الحمد الله الحكيم العليم، و الصلاة و السلام على نبيه محمد الأمين، الذي أرسله رحمة للعالمين؛ ليزيل به غمتهم، و يخرجهم من ظلمات الشرك و الجهل إلى أنوار التوحيد و العلم وعلى آله و صحبه أجمعين .
أما بعد :
فإن الله عز وجل قصد من وضع الشرائع كلها ابتداء المحافظة على مصالح العباد في العاجل و الآجل معا، و راعى هذه المقاصد في أحكامه جملة و تفصيلا ؛ دل على ذلك استقراء الأصول الشرعية المرعية استقراء أفاد علما قطعيا، لا ينازع فيه عاقل، كما أن الشارع الحكيم قصد من وضعه الشريعة التكليف بمقتضاها، و قصد من المكلفين دخولهم تحت أحكامها، و الانصياع لها، و طلب من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع؛ فإن كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، و كل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، قال تعالى: {و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى } النساء 115 .
و مما أمر به الله عز وجل، و دلت الأدلة الشرعية على وجوبه طلب العلم الشرعي فكان لزاما على المكلف الانقياد لهذا الأمر، وفقا لما قصده الله عز وجل شأنه شأن باقي الأوامر الشرعية.
و ممن نبه من العلماء الربانيين على مقاصد طلب العلم الشرعي :الإمام المبجل أبي إسحاق الشاطبي ت 790 ه في أول كتابه الموافقات في أصول الشريعة، و ذلك في مقدمات ساقها، و ذكر أن القارئ محتاج إليها قبل النظر في مسائل كتابه. هذه المقدمات يحسن للمتعلم و العالم على حد سواء أن يدمن النظر فيها، لما تحتويه من الفوائد الجسيمة، و المقاصد الحكيمة التي تضبط مجال طلب العلم الشرعي، و تخلصه من الشوائب و قد قسم الشاطبي مقاصد طلب الشرعي إلى قسمين اثنين:

القسم الأول المقاصد الأصلية لطلب العلم الشرعي:

قبل التعرض إلى هذه المقاصد، لا بأس من التذكير بمعنى المقاصد الأصلية، وهي التي أطلق عليها العلماء أيضا:مصطلح القصد الأول ذلك لأنها الدافع الأول من تشريع الحكم، و من امتثال المكلف للشارع، و هي المقاصد التي ليس فيها حظ للمكلف ؛ أي أنه لا يراعى فيها حظه من شهوة و تتمثل في الكليات الضرورية الخمس ،و هي قيام بمصالح عامة مطلقة لا تختص بحال دون حال و لا بصورة دون صورة و لا بوقت دون وقت و هي ما يقتضيه محض العبودية .
وتنقسم هذه المقاصد الضرورية إلى ضرورية عينية؛ فعلى كل مكلف في نفسه هو مأمور بحفظ دينه، و نفسه، و عقله، و نسله، و ماله، و إلى ضرورية كفائية فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على وجه العموم في جميع المكلفين لتستقيم أحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها و المقاصد الأصلية .
ومقاصد طلب العلم الشرعي الأصلية كما بينها الشاطبي: هي أن لا تقصد العلم بقصدك الأول. يبدو هذا الكلام بادي الرأي كالمعادلة الرياضية المستحيلة، لكن سرعان ما يقوم الإمام الشاطبي بحل هذه المعادلة إذ يقول: "كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى لا من جهة أخرى فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فمن جهة أخرى فبالتبع و القصد الثاني لا بالقصد الأول".
أي أن طلب العلم لا يكون مقصودا أصليا، بل يجعل وسيلة لمقصد أسمى، و هو العمل، و التعبد بما يتعلمه الانسان . ثم ساق الأدلة على ذلك :
الأول طلب العلم للعمل به:
ذلك أن كل علم لا يثمر عملا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه، و لو كان له غاية أخرى شرعية لكان مستحسن شرعا، و لو كان مستحسنا شرعا لبحث عنه الأولون من الصحابة، و التابعين، و ذلك غير موجود فما يلزم عنه كذلك .
الثاني طلب العلم للتعبد به:
و ذلك أن مطلوب الشرع من المكلف إيقاع التعبد، و هو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى:{ ياأيها الناس اتقوا ربكم } النساء1 و قوله { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا لا الله } هود 1 2 و ما أشبه ذلك من الأيات التي لا تكاد تحصى كلها دالة على أن المقصود التعبد لله و إنما أوتوا بأدلة التوحيد ليتوجهوا إلى المعبود بحق وحده سبحانه لا شريك له فينبغي موافقة مقصود الشارع من خلق الخلق و هو وقوع التعبد منهم حال طلبهم للعلم الشرعي أي التعبد بطلب العلم و كذا طاعة الله عز وجل في أوامره التي تم إدراكها بطريق العلم .
ولذلك قال الله تعالى: {فاعلم أنه لا اله إلا الله واستغفر لذنبك } محمد 19 و قال:{ فاعلموا أنما أنزل بعلم الله و أن الله لا اله إلا اله هو فهل أنتم مسلمون} هود 14 ومثله سائر المواضع التي نص فيها على كلمة التوحيد لا بد أن أعقب بطلب التعبد لله وحده أو جعل مقدمة لها و هو واضح في أن التعبد لله هو المقصود الأعظم من العلم .
الثالث روح العلم هو العمل
و ما أكثر الأدلة الني جاءت بتقرير ذلك ، و إلا فالعلم عارية و غير منتفع به فقد قال تعالى: { إنما يخشى الله من عباده العلماء } فاطر 28 و قال:{ و إنه لذو علم لما علمناه} يوسف 68 ، قال قتادة يعني لذو عمل لما علمناه و قال عز وجل : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا و قائما يحذر الآخرة } الزمر 9 إلى أن قال:{ قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون } الزمر 9
وروى عن أبي جعفر بن علي في قول الله تعالى: { فكبكبوا فيها هم و الغاوون } الشعراء 94 قال قوم وصفوا الحق و العدل بألسنتهم و خالفوه على غيره و عن أبي هريرة قال إن في جهنم أرحاء تدور بعلماء السوء فيشرف عليهم بعض من كان يعرفهم في الدنيا فيقول ما صيركم في ها و إنما كنا نتعلم منكم قالوا إنا كنا نأمركم بالأمر و نخالفكم إلى غبره
و قال سفيان الثوري:" إنما يتعلم العلم ليتقى به الله و إنما فضل العلم على غيره لأنه يتقى به الله". و عن النبي عليه الصلاة و السلام انه قال:" لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال... و ذكر منها و عن علمه ماذا عمل فيه". و عن أبي الدرداء:" إنما أخاف أن يقال لي يوم القيامة أعلمت أم جهلت فأقول علمت فلا تبقى آية من كتاب الله آمر أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها فتسألني الآمرة هل ائتمرت و الزاجرة هل ازدجرت فأعوذ بالله من علم لا ينفع و من قلب لا يخشع و من نفس لا تشبع و من دعاء لا يسمع".
و قالت بعض الحكماء: من حجب الله عنه العلم عذبه على الجهل، و أشد منه عذابا من أقبل عليه العلم فأدبر عنه ، و من أهدى الله اليه علما فلم يعمل به
و كل ذلك يحقق أن العلم ليس مقصودا بذاته من حيث النظر الشرعي بل هو وسيلة إلى العمل و كل ما ورد في فضل العلم فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به و إذا وقع العلم كذلك يكون قد طابق قصد الشارع في أصل التشريع فلا إشكال في صحته و سلامته مطلقا ؛ ذلك أن المقاصد الأصلية اذا روعيت كان أقرب إلى إخلاص العمل و صيرورته عبادة و أبعد عن مشاركة الحظوظ التي تغبر في وجه محظ العبودية
فالعامل بالمقاصد الأصلية عامل في هذه الأمور في نفسه امتثالا لأمر ربه و اقتداء بنبيه عليه الصلاة و السلام فكيف لا تكون تصاريف من هذه سبيله عبادة كله؟

ثانيا مقاصد العلم التبعية و الخادمة
عرف الشاطبي المقاصد التبعية على أنها :"هي التي روعي فيها حظ المكلف فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات و الاستمتاع بالمباحات و سد الخلات..." وبين أن هذا القسم يقتضيه لطف المالك بالعبيد ومراعاته لجبلتهم الفطرية.
أما عن مقاصد العلم التبعية فهي التي ذكره الجمهور من كون صاحبه شريفا، و إن لم يكن في أصله كذلك، و أن الجاهل دنيئ و إن كان في أصله شريفا، و أن قوله نافذ في الأشعار و الأبشار ، و حكمه ماض على الخلق، و أن تعظيمه واجب على جميع المكلفين إذ قام لهم مقام النبي لأن العلماء ورثة الأنبياء، و أن العلم جمال و مال و رتبة لا توازيها رتبة، و أهله أحياء أبد الدهر إلى سائر ما له في الدنيا من المناقب الحميدة و المآثر الحسنة و المنازل الرفيعة... فذلك كله غير مقصود من العلم بالقصد الأول؛ أي أن المحرك على طلب العلم لا ينبغي ان يكون حب نيل هذه الأشياء، و هو ليس مطلوب شرعا شرعا و ان كان صاحبه يناله.
و أيضا فإن العلم بالأشياء لذة لا توازيها لذة، إذ هو نوع من الاستيلاء على المعلوم و الحوز له، و محبة الاستيلاء قد جبلت عليها النفوس، و ميّلت إليها القلوب، و هو مطلب خاص برهانه التجربة التامة و الاستقراء العام فقد يطلب للتفكه به و التلذذ بمحادثته، و لا سيما العلوم التي للعقول فيها مجال و للنظر في أطرافها متسع و لاستنباط المجهول من المعلوم فيها طريق متبع .
العلاقة بين مقاصد طلب العلم الشرعي التبعية و الأصلية:
للكشف عن العلاقة بين مقاصد العلم الأصلية و التبعية ينبغي النظر في القصد التابع هل هو خادم للقصد الأصلي ام لا فان كان خادما له فالقصد إليه ابتداء صحيح، و قد قال تعالى في معرض المدح: { و الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا و ذرياتنا قرة أعين و اجعلنا للمتقين إماما } الفرقان 74 .و جاء عن بعض السلف الصالح :" اللهم اجعلني من أئمة المتقين". و قال عمر لابنه حين وقع في نفسه أن الشجرة التي هي مثل المؤمن النخلة:" لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا و كذا...".
و في القرءان عن إبراهيم عليه السلام: { و اجعل لي لسان صدق في الأخرين} الشعراء 84، فكذلك عذا طلبه فيه من الثواب الجزيل في الاخرة و أشباه ذلك
و إن كان غير خادم له، فالقصد له ابتداء غير صحيح: كتعلمه رياء، أو ليماري به السفهاء أو يباهي به العلماء، أو يستميل به قلوب العباد أو لينال من دنياهم أو ما أشبه ذلك. فان مثل هذا إذا لاح له شيء مما طلب، زهد في التعلم و رغب في التقدم، و صعب عليه إحكام ما ابتدأ فيه، و أنف من الاعتراف بالتقصير، فرضي بحاكم عقله، و قاس بجهله؛ فصار ممن سئل فأفتى بغير علم فضل و أضل. أعاذنا الله من ذلك بفضله ،و في الحديث:" لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، و لا لتماروا به السفهاء، و لا لتحتازوا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النارّ. و قال:" من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرض من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة".
و في بعض الحديث سئل عليه الصلاة و السلام عن الشهوة الخفية فقال:" هو الرجل يتعلم العلم يريد أن يجلس إليه"، و في القرآن العظيم { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب و يشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار }البقرة174.