تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 24 من 24

الموضوع: هل بنطال الرجال مستثنى من الإسبال ؟

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    الدولة
    بلاد الحرمين
    المشاركات
    3,043

    افتراضي رد: هل بنطال الرجال مستثنى من الإسبال ؟

    سلام أهديه شوقا لكل فرد في هذا المنتدى المبارك؛ فأقول:
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    حقيقة أحبتي قد آثرت أن لا أشارك في هذا الموضوع لقناعتي التامة في نفسي حول حكمه ورأي الشرع الصحيح فيه، لكن لما أن وجدت الكلام قد ضرب بعضه بعضا، وأعيد وكرر ما قد وضح وبيّن بما لا يزيد، وأتت آراء غريبة هي ضعيف قول ووضعت قولا لعامة الأمة بلا دليل، أحببت أن أبين ما قد يزيل أي شبهة قد تحصل في هذا الباب بكلام يعلم الله هو ما أدين الله به، وسيحاسبني على اتباعه وتحكيمه، فلن أبتغي قولا غيره كما لا ألزم أحدا بالأخذ به، لكنه والله الحق الذي لا محيص عنه لمن تدبر وعرف كيف يطّرح الهوى والتعصب، وينظر بعين البصيرة والتثبت.

    فأقول وبالله التوفيق ناسخا:
    أخرج مسلم في (الصحيح) والبيهقي في (السنن الكبرى)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال : مررت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي إزاري إسترخاء، فقال: "يا عبد الله، ارفع إزارك". فرفعته، فقال: "زد" . فزدت، فما زلت أتحرى بعد، فقال بعض القوم: أين؟ قال: "نصف الساقين".
    وأخرج البيهقي – فيها أيضا – عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سألت أبا سعيد عن الإزار، فقال: أخبرك بعلم؟ سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إزرة المؤمن إلى نصف الساقين، ولا جناح فيما بينه وبين الكعبين، فما أسفل من ذلك ففي النار، لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا".
    وقد دلت الأحاديث على أن ما تحت الكعبين في النار، وهو يفيد التحريم. ودل على أن من جر إزاره خيلاء لا ينظر الله إليه، وهو دال على التحريم، وعلى أن عقوبة الخيلاء عقوبة خاصة في عدم نظر الله إليه، وهو مما يبطل القول بأنه لا يحرم إلا إذا كان للخيلاء، كما يأتي بسطه ورده .
    وأخرج البيهقي في (السنن) – أيضا – من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما كان أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار".
    وفي لفظ: "ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار"، رواه البخاري في الصحيح.
    وأخرجه – أيضا – من حديث يزيد بن أبي سمية، قال: سمعت ابن عمر يقول: ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإزار فهو في القميص.
    قلت: سيأتي رفعه بزيادة.
    وأخرج أبو داود والبيهقي – أيضا – من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما رجل يصلي مسبلا إزاره، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اذهب فتوضأ"، ثم جاء فقال له : "اذهب فتوضأ"، فقال له رجل: يا رسول الله، أمرته أن يتوضأ، ثم سكت عنه؟ فقال: "إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره". قال النووي: إنه على شرط مسلم.
    قلت: وقال الحافظ المنذري في (مختصر سنن أبي داود): في إسناده: أبو جعفر، رجل من أهل المدينة لا يعرف اسمه. انتهى.
    قلت: وقال ابن رسلان في (شرح السنن): اسم أبي جعفر هذا: كثير بن جمهان السلمي، أو: راشد بن كيسان. انتهى.
    وفي (التقريب) ما لفظه: كثير بن جمهان السلمي، أبو جعفر، مقبول. وفيه: راشد بن كيسان العبسي، بالموحدة، أبو فزارة الكوفي، ثقة، من الخامسة. انتهى.
    وبه يعرف عدم صحة كلام الحافظ المنذري، في أن أبا جعفر مجهول، بل قد تردد بين ثقتين، ولكن الذي اخرج له مسلم هو راشد بن كيسان، ولم يخرج مسلم لكثير بن جمهان ، إنما اخرج له أصحاب السنن الأربع.
    فقول النووي: إن الحديث على شرط مسلم، دال على أنه راشد بن كيسان، لكن كنيته أبو فزارة لا أبو جعفر. فالمتعين أنه كثير بن جمهان، ولا وجه لقول ابن رسلان: أو: راشد بن كيسان؛ إذ ذلك كنيته أبو فزارة، والمروي عنه في السنن: أبو جعفر.
    واخرج أبو داود وغيره، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من أسبل إزاره في صلاته خيلاء، فليس من الله في حل ولا حرام". قال النووي: معناه: قد برئ من الله وفارق دينه.
    وأخرج أبو داود والبيهقي – أيضا – عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن السدل في الصلاة.
    واخرج البيهقي – أيضا – عن أبي عطية الوادعي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل قد سدل ثوبه في الصلاة، فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثوبه فعطفه في الصلاة عليه. وهو وإن كان منقطعا، فقد أخرجه البيهقي من حديث أبي جحيفة موصولا، قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل قد سدل ثوبه في الصلاة، فعطفه. وهو وإن كان فيه حفص بن أبي داود – وقد ضعف – فإنه يعضده ما سلف.
    واخرج البخاري وغيره، من حديث ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "بينما رجل ممن كان قبلكم يجر إزاره من الخيلاء، خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة".
    الجلجلة: بالجيمين واللامين، صوت مع حركة. والمراد: أنه يسوخ في الأرض، أي: يغوص فيها.
    وفي لفظ الترمذي – من حديث ابن عمرو بن العاص - : "يتلجلج" ، وهو من التلجلج: التردد، فكأنه قال: يتردد في تخوم الأرض.
    ولمسلم: أن أبا هريرة رضي الله عنه رأى رجلا يجر إزاره، فجعل يضرب برجله الأرض وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله لا ينظر إلى من جر إزاره بطرا".
    وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي، من حديث ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من جر ثوبه خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده. فقال له رسول الله: "إنك لست ممن يفعله خيلاء".
    وأخرج مسلم، عن ابن عمر رضي الله عنه، أنه رأى رجلا يجر إزاره، فقال له: ممن أنت؟ فانتسب له. فإذا رجل من بني ليث يعرفه ابن عمر، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم _ بأذني هاتين _ يقول: "من جر إزاره لا يريد بذلك إلا المخيلة، فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة".
    وفي رواية لأبي داود والنسائي، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة. من جر شيئا منها خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة".
    وقد قدمناه بأقل من هذا موقوفا على ابن عمر، والذي رفعه: عبد العزيز ابن أبي رواد، مختلف فيه، قال فيه ابن حجر: إنه عابد صدوق، ربما وهم، ورمي بالإرجاء.
    قلت: بعد الحكم بكونه صدوقا، لا يضرنا ما رمي به.
    قال السيد محمد بن إبراهيم رحمه الله: الظاهر أن نافعا وقفه، ولا يضر؛ لأن الصحابي قد كان يفتي بالحديث غير مرفوع، خصوصا وقد رفعه الأكثرون. انتهى.
    وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي، من حديث ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من جر ثوبه خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقالت أم سلمه رضي الله عنها: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبرا"، فقالت أم سلمه رضي الله عنها: إذا تنكشف أقدامهن، قال: "فيرخين ذراعا لا يزدن عليه".
    وفي رواية لأبي داود، قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمهات المؤمنين في الذيل شبرا، فاستزدنه، فزادهن شبرا، فكن يرسلن إلينا نذرع لهن ذراعا.
    وأخرج مالك وأبو داود والنسائي، عن أم سلمه رضي الله عنها، فقالت _ حين ذكر الإزار _ : فالمرأة يا رسول الله؟ قال: "ترخيه شبرا"، قلت: إذا ينكشف عنها، قال: "ذراعا، لا تزيد عليه".
    وأخرج البخاري والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار".
    قال ابن الأثير: معناه: إن مادون الكعبين من قدم صاحب الإزار المسبل ففي النار؛ عقوبة له على فعله. وذكر معنى آخر غير ظاهر.
    وأخرج أحمد ومسلم وأهل السنن الأربع، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، مرفوعا: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب اليم: المسبل إزاره، والمنان الذي لا يعطي شيئا إلا منّه، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".
    وأخرج الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنه، مرفوعا: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: المنان عطاءه، والمسبل إزاره خيلاء، ومدمن الخمر".
    إذا عرفت هذا، فههنا لفظان: الإسبال والسدل. قال في (النهاية): المسبل إزاره: هو الذي يطول ثوبه ويرسله إلى الأرض إذا مشى، وإنما يفعل ذلك كبرا واختيالا.
    قال: والسدل: هو أن يلتحف بثوبه، ويدخل يديه من داخل، فيركع ويسجد وهو كذلك. وكانت اليهود تفعله، فنهوا عن ذلك. وهذا مطرد في القميص وغيره من الثياب.
    وقيل: هو أن يضع وسط الإزار على رأسه، ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله، من غير أن يجعلهما على كتفيه. ومنه حديث علي رضي الله عنه: أنه رأى قوما وهم يصلون وقد سدلوا ثيابهم، فقال: كأنهم اليهود. انتهى.
    وبهذا يعرف أن تفسير ابن رسلان في شرحه للسنن للسدل والإسبال: بأنه إرسال طرفي الرداء _ وما في معناه من الطيلسان ونحوه _ حتى تصيب الأرض بذيلها، غير صحيح؛ لأنه بني على أنهما مترادفان، وكلام (النهاية) يقضي بتغايرهما، وهو الذي دل عليه صنيع البيهقي في (السنن الكبرى)؛ فإنه عقد لكل واحد بابا مستقلا.
    ويدل له ما في (سنن الترمذي)؛ فإنه قال: (باب ما جاء في كراهية السدل في الصلاة). ثم ذكر بسنده إلى عسل بن سفيان، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن السدل في الصلاة. قال: وفي الباب عن أبي جحيفة. قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة لا نعرفه من حديث عطاء [عن أبي هريرة مرفوعا] إلا من حديث عسل بن سفيان. انتهى.
    قلت: عسل، بالمهملتين، الأولى مكسورة، والثانية ساكنة، وقيل: مفتوحة. هو أبو قرة البصري، ضعيف. قاله في (التقريب).
    ثم قال الترمذي: قال بعضهم: إنما كره السدل إذا لم يكن عليه إلا ثوب واحد، فأما إذا كان عليه قميص فلا بأس. وهو قول أحمد. وكره ابن المبارك السدل في الصلاة. انتهى.
    ثم ذكر الترمذي بابا آخر في جر الإزار، وذكر فيه حديث ابن عمر.
    وهكذا أبو داود، جعل لكل بابا.
    قال البيهقي: والسدل: إرسال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه، فإن ضمه فليس بسدل. قال: وروي عن ابن عمر _ في إحدى الروايتين _ أنه كرهه. وكرهه مجاهد وإبراهيم النخعي. ويذكر عن جابر بن عبد الله، ثم عن الحسن وابن سيرين، أنهم لم يروا به بأسا. وكأنهم إنما رخصوا فيه لمن فعله لغير مخيلة، وأما من يفعله بطرا فهو منهي عنه. انتهى.
    والخيلاء والمخيلة، فسرهما ابن الأثير بالعجب والكبر.
    ولنعد إلى تحرير المقال في الإسبال، فنقول: ههنا أربع صور: إسبال مع مخيلة، وبغيرها، في الصلاة، وفي غيرها.
    الأول: الإسبال في الصلاة:
    قال النووي: إنه في الصلاة وفي غيرها سواء، فإن كان للخيلاء فهو حرام، وإن كان لغير الخيلاء فهو مكروه. انتهى.
    ثم قال: فأما السدل لغير الخيلاء في الصلاة، فهو خفيف؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر رضي الله عنه _ وقد قال: إن إزاري يسترخي، أي : يسقط من أحد شقي _ : "إنك لست منهم". انتهى.
    قلت: وكلامه مبني على تسليم مقدمتين: الأولى: حمل المطلق على المقيد. والثانية: القول بمفهوم الصفة. وفي المقدمتين نزاع طويل بين أئمة الأصول تأتي الإشارة إليه. ولم يذكر النووي: هل الصلاة صحيحة أو لا إذا أسبله فيها خيلاء؟ وكأنه يقول بصحتها، وغايته أنه صلى وهو فاعل محرم، فيكون كالصلاة في الدار المغصوبة، وهي عنده صحيحة وإن كان آثما.
    وقال أبو محمد ابن حزم: (مسألة): ولا تجزئ صلاة من جر ثوبه خيلاء من الرجال، وأما المرأة فلها أن تسبل ذيل ما تلبسه ذراعا، فإن زادت على ذلك عالمة بالنهي بطلت صلاتها. وحق كل ثوب يلبسه الرجل أن يكون إلى الكعبين لا أسفل البتة، فإن أسبله فزعا أو نسيانا فلا شي عليه.
    ثم ساق حديث مسلم عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء". قال: فهذا عموم للسراويل [والإزار] والقميص وسائر ما يلبس.
    ثم ذكر حديث ابن مسعود: "المسبل في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام".
    وعن ابن عباس رضي الله عنه: "لا ينظر الله إلى مسبل".
    وعن مجاهد: كان يقال: من مس إزاره كعبه، لم يقبل الله له صلاة.
    قال: فهذا مجاهد يحكي ذلك عمن قبله وليسوا إلا الصحابة؛ لأنه ليس من صغار التابعين، بل من أوساطهم.
    وعن ذر بن عبد الله المرهبي _ وهو من كبار التابعين _ قال: كان يقال: من جر ثوبه لم يقبل الله له صلاة.
    قال: ولا نعلم لمن ذكرنا مخالفا من الصحابة.
    ثم قال: قال علي _ يعني ابن حزم نفسه المؤلف _ : فمن فعل في صلاته ما حرم عليه فعله فلم يصل كما أمره الله، فلا صلاة له.
    ثم ساق بعض ما قدمناه من أحاديث الوعيد على من جر ثوبه وأسبله.
    قلت: وقوله: فإن أسبله فزعا أو نسيانا فلا شي عليه، هو إشارة إلى ما أخرجه البخاري والنسائي، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: أنها لما كسفت الشمس، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فزعا يجر إزاره.
    وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، في قصة سجود السهو، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم خرج غضبان يجر إزاره.
    فدل على أنه عند الفزع _ ومثله الغضب والنسيان _ لا يأثم بجر إزاره، وذلك لأنه لابد من قصد الفعل، والفزع والغضبان والناسي لا قصد لهم أصلا، بل لا يخطر ببالهم الإسبال، فلا يقال: إن فعله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك دليل على أن النهي عن الإسبال للتنزيه، وأنه فعله لبيان الجواز؛ لأنه لم يكن منه صلى الله عليه وآله وسلم فعلا مقصودا، ولأنه تقدم في أحاديث الوعيد: الوعيد بالنار، الذي لا يكون إلا على فعل محرم.
    ثم قال أبو محمد ابن حزم: وأما المرأة، فلها أن تسبل ذيل ما تلبس ذراعا. واستدل بما قدمناه من أحاديث الترخيص لها.
    قلت: إلا أنه يتم الاستثناء الذي قاله إلا إذا صلت مع الرجال؛ للعلة، وهي انكشاف القدم، فيراه من يحرم عليه رؤيتها، وأما إذا صلت خالية في منزلها أو مع نساء مثلها، فالواجب تغطية القدم بلا زيادة، وذلك يتم من دون إسبال؛ كما يدل له قوله صلى الله عليه وآله وسلم _ لما سئل عن المرأة تصلي بدرع وخمار من غير إزار _ قال: "لا بأس إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها". انتهى.
    فإن قلت: إذا كان الثوب طويلا ولفه بحزام أو نحوه وصلى فيه: أيذهب التحريم؟
    قلت: نعم؛ لأنه يصدق عليه أنه يصل مسبلا.ويدل له ما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم له: "ارفع إزارك" فرفعته، فقال: "زد" فزدته؛ فإنه دليل أنه لفه عليه، وحديث عطفه صلى الله عليه وآله وسلم الثوب الذي صلى عليه صاحبه مسبلا.
    إن قلت: قد ذكر الشافعية كراهة شد المصلي وسطه.
    قلت: إن تم لهم دليل ذلك، فهذا الشد لدفع الإسبال المحرم فلا تبقى كراهة، بل هو واجب. على أن دليلهم على ذلك، هو حديث: "ولا نكفت ثوبا"، والمراد: لا نكفت ما أبيح له عدم كفته، لا ما وجب عليه كفته.
    فإن قلت: إذا صلى من يرى الإسبال مطلقا خلف مسبل جاهلا للتحريم، أو شافعي المذهب يرى أنه لا يحرم إلا للخيلاء، وأنه معها لا تبطل به الصلاة: هل يصح صلاة القائل بتحريمه مطلقا خلفه؟
    قلت: أما في الصورة الأولى، فالجاهل غير آثم، فتصح الصلاة، ويجب تعريفه بأنه منهي عنه. وأما في الصورة الثانية، فالمسائل الخلافية: الإمام فيها حاكم، فيصح الصلاة. والدليل: حديث: "تصلون، فما صلح فلكم ولهم، وما فسد فعليهم دونكم". وفي معناه أحاديث الصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، والأمر بالصلاة معهم.
    واعلم أنه لم يصرح ببطلان صلاة المسبل خيلاء، إلا ابن حزم رحمه الله، ودليله نفي القبول في الأحاديث عن صلاة المسبل.
    وقد طرد ابن حزم قاعدة نفي القبول في جعله دليلا على عدم الصحة، فجزم بعدم صحة صلاة العبد الآبق، فقال: (مسألة): أيما عبد أبق عن مولاه، فإنها لا تقبل له صلاة حتى يرجع، إلا أن يكون أبق لضرر محرم ولا يجد من ينصره عليه، فليس آبقا حينئذ إذا نوى البعد عنه فقط.
    ثم استدل بحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا أبق العبد لا يقبل الله له صلاة". قال: وبهذا يقول أبو هريرة. ثم ساق بإسناده إليه أنه قال: "إذا ابق العبد لا تقبل له صلاة ". قال: وهذا صاحب لا يعرف له من الصحابة مخالف. انتهى.
    قلت: قد ذكر ابن دقيق العيد في (شرح العمدة)، في حديث: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" : إنه قد استدل جماعة من المتقدمين بانتفاء القبول على انتفاء الصحة، كما فعلوه في قولة صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار". قال: ولا يتم ذلك إلا بأن يكون انتفاء القبول دليلا على انتفاء الصحة.
    قلت: وهذا هو الذي ذهب إليه أبو محمد ابن حزم.
    ثم قال ابن دقيق العيد: وقد حرر المتأخرون في هذا بحثا؛ لأن انتفاء القبول قد ورد في مواضع مع ثبوت الصحة، كالعبد إذا أبق لا يقبل الله له صلاة، وكما ورد فيمن أتى عرافا، وكشارب الخمر.
    ثم قال: إنه إذا قيل: قد دل الدليل على أن القبول من لوازم الصحة، فإذا انتفى انتفت، فيصح الاستدلال بنفي القبول على نفي الصحة، وتحتاج تلك الأحاديث التي نفي فيها القبول مع بقاء الصحة إلى تأويل أو تخريج جواب. انتهى.
    قلت: معلوم أن حديث أبي هريرة _ وهو: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" _ لم يسق إلا لبيان أنه لا صحة لصلاة بلا وضوء، والقول بأنه قد علم عدم صحة الصلاة إلا بوضوء من أدلة أخر، لا تدفع الاستدلال بالحديث على نفي الصحة بنفي القبول؛ فإن الأدلة على الحكم الواحد قد تكون متعددة من الكتاب والسنة والإجماع، وقد تكون متكررة من نوع من هذه الأنواع.
    ثم إنا لا نسلم صحة صلاة الآبق ومن ذكر معه، وأين الدليل على صحتها؟ وقولهم: الدليل عليه الإجماع بعدم أمر الآبق ونحوه بإعادة الصلاة، ممنوع وقوع الإجماع، وهذا ابن حزم وأبو هريرة مخالفان، على أن الإجماع نفسه ممنوع تحققه كما قرره الأئمة المحققون في الأصول وغيرها.
    فالملازمة بين نفي الصحة ونفي القبول هي الأصل، والدليل على من ادعى خلافها. ولا شيء أدل على ذلك من أمره صلى الله عليه وآله وسلم للمسبل بإعادة وضوئه، ثم قوله معللا له ذلك: "إن الله لا يقبل صلاة مسبل إزاره"، فالأمر بالإعادة دليل على ملازمة عدم القبول لعدم الصحة، ومن ادعى عدم تلازمهما طولب بالدليل على دعواه، على أن الحديث دل على عدم صحة وضوء من صلى مسبلا ولا عذر عن ذلك.
    هذا، وقد ذكر ابن العربي المالكي فرقا بين ما نفي عنه القبول مع بقاء الصحة، وما نفي عنه مع عدمها. وهي فروق مذهبية قد سقناها في حاشيتنا على (شرح العمدة)، وذكرها صاحب (طرح التثريب)، وهي مبنية على تسليم القول بالصحة مع عدم القبول، وهو محل النزاع.
    وأخرج الترمذي من حديث أبي أمامة مرفوعا: "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام أم قوما وهم له كارهون". قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وهو مشعر بأنه لا صحة لهذه الصلاة؛ لأنها لا ترفع، بل هي باقية في ذمته.
    وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي، من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا: "ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة، ولا ترفع لهم إلى السماء حسنة: العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه..."، الحديث.
    فهذا الكلام في الطرفين الأولين: الإسبال في الصلاة لخيلاء وغيرها. وقد عرفت أنه عند النووي لا يضر بالصلاة إن كان للخيلاء، بل يكون فاعل محرم فيها، وأنه يكره فيها إذا كان لغير خيلاء، وأنه يبطلها عند ابن حزم إذا كان للخيلاء.
    وأما في غير الصلاة:
    فقال الإمام المهدي _ عليه السلام _ في (البحر): ويكره تطويل الثياب حتى يغطي الكعبين.
    قال عليه المحقق المقبلي ما لفظه: هذه المسألة في السنة نار على علم في منع ما تحت الكعبين، وأنه في النار، وأن الحد وسط الساقين، فإن أبيت فإلى الكعبين.
    والعجب من الفقهاء في تهوين أمرها، وكان الواجب أن يهولوا ما هولت السنة، ويهونوا ما هونته، وهم إنما يلتفتون إلى هذه المسألة أدنى التفات فيما طولوا من المصنفات، وقل من يزيدها على لفظ الكراهة الذي غلب استعمالهم لها في التنزيه دون الحظر، وان زعم زاعمون أن إطلاقها أصل في الحظر، فإن المعروف من استقراء كلامهم ما ذكرنا.
    وتقييد كثير من الروايات بالخيلاء، بيان للحامل على ذلك في الأغلب. وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر رضي الله عنه _وقد قال حين سمع النهي: إني إذا لم أتعاهد إزاري يسترخي _ : "لست ممن يفعل ذلك خيلاء"، أي: لست ممن يتعمد ذلك. وهذا ما نختاره من العمل بالمطلق وحمل المقيد على زيادة في موجب الحكم، فيكون التحريم عاما.انتهى.
    قلت: نِعْمَ ما قال، أي: عاما في حال الخيلاء وغيرها. وهو يشير إلى ما نختاره، وهو مذهب الشافعي، وإليه يشير كلام النووي، وخالفهم الحنفية، ووافقهم صاحب (المنار).
    وقال في (نجاح الطالب): المقيد إنما هو أحد الأفراد التي يصدق عليها المطلق، والنص على فرد من أفراد العام ليس بتخصيص مع اتفاق الحكمين، فكذا هنا. انتهى.
    وقد بحث مع أئمة الأصول القائلين بالحمل، بما يظهر به قوة ما جنح إليه، مع أنه قد أشار هنا _ بقوله: بيان الحامل على ذلك في الأغلب _ إلى أن قيد الخيلاء خرج مخرج الأغلب، والمقيد إذا خرج مخرج الأغلب لم يعتبر له مفهوم عند جمهور أهل الأصول، كما قاله الجمهور في قوله تعالى: (وربائبكم التي في حجوركم . . .) الآية، لأن قيد (في حجوركم) أغلبي، فلا يعمل بمفهومه، فلا تحل الربيبة في غير الحجر، فكذلك الإسبال هنا، لا يحل مع عدم الخيلاء.
    وفي كلام ابن الأثير ما يشعر بذلك، حيث قال: وإنما يفعل ذلك للخيلاء. ويؤيده: أن في بعض الأحاديث: "وإياك والإسبال، فإنه من المخيلة"، فجعل نفس الإسبال بعضا من المخيلة.
    ثم وجدت _ بعد ثلاث سنين من تأليف هذه الرسالة _ في (فتح الباري شرح صحيح البخاري)، ما لفظه: قال ابن العربي: لا يجوز للرجل مجاوزة ثوبه كعبيه ويقول: لا أجره خيلاء، لأن النهي قد تناوله لفظا، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكما أن يقول: لا أمتثله لأن تلك العلة ليست في؛ فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته ذيله دال على تكبره. انتهى ملخصا.
    ثم قال ابن حجر: وحاصله: أن الإسبال يستلزم جر الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء. ويؤيده: ما أخرجه أحمد بن منيع، من وجه آخر عن ابن عمر _ في أثناء حديث رفعه _ : "وإياك وجر الإزار، فإن جر الإزار من المخيلة . . .".
    وأخرج النسائي وابن ماجة _ وصححه ابن حبان _ من حديث المغيرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آخذا برداء سفيان بن سهل وهو يقول: "يا سفيان : لا تسبل، إن الله لا يحب المسبلين". انتهى.
    وأما حديث أبي بكر رضي الله عنه، فالذي يظهر لي: أنه من باب نفي القيد والمقيد معا، وأن مراده صلى الله عليه وآله وسلم في جوابه عليه: أنك لا تسبل ولا تفعله مخيلة؛ وذلك أنه قال: إن إزاري يسترخي، وهذا ليس بإسبال؛ فإنه لابد أن يكون من فعل المسبل نفسه، وهنا نسب الاسترخاء إلى الإزار من غير إرادته.
    فالجواب منه صلى الله عليه وآله وسلم من باب نفي القيد والمقيد، وهو نظير ما قاله صاحب (الكشاف) _ رحمه الله _ في قولة تعالى: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم): إنه نفي للتوبة والقبول، أي: لا توبة لهم ولا قبول. وأنشد البيت المعروف:
    ولا يرى الضب بها ينجحر
    ويؤيد أنه لابد من القصد في الإسبال، أنه لا يحرم جره حال الفزع والغضب والنسيان كما قدمناه. ولعل هذا الذي أراده صاحب (المنار)، وأشار إليه بقولة في حديث أبي بكر: "إنك لست ممن يتعمد ذلك"، وحينئذ فحديث أبي بكر ليس من محل النزاع في ورد ولا صدر، إنما توهم أبو بكر فسأل، فأجيب بأنه ليس من ذلك.
    ثم وجدت في (التمهيد) لابن عبد البر _ بعد أيام من كتب هذه الرسالة _ ما لفظه: إنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي بكر: "إنك لست ممن يرضى ذلك ولا يتعمده، ولا يظن بك ذلك". انتهى. وهو بحمد الله صريح فيما قلناه.
    ويدل له: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أذن لأمهات المؤمنين في إسبال ذيولهن ذراعا، ولم يقل لأم سلمه رضي الله عنها _ وقد سألته _ : إنه ليس من المخيلة؛ لأنهن قاصدات لذلك، فهو مخيلة أو مظنة لها، لكن عارض مفسدة الإسبال مفسدة أعظم منها، وهي انكشاف أقدام النساء وهي عورة، فأذن لهن وإن حصلت المخيلة دفعا لأعظم المفسدتين بأخفهما، وحينئذ يتوجه الوعيد على الإسبال لغير النساء، ولكن تخص الإباحة بذيولهن لا بقميصهن وثياب البذلة التي تلبسها في منزلها خالية عن الأجانب.
    واعلم أن هذا الذي أشار إليه (المنار) في خروج المفهوم على الأغلب، تنزل منه على القول بالمفهوم، وإلا فهو ينفيه كما يأتي.
    ثم قال في (حاشية المنار): ومما وقع لي من اللطف: أنه كان لي عباة، وما يكون من هذا النوع في زماننا عالية الطول، فكنت في اليمن _ لأنه يغلب على المتفقهة لبس ذلك _ اشتغل بطولها، فقلت مرة: إني لست ممن يفعل ذلك خيلاء، مشيرا إلى حديث أبي بكر رضي الله عنه، فقالت لي امرأة: أوما يكفيك أن يراك الله متخلقا بأخلاقهم؟ فكأنها كشفت عن قلبي غشاوة، واستغربت ذلك منها، ورأيت أنها ملقنة. انتهى.
    هذا، وقد سبقت بنا الإشارة إلى أنه لا يتم حمل المطلق على المقيد كما قاله النووي والبيهقي إلا مع القول بمفهوم الصفة، والقول بحمل المطلق على المقيد، وفيهما نزاع كما اشرنا إليه.
    فأما الحمل فقدمنا الكلام عليه.
    وأما القول بمفهوم الصفة، فلنذكر كلام الثقات والمتثبتين ومن له ذوق سليم يعرف الصحيح من السقيم:
    فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "خيلاء" في حديث: "لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء"، مفهومه من مفهوم الصفة؛ لاتفاقهم بأنه ليس المراد بها النحوية، بل كل ما تقيد بها من حال وعلة ونحوهما.
    فذهب إلى القول بمفهوم الصفة: الشافعي وجماعة من الأئمة، وذهب إلى نفيه: الحنفية وأئمة من الشافعية كالقاضي والغزالي، ونفاه المعتزلة والمهدي في (البحر).
    واستدل المثبتون بدليلين، كما في (مختصر ابن الحاجب) وغيره من كتب الأصول:
    الأول: أنه نقل عن أبي عبيدة _ وهو من أئمة اللغة _ أنه قال في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليّ الواجد يحل عقوبته وعرضه"، أنه يدل أن ليّ غير الواجد لا يحل عرضه وعقوبته. قال: وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "مطل الغني ظلم" مثل هذا. وأنه قيل له في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لأن يمتلئ بطن أحدكم قيحا خير له من ان يمتلئ شعرا"، المراد بالشعر هنا: الهجاء مطلقا، أو هجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: لو كان كذلك لم يكن لذكر الامتلاء معنى، لأن قليله وكثيره سواء، فجعل الامتلاء من الشعر في قوة الشعر الكثير، ففهم منه أن القليل ليس كذلك، فاحتج به. وقد ألزم من تقدير الصفة المفهوم، فكيف مع التصريح بها؟
    قالوا: ولأنه قال بمفهوم الصفة الشافعي، وهو وأبو عبيدة من أئمة اللغة، فظهر إفادتها لغة. انتهى.
    وأجيب عنه: بأن اللغة إنما تثبت بالنقل لا بالفهم، والنقل يختص بالموضوعات للشخص أو للنوع، وليس ذلك أحدهما، إلا إذا قامت قرينة على أنه من التعريض بغير المذكور، فمدلول القرينة منطوق؛ لما عرف من أن التعريض من الكناية، وهي موضوعه بالنوع، ولا نزاع في ذلك.
    والحاصل: أنهما لم يوردا ذلك عن اللغة، وإنما أخبرا عن فهمهما ورأيهما، وهو كآرائهما الشرعية والنقلية. يوضحه: أنه إذا اختلف عربيان سليقيان في معنى، جعلنا كلامهما لغتين، وإذا اختلف إمامان لم نجعل كلامهما نصين، بل يجب الترجيح بين قوليهما، ولو كان قول ألائمه مقبولا مطلقا، لا ساوى قول السليقيين.
    وأجيب _ أيضا _ بجواب آخر، وهو: أنهما إنما حكما بذلك؛ لموافقة الأصل لا بالمفهوم، والعقل من المخصصات كما علم.
    أما في مطل الواجد فظاهر؛ إذ لا عذر له، بخلاف المعدوم، إذ التكليف إنما هو بالموجود.
    وأما الشعر؛ فلأنه قد علم في الجاهلية والإسلام أن الاشتغال به مفخرة الناقص، ومنقصة الكامل، وأنه يشغل عن الكمالات، ويستلزم الكذب والتخيلات التي لا أصل لها، وملأ الجوف منه لا يخلو عن ذلك.
    نعم، وماخلا القليل منه فلا كراهية فيه، كيف وقد تمثل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فهذه قرينة تعيد المفهوم منطوقا؛ لما عرفت من أن ما قامت القرينة على اعتباره من مفهوم المخالفة فهو منطوق.
    وثاني أدلة من قال بإثبات مفهوم الصفة: أنه لو لم يدل على المخالفة، لم يكن لتخصيص محل الذكر بالمنطوق به فائدة. وتخصيص آحاد البلغاء بغير فائدة ممتنع، فالشارع أجدر.
    وأجيب: بأن فائدته تشخيص مناط الحكم، فهو لتحصيل أصل المعنى، كاللقب؛ فإنك إذا قلت: أكرم زيدا التميمي، فقد أمرت أن يوقع الإكرام على زيد المقيد بكونه تميميا، ففائدة ذكر الصفة تعيين من أمرت بإكرامه وأردته، فكيف يقال: لم يكن لتخصيص محل النطق بالذكر فائدة؟! وكيف يطلب فائدة زائدة على فائدة الوضع؟
    فعرفت من هذا التحرير مساواته لمفهوم اللقب، وأنه يختل الكلام عند إسقاط الصفة؛ لأن الكلام الذي اعتبر فيه زيد التميمي، من شرط إفادة المراد وجود هذه الصفة.
    وكذلك قولك: جاءني زيد الطويل، ليس مسمى زيد فقط، بل الموصوف بالصفة، فهي داخله في مفهوم المسند إليه ليحصل معناه، ولا تدل العبارة أن زيدا القصير لم يجئ، الذي هو معنى اعتبار مفهوم الصفة، بل حكمه مسكوت عنه، بحيث لو قلت: جاءني زيد القصير بعد قولك: جاءني زيد الطويل، لم يكن كلاما متناقضا ظاهرا.
    هذا قصارى ما عند الفريقين استدلالا وردا، فتأمل؛ فإنه لا يخفى عليك الأقوى دليلا، والأحسن قيلا.
    وإذا عرفت ما قررناه، وأحطت علما بما سقناه، عرفت قوة التحريم مطلقا للإسبال في كل حال.
    وأما ما نقل عن ابن حجر الهيتمي، أن الإسبال صار الآن شعارا للعلماء، وكأنه يريد علماء الحرمين لا غيرهم، قال: فلا يحرم عليهم، بل يباح لهم، فهو كلام يكاد يضحك منه الحبر والورق، وكأنه يريد: إذا صار شعارا لهم لم يبق فيه للخيلاء مجال.
    ولكنه يقال: وهل يجعل ما نهى عنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم حلالا إذا صار شعارا معتادا لطائفة، لا سيما أشرف الطوائف، وهم هداة الناس وقدوتهم وأعيانهم، فيصير حلالا وينتفي عنه النهي؟ وهل قدوة العلماء والعباد، وإمام المبدإ والمعاد، سوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي أرسله معلما للعباد لكل ما يقربهم إلى ربهم ويبعدهم عن معصيته؟ حتى قال بعض الصحابة: لقد علمنا نبينا كل شي حتى الخراءه، أي: آداب التخلي.
    فالشعار للعلماء هو شعاره وشعار أصحابه رضي الله عنهم، فهم القدوة، لا ما جعله من ارتكب ما نهي عنه شعارا، فإن أول من خالف النهي واتخذه له لباسا قبل أن يسبقه إليه أحد مبتدع قطعا، آتيا بما نهي عنه، لا تتم فيه هذه المعذرة القبيحة لأنه لم يكن شعارا إلا من بعده، ممن تبعه على الابتداع وارتكاب المنهي عنه، ثم اعتذر لنفسه بأنه صار له شعارا.
    وسبحان الله! ما أقبح بالعالم أنه يروج فعله لما نهي عنه نهي تحريم أو كراهة، ويجعله شعارا مأذونا فيه. وكان خيرا منه الاعتراف بأنه خطيئة، أقل الأحوال: مكروهة ومحل ريبة؛ فإن هذه الأحاديث التي سمعتها من أول الرسالة تثير ريبة إذا لم يحصل التحريم، وقد ثبت حديث: "دع ما يريبك إلى مالا يريبك".
    وإذا لم تثر هذه الأحاديث ريبة توجب الترك للمنهي عنه وعدم حله حلالا خالصا، فليس عند من سمعها أهلية لفهم التكاليف الشرعية، فكيف وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي أخبرت فيه امرأة بإرضاعها امرأة رجل، فأمره صلى الله عليه وآله وسلم بفراقها، وقال له: "كيف وقد قيل؟!".
    وهذا كله منا تنزل، وإلا فما قدمناه من الأدلة وبيان دلالتها، ما ينادي على التحريم أعظم نداء، والاعتذار بكون النهي للخيلاء عرفت بطلانه، وهل أوضح من قول الشارع: "ما زاد على الكعبين ففي النار"، دلالة على إطلاق التحريم وشدة الوعيد؟ وهو كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ويل للعراقيب من النار" في حديث الوضوء، ولم يستفصل صلى الله عليه وآله وسلم [من المسبل] ولا الذي أمره بإعادة الوضوء ولا غيرهما ممن نهاه: هل كان إسباله للخيلاء أو لغيرها في حديث واحد، وقد عرفت القاعدة الأصولية، وهي أن ترك الاستفصال في موضع الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال.
    ولا يروج جواز الإسبال إلا من جعل الشرع تبعا لهواه، ذلك ليس من شأن المؤمن، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".
    ومما يدل على عدم النظر إلى الخيلاء، أمره صلى الله عليه وآله وسلم لابن عمر رضي الله عنه، وهل يظن بابن عمر أنه يفعل ذلك للخيلاء، مع شدة تأسيه به؟ وكيف يتأسى به في الفضائل، ولا يتأسى به صلى الله عليه وآله وسلم في ترك المحرمات؟! ما ذاك إلا أنه أرخى إزاره غير عالم بالتحريم قطعا، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إياك والإسبال، فإن الإسبال من المخيلة".
    ولو جاز لغير المخيلة، لما جاز أن يطلق صلى الله عليه وآله وسلم النهي، فإن المقام مقام بيان، ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، وأي حاجة أشد من مقام النهي؟ والله أعلم.
    وإلى هنا انتهى بنا ما أردنا تحريره، وإبانة المقام وإيضاحه، والله يرزقنا إتباع رسوله في كل حال، صلى الله عليه وعلى آله خير آل.


    رسالة (استيفاء الإستدلال في تحريم الإسبال) للأمير الصنعاني

    ملاحظة وتنبيه: قلت لكم حفظكم الله: هذا ما أدين الله به، فلذلك لن أقوم بالرد _ إن حصل _ على أي أخ حبيب منكم قد يناقش، فلعل الود بيننا يبقى لا تشوبه شائبه.
    حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداءٌ له وخصوم
    كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وبغضاً إنه لذميم

  2. #22

    افتراضي رد: هل بنطال الرجال مستثنى من الإسبال ؟

    جزاكم الله خيرا جميعا .. ولا شك ان ما اختاره الشيخ "التميمي" هو الحق الذي لا مرية فيه ..
    إذا : السنة ان يكون في نصف الساق .
    والواجب ان يكون فوق الكعبين ..
    وما اسفل في الكعبين ففي النار بغض النظر عن كونه خيلاء او لا ..
    ومن جر ثوبه خيلاء - والعياذ بالله - فهو لا ينظر الله ليه ولا يزكيه وله عذب اليم ..
    والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا
    ..

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    [quote=السكران التميمي;208662]
    وأخرج البيهقي في (السنن) – أيضا – من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما كان أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار".
    [quote​]
    نفع الله بك أخانا التميمي.
    الأولى عزوه إلى البخاري، ولفظه:
    مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ.

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    ويمكن تقصير البنطال إلى المكان الذي رخص فيه الشرع، أو يمكن ثنيه أيضا إلى الكعبين أو فوقه؛ لأن عدم الإسبال يحصل بذلك.
    وقد دل حديث ابن عمر على ذلك، عند أحمد وغيره:
    قَالَ: كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةً مِنْ حُلَلِ السِّيَرَاءِ أَهْدَاهَا لَهُ فَيْرُوزُ فَلَبِسْتُ الْإِزَارَ فَأَغْرَقَنِي طُولًا وَعَرْضًا فَسَحَبْتُهُ وَلَبِسْتُ الرِّدَاءَ فَتَقَنَّعْتُ بِهِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَاتِقِي فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ ارْفَعْ الْإِزَارَ فَإِنَّ مَا مَسَّتْ الْأَرْضُ مِنْ الْإِزَارِ إِلَى مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ : فَلَمْ أَرَ إِنْسَانًا قَطُّ أَشَدَّ تَشْمِيرًا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ .
    وفيه أمره بتشميره. والتشمير رفع الثوب من أسفله.
    وقد بوَّب البخاري رحمه الله في صحيحه: " بَاب التَّشْمِيرِ فِي الثِّيَابِ "
    قال الحافظ رحمه الله: قَوْله : ( بَاب التَّشَمُّر فِي الثِّيَاب ) هُوَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الْمِيم : "رَفْع أَسْفَل الثَّوْب".

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •