تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: الظواهر الصوتية في استدرا كات ابن حجر في (فتح الباري)

  1. افتراضي الظواهر الصوتية في استدرا كات ابن حجر في (فتح الباري)

    بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة
    لقد أصبح من البديهي في مجال العلوم عامة، والعلوم النظرية خاصة، كل رأي قابلا للقبول والرفض والتعديل والإضافة والحذف والتعليق، وهذا كله يندرج تحت ما يسمي بـ (الاستدراك) بل أصبح الاستدراك منهجا من مناهج البحث عامة، والبحث اللغوي خاصة، وأصبح كذلك وسيلة من وسائل نمو البحث اللغوي وتطوره، فإذا تخيلنا علي سبيل المثال، أن البحث توقف عند كتا (الكتاب) لسيبويه 180 هـ. لكان البحث في حال من الجمود والعقم، لكن الاستدراك جعل من هذا المجال مجالا خصبا، وذلك بإفرازات العقول التي تناولت هذا الكتاب بالشرح والنقد والتحليل .. الخ من طرق الاستدراك المعددة كما سنعرف.
    ولأهمية منهج الاستدراك في البحث العلمي وجد أن عددا كبيرا من مصادر الدراسة اللغوية، إن لم تكن كلها، تفوح بهذا المنهج بصورة تدعو إلي ترسيخ هذا المنهج، ووضع أسس له في المجال اللغوي تبدأ بتعريفه، وبيان مترادفاته، وأنواعه، وطرقه ... إلي غير ذلك من وسائل ترسيخ المنهج.
    واللافت للانتباه أن المكتبة اللغوية في حاجة إلي مثل هذا لانوع من الدراسات، ليس في مجال كتب اللغة فحسب، بل في كتب اللغة المحضة، والشروح اللغوية، والتفاسير، وكتب الصحاح من الحديث ... الخ.
    وقد لفت نظر الباحث أن كتاب (فتح الباري في شرح صحيح البخاري) لابن حجر العسقلاني 852 هـ، قد توفرت فيه مادة غزيرة من الاستدراكات التي انفرد بها ابن حجر تعقيبا علي اللغويين وغيرهم، وذلك علي مستويات التحليل اللغوي المتعددة: الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية والدلالية.
    ومن العلوم أن الذي يتصدي لشرح نص ما؛ خاصة النص القرآني، أو الحديث الشرف؛ كما فعل ابن حجر في هذا السفر العظيم، لا بد أن يحمل في جعبته العديد من طرق التحليل ليس فيها شخص الناحية المتخصصة فحسب، بل في علوم اللغة، والبلاغة. وهذا لا يعني أن يكون الشارخ لنص متخصصا في اللغة؛ فمن الملاحظ أن كتب التفسير مليئة بالنواحي اللغوية والبلاغية، وكذا كتب شرح الحديث الشريف، ومنها الشرح الذي بين أيدينا.
    فابن حجر العسقلاني ليس من علماء اللغة، وليس له إنتاج لغوي يذكر، ومع ذلك فقد تشبع شرحه بآراء عدد كبير من اللغويين الذين ذكرهم، وآراء عدد آخر لم يذكر أسماءهم، ليس هذا فحسب بل أردف ذلك بآرائه هو بصورة تدعو إلي التنقيب عن هذه الآراء علي المستويات اللغوية المتعددة، تلك الآراء التي انفرد بها وحده دون آراء السابقين، وهذه الآراء قد تكون مؤيدة أو مخالفة لمن سبقه.
    ولكثرة المادة اللغوية الاستدراكية في فتح الباري، والرغبة في تعميق هذه الدراسة، والبعد عن السطحية في النتائج، آثر الباحث الاستدراكات التي تمثلث الظواهر الصوتية، ودراسة هذه الظواهر في ضوء البحث اللغوي القديم من ناحية، وما توصل إليه علم الأصوات المعاصر phonetics من ناحية أخري.
    ليس هذا فحسب، بل لوجود علاقة بين المستويات اللغوية عامة، فقد وضعت الدراسة إطارا، طبقا لاستدراكات ابن حجر، تناقش فيه العلاقة بين المستوي الصوتي والمستوي الدلالي علي وجه الخصوص.
    إذا يتضح أن مادة الدراسة سوف تشتمل علي:
    أولا: الظواهر الصوتية في استدراكات ابن حجر.
    ثانيا: الدراسات الصوتية لدي علمائنا القدامي.
    ثالثا: الدراسات الصوتية المعاصرة المنشورة عبر الكتب والدوريات. والأبحاث المنشورة عبر الشبكة العالمية للمعلومات المسماة (بالانترنت) 1.
    وتتجه هذه الصفحات نحو ترسيخ منهج ابن حجر الصوتي، خاصة عند عالم غير لغوي، ومع ذلك انتشرت هذه الظواهر الصوتية في أماكن عديدة، ومن ثم نحاول فيها بيان محاور هذا المنهج، واتفاقه مع الدراسات اللغوية القديمة والحديثة، واختلافه، وكذا الكشف عن معالم استدراكاته اللغوية.
    ولا يخفي أن علم الأصوات يتعامل مع قضايا كثيرة 7 مثل الاهتمام بجهاز النطق تشريحا، ومخارجچ الأصوات، وصفاتها، وعلم الأصوات الفيزيائي، وسماع الصوت، وقوة الذبذبة، والموجات الصوتية، وأنواعها، وتصنيف الأصوات ... الخ. من قضايا أفاضت كتب علم اللغة عامة، وعلم الأصوات خاصة في الحديث عنها بما لا يدع مجالا لتكرارها هنا.
    بل تركز هذه الدراسة بصورة أساسية علي الجانب التطبيقي أكثر من الجانب التنظيري.

    ترجمة ابن حجر
    هو أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر الشافعي العسقلاني الأصل المصري المولد.
    ولد في الثالث والعشرين من شعبان 733 هـ، وتوفي في أواخر ذي الحجة 852 هـ.
    ومؤلفاته كلها مرتبطة بالحديث الشريف والطبقات، ومنها:
    1 - فتح الباري في شرح صحيح البخاري.
    2 - الإصابة في تمييز الصحابة.
    3 - تهذيب التهذيب.
    4 - بلووغ المرام من أدلة الأحكام.
    5 - مختصر تهذيب الكمال 2.
    ويحتل شرح صحيح البخاري المسمي بـ (فتح الباري) مكانة عظيمة، إذ يعد هذا الشرح العظيم أفضل شرح وأعمه نفعا لصحيح البخاري، والذي يعد ثاني كتاب بعد كتاب الله تعالي، وتأتي أهميته من كونه شرحا لأصح ما ورد عن رسول الله صلي اللّه عليه وسلم من حديث، وكذلك لما تضمنه من فقه وأصول ولغة بمستوياتها المتعددة.
    وقد شغلت آراء ابن حجر قدرا كبيرا من شرحه للأحاديث، إذ لا يكاد يخلو شرح الحديث تقريبا من إشارات لغوية سواء لغيره أم له، أن للاثنين معا. وكذلك كانت الاستدراكات المرتبطة بالمستوي الدلالي أكثر الأنواع ورودا، تليها الاستدراكات علي المستوي النحوي، ثم علي المستوي الصوتي، ثم علي المستوي المعجمي، ثم أخيرا أقل الاستدراكات علي المستوي الصرفي، وكل منها في حاجة إلي بحث مستقل يوضح منهج ابن حجر في استدراكاته.

    خطة الدراسة
    تدور صفحات هذا البحث حول المحاور التالية:
    الأول: حذف الأصوات.
    ثانيا: زيادة الأصوات.
    ثالثا: اختلاف الضبط (الصوائت).
    رابعا: الإظهار والإبدال.
    خامسا: الصوائت القصيرة.
    سادسا: الأصوات والقراءات، وتشتمل علي:
    1 - الصوائت والقراءات.
    2 - إحالة القراءة.
    3 - القراءة والدلالة.
    سابعا: العلاقة بين المستوي الصوتي والمستوي الدلالي.
    -الخاتمة.
    -هوامش البحث.
    -المصادر والمراجع.
    -الفهرست.
    ***

    المستوي الصوتي
    ليس المقصود من هذا التصنيف وضع فكر ابن حجر اللغوي تحت مجهر الدراسات اللغوية المعاصرة فيما يخص علم الأصوات وما وصل إليه من تقنيات نظرية وعملية أو غيره من المستويات فحسب؛ بل رصد الظواهر الصوتية التي أشارر إليها ابن حجر في شرحه، وإثبات رؤيته اللغوية فيما يخص هذا المستوي، وإثبات أن جوانب التحليل لم تكن علي مستوي دون غيره من المستويات.
    لذلك تمكن الباحث من رصد عدد من الظواهر الصوتية من خلال استقراء هذا السفر العظيم فتكمن حسب ترتيب ورودها في الشرح، من رصد:
    1 - حذف الأصوات.
    2 - زيادة الأصوات.
    3 - اختلاف الضبط (أو الحركة) أو اختلاف التوضيحات وتأييده بشواهد شعرية أحيانا.
    4 - أ-فك الإدغام.
    ب-الإبدال.
    5 - أ-الضبط والقراءات.
    ب-توثيق القراءة والإحالة إلي صاحبها.
    ج-توجيه القراءة.
    6 - العلاقة بين المستوي الصوتي وغيره من المستويات 3
    ولم يكن انفراده بهذا الاهتمام الصوتي غريبا؛ بل تاريخ الدراسات اللغوية العربية يشير إلي أن هذا الاهتمام قديم منذ الخليل وسيبويه وابن جني وغيرهم. وهذا طبيعي لأن الأصوات، علي حد تعبير د. كمال بشر، "هي اللبنات الأولي في البناء الغوي وأساسه الذي يقوم عليه، ولا خير في بناء تهالكت لبناته 4
    هذا وقد تطور البحث في علم الأصوات phonetics بصورة كبيرة في العصر الحديث، ولعل بحثا سريعا علي شبكة المعلومات (الإنترنت) يؤدي إلي الحصول علي آلاف المواقع والمجلات والكتب والأبحاث التي تدور في فلك علم الأصوات بصفة خاصة، وعلم اللغة بصفة عامة. وهذا يؤدي بنا إلي الإشارة إلي أهمية إضافة هذا الاتجاه إلي مصادر البحث اللغوي بصفة خاصة، إذ لم أطلب مصطلحا من مصطلحات علم اللغة عامة، وعلم الأصوات خاصة، إلا وحصلت علي كم كبير للغاية من المواقع والصفحات التي تناقش هذا المصلح قديما وحديثا.

    أولا: حذف الأصوات:
    الحذف ليس خاصا بالأصوات؛ بل هناك حذف علي مكونات النص مجتمعة؛ فقد يحذف صوت من كلمة نحو: حروف العلة، وحرف النون، والهمزة، والتاء، والتنوين، والحركات الضمة والكسرة والفتحة ... الخ 5. وقد تحذف كلمة من جملة نحو: المبتدأ، والخبر، والفاعل، والمفعول به، والمضاف، والمضاف إليه، والتوابع، والمستثني، والأفعال ... الخ 6.و قد تحذف جملة من نص نحو: جملة الشرط، وجوابه، وجملة القسم، وجوابها، والجملة بعد أحرف الجواب، وبعد إذ ... الخ 7، وقد تحذف أكثر من جملة من نص كذلك. بل الحذف ليس خاصا بالعربية وحدها؛ إذ يعد ظاهرة لغوية تشترك فيها اللغات الإنسانية8
    وهذا يوحي بأن الحذف ظاهرة طبيعية في الدرس اللغوي أو في الاستعمال اللغوي خاصة، وقد جاء في الشرح قوله:" ... وقال البيضاوي يحذف حرف الجر من "أن " تخفيفا، والتقدير: لأن كان، أو: بأن كان، ونحوه: " أن كان ذا مال وبنين" 10، أي: لا تطعه لأجل ذلك. و حكي القرطبي تبعا لعياض أن همزة (أن) ممدودة، قال: لأنه استفهام علي جهة إنكار. قلت [أي ابن حجر] ولم يقع لنا في الرواية مد، لكن يجوز حذف همزة الاستفهام 11
    فقد ورد في هذا لانص شاهدان عن الحذف، أحدهما عن القرطبي عن عياض، لكن المهم هو ما ورد عن ابن حجر، وهو حذف همزة الاستفهام جوازا؛ فقد استدراك علي ما سبقه بـ (لكن) حرف الاستدراك، بإضافة رأي آخر وهو رفض أن الرواية خالية من المد، أي رواية الحديث، ورواية الحديث بالفعل، كما رواها البخاري، خالية من المد، ففي الحديث:" ... فغضب الأنصاري فقال: أن كان ابن عمتك؟ فتلوّن وجه رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم ... الخ "12
    والواضح أنه استند هنا في جواز حذف همزة الاستفهام علي أن هذه الهمزة الاستفهامية"لما كانت هي الأصل في حروف الاستفهام جاز فيها ما لم يجز في غيرها من حروف الاستفهام "13 وقد جعل د. رمضان عبد التواب سقوط الهمز هذا مندرجا تحت قانون صوتي أطلق عليه قانون السهولة والتيسير14، وقال: ومما ينطبق عليه هذا القانون، ظاهرة"الهمز"في اللغة العربية، ومحاولة بعض القبائل العربية القديمة التخلص منها، وعلي الأخص قبائل الحجاز، كما تخلصت معظم اللهجات العربية الحديثة، وصوت الهمز عسير النطق، لأنه يتم بانحباس الهواء خلف الأوتار الصوتية، ثم انفراج هذه الأوتار فجأة، وهذه عملية تحتاج إلي جهد عضلي كبير15
    وقد خضعت الهمزة إلي قوانين التحقيق في النطق من عدمه، وذلك من خلال كتب القراءات القرآنية، "فتحققها تميم وغيرهم من قبائل وسط الجزيرة وشرقيها، وتتخلص منها معظم البيئة الحجازية"16
    وقد ورد شاهد هذا في قول المتنبي:
    أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا…و البين جار علي ضعفي وما عدلا
    .. والأصل أ أحيا فحذفت همزة الاستفهام، وكذا قول الشاعر:
    فأصبحت فيهم آمنا لا كمعشر…أتوني وقالوا من ربيعة أو مضر
    (يريد أمن ربيعة).و قال الكميت:
    طربت وما شوقا إلي البيض أطرب …و لا لعبا مني وذو الشيب يلعب
    أراد: أو ذو الشيب يلعب. ومنه قول ابن أبي ربيعة:
    ثم قالوا تحبها قلت جهرا…عدد القطر والحصي والتراب
    أظهر الأمرين فيه أن يكون أراد: أتحبها لأن البيت الذي قبله يدل عليه ... ولهذا ونحوه نظائر17
    إذن استدراك ابن حجر في حذف الهمزة كان مستندا إلي آراء، وإن لم يذكر هذه الآراء. وقد استعمل هنا أداة الاستدراك الواضحة في معناها واستعمالها"لكن "
    ومن نماذج الحذف للأصوات كذلك ما جاء في استدراك الشارح في شرحه للحديث رقم (2970) بقوله:"قوله كخ كخ وهي كلمة زجر للصبي عما يريد فعله ... وقد نازع الكرماني في كون الألفاظ الثلاثة عجمية، لأن الأول يجوز أن يكون من توافق اللغتين، والثاني يجوز أن يكون أصله حسنة فحذف أوله إيجازا والثاني من أسماء الأصوات. وقد أجاب عن الأخير ابن المنير فقال: وجه مناسبته. نه صلي اللّه عليه وسلم خاطبه بما يفهمه مما لا يتكلم به الرجل مع الرجل فهو كمخاطبة العجمي بما يفهمه من لغته، قلت وبهذا يجاب عن الباقي ويزداد بأن تجويزه حذف أول حرف من الكلمة لا يعرف، وتشبيهه بقوله كفي بالسيف شا، لا يتجه لأن حذف الأخير معهود في الترخيم واللّه أعلم 18
    وهذا استدراك آخر مؤداه رفضه رأي الكرماني بتجويز حذف أول صوت من الكلمة بقوله إنه (لا يعرف).و يؤكد رأي ابن حجر آراء النحويين كذلك بأن الحذف في الغالب يصيب أواخر الكلم لا أوائله.19
    وفي بعض الأحيان يرجع ابن حجر سبب الحذف لا إلي علة نحوية أو صرفية أو معجمية؛ بل إلي علة كتابية أو إملائية، كما في الشاهد: في جنبه، كذا للأكثر بالإفراد ولأبي ذر الجرجاني جنبية بالتثنية وذكر عياض أن في كتابه من رواية الأصيلي جنبه بالإفراد، لكن بياء مثناة من تحت بدل الموحدة، قال: وهو تصحيف. قلت: لعل نقطته سقطت من القلم، فلا ينبغي أن يعد ذلك رواية واللّه المستعان.20
    ومن منهجه كذلك ترجيح إحدي الروايات استنادا علي التأويل النحوي، ومثال ذلك ما ورد من قوله (إنك متي يراك الناس) في رواية الكشميهني وحده (متي ما يراك الناس) بزيادة ما وهي الزائدة الكافة عن العمل، وبحذفها كان حق الألف من (يراك) أن تحذف لأن (متي) للشرط وهي تجزم الفعل المضارع، قال ابن مالك: يخرج ثبوت الألف علي أن قوله يراك مضارع راء بتقديم الألف علي الهمزة وهي لغة .. وعلي أن (متي) شبهت بـ (إذا) فلم يجزم بها، وهو كقول عائشة الماضي في الصلاة في أبي بكر: متي يقوم مقامك أو علي إجراء المعتل مجري الصحيح، كقول الشاعر: ولا ترضاها ولا تملق، أو علي الإشباع، كما قرئ "أنه من يتقي "، قلت: ووقع في رواية الأصيلي: متي يرك الناس بحذف الألف وهو الوجه "21
    فعلي الرغم من الأدلة التي ساقها ابن مالك لتخريج ثبوت الألف في الرواية الخاصة بالكشميهني، فإن ابن حجر يرجح الرواية الثانية بحذف الألف، مع ملاحظة عدم ذكره لمسوغات هذا الترجيح. وترجيح ابن حجر-فيما نري -له ما يبرره؛ إذ كيف تكون (متي) شبيهة ب (إذا) وهي داخلة علي مضارع (يراك)؛فالراجح أن (إذا) تدخل علي الماضي كما في قوله تعالي "إذا سألك عبادي عني"22و:"إذا جاءك؟؟؟ ... "23و"إذا زلزلت الأرض زلزالها"24و:"إذا جاء نصر اللّه والفتح"25.
    ولم يقف ابن حجر عند حد ترجيح رواية الحديث فقط، بل تعداه إلي ترجيح قراءة قرآنية دون أخري كما في "قوله عن ابن أبي مليكة هو عبد اللّه بن عبيد اللّه قوله عن عائشة في رواية ابن جريج عن ابن أبي مليكة سمعت عائشة وسيأتي في التفسير قوله: كانت تقرأ"إذ تلقونه "أي بكسر القاف مخففا في الخبر حيث قال: وتقول: الولق: الكذب، والولق بفتح الواو واللام بعدها قاف. وقال الخطابي: هو الإسراع في الكذب ... قلت لكن القراءة المشهورة بفتح اللام وتشديد القاف من التلقي وإحدي التاءين فيه محذوفة.26
    وأحيانا يربط رأيه الصوتي مستندا إلي الدلالة من ناحية وسوف نفرد لهذا بحثا خاصا، وإلي الأدب في التعامل مع أهل الثقة من ناحية أخري، وذلك كما ورد في الحديث المروي عن كيفية رد السلام علي غيري المسلمين؛ إذ يقولون السام عليكم، بمعني الموت، فاختلفت الروايات في رد المسلمين علي هذا، فإحداها تقول:"و عليكم "بإثبات الواو، والثانية"عليكم "بدون الواو، بحذفها وفي الأولي الواو لها عدة معان منها:
    1 - عاطفة، والمعني، وعليكم ما تقولون فينا، فيجيب اللّه دعاءنا، ولا يجيب دعاءكم فينا.
    2 - استئنافية، والمعني، أقول عليكم ما تريدون بنا أو ما تستحقون.
    3 - زائدة، والمعني، عليكم ما تدعون به علينا.
    أما ابن حجر فيقول:"بل الرواية بإثبات الواو ثابتة، وهي ترجح التفسير بالموت وهو أولي من تغليط الثقة ... 27"؛إذ لو كان التفسير بالموت، والواو ثابتة عطفا، فإن الموت أمر مشترك بين المسلمين وغيرهم علي حد سواء، أو كما قال رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم حينما رد علي المشركين حينما قالوا له: السام عليكم، فردّ: وعليكم، فقالت عائشة رضي اللّه عنها، أو لم تسمع قولهم؟! فقال صلي اللّه عليه وسلم: رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ ... 28
    وهذه التأويلات وغيرها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالدلالة، وأيد ابن حجر ثبوت الواو لهذه التأويلات من ناحية، وإلي عدم تغليط أهل الثقة من الرواة، ومن حديث رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم من ناحية أخري، ومن ثم فسقوط الواو من عدمه هنا ارتبط فيه التأويل اللغوي العطف والاستئناف والزيادة بالدلالة.
    وكثرة الاستعمال من القوانين المهمة التي تسهم في إسقاط بعض الأصوات أو تخفيفها، كما ورد في قوله تعالي:"بسم اللّه الرحمن الرحيم"حذفت ألف (اسم) لكثرة الاستعمال. وهذا القانون استند عليه ابن حجر في ترجيح رواية دون أخري.
    وشاهده ما جاء في باب: أفرأيتم اللات والعزي29 ... قوله: في قوله: اللات والعزي، كان اللات رجلا يلت سويق الحاج سقط في قوله لغير أبي ذر ... قال الإسماعيلي: هذا التفسير علي قراءة من قرأ (اللات) بتشديد التاء قلت: وليس ذلك بلازم، بل يحتمل أن يكون هذا أصله وخفف لكثرة الاستعمال، والجمهور علي القراء والتخفيف ... 30؛فالتخفيف صورة من صور"بلي الألفاظ"علي حد تعبير د. رمضان عبد التواب 31، بل يعد قانونا من القوانين الصوتية مثل المماثلة والمخالفة والنبر والتنغيم؛ إذ من الحقائق المقررة، عند المحدثين من علماء اللغات، أن كثرة الاستعمال، تبلي الألفاظ، وتجعلها عرضة لقص أطرافها .. 32و هذه الحقيقة الصوتية ليست خاصة بالمحدثين وحدهم، بل سبق القدماء بتقرير هذه الحقيقةب؛ الأصل في (قم) (لتقم) وفي (اذهب) (لتذهب) إلا أنه لما كثر في كلامهم وجري علي ألسنتهم استثقلوا مجي ء اللام فيه مع كثرة الاستعمال فحذفوها مع حرف المضارعة تخفيفا كما قالوا (أيش) والأصل فيه (أي شي ء) وكقولهم (و يلمه) والأصل فيه (ويل أمه) فحذفوا لكثرة الاستعمال 33.
    (يتبـع)

    من أوسع أودية الباطل: الغلوُّ في الأفاضل
    "التنكيل" (1/ 184)

  2. افتراضي الظواهر الصوتية في استدرا كات ابن حجر في (فتح الباري)

    ثانيا: زيادة الصوت:
    من المقرر أنه كما أن كلمات اللغة عرضة لحذف أصوات منها، فإنه من المقرر كذلك أن اللغة تتعرض للزيادة في أصواتها وتراكيبها؛ فكل من التراكيب أو المفردات قد يتعرض للحذف أو الزيادة أو إعادة الترتيب أو الإحلال .. الخ 34.و قد حفلت كتب النحو العربي بالكثير من مواضع الزيادة علي بنية الكلمة المفردة أو الجملة؛ فقد ذهب ابن هشام، في تعليقه علي وجوب مجي ء الحال نكرة، ذهب إلي أنها حينما تأتي معرفة تؤول بنكرة، وعلق بقوله: شرط الحال أن تكون نكرة، فإن جاءت بلفظة المعرفة وجب تأويلها بنكرة، وذلك كقولهم: ادخلوا الأول فالأول. وأرسلها العراك. و قراءة بعضهم ليخرج الأعز منها الأذل بفتح الياء وضم الراء، وهذه المواضع ونحوها مخرجة علي زيادة الألف واللام 35 والزيادة في المبني قد تؤدي إلي زيادة في المعني، وقد تؤدي من ناحية أخري إلي الإيجاز، مثل زيادة الألف والنون والياء والنون والواو والنون في التثنية والجمع؛ فأصل التثنية العطف، تقول: قام الزيان وذهب العمران، والأصل فيه: قام زيد وزيد، وذهب عمرو وعمرو، إلا أنهم حذفوا أحدهما وزادوا علي الآخر زيادة دالة علي التثنية طلبا للإيجاز والاختصار ... 36
    ومن أدق الزيادات الصوتية ما أشار إليه أبو البركات الأنباري وهو الغنة؛"ففي نحو اصحب مطرا، أدغمت الباء في الميم، الميم فيها زيادة صوت وهي الغنة37، بل ذهب إلي أن التكرير الناتج عن الإدغام يعد زيادة، فالتكرير في مثل: السّماء، الرّاشد ... الخ يعد زيادة38
    ومن مواضع الزيادة التي استدرك فيها ابن حجر علي غيره قوله:"إذا أعجلت بضم الهمزة وكسر الجيم، وفي أصل أبي ذر إذا عجلت بلا همز وقحطت، وفي رواية غيره: اقحطت، بوزت أعجلت، وكذا المسلم. قال صاحب الأفال يقال: أقحط الرجل إذا جامع ولم يتنزل، وحكي ابن الجوزي عن ابن الخشاب أن المحدثين يقولون: قحط بفتح القاف، وقال والصواب الضم. قلت: وروايته في أمالي أبي علي القالي بالوجهين في القاف، وبزيادة الهمزة المضمومة ... 39
    فالروايات السابقة، منها ما أثبت الهمزة، ومنها ما أتي بدونها، واستدراك ابن حجر استند فيه علي رواية أبي علي القالي بأنه يجوز الأمران الإثبات والحذف.
    ومن هذه المواضع كذلك قوله:" ... ووقع في رواية الأصيلي والقابس وعبدوس (فأبوا) بغير مثناة قبل الألف. قال عياض: وهو وهم مفسد للمعني. قلت: والذي يظهر لي أنه فأبوا بهمزة ممدودة، وهي بمعني فيرجعوا، فلا يفسد المعني "40
    فالاستطراد هنا يوحي بالزيادة، بزيادة همزة41عكس الرأي السابق عليه، بأنها بهمزة غير مثناة. مع ملاحظة أنه ربط هنا بين الزيادة الشكلية، وأنها لا تؤثر علي المعني بالإفساد، وهذا يوحي بأن هناك إدراكا للصلة بين المستويات اللغوية عامة، والمستوي الصوتي والدلالي خاصة42

    ثالثا: اختلاف الضبط بالحركة:43
    الفتحة والضمة ولاكسرة، والسكون مضافة إلي هذه الحركات، هذه تمثل ما يسمي في علم اللغة الحديث بالفونيم الذي يعرف بأنه "اصغر وحدة صوتية في اللغة، تستطيع أن تميز بين كلمتين "44
    والتحليل الفونيمي phonemic analysis يتطلب وجود مجموعة من الكلمات التي تختلف في صوت ما من الألف بانية، أو حركة من الحركات السابق ذكرها، وهو ما نعنيه بهذا المبحث من الدراسة؛ حيث يأتي السابقون علي ابن حچر بآراء تحتوي علي حركة معينة، ثم يستدرك ابن حجر باختيار هذه الحركة أو أخري، وأحيانا يربط بين هذا التغير في الحركة والدلالة الناتجة. وهذا يختلف تماما عن الصور النطقية المتعددة للفونيم الواحد، والذي يسمي بالألوفون allophone 45 مثل اللام في: باللّه، واللّه، ففي الأولي مرققة، وفي الثانية مفخمة لكن المعني لم يتغير، وهذا لم يتعرض له ابن حجر.
    واهتمام ابن حجر باختلاف علامات الضبط هذه، هو ما اهتم به علم اللغة المعاصر تحت ما يسمي بالإحلال الصوتي replacement ، وكذا جعلت هذه الحركات من الأصوات المتحركة vowels في مقابل الصامتة consonants ، وذلك لأن الفتحة والضمة والكسرة تعد بعضا من الألف والواو والياء بالترتيب؛ فالأولي تسمي بالصوائت القصيرة، والثانية تسمي بالصوائت الطويلة، وقد يقع بعضها صامتا مثل الفرق بين: فهموا-وعد، وكذا: الجميل ويلد ... وهكذا46
    والإحلال الصوتي هذا لم يكن قاصرا علي الصوائت القصيرة هذه فقط، بل تعداه إلي الصوائت الطويلة كذلك: الألف والواو والياء، بل تعداه كذلك إلي الصوامت نحو: الهمزة، الجيم، والدال والطاء، والتاء، والميم، والنون، واللام ... الخ، فقد تبدل الهمزة من الألف، أو من الواو، أو من الياء، أو من الهاء، أو من العين، وتبدل الدال من التاء والذال، وتبدل الفاء من التاء .... الخ 47
    ومن نماذج اختلاف الضبط"قوله: وفيه خرب، قال ابن الجوزي: المعروف فيه فتح الخاء المعجمة وكسر الراء بعدها موحدة [خرب] جمع خربة ... قلت وكذا ضبط في سند أبي داود، وحكي الخطابي أيضا كسر أوله وفتح ثانيه [خرب] .... "48
    ويلاحظ أن استدراك ابن حجر هنا من قبيل استدراك تعدد الآراء الأخري فقد ذكر آراء ابن الجوزي، وأبي داود، والخطابي؛ ومنهجه في هذا الاستدراك تأييد ضمني لرأي ابن الجوزي؛ وذلك بتأكيد هذا الرأي بآراء الآخرين مثل أبي داود وغيره.
    والاختلاف في الضبط هنا في لفظ الجمع من (خرب) أهو: خرب، مثل عنب وعنبة، أم غير ذلك.
    ومن الروايات التي استدراك فيها بان حجر محيلا للرأي فقط"قوله: إنما هو، أي الكفن. قوله: للمهلة، قال عياض: روي بضم الميم وفتحها وكسرها، قلت: جزم به الخليل "49
    واضح من الرواية استدراكه بإسناد الإحلال وجوازه بالحركات الثلاث للخليل. وهو لم يهدف من وراء هذا الاستدراك سوي إسناد رواية الإحلال أو توثيقها.
    ومن الروايات التي استدرك فيها؟؟؟ ضبط دون غيره:"عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام لبد رأسه بالعسل،؟؟؟ ابن عبد السلام يحتمل أنه بفتح المهملتين. ويحتمل أنه بكسر المعجمة وسكون المهملة، وهو ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره. قلت: ضبطناه في روايتنا في سند أبي داود بالمهملتين "50چ فنري:
    رأي ابن عبد السلام
    (1) -لبد، بفتح المهملتين.
    (2) -لبد، بكسر فسكون.
    رأي ابن حجر-لبد، بفتح المهملتين.
    ورأي ابن حجر في ترجيحه لرواية المهملتين أولي؛ لأن سياق الجملة ومعناها يستقيم باستعمال (لبد)؛أي لصق شعره بالعسل، "فلبد الشي ء بالشي ء، يلبد إذا ركب بعضه بعضا ... "51
    وفي بعض الاستدراكات نجد ابن حجر يغلط بعض الروايات السابقة عليه؛ قال الكرماني: قوله: في صدقة عمر، صدقة بالتنوين، وعمر فاعل .... وفي بعض الروايات عمرو بالواو. قلت: هذه الأخيرة غلط، وقوله صدقة بالتنوين غلط محض، وصدقة عمر بالإضافة هي التي عند جميع رواة هذا الحديث في البخاري .... "52
    فرفض التنوين الصوتي، وما يترتب عليه من إعراب كلمة (عمر) فاعلا، بل رفض رواية (عمرو) بإضافة الواو. وهنا علاقة بين مستويي الصوت والنحو. وقد ناقش ابن حجر هذه العلاقة في باقي كلامه كما أشرنا في الهامش السابق؛ فالعلاقة بين المستويات من الأمور البديهية التي استقرت عليها الدراسات اللغوية الحديثة، بل استقرت عليها من قبل الدراسات اللغوية العربية القديمة.
    وأحيانا أخري يستدرك ابن حجر بنقد الرأي السابق؛ بالاستشهاد بالشعر لتأييد رأيه، واستخدام أداة الاستدراك "لكن "في بداية استدراكه: " ... حدثنا أبو أحمد مرّار بن حمويه وهو بفتح الميم وتشديد الراء، وأبوه [أي حمّويه] بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم. قال ابن الصلاح: أهل الحديث يقولونها بضم الميم وسكون الواو وفتح التحتانية [حمويه]، وغيرهم بفتح الميم والواو وسكون التحتانية وآخرها هاء [حمويه] ومن قاله من المحدثين بالتاء الشاة الفوقانية بدل الهاء [حموية] فقد غلط. قلت: لكن؟؟؟ في شعر لابن دريد ما يدل علي تجويز ذلك وهو قوله:
    أن كان نفطوية من نسلي وهو همذاني. بفتح الميم، ثقة مشهور ... 53
    فالروايات السابقة هي:
    1 - حمّوية
    2 - حمويه
    3 - حمويه
    4 - حموية، بإبدال التاء بدل الهاء.
    وابن حجر لم يستدرك علي الروايات الثلاث الأولي، لكن علق علي الرواية الرابعة لامنسوبة إلي المحدثين، علي حد قوله، والتي تتعلق بإبدال التاء بدل الهاء؛ فهو يرفض من يغلط هذه الرواية؛ لأنه كما يري ورد في الشعر ما يثبت هذا الإبدال كما في اسم "نفطوية"
    وما ورد من هذه الأسماء المركبة مزجيا أنها بالهاء، نحو: سيبويه، نفطويه، خالويه، ... إلخ. ولم يرد في الطبقات حول هذه الأسماء ما يؤكد إبدال التاء بدل الهاء54
    وما استشهد به ابن حجر لاستخدام التاء بدلا من الهاء، لا يقيم قاعدة بها يخطأ من قال خلافا لها، فهذا الاستعمال الفردي مقابل ما يربو علي الألف وسبع مائة مرة في معجم واحد فقط.
    وأحيانا أخري يستدرك مؤيدا رأيه بالقراءات المشهورة؛ كما في قوله تعالي:"فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما
    "55 يقول: "قوله يبطش ويبطش يعني بكسر الطاء وبضمها قال أبو عبيدة: مكسورة ومضمومة لغتان قلت 56و الضم قراءة ابن جعفر ورويت عن الحسن أيضا"57
    فالروايات الواردة:
    أبو عبيدة
    1 - الكسر
    2 - الضم- وهي قراءة ابن جعفر والحسن
    واستدراك ابن حجر باختيار الكسر
    وورد كذلك في شاهد آخر استدراكه علي القراءة؛ وذلك بالإشارة فقط إلي صاحب القراءة، كما في قوله تعالي:"وآتينا داود زبورا"58 يقول: "و قري ء بضم أوله وهو جمع زبر قلت الضم قراءة حمزة"59
    ويستدرك ابن حجر مرة أخري مؤيدا رأيه بالإسناد إلي رواية أخري " قوله إنه لجاهد مجاهد، كذا للأكثر باسم الفاعل فيها وكسر الهاء والتنوين، والأول ... علي الخبر والثاني اتباع للتأكيد، كما قالوا: جاد مجد. ووقع لأبي ذر عن الحموي والمستملي بفتح الهاء والدال، وكذا ضبطه الباجي. قال عياض: والأول هو الوجه. قلت: يؤيده رواية أبي داود من وجه آخر عن سلمة: مات جاهدا مجاهدا. قال ابن دريد: رجل جاهد أي جاد في أموره. وقال ابن التين: الجاهد من يرتكب المشقة، ومجاهد لأعداء اللّه تعالي "60
    فالآراء الأخري:
    1 - الأكثر---جاهد مجاهد
    2 - أبو ذر عن الحموي والمستملي---جاهد مجاهد وكذا الباجي
    3 - عياض---جاهد مجاهد مثل:
    رأي ابن حجر من خلال الاستدراك: جاهد مجاهد
    ويؤيد هذا الرأي رواية أبي داود61
    ومن الاستدراكات التي نفي فيها الرأي؟؟؟ عليه، وذلك بتصدير استدراكه بالفعل "ليس ""قوله: باب المراضع من المواليات وغيرهم ... قال ابن القيم ضبط في رواية بضم الميم، وبفتحها في أخري. والأول أولي لأنه اسم فاعل من والت توالي قلت: وليس كما قال بل المضبوط في معظم الروايات بالفتح وهو من الموالي."و قال ابن بطال: كان الأولي أن يقول: الموليات جمع مولاة، وأما المواليات فهو جمع الجمع، جمع مولي. جمع التكسير، ثم جمع موالي جمع السلامة بالألف والتاء فصار مواليات "62
    فثبت أن في (المواليات) روايتين هما:
    1 - ضم الميم
    2 - فتح الميم
    ورأي ابن القيم أن الضم أولي لأنها اسم فاعل
    أما استدراك ابن حجر فهو أن: الفتح أولي.
    واستند في ذلك علي أن: معظم الروايات بالفتح من الموالي، بل ازداد استدراك ابن حجر مستشهدا برأي ابن بطال، أن الصواب، إضافة إلي الفتح، هو استعمال: الموليات بدلا من المواليات؛ وذلك لأن الثانية جمع الجمع لـ: مولي.
    ومن ثم نقول إن الاستدراك اشتمل علي:
    1 - اختيار الفتح بدلا من الضم، وهذا رأي صريح ظاهر لابن حجر.
    2 - ذكر الأصوب في الاستعمال وهو (الموليات).
    3 - فعل النفي (ليس) وهذا يمثل وسيلة من وسائل الاستدراك، مثل (لكن) السابق استعمالها.
    وأحيانا يكتفي في استدراكه باختيار رأي من الآراء السابقة، دون ذكر السبب."قال البيضاوي: ذبح بصيغة الفعل الماضي، ونصب راء الخمر (الخمر) في قوله (ذبح الخمر) علي أنه المفعول. قال: ويروي بسكون الموحدة [أي الباء في ذبح] علي الإضافة والخمر بالكسر، أي تطهيرها. قلت والأول هو المشهور ... "63
    فالآراء هي:
    1 - ذبح الخمر---بالنصب علي المفعولية.
    2 - ذبح الخمر---بالجر علي الإضافة.
    واستدراك ابن حجر: ذبح الخمر---بالنصب علي المفعول به
    فاختلاف الضبط بين الرأيين أدي إلي تحول الفعل الماضي إلي مصدر الفعل ذبح، وتحول المفعول (الخمر) إلي مضاضف إليه من إضافة المصدر إلي المفعول به.
    وأحيانا أخري لا يذكر رأيه صراحة، بل يذكر ما يؤيد رواية معينة من الروايات السابقة، مثل "قوله: من يرد اللّه به خيرا يصب منه كذا للأكثر بكسر الصاد، والفاعل (اللّه).و قال أبو عبيد الهروي معناه يبتليه بالمصائب ليثيبه عليها. وقال غيره: معناه يوجه إليه البلاء فيصيبه وقال ابن الجوزي: أكثر المحدثين يرويه بكسر الصاد، وسمعت ابن الخشاب يفتح الصاد وهو أحسن وأليق ... ووجه الطيبي الفتح بأنه أليق بالأدب بقوله تعالي:" وإذا مرضت فهو يشفين " 64
    قلت: ويشهد للكسر ما أخرجه أحمد من حديث محمود بن لبيد رفعه: إذا أحب اللّه قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع ورواته ثقاة"65
    فهنا رأيان:
    الأول: يصيب بكسر الصاد، وهذا للأكثر.
    الثاني: يصب بفتح الصاد، وهذا راي ابن الخشاب.
    والتوجيه للفتح عن الطيبي بأنه أليق في الأدب مع اللّه؛ إذ لا تسند إلي اللّه الإصابة بالآلام والأمراض للإنسان.
    أما استدراك ابن حجر، فإنه لم يصرح برأيه، وإنما ذكره ضمنيا حينما قال: ويشهد للكسر ... الخ.
    والرواية التي استشهد بها تنم عن أن اللّه تعالي يبتلي من أحب؛ فالفاعل هو اللّه تعالي، وقياسا علي ذلك نجد أن الإصابة نوع من الابتلاء، ومن ثم فالفاعل في الرواية الأولي في قوله "يصب به "بالكسر هو اللّه تعالي 66
    ويستدرك ابن حجر أحيانا علي القراءات مضيفا عليها ما لم يذكر، ومثال ذلك في رواية طويلة:"في (أف) عدة لغات، الحركات الثلاث بغير تنوين وبالتنوين. ووقع في رواية مسلم هنا (أقّا) وهي موافقة لبعض القراءات الشاذة ... وهذا كله مع ضم الهمزة والتشديد، وعلي ذلك اقتصر بعض الشرح. وذكر أبو الحسن الرماني فيها لغات كثيرة فبلغها تسعا وثلاثين، ونقلها ابن عطية وزاد واحدة أكملها أربعين ... ولخص ضبطها الشهاب السمين ولخصته منه وهي الستة المقدمة وبالتخفيف كذلك ستة أخري وبالسكون مشددا ومخففا وبزيادة هاء ساكنة في آخره مشددا ومخففا و (وافي) بالإمالة، وبين بين وبلا إمالة لاثلاثة بلا تنوين، (و أفو) بضم ثم سكون و (افي) ... فذلك اثنتان وعشرون، وهذا كله مع ضم الهمزة، ويجوز كسرها وفتحها، فأما بكسرها ففي إحدي عشرة، كسر الفاء وضمها ومشددا مع التنوين، وعدمه أربعة، ومخففا بالحركات الثلاث مع التنوين وعدمه ستة، وافي بالإمالة والتشديد، وأفا بفتح الهمزة ففي ست بفتح الفاء وكسرها مع التنوين وعدمه أربعة وبالسكون وبألف مع التشديد ... زادها ابن عطية (أفاه) بضم أوله وزيادة ألف وهاء ساكنة .... قلت: وبقي من الممكن في ذلك (أفي) كما مضي، لكن بفتح الفاء وسكون الياء، و (أفيه) بزيادة هاء، وإذا ضممت هاتين إلي التي زادها ابن عطية، وأضفتها إلي ما بدئ به، صارت العدة خمسا وعشرين، كلها بضم الهمزة. فإذا استعملت القياس في اللغة، كان الذي بفتح الهمزة كذلك، وبكسرها كذلك، فتكمل خمسا وسبعين 67
    ويتضح تماما ذلك الاختلاف الجلي في الضبط بالحركات المتعددة الفتح والضم والكسر، بل السكون ولاتضعيف كذلك، وإضافة الإمالة، وإضافة التنوين ... الخ. ومن ثم يتضح رأي ابن حجر بهذه الزيادة التي لم ترد في الروايات السابقة.
    ونخلص من هذه الاستدراكات المتعددة لابن حجر في اختلاف الضبط بأن أبرز عناصر الاستدراك ووسائله عنده في هذا البحث هي:
    أولا: الاستدراك الضمني، وذلك بعدم ذكر رأيه صراحة؛ بل يستند إلي رواية أخري مرجحة لإحدي الروايات السابقة، مثل: وكذا ضبط في سنن، بما يعني أنه يؤيد رواية ما نظرا لأنها ضبطت في سنن كذا بنفس الضبط.
    ثانيا: الاستدراك بذكر رأيه صراحة، وذلكمثل قوله: ضبطناه في روايتنا.
    ثالثا: الاستدراك بتغليط بعض الروايات السابقة؛ وذلك مثل قوله: هذه الأخيرة غلط.
    رابعا: الاستدراك بتحليل الرأي السابق والاستشهاد عليه بالشعر لتأييد استدراكه؛ كما في قوله: لكن وقع في شعر لابن دريد ما يدل علي تجويز ذلك ....
    خامسا: الاستدراك بتأييد رأيه بالاستناد إلي القراءات المشهورة.
    سادسا: الاستدراك بتصدير رأيه بالفعل الدال علي النفي؛ وذلك لنفي الرأي السابق، مثل قوله: وليس كما قال أو باستعمال ما يدل علي الاستدراك نحو: لكن.
    سابعا: الاكتفاء في الاستدراك بذكر الرواية المختارة دون ذكر سبب اختيارها؛ مثل تعليقه بقوله: والأول هو المشهور. وإن كان في ذكر كلمة (المشهور) ما يوحي بذكر السبب، وهو أنه المشهور دون غيره.
    ثامنا: الاستدراك بإضافة قراءات لم نذكر في الروايات السابقة عليه، مثل قوله بعد ذكر لعدد كبير من القراءات الشاذة وغير الشاذة: وبقي من الممكن في ذلك (أفي) و (أفيه) قراءتان في (أف) ...
    (يتبع)

    من أوسع أودية الباطل: الغلوُّ في الأفاضل
    "التنكيل" (1/ 184)

  3. افتراضي الظواهر الصوتية في استدرا كات ابن حجر في (فتح الباري)

    رابعا: (فك الإدغام) 68 والإبدال:
    الإدغام ( depthong )
    من المصطلحات اللغوية التي لقيت اهتماما بالغا من قبل القدماء والمحدثين؛ فالقدماء من علماء اللغة والقراءات أطلقوا علي عملية تأثير الأصوات في بعضها البعض مصطلح "الإدغام "خاصة حينما تجاور هذه الأصوات وتتشابه في المخرج أو الصفة، وتتماثل بصورة كبيرة، فإنه يحدث الإدغام. أما المحدثون فقد التمسوا مصطلحا آخر اشتق من طبيعة التماثل بين الصوتين المتجاورين فأطلقوا علي هذه العملية"المماثل " assimilation وأضاف المحدثون كذلك أن هذا التأثير علي نوعين:
    1 - رجعي regressive حيث يتأثر الصوت الأول بالثاني.
    2 - تقدمي progressive حيث يتأثر الصوت الثاني بالأول.
    وتعد المماثلة بنوعيها من الظواهر الكلية في اللغات؛ فهي في العربية وفي الإنجليزية وغيرها مع مراعاة أن المماثلة تختلف من لغة إلي أخري كما أشار إلي ذلك ديفيد كريستال في موسوعته، بل أضاف نوعا ثالثا إلي النوعين السابقين للمماثلة reciprocal or coalescent 69؛ بمعني تبادلي للكلمة الأولي، واتحد أو اندمج أو تآلف أو تجمع للمصطلح الثاني دون تحديد لنوع التأثر، أهو رجعي أم تقدمي، وهذا فيما يبدو في ذلك النوع من الإدغام الذي لا يظهر فيه اتجاه.
    وقد جمع wouter jansen بين مصطلح assimilation ومصطلح regressive في مصطلح عام regressive voicing assimilation واختصره إلي ( rva ) بمعني المماثلة الصوتية الرجعية 70
    والواضح أن ظاهرة الإدغام ظاهرة كلية، وليست خاصة باللغة العربية؛ فقد درست في الألمانية، والبوتسوانية، والهولندية، والإنجليزية ... إلخ، وعقدت المقارنات بين اللغات الأوربية عبر هذه الظاهرة، مثل: الهولندية، والفرنسية، والمجرية، والإسبانية، ومقارنتها بلغة سامية مثل العبرية، وبلغة مثل لغة البوتسوانا الأفريقية ومنها:
    - africans:o/pd/aag---o(bd)aag
    -dutch:a/sb/ak---a(zb)ak
    -freench:avec vous---ave(gv)ous
    ( -hungarian:se:kbe---se:(gbe
    -hebrew:xeshbon---xe(z)hbon
    spanish:iosgatos---io(zg)atos -71
    ولا شك في أن هذا التحول ناتج عن مجاورة حروف لبعضها البعض مثل:
    pd),(sb),(cv),(kb),(sh),(sg), ) .( bd),(zd),(gv),(gb),(zg),(zg )
    وأمثلته في العربية:
    اضطرب---أصله---اضترب؛ فتجاور (ص ت)
    ادّخر---أصله---ازتخر؛ فتجاور (ز ت) 72
    فهذه المجاورة أدت إلي التأثر؛ بالمخالفة أحيانا، والمماثلة أحيانا أخري وكذا الإدغام، مثل:
    ردد---ردّ
    شدد---شدّ
    مرر---مرّ
    وهذا ما يحدث في الكلمات العربية أو في بعضها؛ إذ يتأثر علي سبيل المثال حرف العلة بحركة الحرف السابق عليه؛ فيقلب حرف العلة إلي حرف مماثل للحركة السابقة، مثل:
    قول---قال.
    بيع---باع
    فالتأثر ليس قاصرا علي تأثر حرف بحرف؛ بل تأثر حرف بحركة حرف آخر. أما ما نحن بصدده هنا فهو تأثر حرف بحرف.
    ومن أمثلته ما جاء في فتح الباري:"قوله: أنا لم نردّه عليك في رواية شعيب وابن جريج ليس نا ردّ عليك ... قال عياض: ضبطناه في الروايات: لم نرده بفتح الدال، وأبي ذلك المحققون من أهل العربية وقالوا: الصواب: أنه بضم الدال ... وأجازوا أيضا الكسر وهو أضعف الأوجه قلت: ووقع في رواية الكشميهني بفك الإدغام: لم نردده بضم الأولي وسكون الثانية ولا إشكال فيه "73
    والواضح من الاستدراك أنه لا يري مانعا من الإظهار:"و لا إشكال فيه ". والواضح كذلك أنه ذكر الآراء السابقة التي تتحدث عن الإحلال بين الحركات؛ بين الضم والفتح والكسر، لكنه انصرف عن هذا ليروي رأيا آخر وهو فك الإدغام. ويتضح أنه لم يعقب في قضايا الإدغام كلها إلا في هذا الموضع.
    الإبدال
    ويرجع الجمع بين الإبدال والإدغام في مبحث واحد إلي كون كل منهما يمثل ظاهرة من ظواهر تأثير الحروف في بعضها البعض؛ فالإدغام والإظهار يمثلان قانون المماثلة assimilation ، والإبدال يمثل قانون المخالفة، dissimilation ويسير كل مهما في اتجاه عكس الآخر.
    وقد وردت أمثلة كثيرة لظاهرة المخالفة الصوتية عن طريق الإبدال، فكلمة شمس أصلها في السامية الأولي شمش ... وكلمة: سنبلة أصلها سبّلة، فأبدلت الباء بالنون .. وكلمة: قيراط أصلها: قرّاط، ودينار أصلها: دنّار ... والعنقود أصلها العقود ... الخ 74
    ولعل باب "الإبدال "في الأصوات العربية، ليس بعيدا عن مائدة البحث اللغوي العربي؛ مثل إبدال الواو تاء، وإبدال الياء تاء، والتاء طاء، والتاء دالا، ... الخ. وفي الوقت نفسه يمثل ظاهرة شائعة بين بعض الأصوات العربية. بل الإعلال بالقلب أيضا يمثل هذه الظاهرة مثل قلب الهمزة ألفا أو واوا أو ياء وقلب الألف همزة أو واوا أو ياء، وقلب الواو والياء كذلك ألفا أو واوا أو ياء. وهذا كله تحت شروط خاصة ببنية الكلمة العربية، كما فصلته كتب الصرف العربي 75
    ومن أمثلته عند ابن حجر:" ... قوله: (و نفهت) بكسر الفاء أي: تعبت وكلت. ووقع في رواية النسفي: (نثهت) بالمثلثة بدل الفاء، وقد استغربها ابن التين، فقال: لا أعرف معناها. قلت: وكأنها أبدلت من الفاء؛ فإنها تبدل منها كثيرا، وفي رواية الكشميهني بدلها: و (نهكت)، أي هزلت وضعفت "76
    فالإبدال هنا بن (الفاء) و (الثاء) وكلاهما يختلف عن الآخر في المخرج؛ فالأول شفهي، بينما الثاني أسناني. وكذلك هناك اختلاف في المخرج بين هذين الحرفين والحرف الذي يجاورهما: (الهاء) الحلقي، من أقصي الحلق، وكلا الحرفين (الفاء والثاء) مهموس. ومن ثم لا نعلم سببا لهذا الإبدال، مثل التقارب في المخرج أو التماثل في المخرج، ومن ثم فهذا الإبدال يحتاج إلي تفسير؛ فقد لا يكون صحيحا، خاصة، بعد ما وجد أن المعجم العربي خال من مادة (نثه) التي قيل إنها بدل من (نفه).بل كتب الغريب كذلك، حتي كتب التصحيف في الحديث خلت من هذا اللفظ. ومهما يكن من أمر فإن الشاهد هنا هو استدراك ابن حجر الصوتي المبين عن ظاهرة الإبدال؛ (نفه أو نثه) 77
    ومن الإبدال كذلك:"قوله: باب لا يطرق أهله ليلا إذا أطال الغيبة مخافة أن يخوّنهم أو يلتمس عثراتهم كذا بالميم في يخوّنهم وعثراتهم. وقال ابن القيم: الصواب بالنون فيهما. قلت: بل ورد في الصحيح بالميم فيهما .. وتوجيهه ظاهر "78.و ذلك الإبدال واضح بين الميم الدالة علي جمع المذكر، والنون الدالة علي جمع المؤنث.
    يخوفهم---يخوفهن
    عثراتهم---عثراتهن
    فالإبدال وقع، دون إخلال بالمعني. مع العلم بأن الميم والنون حرفان غير متشابهين في المخرج؛ فالأول شفهي، والثاني لثوي، وكلا الحرفين اتفق في الصفات؛ فكل منهما حرف انفجاري، الميم ناتج عن الانحباس التام للهواء عند التقاء الشفتين، ثم انفراجهما مرة واحدة، والنون ناتج عن انحباس الهواء عند التقاء طرف اللسان مع الثنايا العليا. لكن الملاحظ هو أن مرجعية الضمير في (يخوفهم) تعود علي الجمع المذكر، وحينما يحدث الإبدال بالنون (يخوفهن) تعود علي الجمع المؤنث، فهل استعمال الميم علي الحمل علي المعني؛ إذ يطلق المذكر حملا علي المؤنث؟.79، أم أن الكلام فيه تغليب للمذكر علي المؤنث؛ إذ الأهل تطلق ويراد بها كل من في البيت من رجال ونساء وأطفال وغيرهم، ومن ثم يكون استعمال الضمير صحيحا؟
    والشاهد هنا هو استدراك ابن حجر باختيار (الميم) في الكلمتين وأضاف بأن توجيه هذا ظاهر. والاستدراك هنا فيما نري سعيا من ابن حجر خلف الأكثر في الاستعمال علي حد تعبير ابن جني في الإشارة إلي أن حدوث هذا الأمر وهو تذكير المؤنث هو للأكثر وهو رد للفرع إلي الأصل؛ فالأصل كما ذهب جمهور اللغويين هو التذكير والفرع هو التأنيث. ومن ثم آثر ابن حجر الرواية التي تشيد إلي الأكثر، وإلي الأصل في الاستعمال، وهذا من بين جوانب منهج ابن حجر في الاستدراك إيثار الأكثر والأصل غالبا.
    ومن أمثلة الإبدال كذلك قوله:" ... قال-أي ابن التين-"و أما تلافاه بالفاء فلا أعرف له وجها إلا أن يكون أصله: فتلفّفه، أي غشاه فلما اجتمع ثلاث فاءات أبدلت الأخيرة ألفا مثل (دساها) كذا قال، ولا يخفي تكلفة، والذي يظهر أنه من الثلاثي ... وقد وقع في حديث سلمان مما تلافاه عندها أن غفر له ... "80
    فالاستدراك هنا اشتمل علي أمرين:
    الأول: الحكم علي رأي ابن القيم، وهو: ولا؟؟؟ تكلفه.
    الثاني: اختيار ابن حجر، وهو: الذي؟؟؟ أنه من الثلاثي.
    ومن منهجه في الاستدراك القياس، فقد قاس ثلاثية الفعل علي فعل آخر قوله: والقول فيه-أي في الفعل تلافاه-كالقول في التلقي 81و ليس هذا المنهج بعيدا عن منهج اللغويين، إذ من المعروف أن قواعد اللغة بنيت علي أساس الرصد كظاهرة، ثم وصفها، ثم القياس عليها.
    ***
    خامسا-الصوائت القصيرة short vowels
    المقصود بهذه الصوائت القصيرة، الحركات: الفتحة والضمة والكسرة، وهي مقابل الصوائت الطويلة، أو حروف العلة: الألف والواو والياء، وهذه الصوائت القصيرة تعد مشتركة بين المستويات المتعددة، الصوتية والنحوية، والمعجمية، والدلالية. فهي كما أشرنا من قبل، تعد الوجه الثاني المقابل للصوامت، وكذلك لها مخارج تختلف عن الصوامت، إضافة إلي تعرضها لكثير من التغيرات مثل، الحذف، والإحلال، والإشباع، .... إلخ.
    وكذلك من الناحية النحوية تمثل هذه الصوائت العلامة الإعرابية الأصلية، وعليها تقوم معظم أبواب النحو العربي. ومن الناحية المعجمية يؤدي تغير هذه الصوائت إلي تغير نوع الكلمة ودلالتها.
    لكن لطبيعة هذه الدراسة سوف يركّز الضوء علي الصوائت القصيرة علي المستوي الصوتي فقط، وفي المبحث الأخير علي علاقتها بالدلالة.
    واهتمام ابن حجر بالتعليق علي الآخرين فيما يتعلق بهذه الصوائت أو الحركات لم يكن جديدا؛ فقد اهتم اللغويون والمفسرون بهذه الحركات كثيرا، ودار اهتمامهم حول محاور منها:
    1 - أن هذه الصوائت تمثل العلامات الإعرابية الأصلية.
    2 - أن هناك صلة بين هذه الصوائت وتغيراتها والدلالات الناتجة.
    3 - الإحلال بينها replacement خاصة علي المستوي المعجمي.
    4 - أنها تتعرض للحذف أحيانا.
    5 - أنها تتعرض للإشباع الذي يؤدي إلي الصائت الطويل أو حروف العلة.
    6 - المناسبة بين هذه الحركات وما يليها من حروف، فلا يجوز أن يأتي حرف الألف بعد الكسرة، أو يأتي حرف الواو الساكن (المد) بعد كسرة، أو يأتي حرف الياء بعد ضمة، بل تجب المناسبة:
    الضمة-يليها الواو
    الفتحة-يليها الألف
    الكسرة-يليها الياء
    7 - ومن هذه المناسبة ما يسمي بالجوار.
    8 - أن هذه الحركات منها الخفيفة، والثقيلة، ؤ الأثقل.
    أما المحدثون فقد انصب اهتمامهم علي محاور تكاد أن تتشابه مع اهتمامات القدماء، ومن هذه المحاور:
    1 - الفرق بين الصوائت والصوامت.
    2 - مكان هذه الصوائت الأمام front ، والمركز central ، والخلف back
    3 - الصوائت المغلقة، ونصصف المغلقة، والمفتوحة، ونصف المفتوحة half open,open,half close,close
    4 - قوة الصائت؛ المرتفع high ، والمتوسط mid ، والمنخفضة low 82
    5 - التآلف أو التناسق بين الصوائت الواقعة في كلمة واحدة harmony 83
    6 - طول الصوائت vowels length 84
    7 - خصائص الصوائت من حيث المخرج 85
    هذا علماء بأن هناك اثنين وثلاثين ألفا وستة مائة موقع عن الصوائت القصيرة علي الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت) بعوان: short vowels وكذلك يوجد خمسة عشر ألف موقع ومائتان تحت عنوان: short vowels in phonetics ، ومن أمثلة الصوائت القصيرة في الإنجليزية مثلا:
    ship-pit,pet,pat,putt,pot,put, --- في كلمة--- i cup 86 - -- a
    والاهتمام كذلك كان منصبا علي شكشل الشفتين أثناء النطق بالصائت، فقد تكون دائرية rounded ك ما في حرف ( u ) أو طويلة أفقية ... إلخ 87
    ملخص الكلام أن الدراسات المعاصرة قد تطورت كثيرا بفضل استعمال الأجهزة الدقيقة في التشريح، والأصوات، ومخارجها، وعلم الأصوات الفيزيائي ... إلخ. لكن المجال لا يسع للإفاضة في الحديث عن هذه التطورات.
    أما استدراكات ابن حجر المتعلقة بالصوائت فتكمن في نماذج كثيرة انتشرت في ثنايا فتح الباري 88نأخذ منها مايوضح منهجه اتجاه الصوائت القصيرة، والقايا التي أثارها حولها من خلال الاستدراكات.
    فمن منهجه في الاستدراك أنه يكتفي أحيانا بالإشارة إلي الروايات الموافقة للضبط الموجود." .. قوله (و فيه خرب)، قال ابن الجوزي: المعروف فيه فتح الخاء المعجمة وكسر الراء بعدها موحدة .. قلت وكذا ضبط في سنن أبي داود، وحكي الخطابي أيضا كسر أوله وفتح ثانيه جمع خربة كعنب وعنبة ... "89
    فالرواية عن ابن الجوزي---خرب
    الاستدراك عن أبي داود---خرب
    والاستدراك كذلك عن الخطابي---خرب
    فالاستدراك هنا لم يخرج عما في الرواية المذكورة، لكنه يؤكد هذه الرواية بالاستناد إلي مجيئها بهذا الضبط في روايات أخري.
    ولم يبعد عن ابن حجر الربط بين الإحلال الصوتي وما يترتب عليه من اختلاف في الدلالة، مثال ذلك:"قوله-أي في نص الحديث-للمهلة، قال عياض: روي بضم الميم وفتحها وكسرها. قلت-أي ابن حجر-جزم به الخليل. وقال ابن حبيب: هو بالكسر الصديد، وبالفتح التمهل، وبالضم، عكر الزيت. والمراد هنا الصديد، ويحتمل أن يكون المراد بقوله إنما هو أي الجديد وأن يكون المراد بالمهلة علي هذا التمهل ... وضبط الأصمعي هذه بالفتح "90.
    فالاستدراك هنا يؤكد الرواية السابقة، لكنه أضاف إليها الربط بين الإحلال والدلالة من خلال كلام ابن حبيب:
    المهلة---الصديد
    المهلة-حـ-التمهل
    المهلة---عكر الزيت
    بل زاد كذلك تعدد احتمالية الدلالة، نتيجة للإحلال. وزاد في استدراكه بذكر الضبط الذي اختاره الأصمعي.
    ومن منهجه كذلك أنه قد يختار ضبطا معينا من الروايات التي يستدرك عليها. من ذلك:" ... عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام لبد رأسه بالعسل. قال ابن عبد السلام يحتم أنه بفتح المهملتين، ويحتمل أنه بكسر المعجمة وسكون المهملة، وهو ما يغسل به الرأس من خطمي أو غيره. قلت: ضبطناه في روايتنا في سنن أبي داود بالمهملتين "91
    واضح أن هذا الاختيار لم يسبّب من قبل ابن حجر، وهذا أيضا من بين المحاور التي يدور حولها منهجه الاستدراكي.
    ومن محاور منهجه كذلك أنه يغلط الرواية، بل يصفها بالغلط المحض، وذلك حينما علق علي رواية نصها:"قال الكرماني قوله: في صدقة عمر، صدقة بالتنوين، وعمر فاعل، قال وهو بصورة الإرسال، لأنه يعني عمرو بن دينار، متي وقف عمر ذلك قال: وفي بعض الروايات بالواو قلت: هذه الأخيرة غلط وقوله: صدقة بالتنوين غلط محض. وصدقة عمر بالإضافة هي التي عند جميع رواة هذا الحديث في البخاري "92
    رأي الكرماني استدراك ابن حجر
    1 - تنوين صدقة وفاعلية عمر-غلط محض
    2 - الإضافة-عليها جميع رواة الحديث
    3 - عمرو بالواو-غلط
    وقد يرفض الرواية السابقة، بالنفي (ليس)، والاستناد علي الشائع في الروايات الأخري، كما في:"قوله باب المراضع من المواليات وغيرهم ... قال ابن القيم: ضبط في رواية بضم الميم، وبفتحها في أخري، والأول أولي لأنه اسم فاعل من والت توالي. قلت: وليس كما قال؛ بل المضبوط في معظم الروايات بالفتح وهو من الموالي .... وقال ابن بطال: كان الأولي أن يقول: الموليات جمع مولاة، وأما المواليات فهو جمع الجمع، جمع مولي جمع التكسير، ثم جمع موالي جمع السلامة بالألف والتاء فصار مواليات "93
    فالاستدراك استعمل فيه الفعل الدال علي النفي (ليس)، ثم الاستدراك علي السابق بـ (بل)، والسبب هو الشيوع الوارد في معظم الروايات.
    إذا من منهجه القياس علي الشائع في معظم الروايات التي يستند إليها بل ذكر من هذه الروايات ما يؤيد رفضه.
    وكما يقيس علي الشائع لدي المعظم، كذلك يستدرك مؤيدا استدراكه بالمشهور من القراءات، كما سيأتي في استدراكه علي قراءة (يبطش) بكسر الطاء وضمها.
    وأحيانا يستدرك بذكر الضبط مع عدم وجود الحديث عن الضبط أو الصوائت من نص الرواية المستدرك عليها، بل يضيف الضبط، وما يترتب عليه من معني، ومنه "قوله-في نص الرواية المستدرك عليها-ينتعلون نعال الشعر ... الذين ينتعلون الترك. و قد وقع للإسماعيلي من طريق محمد بن عباد قال: بلغني أن أصحاب بابك كانت نعالهم الشعر. قلت: بابك بموحدتين مفتوحتين وآخره كاف يقال له: الخرّمي، وكان من طائفة من الزنادقة استباحوا المحرمات، وقامت لهم شوكة كبيرة في أيام المأمون ... إلي أن قتل بابك المذكور في أيام المعتصم ... "94
    فالملاحظ عدم وضوح مرجعية كلمة (بابك) الواردة في الرواية، لكن الاستدراك أزال هذا الغموض.
    ومن منهجه كذلك اختيار القراءة المشهورة من بين القراءات الواردة في الرواية المستدرك عليها. نحو:"قوله يبطش ويبطش يعني بكسر الطاء وبضمها. قال أبو عبيدة في تفسير قوله تعالي: "فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما" بالطاء مكسورة ومضمومة لغتان: قلت: الكسر القراءة المشهورة هنا، وفي قوله تعالي: "يوم نبطش البطشة الكبري" والضم قراءة ابن جعفر، ورويت عن الحسن أيضا"95فقد أشار إلي القراءة المشهورة من القراءتين السابقتين، ثم أحال القراءة الثانية إلي ابن جعفر والحسن.
    بل يؤكد مهجه كذلك في اختيار المشهور من الضبط بالصوائت في غير القراءات، قال أبو الدر داء في المري "ذبح الخمر ... قال البيضاوي: ذبح بصيغة الفعل الماضي ونصب راء الخمر علي أنه المفعول. قال: ويروي بسكون الموحدة علي الإضافة والخمر بالكسر أي: يطهرها. قلت: والأول هو المشهور "96
    فهناك روايتان الأولي علي الماضي والمفعول، والثانية بسكون الباء وإضافة الخمر. أما الاستدراك فيميل إلي الأول؛ والسبب شهرة هذا الاستعمال لصانت الفتحة الدال علي الفعل الماضي. وصانت الفتحة أيضا الدال علي مفعولية (الخمر).
    وأحيانا يعلن تأييده لوضع الصوائت بصورة ضمنية بالاستناد إلي آراء في روايات أخري غير الرواية المستدرك عليها. مثل:"قوله: إنه لجاهد مجاهد ... بكسر الهاء والتنوين .. كما قالوا: جادّ مجدّ. ووقع لأبي ذر عن الحموي والمستملي: بفتح الهاء والدال، وكذا ضبطه الباجي قال عياض: والأول هو الوجه. قلت: يؤيده رواية أبي داود"97
    جاهد مجاهد جاهد مجاهد
    الرواية أبو ذر عن الحموي والمستملي
    عياض الباجي
    رواية أبي داود
    أما الاستدراك فهو بالتأييد الضمني: ويؤيده ... إلخ. ولا شك في أن تغيير الصوائت من الكسر والضم إلي الفتح، سوف يغير الصيغة من اسم الفاعل إلي الفعل.
    وقد يؤيد استدراكه بأن أصحاب الرأي المختار ثقاة، نحو:"قوله: من يرد اللّه به خيرا يصب منه، كذا للأكثر بكسر الصاد والفاعل اللّه .... قال ابن الجوزي: أكثر المحدثين يرويه بكسر الصاد. وسمعت ابن الخشاب بفتح الصاد وهو أحسن وأليق. كذا قال، ولو عكس لكان؟؟؟ ... ووجه الطيبي الفتح بأنه أليق بالأدب لقوله تعالي: "وإذا مرضت فهو يشفين".
    قلت: و؟؟؟ ما أخرجه أحمد من حديث محمود بن لبيد رفعه: إذا أحب اللّه قوما ابتلا؟؟؟؟ صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع، وراته ثقاة"98
    فالاختلاف حول فتح الصاد وكسرها. ويؤيد ابن حجر الكسر بالاستناد إلي نص حديث آخر، والرواة ثقاة. وهذا-فيما يري - منهج مختار، الاستناد إلي المشهور والثقة.
    ويلاحظ هنا أن صائت الفتح يؤدي دلالة لا تتحقق بوجود صائت الكسر، فالأول يوحي بالتأدب مع اللّه تعالي، ببناء الفعل للمجهول، لكن الثاني يبني الفعل للمعلوم فتكون الإصابة صادرة من اللّه صراحة دون بناء الفعل للمجهول.
    وقد يضيف في منهجه كذلك رأيا في وضع الصوائت لم يكن موجودا في الروايات السابقة؛ ومثال ذلك، في رواية طويلة، ذكر فيها لغات كثيرة، ذكر عن ابن عطية، أن في (أف) أربعين لغة، فمادة (أفف) لها لغات بالحركات الثلاث بغير تنوين، وبالتنوين، وبالسكون، وبالتشديد، وبالإحالة، وبين بين، وبلا إحالة، والجمع بين التشديد والتنوين ... الخ. ثم يستدرك ابن حجر بقوله:" ... قلت: وبقي من الممكن في ذلك (أفي) كما مضي، لكن بفتح الفاء وسكون الياء، و (أفيه) بزيادة هاء. إذا ضممت هاتين إلي التي زادها ابن عطية، وأضفتها إليم ا بدئ به صارت العدة خمسا وعشرين، كلها بضم الهمزة، فإذا استعملت القياس، -[أي بالتفح والكسر]-في اللغة كان الذي بفتح الهمزة كذلك، وبكسرها كذلك، فتكمل خمسا وسبعين "99
    وواضح هنا أن حركة الصوائت في الكلمة (أفّ) كثيرة جدّا، حتي وصل عدد التغيرات الناتجة عن حركة الصوائت، بل أحيانا معها الصوامت، إلي خمسة وسبعين تغييرا.
    (يتبـع)

    من أوسع أودية الباطل: الغلوُّ في الأفاضل
    "التنكيل" (1/ 184)

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •