أحكام التجربة عند أهل الأثر
الألفاظ القرآنية مكنزٌ واسع لكثير من المفاهيم الانسانية التي يمكن الافادة منها في العلوم ومعارف الحياة والبحث الاسلامي . ومن تلك المصطلحات الراقية لفظة (الخِبرة ) التي أشارت اليها الاية الكريمة : " وكيف تصبرُ على ما لم تُحِط به خُبرا " ( الكهف : 68 ). والاحاطة بالشيء هي المهارة في معرفته واتقانه، مع الدُّربة والممارسة له،والتدقيق في فهم الأشياء وتمحيص جوانبها والصبر على الحِذق في معالجتها ودرايتها . وهي التي تُسمَّى بالمفهوم العام ( التجربة ) . وقديما قيل : بطول التجارب تُكشف المآرب ، ومن ذاق عَرف ، ومن عرف اغترف ! . وإذا كانت الحضارات المعاصرة تزعم أن أنها مؤسِّسة المنهج التجريبي الذي أبدع في استخراج كثير من العلوم والمعارف والصناعات الحديثة ، فإن الأثر الاسلامي الذي يعتمد على الوحيين ، قد رسم الخطوط العريضة لأصول التجارب المعنوية والحسية . ومن له أدنى اطلاع على تراث المسلمين في القرون الثلاثة المفضلة يتبين له عنايتهم بالسببية: العلاقة بين السبب والمسبب ، وشحذ الخاطر لاستخراج فيض الحكمة التي خلَّفتها العقول الراجحة التي نبذت المحاكاة واعتمدت على الأثر وشحذ القريحة . فمن أين تولد دهاء معاوية وحنكة الفاروق وذكاء خالد رضي الله عنهم ؟ . ومن تأمل تراجم الحياة الخاصة لأئمة المذاهب الأربعة قدس الله أرواحهم ، لا ينقضي عجبه من عنايتهم بهذا الباب المهم ، ولله في خلقه شؤؤن .

وهذه أهم الأحكام التي تيسَّر تحريرها في باب التجربة ،لفهم معطيات هذا المصطلح .
1- المقصود بالتجربة : رصد سلوك أو مفهوم أو ظاهرة معينة، لاستخلاص منفعة خاصة أو عامة أو عبرة . وأصلها النظر والتفكر والتدبر والتعقل، مع الصبر والجلد على الاحاطة بِكُنه الشيء . وثمرة التجربة الحِكمة والخبرة .
والتجارب الانسانية لا تخرج عن خمس : عُرفية ودينية وعِلمية وكسبية وبدنية . وتعرف التجربة بالتواتر عن طريق : الرواية أو الشهادة على وقوعها أو الاجتهاد في تحصيلها ، أو البصيرة التي تتولَّد عن الايمان .

2-- مراحل التجربة الصحيحة هي : الرصد والملاحظة والتحقق والاستنباط . وقد وردت في القرآن في مواضع متعددة ، من أشهرها أحوال الأنبياء مع موافقهيهم ومخالفيهم ، مثال ذلك قول الله تعالى : " وتفقَّد الطير فقال ماليَ لا أرى الهدهدَ أم كان من الغائبين "( النمل : 20) إلى آخر قصة سليمان عليه السلام في السورة . وقول الله تعالى :" وقالت لأُخته قُصِّيهِ فَبصُرت به عن جُنب وهم لا يشعرون "( القصص : 11) إلى آخر الآيات .

3- شروط صحة التجربة عند أهل الأثر :
أ- أن تكون التجربة على مقتضى الأحكام الثلاثة : العقلية والعادية والشرعية . ومعاني هذه الأحكام مستوفاة في كتب الأصول .
ب- أن تكون التجربة صدرت عن نظرٍ واستقراءٍ صحيح .
ج- أن تكون التجربة قابلة للتنفيذ والافادة منها .

4- التجربة من مصادر المعرفة، وتقوم على المشاهدة والملاحظة والتحقق والاستقراء مع استثمار الحِس والعقل ، وعدم التسليم بها ومعارضتها يوقع في الاختناق والغيظ الذي أخبر الله بحصوله في قوله تعالى : " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والاخرة فليمدد بسببٍ الى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يُذهبن كيده ما يغيظ " ( الحج : 15) .

5- أدوات التجربة هي الواردة في قول الله تعالى :" وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون "( النحل: 78 ) ، وبتعاهدها وتنميتها يتحقق المنهج التجريبي الذي يتولَّد عنه الحكمة والخبرة ومعرفة مآلات الأمور .

6- ليس في الأمور التعبدية تجربة تخضع للميزان العقلي والعاطفي ، ، بل هي مسلَّمات يقينية لا تقبل الترُّدد أو الريب . وقد عاب الله تعالى وردَّ على المشركين قولهم لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: تعبد إلهنا عاما ونعبد الهك عاما ! ، وقد نزل في ذلك قول الله تعالى :" وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك"( الاسراء : 73 ) . وقد أغلظت السنة عقوبة المرتد الذي ينكص على عقبيه بعد الدخول فيه ، كما في الحديث المرفوع :" من بدَّل دينه فاقتلوه " . أخرجه البخاري .

7- التجربة حجة في الأمور الدنيوية ، لحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم يُلقِّحون النخل فقال:" لو لم تفعلوا لصلُح، قال : فخرج شيصا " تمراً رديئا"، فمرَّ بهم فقال : ما لنخلكم؟ قالوا : قلتَ كذا وكذا.. قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم " . أخرجه الامام أحمد في مسنده واللفظ له .
أما امور الآخرة فلا يصح اخضاعها للتجربة والأقيسة العقلية لاختلاف سننها وأحكامها . وقد عاب الله تعالى وردَّ على (العاص بن وائل) الذي قاس أحكام الدنيا على أحكام الآخرة ، كما في قوله تعالى : " وضرب لنا مثلاً ونسيَ خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أوَّل مرة " (يس: 78-79 ) .

8- التجربة تقوم على نواميس وسنن كونية وقدرية جعلها الله بتدبيره في الأقوال والأعمال ، كمن جرَّب شرب الماء على الريق فوجده نافعاً ، وكمن جرَّب البكور لطلب الرزق فوجده مُربحاً ، وكمن جرَّب صلة الأرحام فوجد بها انفراجاً ، ومن جرَّب الظن فوجده أحياناً صحيحا ، وقد جرَّبت بلقيس سياسة الملوك وأقرَّها القرآن على تجربتها : قال تعالى :" قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " ( النمل : 34 ) .

9- التجربة تكون في الامور الحسية وتكون في الامور المعنوية . فمثال الأولى : قول الامام الشافعي(ت: 204هـ ) رحمه الله تعالى :
إن الزِّنا دَينٌ إذا أقرضته كان الوفاءُ من أهل بيتك فاعلمِ
ومثال الثانية ، " قول العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله رضي الله عنهما : "يا بُنيّ إن أميرالمؤمنين يدنيك ـ يعني عمر ـ فاحفظ عني ثلاثاً: لا تُفشينّ له سِراً، ولا تغتابنّ عنده أحداً، ولا يطلعنّ منك على كِذبة" .
ومن تجارب ابن القيِّم المعنوية مع الامام ابن تيمية ،رحمهما الله تعالى: " سمعتُه يقول: يدخل عليَّ أصحابي وغيرهم، فأرى في وجوههم وأعينهم أمورا لا أذكرها لهم . فقلتُ له: لو أخبرتَهم ، فقال : أتريدون أن أكون مُعرِّفا كمعرِّف الولاة ؟ . وقلتُ له يوما: لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح ، فقال : لا تصبرون معي على ذلك جمعة ! . وأخبرني غير مرٍة بأمور باطنةٍ تختصُّ بي مما عزمتُ عليه ولم ينطق به لساني، وأخبرني ببعضِ حوادث كِبار تجري في المستقبل ولم يُعيِّن أوقاتها ،وقد رأيتُ بعضها وأنا انتظر بقيتها ،وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدتُه " .

10- الفرق بين التجربة والفطرة ، أن الفطرة أمرٌ غريزي لا يحتاج إلى برهان أو رصد أو استقراء، قال الله تعالى :"أولم يروا إلى الطيرٍ فوقهم صافاتٍ ويقبضن "( الملك : 19 ) أما التجربة فيشترط لها ما تقدَّم من شروط لتحققها ووقوعها .

11- يجوز القسم على صحة التجربة الكونية التي تعرفها النفوس المؤمنة ،كقسم ابن تيمية بهزيمة التتار (سنة : 702ه) ، فقد قيل له قل إن شاء الله ،قال : إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً . وكان يستشهد لصحة قسمه بقول الله تعالى :" ومن عاقبَ بمثل ما عُوقب به ثم بُغي عليه لينصرنه الله " (الحج : 60 ) .

12- تجارب الأنبياء والصالحين حجة إذا ثبت وقوعها وورودها عنهم ، وفي الحديث المرفوع : "غزا نبيُّ من الأنبياء فَقَالَ لِقَوْمِهِ لَا يتبعني رجلٌ قَدْ مَلَكَ بُضع امرأةٍ وَهُوَ يريد أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمْ يبنِ،وَلَا أحدٌ قَدْ بَنَى بنيانا ولما يَرْفَعْ سقفها ،وَلَا أَحَدٌ قَدْ اشْتَرَى غنما أَوْ خلفات وَهُوَ يَنْتَظِرُ أولادها " أخرجه البخاري . ومن تجارب الصالحين حِكم لقمانعليه السلام التي قصها الله علينا في السورة التي سمُيِّت باسمه ، وأحوال الصحابة في سِيرهم وتراجمهم .

13- يجوز الانتفاع بتجارب الكفار إذا لم يكن في ديننا ما يعارضها . وقد أُشير على الرسول صلى الله عليه وسلم بفكرة حفر الخندق في الغزوة المشهورة (سنة : 5هـ ) وهي من تجارب الفُرس لتحصين المدن فعمل بها وأقرَّ المسلمين عليها . وأخذ عمر الفاروق رضي الله عنه بفكرة الدواوين عن الفرس أيضا، وعمل بها .

14- التجارب التي ثبتت عند أهل الأثر لا حصر لها ، ويمكن تتبعها في تراجم سير أعلام النبلاء للذهبي، فقد أشار إلى كثيرٍ منها في ثنايا كتابه . ويمكن التقاطها أيضا من كتب الرحلات والمشاهدات والأسفار، ففيها من نفائس الفوائد ما يغني عن الكتب المُطوَّلة . ولأبي الحسن الأشعري (ت: 324هـ) في الابانه بعد تراجعه عن مذهبه تقييدات مفيدة ، ولعبد الغني الأزدي(ت: 409هـ) في المتوارين ، ولابن حزم(ت: 456هـ) في مداواة النفوس تجارب قيمة ، ، وللامام ابن تيمية(ت: 728هـ ) في درء التعارض ، وابن القيم(ت: 751هـ) في مدارج السالكين، والسبكي(ت: 771هـ ) في معيد النِّعم ومبيد النِّقم، وابن خلدون (ت: 808هـ ) في المقدمة ، ومحمد بن إبراهيم ( ت: 1389هـ ) في فتاويه ، ومحمد الأمين(ت: 1393هـ ) في رحلة الحج ، ، وعلي الطنطاوي( ت: 1420هـ) في ذكرياته ، والألباني(ت: 1420هـ) في مقدِّمات مصنفاته ، و (ابن عثيمين(ت: 1421هـ ) في لقاء الباب المفتوح ،وحمد الجاسر(ت: 1421هـ ) في رحلاته، برَّد الله مضاجعهم ، وغيرهم من أئمة العلم ، تقييدات مهمة يحسن الاطلاع عليها والافادة منها . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

المصادر :
1- القاموس المحيط / الفيروز آبادي .
2- العبوديه / ابن تيميه / 66 .
3- منهج البحث التاريخي /لحسن عثمان / 54 .
4-فتاوى ابن الصلاح / 342 .
5- مفاتيح العلوم / الخوارزمي / 65 .

أ/أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصه
(منقول)