إضاءة الحالك ببيان أن كثيراً مما يظن خلاف مذهب الإمام مالك ليس كذلك
قال مالك : « إذا صح الحديث ، فهو مذهبي » .
إنَّ الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيِّئات أعمالنا . من يهده الله ، فلا مضلّ له ؛ ومن يضلل ، فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله .
ﭧ ﭨ ﭽ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭼ[ آل عمران : 102 ] .وقال جل شأنه ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭼ[ النساء : 1 ]. وقال أيضا ﭽ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﭼ [ الأحزاب : 70-71 ] .
أما بعد : فإنَّ أحسنَ الكلام كلام الله تعالى ، وخيرَ الهدي هديُ محمَّد × ؛ وشَرَّ الأمور محدثاتها ، وكُلَّ محدثة بدعة ، وكُلَّ بدعة ضلالة ، وكُلَّ ضلالة في النَّار .
وبعدُ ؛ فإنَّ الله تعالى إذا أراد بمن شاء من عباده خيراً فَقَّههم في الدين ([1]) ، وآتاهم الحكمة ([2]) ، وأعمر قلوبهم باليقين .
وإذا تحدَّثنا عن هذه الثُلَّة المباركة ، فلا شك أن إمام دار الهجرة : مالك بن أنس الأصبحي - رحمه الله وبَلَّل بالمغفرة ثراه - سيكون في طليعتها، وعلى رأس قائمتها .
هذا الإمام الذي وُضع له القبول في الأرض ، والمحبة في قلوب الخلق. فانتفع بعلمه ملايين من المسلمين في مختلف الأمصار والأعصار، وأجمَعت الأمة على إمامته؛ فكان من ثمرته حَبران جليلان من أكثر أحبار هذه الأمة أتباعاً : تلميذه النَّجيب الإمام الشافعي ([3]) ، وتلميذ تلميذه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ([4]) .
ومن أنعم النَّظر في مَذهَبَي هذين الإمامين ؛ رأى أنهما سارا على خطى مالك ، وأن الفتوى عندهما على مذهبه، إلا أن يضطرا لمخالفته ([5]) ؛ حيث يثبت في المسألة الأثر ، أو يكون فيها مسرح للنظر .
وقديماً قيل :
وَلَيسَ كُلُّ خِلاَفٍ جَاءَ مُعتبَرَاً إِلاَّ خِلاَفٌ لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظـَــرِ
وقد كانت هذه ولا تزال هي سنة العلماء العاملين من السَّابقين واللاَّحقين - من علمـاء المغرب والمشرق - على مر السنين .
والإمام مالك إمام مُتَّبعٌ ليس في الفقه وحده ، بل وفي الحديث أيضا ؛ فقد قال الإمام الشافعي عنه : «إذا ذُكر العلماء، فمالك النجمُ» ؛ كأنه – رحمه الله – يُشير إلى قوله تعالى ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭼ [النحل: ١٦] . فمن أنعم النظر في دواوين الحديث المعتمدة كالصحيحين وغيرهما مما رتب على أبواب الفقه ، لم يُلفها إلا سائرة على خطى الموطأ ، شارحة له ، مُستدركة لما قد فاته .
فلا جرم ، إذن ، أن تكون السنة شعار هذا الإمام الهُمام ، والأثر دثاره ؛ فلا تقع المخالفة منه لهما إلا باجتهاد سائغ، إما في الرواية وإما في الدراية ، ولا ينبغي أن يُظن بمثله غير ذلك .
وعليه ؛ فقد أجريت القلم بهذه السطور ، ونبهت على مسائل - هي في الواقع غيضٌ من فيض - يَكثُر النَّكير من قِبل الجماهير على من عمل بها أو أفتى ، مع أنها من صميم مذهب الإمام مالك . وقد وَثَّقت بحثي هذا بالعزو إلى الموطَّأ ، والمُدَوَّنة ([6]) ، والرِّسالة ، ومختصر خليل وشروحها والحواشي عليها ، ومجموعة من تآليف كبراء الأئمة ممَّن تَفَقَّه على مذهب الإمام مالك . وأخليت المقام من التعليقات ، واكتفينا بالعزو إلى الأجزاء والصفحات حتى ينبعث من شاء من القراء إلى البحث والكشف ، ومراجعة أمهات الكتب .
وقدمت لبحثي هذا بترجمة لإمام دار الهجرة ، ونجم العلماء : الإمام مالك - جزاه الله تعالى عن الإسلام وأهله خير الجزاء - . فإن عدداً كبيراً وجمهوراً غفيراً لم تطرق أسماعهم أخبار هذا الإمام إلا لماماً .
هذا ؛ ونسأل الله تعالى أن يجعل هذه الكلمات كالغيث حيثما وقع نفع، وأن يكتب لنا بها رضوانه، وأن يجعلها لنا لا علينا .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
([1]) كما في (( الموطأ )) (1599) من حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله تعالى عنهما - قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من يرد الله به خيراً ، يفقهه في الدين » .
راجع : (( التمهيد )) (23/78-85) ، و(( شرح الزرقاني )) (4/311-312)، و(( نوادر الأصول )) (4/58-66) ، (( فتح الباري )) (1/161-164) ، و(( فيض القدير )) (1/259،2/511،6/242-243) .
([2]) قال تعالى {يؤت الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} [البقرة : 269 ] . قال الإمام مالك : « الحكمة المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له » . (( تفسير القرطبي )) (3/330) .
([3]) قال الإمام الشافعي : « مالكٌ مُعَلِّمي وعنه أخذت العلم » . (( السير )) (8/75) .
([4]) قال عبد السلام بن عاصم : « قلت لأحمد بن حنبل : رجل يحب أن يحفظ حديث رجل بعينه ؟ قال : يحفظ حديث مالك ! قلت: فرأي ؟ قال : رأي مالك ! » . (( السير )) (8/111) .
([5]) وهذه المخالفة ، وإن كانت في الظاهر مفارقة ، إلا أنها في الباطن عين الموافقة ؛ فقد كان الإمام مالك يقول : « كُلُّ أحدٍ يؤخذ من قوله ويرد ، إلا صاحب هذا القبر - يعني : النبي صلى الله عليه وسلم - » .
([6]) أصل المدونة أسئلة سألها أسدٌ بن الفرات لابن القاسم - وهي المعروفة بـ : “الأسدية” -؛ فلما ارتحل سَحنون - بفتح السين وبضمها - بها عرضها على ابن القاسم فأصلح فيها كثيرا وأسقط .
ثم رَتَّبها سُحنون وبَوَّبها واحتَجَّ لكثير من مسائلها بالآثار من مَروِيَّاته ، مع أن فيها أشياء لا ينهض دليلها بل رأي محض . وحكوا أن سَحنون في أواخر الأمر عَلَّم عليها وهَمَّ بإسقاطها ، وتهذيب المدونة ؛ فأدركته المَنِيَّة - رحمه الله - . فكُبَراء المَالِكية يَعرفون تلك المسائل ويُقَرِّرون منها ما قَدِروا عليه ويُوَهِّنون ما ضَعُف دليله .
= وهي من أَجَلِّ الكتب في مذهب مالك ، ومن كنوز ما نقل كبار أصحاب مالك عنه ، وهي عند أصحاب مالك ككتاب (( الأم )) عند أصحاب تلميذه الشافعي ؛ لذلك اعتنى بها العلماء شرحاً وتهذيباً واختصاراً وتعليقاً .
وانظر : (( السير )) (10/226،12/68) ، و(( أدب المفتي والمستفتي )) (ص83) ، و(( كشف الظنون )) (2/1644) .