تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي

    من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي (1)


    فهد بن عبد العزيز الشويرخ



    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فمن المواضيع التي أكثر العلامة ابن القيم رحمه الله من معالجتها في العديد من كتبه موضوع الذنوب والمعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع وهو وإن كان خصها بنصيب الأسد في كتابه الجيد النافع " الداء والدواء" أو" الجواب الكافي لمن سأل عن الجواب الشافي" إلا أنه تحدث عنها في بعض كتبه وقد يسّر الله فجمعت بعضاً مما ذكره في تلك الكتب.
    " مدارج السالكين في منازل السائرين "
    قلوب أهل المعاصي في جحيم وقلوب الأبرار في نعيم:
    قلوب أهل البدع, والمعرضين عن القرآن, وأهل الغفلة عن الله, وأهل المعاصي في جحيم قبل الجحيم الكبرى, وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر, { إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم } [الانفطار:13-14] هذا في دورهم الثلاثة.
    مطالعة العبد لمنة الله عز وجل عليه حال مواقعة الذنب وبعده:
    كلما طالع العبد منته سبحانه قبل الذنب وفي حال مواقعة الذنب وبعد الذنب, وبره به وحلمه عنه وإحسانه إليه, هاجت من قلبه لواعج محبته والشوق على لقائه.
    العبد يبارز الله عز وجل بالمعاصي وهو يمده بنعمه ويعامله بألطافه:
    القلوب مجبولة على حبِّ من أحسن إليها, وأي إحسان أعظم من إحسان من يبرزه العبد بالمعاصي وهو يمدُّه بنعمه, ويعامله بألطافه, ويسبل عليه ستره, ويحفظه من خطفات أعدائه المترقبين له أدنى عثرة ينالون منه بها بغيتهم...ويحول بينهم وبينه؟
    الفرح بالمعصية جهل بقدر من عصاه:
    الفرحُ بالمعصية دليلُ شدة الرغبة فيها, والجهل بقدر من عصاه, والجهل بسوء عاقبتها وعظم خطرها, ففرحه بها غطى عليه ذلك كله, وفرحه بها أشدُّ ضرراً عليه من مواقعتها.
    المؤمن لا تتم لذته بمعصيته أبداً ولا يكمل بها فرحه بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه...ومتى خلا قلبه من هذا الحزن واشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه, وليبكِ على موت قلبه, فإنه لو كان حياً لأحزنه ارتكابه للذنب, وغاظه, وصعب عليه.
    المجاهرة بالذنب خطر عظيم:
    وأشدُّ من هذا كله: المجاهرة بالذنب مع تيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه إليه, فإن آمن بنظره إليه وأقدم على المجاهرة فعظيم, وإن لم يؤمن بنظره إليه واطلاعه عليه فكفر وانسلاخ من الإسلام بالكلية.
    قد يقترن بالصغيرة أمور يلحقها بالكبائر:
    قد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء, وعدم المبالاة, وترك الخوف, والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر, بل يجعلها في أعلى رتبها.
    تقطع القلب على فرط إما في الدنيا وإما في الآخرة:
    من لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرةً وخوفاً, تقطع في الآخرة إذا حقَّت الحقائق, وعاين ثواب المطيعين, وعقاب العاصين, فلا بدَّ من تقطُّع القلب إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة.
    بذل الجهد في تعلم العلم النافع لإخراج النفس من جهلها:
    العبد في الذنب له نظر إلى محل الجناية ومصدرها وهو النفس الأمارةُ بالسوء ويفيده نظره إليها أموراً منها أنها جاهلة ظالمة فيوجب له ذلك بذل الجهد في العلم النافع الذي يُخرجها به عن وصف الجهل والعمل الصالح الذي يُخرجها به عن وصف الظلم.
    اتخاذ الشيطان عدو وكمال الاحتراز منه:
    العبد في الذنب له نظر إلى...الآمر له بالمعصية, المزين له فعلها, الحاضِّ له عليها وهو شيطانه الموكل به, فيفيده النظر إليه وملاحظته اتخاذه عدواً, وكمال الاحتراز منه والتحفظ واليقظة والانتباه لما يريده منه عدوه وهو لا يشعر
    " زاد المعاد في هدى خير العباد "
    من سقط من عين ربه خلي بينه وبين معاصيه:
    الرب سبحانه...من سقط من عينه وهان عليه, فإنه يخلي بينه وبين معاصيه, وكلما أحدث ذنباً أحدث له نعمة, والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه, ولا يعلم أن ذلك عينُ الإهانة, وأنه يريد به العذاب الشديد, والعقوبة التي لا عاقبة معها.
    الذنوب لذاتها تنقلب آلاماً:
    العاقل متى وازن بين نيل محبوب سريع الزوال بفوات محبوب أعظم منه وأدوم وأنفع وألذ أو بالعكس ظهر له التفاوت, فلا تبع لذة الأبد...بلذة ساعة تنقلب آلاماً, وحقيقتها أنها أحلام نائم...فتذهب اللذة وتبقي التبعة.
    الشهوات تفسد على العبد مصالحه:
    لينظر ما تجلبُ عليه هذه الشهوةُ من مفاسد عاجلته, وما تمنعها من مصالحها, فإنها أجلبُ شيء لمفاسد الدنيا, وأعظم شيء تعطيلاً لمصالحها, فإنها تحول بين العبد وبين رشده الذي هو ملاك أمره, وقوام مصالحه.
    العاصي يجد أثر ذنوبه في خلق زوجته وولده وخادمه:
    قول كعب رضي الله عنه: " حتى تنكرت لي الأرض, فما هي بالتي أعرف ", هذا التنكرُ يجده المذنب العاصي بحسب جرمه حتى في خلق زوجته وولده وخادمه, ودابته, ويجده في نفسه أيضاً, فتتنكر له نفسه حتى ما كأنه هو.
    الذنوب تضعف القلوب وتهلكها:
    الذنوب للقلب بمنزلة السموم, إن لم تهلكه أضعفته ولا بُدَّ, وإذا ضعفت قوته لم يقدر على مقاومة الأمراض.
    المعاصي توجب الهموم الغموم والأحزان وضيق الصدر:
    المعاصي تُوجب الهم والغم والخوف والحزن وضيق الصدر وأمراض القلب, حتى أن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم, وسئمتها نفوسهم ارتكبوها دفعاً لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهم والغم.
    الذنوب تجلب الأمراض والطواعين وتسلب البركات والمنافع:
    لم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض والأسقام والطواعين والقحوط والجدوب وسلب بركات الأرض وثمارها....وسلب منافعها أو نقصانها أموراً متتابعة يتلو بعضها بعضاً
    الذنوب توجب الآفات والعلل في الأغذية والهواء والماء:
    وكلما أحدث الناس ظلماً وفجوراً أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم وأهويتهم ومياههم, وأبدانهم وخلقهم, وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات, ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم.
    أكثر الأمراض بقية عذاب عذبت به الأمم السابقة:
    وأكثر هذه الأمراض والآفات العامة بقية عذاب عُذبت به الأمم السابقة, ثم بقيت منها بقية مرصدة لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم, حكماً قسطاً, وقضاء عدلاً.
    ظلم العباد لبعضهم سبب لجور الملوك:
    جعل ظلم المساكين, والبخس في المكاييل والموازين, وتعدي القوي على الضعيف سبباً لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون إن استرحموا, ولا يعطفون إن استعطفوا, وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم.
    منع الزكاة يمنع الغيث من السماء:
    قد جعل سبحانه...منع الإحسان والزكاة والصدقة سبباً لمنع الغيث من السماء, والقحط والجدب.

    أعمال العباد تظهر في قوالب وصور تناسبها:
    الله سبحانه بحكمته وعدله يُظهرُ للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها, فتارة بقحط وتارة بعدو وتارة بولاة جائرين وتارة بأمراض عامة وتارة بهموم وآلام وغموم...وتارة بتسلط الشياطين عليهم...وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي

    من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي (2)


    فهد بن عبد العزيز الشويرخ

    بسم الله الرحمن الرحيم
    من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي (2)
    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد
    " بدائع الفوائد "
    فضول الطعام والكلام والنظر تولد أكثر المعاصي:
    فضول الطعام داع إلى أنواع كثيرة من الشَّرِّ, فإنه يُحركُ الجوارح إلى المعاصي, ويثقلها عن الطاعات, وحسبك بهذين شراً!! فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام, وكم من طاعة حال دونها, فمن وقي شر بطنه فقد وقي شراً عظيماً.
    وأكثر المعاصي إنما تولدها من فضول الكلام والنظر, وهما أوسع مداخل الشيطان, فإن جارحتيهما لا يملان ولا يسأمان,...فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام, فجنايتهما مُتسعةُ الأطراف, كثيرة الشعب, عظيمة الآفات.
    زوال النعم بالمعاصي:
    هل زالت عن أحدِ قطُّ نعمة إلا بشؤم معصيته, فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه, ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغيرها عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد:11]
    ومن تأمل ما قصَّ الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم, وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيانُ رسله, وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره, وما أزال الله عنهم من نعمه, وجد ذلك كلَّه من سوء عواقب الذنوب, كما قيل: إذا كنتَ في نعمةٍ فارعها فإن المعاصي تُزيلُ النعم
    فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته, ولا حصلت الزيادة بمثل شكره, ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه, فإنها نارُ النعم التي تعملُ فيها كما تعمل النار في الحطبِ اليابس....ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له.
    " إغاثة اللهفان في مصايد الشطان "
    بُلي الحبيب بالذنب, فاعترف وتاب وندم, وتضرع واستكان وفزع إلى مفزع الخليقة, وهو التوحيد والاستغفار, فأُزيل عنه العيب, وغُفر له الذنب, فقُبل منه المتاب, وفُتح له من الرحمة والهداية كل باب, ونحن الأبناء, ومن أشبه أباه فما ظلم.
    من كانت شيمتُهُ التوبة والاستغفار فقد هُدى لأحسن الشيم.
    يا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس, وشهوة عاجلة, ذهبت لذتها, وبقيت تبعتها, وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها, فذهبت الشهوة وبقيت الشقوة, وزالت المسرة وبقيت الحسرة.
    " الكلام على مسألة السماع "
    لا يغير نعمه التي أنعم بها على عباده حتى يُغيروا طاعته بمعصيته
    قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ } [الرعد:11] فدلالة لفظها أنه لا يغير نعمه التي أنعم بها على عباده حتى يُغيروا طاعته بمعصيته, كما قال في الآية الأخرى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الأنفال:53] وإشارتها أنه إذا عاقب قوماً وابتلاهم, لم يغير ما بهم من العقوبة والبلاء حتى يغيروا ما بأنفسهم من المعصية إلى الطاعة كما قال العباس عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم(ما نزل بلاء إلا بذنب, ولا رُفع إلا بتوبة)
    ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة» فإذا منع الكلب والصورة دخول الملك البيت, فكيف تدخل معرفة الرب ومحبته في قلب ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها.
    فهذه إشارات صحيحة, وهي من جنس مقاييس الفقهاء, بل أصح من كثير منها.
    " روضة المحبين ونزهة المشتاقين "
    من صبر عن الحرام أعقبه الله في الدنيا المسرة:
    قد جرت سنة الله تعالى في خلقه: أن من آثر الألم العاجل على الوصال الحرام, أعقبه الله ذلك في الدنيا المسرة التامة, وإن هلك فالفوز العظيم, والله تعالى لا يضيع ما يتحمل عبدها من لأجله.
    كل لذة منعت لذة أكمل منها فليست بلذة في الحقيقة:
    كل لذةٍ أعقبت ألماً أو منعت لذةً أكمل منها فليست بلذةٍ في الحقيقة, وإن غالطت النفس في الالتذاذ بها فأيُّ لذة لآكل طعامٍ شهيٍّ مسموم يُقطِّع أمعاءه عن قرب.
    عذاب الزناة في البرزخ:
    فأما سبيل الزنى, فأسوأُ سبيل, ومقيلُ أهلها في الجحيم شرُّ مقيل, ومستقر أرواحهم في البرزح في تنور من نار يأتيهم لهيبها من تحتهم, فإذا أتاهم اللهب, ضجوا, وارتفعوا, ثم يعودون إلى موضعهم, فهم هكذا إلى يوم القيامة, كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه, ورؤيا الأنبياء وحي لا شكَّ فيه.
    الزنا يجمع خلال الشر كلها:
    والزنى يجمع خلال الشر كلها, من: قلة الدين, وذهاب الورع, وفساد المروءة, وقلة الغيرة, فلا تجد زانياً معه ورع, ولا وفاء بعهدٍ, ولا صدق في الحديث, ولا محافظة على صديق, ولا غيرة تامة على أهله, فالغدر, والكذب, والخيانة, وقلة الحياء, وعدم المراقبة, وعدم الأنفة للحرم, وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته.
    ومنها: أن الناس ينظرونه بعين الخيانة, ولا يأمنه أحد على حرمته, ولا على ولده.
    ومنها: سواد الوجه, وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين
    ومنها: الوحشة التي يضعها الله في قلب الزاني, وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه, فالعفيف على وجهه حلاوة, وفي قلبه أنس, ومن جالسه استنأنس به, والزاني تعلو وجهه الوحشة, ومن جالسه استوحش به.
    ومنها: ظلمة القلب, وطمس نوره.ومنها: الفقر اللازم.
    ومنها: أنه يفارقه الطيب الذي وصف الله به أهل العفاف, ويستبدل به الخبيث الذي وصف الله به الزناة.
    ومنها: قلة الهيبة التي تنزع من صدور أهله وأصحابه, وغيرهم له, وهو أحقر شيء في نفوسهم, وعيونهم, بخلاف العفيف, فإنه يرزق المهابة, والحلاوة.
    ومنها: ضيق الصدر وحرجه, فإن الزناة يُقابلون بضد مقصودهم, فإن من طلب لذة العيش وطِيبه بما حرمه الله عليه, عاقبه الله بنقيض قصده, فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قط ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور, وانشراح الصدر, وطيب العيش لرأى أن الذي فاته من اللذة أضعاف أضعاف ما حصل له, دع ربح العاقبة, والفوز بثواب الله وكرامته.
    ومنها: الرائحة التي تفوح عليه, يشمها كل ذي قلب سليم, تفوح من فيه وجسده.
    ومنها: أنه يعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن.
    ومنها: أن الزنى يجُرِّئه على قطيعة الرحم, وعقوق الوالدين, وكسب الحرام, وظلم الخلق, وإضاعة أهله وعياله...فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها, ويتولد عنها أنواع أخرُ من المعاصي بعدها...وهي أجلب لشرِّ الدنيا والآخرة, وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة.
    عقوبة اللوطية:
    الأمة اللُّوطية...جمع الله عليهم من أنواع العقوبات ما لم يجمعه على أمةٍ من الأمم, لا من تأخر عنهم ولا من تقدم, وجعل ديارهم وآثارهم عبرةً للمعُتبرين, وموعظة للمتقين.
    قتل اللوطي:
    والصحابة اتفقوا على قتل اللوطي, وإنما اختلفوا في كيفية قتله,...وعقوبته أغلظ من عقوبة الزاني, لإجماع الصحابة على ذلك, ولغلظ حرمته, وانتشار فساده, ولأن الله سبحانه لم يعاقب أُمّةً ما عاقب اللوطية.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي

    من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي (3)


    فهد بن عبد العزيز الشويرخ

    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:
    " شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل "
    فساد القلب واللسان والعقل:
    كل شيء عُصي الرب سبحانه به، فإنه يُفسده على صاحبه، فمن عصاه بماله أفسده عليه، ومن عصاه بجاهه أفسده عليه، ومن عصاه بلسانه أو قلبه أو عضو من أعضائه أفسده عليه، وإن لم يشعر بفساده، فأي فساد أعظم من فساد قلب خربٍ من محبة الله، وخوفه، ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والطمأنينة بذكره، والإنس به، والفرح بالإقبال عليه؟ وهل هذا القلب إلا قلب قد استحكم فساده، والمصاب لا يشعر؟ وأي فساد أعظم من فساد لسان تعطل عن ذكره وما جاء به، وتلاوة كلامه، ونصيحة عباده وإرشادهم، ودعوتهم إلى الله؟ وأي فساد أعظم من فساد جوارح تعطلت عن عبودية فاطرها وخالقها وخدمته، والمبادرة إلى مرضاته؟
    وبالجملة فما عُصي الله بشيء إلا أفسده على صاحبه، ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتابه ووحيه الذي هدى به رسوله وأتباعه، والمعارضة بينه وبين كلام غيره، فأي فساد أعظم من فساد هذا العقل؟
    اللذة والألم:
    لا بد من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا أشد ثم ينقطع ويعقبه أعظم اللذة، والكافر يحصل له اللذة...ابتداءً ثم ينقطع ويعقبه أعظم الألم وهكذا حال الذين يتبعون الشهوات فيلتذون بها ابتداءً, ثم تعقبها الآلام بحسب ما نالوه منها والذين يصبرون عليها يألمون بفقدها ابتداءً، ثم يعقب ذلك الألم من اللذة...بحسب ما صبروا عنه وتركوا منها، فالألم واللذة أمر ضروري لكل إنسان لكن الفرق بين العاجل المنقطع اليسير والآجل الدائم العظيم بون.
    " اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية "
    حال من كان مستوحشًا مع الله، ومن كان قرير العين به:
    من كان مستوحشًا مع الله بمعصيته إياه في هذه الدار، فوحشته معه في البرزخ، ويوم المعاد أعظم وأشدُّ، ومن قرَّت عينُه به في هذه الحياة الدنيا، قرَّت عينه به يوم لقائه عند الموت ويوم البعث، فموت العبد على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ويعود عليه عمله بعينه، فينعم به ظاهرًا وباطنًا، أو يعذب به ظاهرًا وباطنًا.
    الخارجون عن طاعة الرسل عليهم السلام يتقلبون في عشر ظلمات:
    الخارجون عن طاعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ومتابعتهم يتقلبون في عشر ظلمات:
    ظلمة الطبع، وظلمة الجهل، وظلمة الهوى، وظلمة القول، وظلمة العمل، وظلمة المدخل، وظلمة المخرج، وظلمة القبر، وظلمة القيامة، وظلمة دار القرار، فالظلمة لازمة لهم في دورهم الثلاث.
    " التبيان في أيمان القرآن "
    دفع مبادئ الداء أسهل بكثير من طلب الدواء:
    أول ما يطرق القلب: الخطرة، فإن دفعها استراح مما بعدها، وإن لم يدفعها قويت فصارت: وسوسة، فكان دفعها أصعب، فإن بادر ودفعها وإلا قويت فصارت: شهوة، فإن عالجها وإلا صارت: إرادة، فإن عالجها وإلا صارت: عزيمة.
    ومتى وصلت إلى هذه الحال، لم يمكنه دفعها واقترن بها الفعل، ولا بد وما يقدر عليه من مقدماته، وحينئذٍ ينتقل العلاج من مقدماته إلى أقوى الأدوية، وهو: الاستفراغ التام بالتوبة النصوح. ولا ريب أن دفع مبادئ هذا الداء أولًا أسهل بكثير من طلب الدواء، وإذا وازن العبد بين دفع هذا الداء من أوله وبين استفراغ بعد حصوله، وساعد القدرُ وأعان التوفيقُ - رأى أن الدفع أولى به.
    وإذا تألمت النفس بمفارقة المحبوب، فليوازن بين فوات هذا المحبوب الأخس، المنقطع النكد، المشوب بالآلام والهموم، وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم، الذي لا نسبة لهذا المحبوب إليه ألبتة، لا في قدره، ولا في دوامه وبقائه.
    وليوازن بين لذة الإنابة والإقبال على الله تعالى، والتنعم بحبه وذكره وطاعته، ولذة الإقبال على الرذائل والأنتان والقبائح.
    وليوازن بين لذة الذنب ولذة العفة، ولذة الذنب ولذة القوة وقهر الهوى، وبين لذة الذنب ولذة إرغام عدوه وردِّه خاسئًا ذليلًا، وبين لذة الذنب ولذة الطاعة التي تحول بينه وبينه، وبين مرارة فوته، ومرارة فوت ثناء الله تعالى وملائكته عليه، وفوت حسن جزائه وجزيل ثوابه، وبين فرحة إدراكه وفرحة تركه لله تعالى عاجلًا، وفرحة ما يثيبه عليه في دنياه وآخرته.
    عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم:
    كان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم وجرائمهم؛ فعذب عادًا بالريح الشديدة العاتية التي لا يقوم لها شيء.
    وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب لم يعذب بها أمة غيرهم، فجمع لهم بين الهلاك، والرجم بالحجارة من السماء، وطمس الأبصار، وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها، والخسف بهم إلى أسفل سافلين.
    وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم، وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان.
    وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة، فماتوا في الحال.
    النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون:
    من اعتبر أحوال العالم قديمًا وحديثًا، وما يعاقب به مَن سعى في الأرض بالفساد، وسفك الدماء بغير الحق، وأقام الفتن، واستهان بحرمات الله - علم أن النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون.
    " رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه "
    مقايسة العاقل بين اللذة المنكدة، وبين اللذة التي لا تزول ولا تنقطع
    أين عقل من آثر لذة عاجلة منغصة منكدة - إنما هي كأضعاث أحلام، أو كطيف تمتَّع به زائره في المنام - على لذة هي من أعظم اللذات، وفرحة ومسرة هي من أعظم المسرات، دائمة لا تزول ولا تفنى ولا تنقطع، فباعها بهذه اللذة الفانية المضمحلة التي حُشيت بالآلام، وإنما حصلت بالآلام، وعاقبتها الآلام؟ فلو قايس العاقل بين لذتها وألمها، ومضرتها ومنفعتها، لاستحيا من نفسه وعقله، كيف يسعى في طلبها؟ ويُضيع زمانه في اشتغاله بها؟ فضلًا عن إيثارها على (( ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).)
    وقد اشترى سبحانه من المؤمنين أنفسهم وجعل ثمنها جنته، وأجرى هذا العقد على يد رسوله وخليله وخيرته من خلقه، فسلعة ربُّ السماوات الأرض مشتريها، والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم وسماع كلامه منه في دار ثمنها، ومن جرى على يده العقد رسوله، كيف يليق بالعاقل أن يضيعها ويهملها ويبيعها بثمن بخس، في دار زائلة مضمحلة فانية! وهل هذا إلا من أعظم الغبن؟ وإنما يظهر له هذا الغبن الفاحش يوم التغابن، إذا ثقلت موازين المتقين وخفَّت موازين المبطلين.
    " الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب "
    من علامات تعظيم المناهي:
    الحرص على التباعد عن مظانها وأسبابها وما يدعو إليها, ومجانبة كل وسية تُقربُ منها كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها, وأن يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس, وأن يجانب الفضول في المباحات خشية الوقوع في المكروهات, ومجانبة من يجاهر بارتكابها ويحسنها ويدعو إليها, ويتهاون بها, ولا يبالي ما ركب منها, فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه, ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته.
    ومن علامات تعظيم النهي: أن يغضب لله عز وجل إذا انتهكت محارمه, وأن يجد في قلبه حُزناً وكسرةً إذا عُصى الله تعالى في أرضه, ولم يطع بإقامة حدوده وأوامره, ولم يستطيع هو أن يُغير ذلك.

    ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حدٍّ يكون صاحبه جافياً غير مستقيم على المنهج الوسط.
    ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن...يُسلم لأمر الله تعالى وحكمه, ممتثلاً ما أمر به, سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لو تظهر. فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على المزيد الانقياد بالبذل والتسليم لأمر الله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي

    من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي (4)


    فهد بن عبد العزيز الشويرخ

    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:
    " طريق الهجرتين وباب السعادتين "
    أسباب الصبر على المعصية
    الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة:
    أحدها: علمُ العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها, وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانةً لعبده وحمايةً عن الدنايا والرذائل, كما يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره, وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلَّق عليها وعيد بالعذاب.
    السبب الثاني: الحياء من الله عز وجل, فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأى منه ومستمع, وكان حيًّا حييًّا, استحيا من ربه أن يتعرض لمساخطه.
    السبب الثالث: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك, فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد, فما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب, فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها, وإن أصر لم ترجع إليه, ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمةً نعمةً حتى يُسلب النعم كلها, قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ } [الرعد:11] وأعظم النعم الإيمان, وذنبُ الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة تزيلها وتسلبها.وبالجمل فإن المعاصي نار النعم تأكلها, كما تأكل النارُ الحطب, عياذاً بالله من زوال نعمته وتحويل عافيته.
    السبب الرابع: خوف الله وخشية عقابه, وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده, والإيمان به وبكتابه ورسوله, وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين, ويضعف بضعفهما, قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28] قال بعض السلف: كفى بخشية الله علماً, وبالاغترار به جهلاً.
    السبب الخامس: قصر الأمل, وعلمه بسرعة انتقاله فهو حريص على ترك ما يضره
    السبب السادس: محبة الله سبحانه وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه فإن المحبّ لمن يحب مطيع, وكلما قوى سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى, وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها
    وههنا لطيفة يجب التنبه لها, وهي أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه, فإذا قارنها الإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياء والطاعة, وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوع أُنس وانبساط وتذكر واشتياق, ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها, ويفتش العبد قلبه فيرى نوع محبة لله, ولكن لا تحمله على ترك معاصيه, وسبب ذلك تجردها عن الإجلال والتعظيم, فما عمر القلب شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه, وتلك من أفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
    السبب السابع: شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتهُا وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع قدرها, وتخفض منزلتها وتُحقرها, وتسوي بينها وبين السفلة.
    السب الثامن: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية, وقبح أثرها, والضر الناشئ منها:
    من سواد الوجه, وظلمة القلب, وضيقه وغمه وحزنه وألمه, وانحصاره, وشدة قلقه واضطرابه, وتمزق شمله, وضعفه عن مقاومة عدوه
    ومنها: ذلة بعد عزة.
    ومنها: زوال أمنه وتبدله به مخافة, فأخوف الناس أشدهم إساءة.
    ومنها: نقصان رزقه, فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه.
    ومنها: ضعف بدنه.
    ومنها: حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس.
    ومنها: الطبع والرين على قلبه فإن العبد إذا أذنب نُكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب منها صُقل قلبه وإن أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أخرى ولا تزال حتى تعلو قلبه فذلك هو الران قال تعالى ﴿ {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ﴾
    ومنها: أنه يحرم حلاوة الطاعة.
    ومنها: علمه بفوات ما هو أحبّ إليه وخير له منها من جنسها, وغير جنسها, فإنه لا يجمع الله لعبده بين لذة المحرمات في الدنيا, ولذة ما في الآخرة, كما قال الله تعالى: ﴿ { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ م بِهَا } ﴾ [الأحقاف: 20] فالمؤمن لا يذهب طيباته في الدنيا, بل لا بد أن يترك بعض طيباته للآخرة, وأما الكافر فلأنه لا يؤمن بالآخرة, فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته في الدنيا.
    ومنها: علمه بأن عمله هو وليه في قبره وأنيسه فيه, شفيعه عند ربه, والمخاصم والمحاج عنه, فإن شاء جعله له, وإن شاء جعله عليه.
    ومنها: أنه بالمعصية قد تعرض لمحق بركته في كل شيءٍ من مر دنياه وآخرته, فإن الطاعة تجلب للعبد بركات كل شيء, والمعصية تمحق كل بركة.
    السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس...ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه
    السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها, وهو: ثبات شجرة الإيمان في القلب فصبر العبد على المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه.
    إذا كان للذنوب عقوبات ولا بد, فكلُّ ما عُوقب به العبدُ من ذلك قبل الموت خير له مما بعده وأيسر وأسهلُ كثيراُ.
    سلب النعم:
    الله سبحانه...يحب الجود والبذل والعطاء والإحسان أعظم مما تحب أنت الأخذ والانتفاع بما سألته, فإذا حبسه عنك فاعلم أن هناك أمرين لا ثالث لهما
    أحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك, وأنت المعوق لوصول فضله إليك, وأنت حجر في طريق نفسك, وهذا الأمر هو الأغلب على الخليقة, فإنه سبحانه قضى فيما قضى به أن ما عنده لا يُنال إلا بطاعته, وأنه ما استُجلبت نعم الله بغير طاعته, ولا استُديمت بغير شكره, ولا عُوقت وامتنعت بغير معصيته, وكذلك إذا أنعم عليك ثم سلبك النعمة فإنه لم يسلبها لبخل منه ولا استثار بها عليك, وإنما أنت السبب في سلبها عنك, فإن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم.
    {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الأنفال:53] فما أُزيلت نعمُ الله بغير معصيته:
    إذا كنت في نعمةٍ فارعها فإن الذنوب تُزيلُ النِّعم
    فآفتك من نفسك, وبلاؤك منك, وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك, وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك.
    ولو شعرت بدائك, وعلمت من أين دُهيت ومن أين أُصبت, لأمكنك تدارك ذلك

    ولكن فسدت الفطرة وانتكس القلب, وأطفأ الهوى مصابيح العلم والإيمان منه, فأعرضت عمَّن أصلُ بلائك ومصيبتك منه, وأقبلت تشكو من كلُّ إحسان دقيق أو جليل وصل إليك منه, فإذا شكوته إلى خلقه كنت كما قال بعض العارفين وقد رأى رجلاً يشكو إلى آخر ما أصابه: يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك.









    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي


    من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي (5)


    فهد بن عبد العزيز الشويرخ

    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:
    " الفوائد "
    الصبر على الشهوة أسهلُ من الصبر على ما تُوجبه الشهوةُ:
    الصبر على الشهوة أسهلُ من الصبر على ما تُوجبه الشهوةُ فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة وإما أن تقطع لذة أكمل منها, وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة, وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه, وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خيراً له من ذهابه, وإما أن تضيع قدراً وجاهاً قيامُهُ خير من وضعه, وإما أن تسلب نعمةً بقاؤها ألذُّ وأطيبُ من قضاء الشهوة...وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب الشهوة وإما أن تنسي علماً ذكره ألذُّ من نيل الشهوة وإما أن تُشمَّت عدواً وتحزن ولياً وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة وإما أن تحدث عيباً يبقي صفة لا تزول.
    أصول الخطايا:
    أصول الخطايا: الكبرُ وهو الذي أصار إبليس إلى ما أصاره والحرص وهو الذي أخرج آدم من الجنة والحسدُ وهو الذي جرَّأ أحد ابني آدم على أخيه فمن وقي شرَّ هذه الثلاثة فقد وقي الشَّرَّ فالكفر من الكِبر والمعاصي من الحرص والظلم من الحسد.
    أمور تتولد عن المعصية والغفلة عن ذكر الله:
    قلةُ التوفيق, وفسادُ الرأي, وخفاء الحق, وخُمول الذكر, وإضاعة الوقت, ونفرةُ الخلق, والوحشة بين العبد وبين ربه, ومنع إجابة الدعاء, وقسوة القلب, ومحق البركة في الرزق والعمر, وحرمان العلم, ولباس الذُّلِّ, وإدالة العدو, وضيقُ الصدر, والابتلاء بقرناء السوءِ الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت, وطول الهمَّ والغمِّ, وضنكُ المعيشة, وكسفُ البال: تتولد من المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولد الزرع عن الماء والإحراق عن النار, وأضداد هذه تتولد من الطاعة.
    آثار وثمار ترك الذنوب في الدنيا:
    لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة, وصون العرض, وحفظ الجاه, وصيانة المال الذي جعله الله قواماً لمصالح الدنيا والآخرة, ومحبة الخلق, وصلاح المعاش, وراحة البدن, وقوة القلب, وطيب النفس, ونعيم القلب, وانشراح الصدر, والأمن من مخاوف الفساق والفجار, وقلة الهمّ والغم والحزن, وعزّ النفس عن احتمال الأذى, وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية, وحصول المخرج مما ضاق على الفساق والفجار, وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسب, وتيسير ما عسُرَ على أرباب الفسوق والمعاصي, وتسهيل الطاعات عليه, وتيسير العلم, والثناء الحسن في الناس, وكثرة الدعاء له, والحلاوة التي يكتسبها وجهه, والمهابة التي تُلقى له في قلوب الناس, وانتصارهم وحميتهم له إذا أُوذي وظُلم, وذبُّهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب, وسرعة إجابة دعائه, وزوال الوحشة التي بينه وبين الله, وقُربُ الملائكة منه, وبعدُ شياطين الإنس والجن منه, وتنافس الناس في خدمته وقضاء حوائجه, وخطبتهم لمودته وصحبته, وعدم خوفه من الموت بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه, وصغرُ الدّنيا في قلبه, وكِبَرُ الآخرة عنده, وحرصُهُ على الملك الكبير والفوز العظيم فيها, وذوقُ حلاوة الطاعة, ووجدُ حلاوة الإيمان, ودعاءُ حملة العرش ومن حوله من الملائكة له, وفرحُ الكاتبين به ودعاؤُهم له كل وقت, والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته, وحصول محبة الله له وإقباله عليه وفرحه بتوبته, وهكذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجهٍ من الوجوه. فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا.
    آثار وثمار ترك الذنوب بعد الموت:
    فإذا مات تلقّته الملائكةُ بالبشرى من ربه بالجنة, وبأنه لا خوف عليه ولا حُزن, وينتقل من سجن الدنيا وضيقها, إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة.
    فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحرِّ والعرَقِ, وهو في ظلِّ العرش.
    فإذا انصرفوا من بيدي الله أخذ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين.
    و {ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]
    فوائد متفرقة:
    & لولا تقدير الذنب هلك ابن آدم من العجب.
    & دخل الناس النار من ثلاثة أبواب باب شبهةٍ أورثت شكّاً في دين الله وباب شهوةٍ أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته, وباب غضب أورثت العدوان على خلقه.
    & للعبد ستر بينه وبين الله, وستر بينه وبين الناس, فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله, هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس.
    & اللذة المحرمة ممزوجة بالقبح حال تناولها, مُثمرة للألم بعد انقضائها, فإذا اشتدت الداعية منك إليها ففكِّر في انقطاعها وبقاء قبحها وألمها, ثم وزان بين الأمرين, وانظر ما بينهما من التفاوت.
    & أصول المعاصي كلها – كبارها وصغارها- ثلاثة: تعلق القلب بغير الله, وطاعة القوة الغضبية, والقوة الشهوانية. وهي: الشرك, والظلمُ, والفواحش.
    & كلما كان القلب أضعف توحيداً وأعظم شركاً كان أكثر فاحشةً وأعظم تعلقاً بالصور وعشقاً لها.
    & كيف يكون عاقلاً من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة ؟!
    " مفتاح دار السعادة "

    & قال السدي: كلُّ من عصى الله فهو جاهل.
    & قال بشر: لو فكر الناس في عظمة الله ما عصوه.
    & من بنى أمره على أن لا يعف عن ذنب, ولا يقدم خوفاً, ولا يدع لله شهوةً وهو فرح مسرور يضحك ظهراً لبطن إذا ظفر بالذنب, فهذا الذي يُخافُ عليه أن يحال بينه وبين التوبة, ولا يوفق لها.
    & كمال الآدمي في هذه الدار بالتوبة النصوح, وفي الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنة, وهذا الكمال مرتب على كماله الأول.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي

    من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي (6)


    فهد بن عبد العزيز الشويرخ



    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:


    " الداء والدواء "
    مفسدة الزنا:
    كم في الزنى من استحلال محرمات, وفوات حقوق, ووقوع مظالم.
    ومن خاصيته: أنه يوجب الفقر, ويقصر العمر, ويكسو صاحبه سواد الوجه, وثوب المقت بين الناس...ويشتت القلب, ويُمرضه إن لم يمته, ويجلب الهم والحزن والخوف, ويباعد صاحبه من الملك, ويقرب منه الشيطان.
    الجرأة على معاصي الله من أسباب سوء الخاتمة:
    قال الحافظ أبو محمد عبدالحق بن عبدالرحمن الأشبيلي رحمه الله: واعلم أن لسوء الخاتمة – أعاذنا الله منها – أسباباً, ولها طرق وأبواب, أعظمها: الاكباب على الدنيا, والإعراض عن الأخرى, والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل, وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة, ونوع من المعصية, وجانب من الإعراض, ونصيب من الجرأة والإقدام, فملك قلبه, وسبي عقله, وأطفأ نوره, وأرسل عليه حجبه, فلم تنفع فيه تذكرة, ولا نجعت فيه موعظة, فربما جاءه الموت على ذلك.
    وقال: واعلم أن سوء الخاتمة – أعاذنا الله منها – لا تكون لمن استقام ظاهره, وصلح باطنه, ما سمع بهذا ولا علم به, ولله الحمد, وإنما تكون لمن له فساد في العقيدة, أو إصرار على الكبائر, وإقدام على العظائم, فربما غلب ذلك عليه, حتى ينزل به الموت قبل التوبة, فيأخذه قبل إصلاح الطوية, ويُصطلم قبل الإنابة, فبظفر به الشيطان عند تلك الصدمة, ويختطفه عند تلك الدهشة, والعياذ بالله.
    مفسدة اللواط:
    في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر والتعداد, ولأن يقتل المفعول به خير له من أن يؤتى, فإنه يفسد فساداً لا يرجي له بعده صلاحاً أبداً, وبذهب خيره كله, وتمُص الأرض ماوية الحياء من وجهه, فلا يستحي بعد ذلك لا من الله ولا من خلقه, وتعمل في قلبه وروحه نطفة الفاعل ما يعمل السم في البدن.
    عقوبة اللوطية:
    قلب الله سبحانه عليهم ديارهم, فجعل عاليها سافلها, فجعلهم آيةً للعالمين وموعظة للمتقين ونكالاً وسلفاً لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين. أخذهم على غرة وهم نائمون, وجاءهم بأسُه وهم في سكرتهم يعمهون, فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون, فانقلبت تلك اللذات آلاماً فأصبحوا بها يعذبون...ذهبت اللذات, وأعقبت الحسرات, وانقضت الشهوة, وأورثت الشقوة, تمتعوا قليلاً وعذبوا طويلاً, رتعوا مرتعاً وخيماً, فأعقبهم عذاباً أليماً, أسكرتهم خمرة تلك الشهوة, فما استفاقوا منها إلا في ديار المعذبين, وأرقدتهم تلك الغفلة فما استيقظوا إلا وهم في منازل الهالكين, فندموا والله أشد الندامة حين لا ينفع الندم وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم
    العشق الداء العضال والسم القاتل:
    هذا داء أعيا الأطباء دواؤه, وعزّ عليهم شفاؤه, وهو – لعمر الله – الداء العضال, والسم القاتل, الذي ما عَلِقَ بقلب إلا عزّ على الورى استنفاذه من إساره, ولا اشتعلت ناره في مهجة إلا صعب على الخلق تخليصها من ناره.
    العشق الشركي الكفري:
    وهو أقسام: فإنه تارة يكون كفراً, كمن اتخذ معشوقه نداً يحبه كما يحبّ الله, فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه؟ فهذا عشق لا يغفر لصاحبه, فإنه من أعظم الشرك, والله لا يغفر أن يشرك به, وإنما يُغفر بالتوبة النصوح.
    علامة العشق الشركي الكفري:
    وعلامة هذا العشق الشركي الكفري أن يقدم العاشق رضا معشوقه على رضا ربه, وإذا تعارض عنده حق معشوقه وحظه وحق ربه وطاعته قدم حقَّ معشوقه على حق ربه, وآثر رضاه على رضاه, وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه, وبذل لربه – إن بذل – أردأ ما عنده, واستفرغ وسعه في مرضاة معشوقه وطاعته والقرب إليه, وجعل لربه – إن أطاعه – الفضلة التي تفضل عن معشوقه من ساعاته.
    دواء هذا الداء القتّال:
    دواء هذا الداء القتّال: أن يعرف ما ابتلي به من الداء المضاد للتوحيد أولاً, ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بما يشغل قلبه عن دوام الفكرة فيه, ويكثر اللجأ والتضرع إلى الله سبحانه في صرف ذلك عنه وأن يراجع بقلبه إليه.
    وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه {كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:34] فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه, فإن القلب إذا خلص وأخلص عمله لله, لم يتمكن منه عشق الصور.
    عشق المردان:
    عشق هو مقت من الله, وبعد من رحمته, وهو أضر شيء على العبد في دينه ودنياه, وهو عشق المردان, فما ابتلي به إلا من سقط من عين الله, وطرده من بابه, وأبعد قلبه عنه, وهو من أعظم الحجب القاطعة عن الله, كما قال بعض السلف: إذا سقط العبد من عين الله ابتلاه بمحبة المردان.
    دواء هذا الداء الدوي:
    ودواء هذا الداء الدوي: الاستعانة بمقلب القلوب, وصدق اللجأ إليه, والاشتغال بذكره, والتعوض بحبه وقربه, والتفكر في الألم الذي يُعقِبه هذا العشق, واللذة التي تفوته به, فيترتب عليه فوات أعظم محبوب, وحصول أعظم مكروه, فإن أقدمت نفسه على هذا وآثرته فليكبر عليها تكبيره على الجنائز وليعلم أن البلاء قد أحاط به
    مقامات العاشق:
    العاشق له ثلاث مقامات: مقام ابتداء ومقام توسط ومقام انتهاء. فأما مقام ابتدائه فالواجب عليه فيه مدافعته بكل ما يقدر عليه إذا كان الوصول إلى معشوقه متعذراً قدراً أو شرعاً فإن عجز عن ذلك وأبى قلبه إلا السفر إلى محبوبه وهذا مقام التوسط والانتهاء فعليه كتمان ذلك وأن لا يفشيه إلى الخلق, ولا يشبب بمحبوبه ويهتكه بين الناس, فيجمع بين الشرك والظلم, فإن الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم.
    أسباب العشق:
    أول أسباب العشق الاستحسان, سواء تولد عن نظر أو سماع, فإن لم يقارنه طمع في الوصال, وقارنه الإياس من ذلك, لم يحدث له العشق, فإن اقترن به الطمع, فصرفه عن فكره, ولم يشتغل قلبه به, لم يحدث له ذلك.
    فإن أطال مع ذلك الفكر في محاسن المعشوق, وقارنه خوف ما هو أكبر عنده من لذة وصالة: إما خوف ديني كدخول النار, وغضب الجبار, واحتقاب الأوزار, وغلب هذا الخوف على ذلك الطمع والفكر, لم يحدث له العشق.
    فإن فاته هذا الخوف, فقارنه خوف دنيوي, كخوف تلاف نفسه وماله, وذهاب جاه وسقوط مرتبته عند الناس, وسقوطه من عين من يعز عليه, وغلب هذا الخوف لداعي العشق دفعه.
    وكذلك إذا خاف من فوات محبوب هو أحب إليه وأنفع له من ذلك المعشوق, وقدم محبته على محبة المعشوق, اندفع عنه العشق.
    مفاسد العشق:
    ليعلم العاقل أن العقل والشرع يوجبان تحصيل المصالح وتكميلها, وإعدام المفاسد وتقليلها ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينيه ولا دنيوية, بل مفسدته الدينية والدنيوية أضعاف أضعاف ما يقدر فيه من المصلحة, وذلك من وجوه:
    أحدها: الاشتغال بحب المخلوق وذكره عن حب الرب تعالى وذكره.
    الثاني: عذاب قلبه بمعشوقه, فإن من أحبّ شيئاً غير الله عُذب به, ولابد.
    الثالث: أن العاشق قلبه أسير في قبضة معشوقة, يسومه الهوان, ولكن لسكرة العشق لا يشعر بمصابه.
    الرابع: أنه يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه, فليس شيء أضيع لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور.
    الخامس: أن آفات الدنيا والآخرة أسرع إلى عشاق الصور من النار في يابس الحطب...فأبعد القلوب من الله قلوب عشاق الصور, وإذا بعد القلب من الله طرقته الآفات من كل ناحية.

    السادس: أنه إذا تمكن من القلب واستحكم وقوى سلطانه, أفسد الذهن, وأحدث الوسواس, وربما التحق بالمجانين الذين فسدت عقولهم فلا ينتفعون بها...وهل أذهب عقل مجنون ليلي وأضرابه إلا العشق ؟
    السابع: أنه ربما أفسد الحواس أو بعضها إما فساداً معنوياً أو صورياً,
    أما الفساد المعنوي فهو تابع لفساد القلب, فإن القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان فيرى القبيح حسناً منه ومن معشوقه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي

    من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي (7)


    فهد بن عبد العزيز الشويرخ

    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:
    " الداء والدواء "
    كل شر وداء في الدنيا والآخرة سببه الذنوب:
    مما ينبغي أن يعلم أن الذنوب تضر ولا بد, وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان, على اختلاف درجاتها في الضرر, وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي ؟
    من عقوبات الذنوب المعاصي:
    حرمان العلم, وحرمان الرزق, ووحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله, ووحشة التي تحصل بينه وبين الناس ولاسيما أهل الخير منهم, وتعسير أموره عليه, ووهن القلب والبدن, وحرمان الطاعة, وتزرع أمثالها ويولد بعضها بعضاً, وينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة, وسبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه, وتورث الذلَّ ولا بدَّ فإن العزَّ كل العزِّ في طاعة الله تعالى, وتطفئ من القلب نار الغيرة, وذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب, وتستدعى نسيان الله لعبده, وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه, وهناك الهلاك الذي لا يُرجي معه نجاة, ومن أقوى الأسباب لزوال نعم الله وتحول عافيته وفجاءة نقمته وجميع سخطه وتمحق بركة العمر وبركة الرزق فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله, وتُجرّئ على العبد من لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات, فيجترئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء والوسوسة والتخويف والتحزين....ويجتر ئ عليه شياطين الإنس بما تقدر عليه من أذاه في غيبته وحضوره, وتجترئ عليه نفسه, فتتأسد عليه وتستصعب عليه, فلو أرادها لخير لم تطاوعه, ولم تنقد له, وتسوقه إلى ما فيه هلاكه, شاء أم أبى.
    الذنب لا يخلو من عقوبة ألبتة:
    الذنب لا يخلو من عقوبة ألبتة ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبة لأنه بمنزلة السكران والمخدر والنائم الذي لا يشعر بالألم فإذا استيقظ وصحا أحسَّ بالمؤلم
    العقوبة قد تقع مع الذنب وقد تتأخر عنه قليلاً:
    قد تقارن المضرة للذنب, وقد تتأخر عنه يسيراً وإما مدة, كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه, وكثيراً ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام, ويذنب الذنب فلا يرى أثره عقيبه, ولا يدري أنه يعمل عمله على التدرج شيئاً فشيئاً, كما تعمل السموم والأشياء الضارة حذو القُذة بالقذة, فإن تدارك العبد بالأدوية والاستفراغ والحمية وإلا فهو صائر إلى الهلاك, هذا إذا كان ذنباً واحداً لم يتداركه بما يزيل أثره, فكيف بالذنب على الذنب كل يوم وكل ساعة ؟ والله المستعان.
    استحضر بعض عقوبات الذنوب ليكون ذلك داعياً إلى هجرانها
    استحضر بعض العقوبات التي رتبها الله سبحانه على الذنوب وجوز وصول بعضها إليك واجعل ذلك داعياً للنفس إلى هجرانها منها: المعيشة الضنك في الدنيا, وفي البرزخ, والعذاب في الآخرة, قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} [طه:124] فالمعرض عنه له ضنك المعيشة بحسب إعراضه, وإن تنعم في الدنيا بأصناف النعيم, ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه, وإنما يواريه عنه سكر الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة., فالمعيشة الضنك لازمه لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في دنياه, وفي البرزخ, ويوم معاده.
    طيب النفس وسرور القلب في عافيته من الشهوات المحرمة:
    إن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته من الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة, هو النعيم على الحقيقة.
    من آفات النظر:
    أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات فيرى العبد ما ليس قادراً عليه ولا صابراً عنه وهذا من أعظم العذاب, أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه, ولا قدرة لك على بعضه
    حركة اللسان تدل على ما في القلب:
    إذا أردت أن تستدل على ما في القلب فاستدل عليه بحركة اللسان, فإنه يُطلعُ ما في القلب, شاء صاحبه أم أبى.
    حفظ اللفظات:
    وأما اللفظات فحفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة, بل لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه, فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل فيها ربح وفائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها فائدة أمسك عنها, وإن كان فيها ربح نظر: هل يفوته بها كلمة هي أربح منها, فلا يضيعها بهذه.
    ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك, ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه, حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة, وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله, لا يلقى لها بالاً, يزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب, وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم, ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات, ولا يبالي بما يقول.
    أقسام الذنوب
    الذنوب تنقسم إلى أربعة أقسام : مَلَكيّة, وشيطانية, وسبعيه, وبهيمية, ولا تخرج عن ذلك :
    فالذنوب الملكية: أن يتعاطى ما لا يصلح له من صفات الربوبية كالعظمة, والكبرياء, والجبروت, والقهر, والعلو, واستعباد الخلق, ونحو ذك, ويدخل في هذا الشرك بالرب تعالى...وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب....فمن كان من أهل هذه الذنوب فقد نازع الله سبحانه ربوبيته وملكه, وجعل له نداً, وهذا أعظم الذنوب عند الله, ولا ينفع معه عمل.
    وأما الشيطانية: فالتشبه بالشيطان في الحسد, والبغي, والغش والغل, والخداع, والمكر, والأمر بمعاصي الله وتحسينها, والنهي عن طاعته, وتهجينها, والابتداع في دينه, والدعوة إلى البدع والضلال, وهذا النوع يلي النوع الأول في المفسدة.
    وأما السبعية: فذنوب العدوان والغضب وسفك الدماء والتوثب على الضعفاء والعاجزين ويتولد منها أنواع أذى النوع الإنساني والجرأة على الظلم والعدوان.
    وأما الذنوب البهمية: فمثل الشَّره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج, ومنها يتولد الزنى, والسرقة, وأكل أموال اليتامى, والبخل والشح, والجبن ,والهلع, والجزع, وغير ذلك.
    وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية, ومنه يدخلون إلى سائر الأقسام, فهو يجرهم إليها بالزمام, فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية, ثم إلى الشيطانية, ثم إلى منازعة الربوبية والشرك في الوحدانية.
    من أضرار الذنوب والمعاصي:
    مما ينبغي أن يعلم أن الذنوب تضر ولا بد, وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان, على اختلاف درجاتها في الضرر, وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي ؟
    فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب ؟
    وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء, وطرده ولعنه, ومسخ ظاهره وباطنه, فجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها, وباطنه أقبح من صورته وأشنع ؟
    وما الذي غرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال ؟
    وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض, كأنهم أعجاز نخل خاوية....حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة ؟
    وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم, وماتوا عن آخرهم ؟
    وما الذي رفع قوى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبح كلابهم, ثم قلبها عليهم, فجعل عاليها سافلها, فأهلكهم جميعاً....وما هي من الظالمين ببعيد.
    وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل, فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظي ؟
    وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر, ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنم, فالأجساد للغرق, والأرواح للغرق.
    وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله ؟
    ومن عقوباتها: أنها تستجلب مواد هلاك العبد في دنياه وآخرته.
    فإن الذنوب هي أمراض متى استحكمت قتلت, ولا بد, وكما أن البدن لا يكون صحيحاً إلا بغذاءٍ يحفظ قوته, واستفراغ يستفرغ المواد الفاسدة, والأخلاط الرديئة التي متى غلبت عليه أفسدته, وحمية يمتنع بها من تناول ما يؤذيه ويخشى ضرره, فكذلك القلب لا تتم حياته إلا بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة يحفظ قوته, واستفراغ بالتوبة النصوح يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة منه, وحمية توجب له حفظ الصحة, وتجنب ما يضادها...والتقوى اسم متناول لهذه الأمور الثلاثة, فما فات منها فات من التقوى بقدره.
    ومنها: أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف, وتكسوه أسماء الذمِّ والصّغار, فتسلبه اسم المؤمن, والمتقي, والمطيع,...وتكسوه اسم الفاجر, والعاصي, والمفسد.
    ومنها: أنها توجب القطيعة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى, وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير, واتصلت به أسباب الشر.
    ومن عقوباتها: أنها تنسي العبد نفسه, فإذا نسي نفسه أهملها وأفسدها وأهلكها...فينسي أسباب سعادتها وفلاحها وصلاحها وما تكمل به...وينسى عيوب نفسه ونقصها وآفاتها, فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها...وينسى أمراض نفسه وقلبه وآلامها فلا يخطر بقلبه مداوتها ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها.
    ومن عقوباتها : أنها تزيل النّعم الحاضرة وتقطع النعم الواصلة فتزيل الحاصل وتمنع الواصل فإن نعم الله ما حُفظ موجودها بمثل طاعته, ولا استجلب مفقودها بمثل طاعته...فإذا أراد الله حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها.
    ومنها: أنها تصغر النفس وتقمعها وتحقرها, حتى تصير أصغر شيء وأحقره, كما أن الطاعة تنميها وتزكيها وتكبرها.
    ومنها: أن العاصي دائماً في أسر شيطانه, وسجن شهواته, وقيود هواه, فهو أسير مسجون مقيد, ولا أسير أسوأ حالاً من أسير أسره أعدى عدو له.
    ومنها: سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه.
    ومن عقوباتها : أنها تباعد عن العبد وليه, وأنفع الخلق له, وأنصحهم له, ومن سعادتُه في قربه منه, وهو الملك الموكّل به, وتُدني منه عدوه, وأغشَّ الخلق له, وأعظمهم ضرراً له, وهو الشيطان, فإن العبد إذا عصى الله تباعد منه الملك بقدر تلك المعصية, حتى أنه يتباعد عنه بالكذبة الواحدة مسافة وحيدة.

    وإذا اشتد قرب الملك من العبد تكلم على لسانه وألقى على لسانه القول السديد وإذا بعد منه وقرب منه الشيطان تكلم على لسانه, وألقى عليه قول الزور والفحش, حتى ترى الرجل يتكلم على لسانه الملك, والرجل يتكلم على لسانه الشيطان.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •