]*** حين همَّت امرأةُ العزيزِ بيوسف الصدِّيق - عليه السّلام - وهمَّ بها ، انتشلهُ اللهُ - سبحانه - من غواية المعصية ، ومن فتنةٍ مُحكمةٍ ، حيث أراهُ اللهُ برهانه ، فكان حياؤه من وجه الله الذي آواه ونصره وأنقذه من كيد إخوته - كان حياؤه من وجه الله - وكان امتنانه لله وإصراره ألاّ يقابل إحسانَ الله إليه بالتجاهل والمعصية - كان كلُ هذا العمق الإيماني منقذه ساعة أنْ أحكمت الغواية أسبابها وأنيابها حوله ؛ فتصدّى " يوسف " لما لا يستطيع غيرُه أنْ يتصّدى له دون درعٍ إيمانيٍ صادقٍ عميقٍ ، ودونَ أيدٍ من اللهِ وعونٍ ...
*** وقد احتفظ " يوسف " - عليه السّلام - بما أغدقه اللهُ عليه من عونه وبرهانه في هذه الساعة العصيبة ... ، فاستمر في مواجهة غواية امرأةِ العزيز التي حشدت في مواجهته رغبتها العارمة فيه ، و فتونها الأنثوية وخبرتها التي تفوقه - بحكم الفارق العمري بينهما - كما تصدّت له بأبهتها وزينتها ومكانتها بوصفها سيدته وهو غلامها ، تصدّت له بجمالها ومالها وحسبها ونسبها وفتنتها وجرأتها على الغواية وإصرارها على الوصول إلى ما تريد ، ... ولمّا لم تجد إلاّ الصدّ والاحتشام والاعتصام بالله ، ولمّا انكشف أمرُها في المدينة ، وصار نسوةُ المدينة يعيّرنها بحبّها ليوسف وامتناعه عليها - لمّا وصلت الأمور إلى هذا الحدّ الحاد من التوتّر الدرامي ، قلبت امرأةُ العزيز الأمور رأسا على عقب ، وحوّلت المعركة بينها وبين يوسف إلى معركة علانيةٍ أمام الجميع ، وأعلنت أمام نسوة المدينة أنها ستُكره يوسف على أن يأتمرَ بأمرِها ويستجيب لغوايتها وإلآَّ ... وإلاّ ألقتْ به في ظُلمات السجن ... ؟!
ثمّ وصلت المأساة إلى ذروتها حين انضم نسوة المدينة إلى إمرأة العزيز وصرن فريقا واحداً متآمراً على يوسف ؛ وذلك بعد أن رأينَه وأكبرن جماله وطلعته وقطّعنَ أيديهنَ مشدوهاتٍ من بهائه ...؟! وصِرن - بعد لومهن لامرأة العزيز- يساندنها في غوايته ويوافقنها على ضرورة الإيقاع به لإشباع شهواتهن ...

*** لكنّ " يوسف" الذي أراه اللهُ برهانه ، وأنقذه من الانصياع لمّا همّت به امرأةُ العزيز ... ، اختزن في إرادته ، وذاكرته من هذه التجربة العميقة المؤلمة أموراً شديدة الخطورة والأهمية ، وهي :

- الأول : أنَّ المعصية والفتنة ليست قويّة في حدّ ذاتها ، ولكنها قويّة حين يكونُ منْ يتصّدى لها ضعيفاً أمامها ... إنّ ضعف إرادتنا الإيمانية هو مصدر قوة شهواتنا وتعملق غوايات المعاصي ؛ ولذلك ، وما إنْ تُفاجاُ هذه الغواية بجدارٍ من الإيمان حتّى تتخاذل وتنفثئ ، وتتبعثر ، وتهرول عاويةً ككلبٍ عقورٍ قُذِفَ بحجرٍ أو بغيره ...!
- الأمرُ الثاني : أنّ الإيمانَ بالله والصّلة به كنزٌ لا يدانيه شئٌ ، وليس له نظيرٌ يساويه في القيمة ؛ ومن ثمّ فإن التفريط في هذا الكنز هو قمّة المعاصي ، ورأس الفتنٍ وبوابة كل غواية أخرى ...
- الأمر الثالث : مفهوم السجن ، ... ومفهوم الحريّة :
وقد توصّل " يوسفُ " - عليه السلام - إلى دلالةٍ ثريّة للسجن والحرية ، دلالةٍ صاغها اللهُ - سبحانه - في هذه الآية الكريمة التي ساقها على لسانِ نبيّه يوسف في مواجهة كيد امرأة العزيز ونسوة المدينة ، قال تعالى - سورة يوسف - :
" قالَ ربِّ السجنُ أحبُّ إليَّ ممَّا يدعونَني إليهِ وإلاَّ تصرفْ عنّي كيدَهُنّ أصبُ إليهُنَّ وأكُن من الجاهِلين " / الآية 33
لنتأمّل هذه الروعة في هذه المفارقة الدلالية التي فجّرها " يوسُف " عليه السلام - بين السجن والحريّة ... لقد طرح " يوسف السجن باعتباره حريّةً ، ... وطرح الغواية - الماثلة في النسوة - باعتبارها سجناً ، لقد وصف السجن بأنّه الاختيار الأكثر رحمة من الانصياع لما يريد النسوة ...؟! وإنّه طرحٌ غير تقليدي وغير مألوفٍ وغير متداول ، وغير مُتوقّع ...

## إنَّ هذا الطّرح وهذا التناول الإيماني لمفهوم السجن ومفهوم الحرية وافق منظومة الفطرة ، وافق ما يريده الله للكرام من عباده ، ولذلك جاءت الآية التالية بشرى ليوسف - ولكلِ من ينتهج نهجه - ، جاءت بشرى تؤكد عون الله وأيده ونصره لمن يتّقيه ، ويختار - طوعا - سجن الجسد وإطلاق حريّة الروح ... يختار سجن الغواية وإطلاق سراح الإيمان ... قال تعالى - في السورة ذاتها - :

" فاستجابَ له ربُّه فصرفَ عنه كيدَهُنَّ إنّه هو السميعُ العليم " الآية 34
*** هكذا كان السجنُ الماديّ في قصة يوسف رمزا لانعتاق روحه من الغواية ، رمزا لانتصار يقينه الإيماني على غرائز الجسد وفحيح الشيطان ، رمزاً للوعي المُطلق بمحدودية الجسد والغريزة والحياة الدنيا بأسرها في مقابل الاتّساع اللانهائي للروح ومداها وامتدادها في الكون على قدر إيمانه ، وكذلك لا نهائية العالم الآخر الذي ينتظر الروح المنعتقة من قيود الظلام ، ويهلّل لمثل هذه الروح ويحتفي بها ...

*** لقد انطلق " يوسف " من هذا السجن الذي اختاره وتمنّاه على الله قربانا لاعتصامه من الغواية - انطلق يوسف - من هذا السجن ذاته إلى تحرّره من عدّة سجون أحاطت به وحالت بينه وبين أن يتبوأ ما يليق به في الأرض ، وما هيّأه اللهُ له من أمر النبوّة ، كان السجنُ نقطة انطلاق يوسف إلى المصاف الذي لم يتوقّعه والذي ادّخره اللهُ له جزاء له على حسن مراقبته لله ، وتقاته منه ...
- كان السجنُ المادي انعتاق يوسف من امرأة العزيز ونسوة المدينة ، فحفظه اللهُ في هذا السجن من عبثهن وكيدهن ومطاردتهن له ...

- كان السجنُ مركزا أطلق منه دعوته لعبادة الله وهداية بعض من كانوا يشركون مع الله أربابا ، وقد وصف سبحانه هذا في قوله على لسان يوسف لرفقائه في السجن :
" ياصاحبيّ السجن أأربابٌ متفرِقون خيرٌ أم اللهُ الواحدُ القهّار"
سورة يوسف - الآية 39
- كان السجنُ بداية اشتهار أمر تمكّنه من تفسير الرؤى ، وعبوره إليها بفضل الله ؛ فذاع أمره حتّى وصل إلى عزيز مصر ... وكان ما كان من تقريب العزيز له ، وتمكينه من خزائن الأرض ، وجعله أمينا عليها ، واتّضاح أمر نبوته ، وتمكنه من الدعوة إلى الله ، وما تبع هذا من عودته إلى أبويه ، و... و... ، وكأنّ السجنَ ... السجن... كان بوابة للحرية ، بوابة لانطلاق الروح و النبوّة ... ، وكأنّ السجن كان القربان الحتمي لابتلاء اليقين الإيماني للروح ، وابتلاء ثباتها في وجه الفتن ...
و... ولا ننسى مفارقةً أخرى لا تقل عن الأولى تأثيراً ، وهي : أنّه بينما كان " يوسف" في سجنه المادي يخوض تجربته الروحية الخاصة التي تؤهله لبزوغ النبوة ، بينما كان في السجن المادي متحررا بروحه ، كانت امرأة العزيز حبيسة في سجونها الروحية رغم تحرر جسدها من السجن التقليدي ... ! كانت امرأة العزيز أسيرة معصيتها وغيّها ، وأفكارها الغاوية حول مفهوم الحرية والعزة والإرادة والحول والطول والسيادة ،كانت حبيسة كبريائها الآثم الذي صوّر لها الإصرار على غواية يوسف عزةً وسيادة واستطالة في الأرض ، وصوّر لها اقتدارها عليه برهانا على كونها السيدة الآمرة التي لا يغلبها خادمها أو غلامها ... كانت أسيرة نزقٍ قيّد عقلها فلم تر عاقبة أفعالها ونزواتها ، ولم يتراء لها ولو للحظة أنها - وهي التي كانت السيدة الآمرة الناهية المُطاعة - تبادلت وفتاها المواضع والأماكن ، فقد صارت هي الأمة الأسيرة لأهوائها وصارت الأقل من فتاها - الذي هو خادمها - ، وصار هو سيّدها باستعلائه على المعصية ورجاحة عقله وطُهْر روحه ومراقبتهه ربّه ... كانت امرأةُ العزيز هي السجينة - وهي خارج أسوار السجن ، وكان يوسف هو الطليق وهو داخل أسوار هذا السجن ...؟!وهكذا ظل حالها حتى أرشدها اللهُ إلى الاعتراف بالحق ، والانتباه إلى عفوه ... قال تعالى في سورة " يوسف " :
" قالت امرأةُ العزيزِ الآنَ حصْحصَ الحقُّ أنا راودتُّه عن نفسِه وإنّه لمِنَ الصادقين 51) ذلك ليعلمَ أنِّي لم أَخُنْهُ بالغيبِ وأنَّ اللهَ لا يهدي كيدَ الخائنين 52) وما أُبّرّئُ نفسيَ إنَّ النَّفسَ لأمَّارةٌ بالسُوءِ إلاَّ مارحِمَ ربِّي إنَّ ربِّي غفورٌ رحيمٌ 53) ...
وبغير هذا الرّشد لا تتحرر الأرواحُ ...
** لقد طرح لنا اللهُ - سبحانه وتعالى - في قصة يوسف هذه العبرة العميقة التي نستكنه بها الدلالات الحقيقية للأشياء ، ونفض الدلالات التقليدية المألوفة العطنة ، فكثير منّا يظنُّ أن إشباع الغرائز وإطلاقها من عنانها هو الحرية بكل معانيها : حرية الفعل والمعتقد والرأي وحرية الإرادة ، والدليل على السيادة والشموخ والاستعلاء ... وينسى - أو يتناسى ويتجاهل أصحابُ هذا الفكر - أنّ الانصياع للغرائز ، وعدم القدرة على رفض نزواتها وجموحها هو العبودية في أقسى معانيها ودرجاتها ، هو السجنُ والأسرُ والقيدُ في أشد حالاته قسوة وشدّة وإحكاما ، لأننا في هذه الحالة نُسلم قيادنا لشهواتٍ نزقة ليس لها حدود في انطلاقها ، وليس لها سقفٌ تنتهي عنده ، وليس لها مقياس إشباع تكفّ بعده ، ليس لها إلا الانطلاق وطلب المزيد والمزيد من المزيد ، وهذه الغرائز لا تطلب الإشباع فقط ، بل تشترط أن تكون مصادر إشباعها طازجة دائما ، غير مكرورة وغير مملّة ، ... هذه الغرائز تشترط علينا الشباب الدائم والفتوة التي لا تغيب ولا تشيب ، تشترط علينا الفراغ من الهموم والفراغ من الخوف ، أو القدرة على مواجهة الهموم والخوف بهذا الإقبال المسعور على الشهوات ، ... هذه الشهوات تتطلّب منّا إشعال المعارك الضارية الدائمة مع الفطرة لنُسكتها ونُخرسها ، أو نقتلها حتى تكفّ عن تشويش استمتاعنا غير المشروع ، وحتى تكفّ عن مساءلتنا وتذكيرنا بما نكره تذكّره من الحساب والعقاب والمصير والمآل والعذاب و...
هذه الغرائز هي السجنُ الأكبر ... السجنُ الحقيقي ؛ لأنها تضعنا في المكان الذي تريد وفي الزمان الذي تبتغيه ، وفي اللحظة التي تتحقق هي فيها وبها ، فإذا الكون على اتّساعه أضيق ما يكون ، وإذا العمرُ - على امتداده - أقصر ما يكون ، وإذا بنا نحنُ ... نحن الذين كرّمنا الله على جميع خلقه ، وجعلنا خلائف في الأرض نسعى فيها كما نشاء وكيفما شئنا ، وهيّأنا لأن نجوز أقطار السماوات والأرض ، وأن نسيح في ملكوته وقد سُخّر لنا جميع ما خلقه في سبيل تيسير هذه السياحة التي توصل إليه ...- إذا بنا - مسجونون في حدود غرائزنا ومذاقاتها ووشروطها وأوقاتها ، وإذا بسعادتنا مرهونة بسعادة هذه الغرائزو ورضاها ، وأحزاننا - كذلك - تابعة لتعاسة هذه الغرائز وجوعها ، وإذا بقدراتنا اللامتناهية ... مقيّدة ، وإذا بنا نمشي - كما يقال في التراث العربي - مشي الأسير العاني : مكبول اليدين ... مقيد القدمين في أصفاده ... منبطحا على وجهه كلما همّ بخطوة واحدة ... مخذولا ... مُهاناً ...
*** في مقابل هذا يكون الانعتاق من هذه الغرائز ، أو إشباعها وفق المنهاج الإسلامي - بلا إفراطٍ ولا تفريط - بوابة للحرية في أجواز السماوات والأرض ، ومعاينة دلائل خلق الجليل العظيم - سبحانه - وعبادته على النحو الذي أراده منّا ، والذي يليق بمقامه ، والذي يجدر بنا ... نحنُ الذين سخّر لنا الشمس والقمر دائبين ، وسخر لنا السماء ومهّد لنا الأرض ، وجعل لنا ما نشاء بمشيئته ؛ لنصل إليه وصولا كريما ونعبده حق عبادته ...
وهنا تتجلى أسمى درجات ودلالات الحرية ... الحرية النابعة من النور والمُفضية إلى النور ...
بقلم : جاميليــــــا حفني
مدوّنة " أدركتُ جلالَ القرآن "
http://greatestqoran.blogspot.com/20...g-post_12.html