشْ
ثـمانين حولاً ـ لا أبا لك ـ يسأمِ
قال العلماء بالشعر: إنما سئم تكاليف الحياة لا الحياةَ ، فهو أصح معنىً من قول لبيد إذ يقول:
ولقد سئِمت من الحياة وطولها
ومقالِ هذا الناس كـيـف لبيدُ ؟ (10)
و لبيد كان قد عمَّر أكثر من زهير , وإنه ما قال بأنه سئم من الحياة إلا بعد أن بلغ مائة وأربعين سنة ـ على ذمة أبي زيد القرشي ـ حيث قال في الجمهرة : ((وكان لبيدُ أحد المعمرين؛ يقال: إنه لم يمت حتى حرُم عليه نكاحُ خمسمائة امرأةٍ من نساء بني عامر، وهو القائل لما بلغ تسعين حجة:
كأنّي وَقَدْ جاوَزتُ تِسْـعـينَ حجّةً
خَلَـعتُ بـها عنِّي عِذارَ لجامـي
رَمتني بناتُ الدَّهرِ من حيثُ لا أرَى
فكَيفَ بـمن يُرْمى، وليس برامي ؟
ولو أنّنـي أُرمَـى بِسَـهْمٍ رأيتُـها
ولـكنَّنـي أُرمَـى بغَـيـرِ سِهامِ
وقال حين بلغ عشرين ومائة:
وغَنِيتُ دَهراً قَبلَ مَجْرى داحسٍ،
لو كانَ للنّفسِ اللَّجُوجِ خُلُودُ
وقال حين بلغ أربعين ومائة:
ولقد سئِمتُ منَ الحَياةِ وطولِها،
وسؤالِ هذا النّاسِ: كيفَ لبيدُ؟
غَلَبَ الزّمانَ، وكانَ غَيرَ مُغَلَّب،
دَهـرٌ طَـويـلٌ دائمٌ مَمدُودُ
يومٌ إذا يأتـي علـيَّ، ولَـيلَةٌ
وكـلاهُما بَعـدَ انقضاهُ يَعُودُ)) (11)
وإذا كان أبو زيد القرشيُّ قد ذكر ذلك , فالأعجب منه ما قاله ابن قتيبة عندما تحدث عن الشاعر المستوغر حيث ذكر أنه أنه تجاوز ثلاثمائة سنة , ومما قاله ابن قتيبة عن المستوغر:هو المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد رهط الأضبط , وهو قديمٌ من المعمرين وعاش ثلاث مائة سنة وعشرين سنة ، وقال:
ولَقَدْ سَئِمْتُ منَ الحَيَاةِ وطُولِها
وعَمِرتُ من عَدَدِ السِّنِينَ مِئِينَا
مائةً حَدَتْها بَعْدَها مائتَانِ لـي
وازْدَدْتُ من بَعْد الشُّهُورِ سِنينَا
هَلْ ما بَقَى إِلاَّ كما قد فاتَنِـي
يَـوْمٌ يَـمُـرُّ ولَيْلَةٌ تَحْدُونا ؟!(12)
والمرء في جميع أحواله , وسواءٌ عليه أَ سئم الحياةَ أم تكاليفها , فإنه عند الكبر والهرم , لا تبارِحُ ذكرياتُ الشباب ضميره وخاطرَه , وكثيراً ما يقارن بين حالته اليوم وحالته بالأمس حيث الشبابُ والقوةُ , فها هو تميم بن مقبل العجلانيُّ يقول :
كان الشبابُ لحاجاتٍ وكُـنَّ لـه
فقـد فـرغتُ إلى حاجاتي الأخَرِ
يا حرّ أمسى سوادُ الرأس خالـطَهُ
شيبُ القَذالِ اختلاطَ الصفْوِ بالكدرِ
يا حرّ مَن يعتذرْ مِن أنْ يُلـمَّ بـه
رَيبُ الزمـان فإنـي غيـرُ معتذر
قالت سُليمى لأختيها وقد صدقت: لا خيرَ في العيش بعد الشيبِ والكِبَرِ(13)
ومن أعاجيب القدر أن بعض الناس يتمنى أمنياتٍ في الشباب , ويُلح في طلبها , ولكنها لا تأتيه إلا عند الكبر , وذلك بعد فوات الأوان , فقد ذكروا ((أن أحدَ الشعراءِ عاش مُعدماً مُفِلساً ، وهو في عنفوان شبابِهِ ، يريدُ درهماً فلا يجدُهُ ، يريدُ زوجةً فلا يحصُلُ عليها ، فلمَّا كبرتْ سِنُّ وشاب رأسُه ، ورقَّ عَظْمُهُ ، جاءهُ المالُ منْ كلِّ مكانٍ ، وسهُلَ أمرُ زواجهِ وسكنِه ، فتأوَّه وأنشد :
ما كنتُ أرجوهُ إذ كنتُ ابنَ عشرينا
مُلِّـكْتُـهُ بعد ما جاوزتُ سـبعينا
تطُوفُ بي مـنْ بـناتِ التُّركِ أغْزِلةٌ
مِثلُ الظِّبـاءِ عـلى كُثـبانِ يـبرينا
قالوا : أنينُك طـولَ الليلِ يُسْهِـرُنا
فما الذي تشتكي ؟ قلـتُ : الثمانينا (14)
وختاماً : حياتنا تمضي وآمالنا لا تنقضي , وما مضى يلوح في خواطرنا سرابَ ذكرياتٍ وحلماً يبدّدُه طلوعُ الفجر , وقد قلت في إحدى قصائدي :
..تَمضي الحياة , وما تُقضـى أمانينا
وأسهُم الـحـزن ترمينا فتُشجينـا
سماءُ آلامنا فـي الـدهــر تُمطرنا
بوابلٍ مُـدْنَـفٍ يُـدمـي مـآقينا
نهارنا, ما له يمضي كطيـفِ كرىً ؟
وليلُنـا بالشـقا دومـاً يُغـشِّـينا
سُنونُنا تنقضي ثكلى عـلى عجـلٍ
وكَـرُّ أيـامـنـا للمـوت يُدنينا
..فآن أن تحمل الأحلامُ هودجَـنـا
ونركبَ الشـعرَ كـي ننسى مآسينا
عسى الخيالُ الذي يَسري بـخاطرنا
لما نعـانيـه مـن هـمٍّ يُـنسّـينا
هذا هو العـمرُ ,والـدنـيا مُوَلّيَـةٌ
يَمـضي ويَفنـى بِحـين يتبعُ الحينا
لا ريبَ أن الدُّنـى ظِلٌّ يـزول إذا
ما ضمّنا اللحـدُ .. والأهـواءُ تُغرينا
إذا تأملتَ في الدنيـا فـأنـت تَرى
أن السعـيـد الذي ما ضيّـع الدينا
وفي كل الأحوال فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الغم والهم والكسل والهرم. وكان عندما يتعوَّذ بالله من شيء يقول : ((وأَعوذُ بك أنْ أُرَدَّ إِلى أرذَلِ العُمر)) البخاري فاللهُمَّ بارِك لنا في أعمارنا , ولا تردَّنا إلى أرذل العمر , إنك سميع قريب . الشيخ الأديب : مصطفى قاسم عباس
منقول من المجلة العربية عدد المحرم 1434ـــــــــــــــ ـــ(1) ـ الروم :54(2) ـ الحج : 5(3) ـ يس:68(4) ـ بهجة المجالس وأنس المجالس , ابن عبد البر جـ : 1 ص : 223(5) ـ محاضرات الأدباء , الراغب الأصفهاني جـ : 1 ص : 467(6) ـ البرصان والعرجان , الجاحظ جـ : 1 ص : 47(7) ـ بهجة المجالس وأنس المجالس , ابن عبد البر جـ : 1 ص : 222(8) ـ جمهرة أشعار العرب , أبو زيد القرشي جـ : 1 ص : 73(9) ـ نوادر الفوائد من كتاب بغية الوعاة ,فرج حسن البوسيفي ج: 1 ص : 22(10) ـ الوساطة بين المتنبي وخصومه , الجرجاني , باب : سرقات المننبي جـ : 1 ص : 102(11) ـ جمهرة أشعار العرب , أبو زيد القرشي جـ : 1 ص : 22(12) ـ الشعر والشعراء , ابن قتيبة الدينوري جـ : 1ص : 78(13) ـ بهجة المجالس وأنس المجالس , ابن عبد البر جـ : 1 ص : 223(14) ـ صيد الخاطر , ابن الجوزي ص : 72