بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله

الإسناد من خصائص هذه الأمة المحمدية:
وصدق ابن سيرين-رحمه الله تعالى، ونفعنا بعلومه-في قوله: (إن هذا الأمر دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم)
[1]. وفي رواية: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم).
ولا يلتفت إلى من رفع هذا الأثر إلى رسول الله-صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-فإنه لم يثبت عنه-صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-
[2].
فكن حذراً من هؤلاء الرّفاعين بجميع أصنافهم وأشكالهم قديماً وحديثاً ولذا قال ابن المبارك-رحمه الله تعالى-: (الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء)
[3].
وروى الخطيب البغدادي-رحمه الله تعالى، ونفعنا بعلومه-
[4] في ترجمة: (أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الأمين البخاري) بسنده إلى تلميذ عبد الله بن المبارك: عبدان، قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: (الإسناد عندي من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء: ما شاء، ولكن إذا قيل له: من حَدَّثك؟ بَقي! (أي: بقي ساكتاً مُفْحَماً).
قال عبدان-رحمه الله-: ذكر–أي: شيخه ابن المبارك-هذا عند الزنادقة وما يضعون من الأحاديث). وقد ذكر الحاكم في كتابه (معرفة علوم الحديث)
[5]-بعد كلام ابن المبارك السابق-ما نصه: (فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له، وكثرة مواظبتهم على حفظه، لدَرس منارُ الإسلام، وتمكن أهل الإلحاد والبدع منه، بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرّت عن وجود الإسناد فيها كانت بُتْراً). وقال أبو نصر بن سَلاَم-رحمه الله تعالى-: (ليس شيء أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث، وروايته، وإسناده). كذا ذكره صاحب (الخلاصة)[6].
قال علي القاري في: (شرح شرح النخبة)
[7]: (ثم اعلم أن أصل الإسناد خَصِيصَة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة، بل: من فروض الكفاية... قال الثوري: (الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح لم يقدر أن يقاتل).
وقال مطر: في قوله تعالى: (أوْ أثارة من علم)
[8]. (أي: إسناد الحديث). ثم قال: (وأما ما قاله بعضُ أكابر الصوفية من أن حدثنا، باب من أبواب الدنيا، فمحلّه إذا كان الغرض منه حصول غرض دنيّ أو: غرض دنيوي). كذا قال.
والصواب أن يقال: فمحلّه الجهل بعلم الإسناد، ولا سيما والصوفية يرون أن من يطلب العلم لن يفلح أبداً..).
هذا، وقد استفرغ أئمتنا: (جهدهم في البحث والغوص عن معرفة حال الرواة جرحاً وتعديلاً، وبيان حيثياتهم ووفياتهم، وعن المروي قبولاً ورداً، تصحيحاً وتضعيفاً)
[9].
سُلَّمُ الحديث الإسناد، وطلبه دين:
قال الزمخشري-رحمه الله-في كتابه: (نوابغ الكلم): (مجد التاجر في كيسه، ومجد العالم في كراريسه)
[10]. و(روى الإمام أحمد عن جابر بن نوح، عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي قال: (إنما سئل عن الإسناد أيام المختار)-المختار بن عبيد بن مسعود الثقفي، كذاب. توفي سنة (67هـ)[11]-.
قال الإمام ابن حزم-رحمه الله-في: (المحلى)
[12]: (الحمد لله الذي جعل الإسناد في ديننا فصلاً بين الحق والكذب).
وقال ابن سيرين-رحمه الله-: (يا معشر الشباب، انظروا عمن تأخدون هذه الأحاديث، فإنها دينكم)
[13]. قال أبو سعيد الحداد-رحمه الله-: (السند مثل الدرج والمراقي فإذا زلت رجلك من المراقي سقطت). وقال ابن المبارك-رحمه الله-: (مثل الذي يطلب أمر دينه بلا سند كمن يرتقي إلى سطح بغير سُلَّم). وقال أيضاً: (طلب الإسناد من الدين).
علو الإسناد قربة إلى الله، وهو سلاح المؤمن:
وقال الإمام أحمد بن حنبل-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-: (طلب علو الإسناد من الدين).
وقال أيضاً-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-: (طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف).
وقال محمد بن أسلم الطوسي-رحمه الله تعالى-: (قرب الإسناد قربة إلى الله عز وجل وإلى رسول الله-صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-).
قال الإمام سفيان الثوري-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-: (الإسناد سلاح المؤمن).
قال النووي-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-: (فإن لم يكن معه سلاح فبم يقاتل؟).
وقال محمد بن حاتم المظفر-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-: (إن الله قد أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس ذلك لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها).
قال النووي: (وهي–أي: الأسانيد-من المطلوبات والنفائس الجليلات التي تنبغي للفقيه والمتفقه معرفتها، وتقبُح جهالتها، فإن شيوخه في العلم آباء في الدين وَوَصلة بينه وبين رب العالمين).
أجنحة هذا الدين هو الإسناد:
قال يزيد بن زُريع-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-: (لكل دين فرسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد –رضي الله عنهم-هم القوم كمَّل الله بهم النعماءَ)
[14].
وقال الشافعي-رحمه الله، ونفغنا بعلومه-: (مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد كمثل حاطب ليل).
وفي (تاريخ) الحاكم عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-قال: (كان عبد الله ابن طاهر إذا سألني عن حديث فذكرته له بلا إسناد، سألني عن إسناده، ويقول: رواية الحديث بلا إسناد من عَمَل الزَّمْنَى-المرضى-فإن إسناد الحديث كرامة من الله تعالى لأمة سيدنا محمد-صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-)–وعبد الله بن طاهر… هذا أمير خراسان، كان ملكاً مطاعاً سائساً مهيباً جواداً مُمَدحاً كما في تاريخ الطبري
[15]-وقال بقية: (ذَاكَرْتُ حماد بن زيد بأحاديث فقال: ما أجودَها لو كان لها أجنحة)–يعني لو كان لها إسناد-[16].
وقال الحاكم-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-: (لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد لدَرَس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والمبتدعة من وضع الأحاديث وقلْب الإسناد).
وقال سفيان الثوري-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-: (الإسناد زين الحديث فمن اعتنى به فهو السعيد)
[17]؟.
وقال الحافظ ابن حجر-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-في أول (الفتح): (سمعت بعض الفضلاء يقول: الأسانيد أنساب الكتب).
وقال ابن حجر الهيتمي-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-: (ولكون الإسناد به يعرف الموضوع من غيره كانت معرفتُه من فروض الكفاية).
وقال ابن حزم-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-في كتابه (الفصل)
[18]: (نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي-صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-مع الاتصال شيء خص الله به المسلمين دون سائر المِلل). وقال أبو حاتم الرازي-رحمه الله تعالى-: (لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أُمناء يحفظون آثار الرسل إلا هذه الأمة).
وقال أبو بكر محمد ابن أحمد البغدادي: (بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء، لم يعطها من قبلها من الأمم:
1-الإسناد.
2-والأنساب.
3-والإعراب).
وقال شهاب الدين القسطلاني-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-عن الإسناد: (وهو خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنة المؤكدة). وقال الحطاب في (شرح المختصر): (الإسناد خصيصة لهذه الأمة شرفها الله به)
[19].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-في (منهاج السنة)
[20]: (الإسناد من خصائص هذه الأمة، وهو من خصائص الإسلام، ثم هو في الإسلام من خصائص أهل السنة، والرافضة من أقل الناس عناية به، إذ كانوا–ولا زالوا-لا يصدقون إلا بما يوافق أهواءهم، وعلامة كذبه أنه يخالف هواهم ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي: أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم).
وصدق من قال:
إن الــــذي يــــروي ولــــكنه * يجهـــــــل ما يروي ومـــــا يكتب
كصخـــــــــرة تَنْبُعُ أمواههَا * تسقي الأراضي وهي لا تشربُ
[21]
وأخرج مسلم-رحمه الله تعالى، ونفغنا بعلومه-في (مقدمة صحيحه) (بسند حسن) عن ابن سيرين قال: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم: فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم).
وفي قبول رواية المبتدع كلام طويل ليس هذا محله وإن كان الراجح قبولها، ولو كان الراوي داعية إلى بدعته فهذا أبو يحيى عبد الرحمن الحماني داعية الإرجاء
[22] روى عنه البخاري في: (صحيحه)، وروى عنه مسلم في (المقدمة).
وروى البخاري أيضاً عن داعية الخوارج عمران بن حِطان، وكذا روى عن غيرهما من الدعاة فدل ذلك كله على قوة القول بالقبول حتى في الداعية المتصف بالديانة والصدق. قال الآمدي في (أحكامه): (قبول رواية المبتدع الذي يحرم الكذب هو قول الشافعي وأصحابه وأكثر الفقهاء وكثير من الأصوليين). قال أبو داود: (ليس في أهل الأهواء أصح حديثاً من الخوارج، ثم ذكر عِمران بن حطان، وأبا حسان الأعرج)
[23]. قال الأوزعي: (ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد)[24].
المستهزيء بالإسناد أكفر من اليهود والنصارى:
وقد سخر بعض الملحدين بالسند قائلاً: (حدثنا محبط عن محبط عن جاهل)، وقالوا أيضاً: (حدثنا الشيخ إمام عن صالح بن عبد الحي عن سيد بن درويش عن أبيه عن جده).
واستهزءوا بأبي ذر الغفاري حيث قالوا: (عادل إمام مثل أبي ذر الغفاري، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث يوم القيامة وحده). هكذا يُشبَّه رمز من رموز العفن الفني وأصحاب السقوط الأخلاقي وسفلة الناس والمغفلين بأصحاب رسول الله الأبرار الأطهار؟!.
ويقول مسيلمة العصر، ونبي الصحراء منكراً السنة النبوية جملة وتفصيلاً"…":
(محمد نبي ليس عنده حديث ولا شعر ولا فلسفة، بل: لديه رسالة جاء يبلغها وهي القرآن. ماذا القرآن؟ اذهبوا إلى بيوتكم وتصفحوا القرآن مع أولادكم وتقيدوا بما جاء فيه فالقرآن عبارة عن أوامر ونـواهٍ، إذا أتى واحد وقال لنا: إن حديث النبي لا بد أن تقدسوه وتعملوا به مثل القرآن فهذا شرك وهذا الكلام ربما يكون غريباً، والسبب أننا في هذه المرحلة ابتعدنا كثيراً عن الإسلام ونحن في طريقنا إلى عبادة الأوثان والابتعاد عن القرآن وعن الله، ولا يوجد طريق يجعلنا نبتعد عن عبادة الأوثان، وعن الانحراف الخطير إلا طريق التمسك بالقرآن وعبادة الله فقط). وقال: (ولا نستطيع مثلما تأتي لنا بحديث وتقول: هذا الحديث رواه النبي لا نستطيع أن نعرف هذا الحديث اختلقه معاوية أم قاله النبي فعلاً أم اختلقه مسيلمة أم اختلقته سجاح أم قاله أبو سفيان أم أبو لهب؟! لا نعلم، لأن هناك آلاف الأحاديث عليها علامة الاستفهام، يا ترى أياً منها قاله النبي فعلاً. ويقول: هذا كذب. هذا حديث لم يقله النبي، هذا قاله يزيد)
[25].




[1]-أخرجه مسلم في (مقدمة صحيحه) (1/14، باب: بيان أن الإسناد من الدين 5).

[2]-انظر:(أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب) (367)، و(إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن) (441)، و(تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة على سيد المرسلين) (90)، و(تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث) (49)، و(الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث) (67)، و(ذخيرة الحفاظ، المخرج على الحروف والألفاظ: ترتيب أحاديث الكامل في تراجم الضعفاء وعلل الحديث) (2046)، و(العلل المتناهية في الأحاديث الواهية) (188)، و(مختصر المقاصد)(238) و(المقاصد الحسنة)(260)، و(السلسلة الضعيفة) (2481)، و(ضعيف الجامع) (2023)، و(موسوعة الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة) (3/85) وغيرها. انتهى من كتاب: (ذاكرة سجين مكافح) (1/120).

[3]-أخرجه مسلم في (مقدمة صحيحه) (1/15 باب: بيان أن الإسناد من الدين5).

[4]-كما في: (تاريخه) (6/166).

[5]-كما في: (ص:6).

[6]-كما في: (ص:33).

[7]-كما في: (ص:617/618)

[8]-سورة الأحقاف، الآية رقم:4.

[9]-انظر: (مقدمة كتاب بيان الفجر الصادق) (ص:15)، و(شفاء التبريح...) (ص:87/88)

[10]-انظر: (صفحات من صبر العلماء) (ص:332)، لشيخ شيخنا أبي غدة.

[11]-انظر: (الميزان) (4/80) للذهبي.

[12]-كما في: (8/164).

[13]-انظر: (المجروحين) (1/21/23) لابن حبان.

[14]-انظر: (تهذيب الكمال) (32/124).

[15]-كما في: (9/613).

[16]-انظر: (التهذيب) (4/192).

[17]-قال الذهبي في: (السير) (8/461): (قال سفيان الثوري مرة لرجل: ما حرفتُك؟ قال: طلب الحديث قال: بَشِّرْ أهلك بالإفلاس). انتهى من (ذاكرة سجين مكافح) (ص:97).

[18]-كما في: (2/81).

[19]-انظر للزيادة (مقدمة صحيح مسلم) (1/87)، و(مقدمة ابن الصلاح) (ص:231)، و(السير) (16/611)، و(تاريخ بغداد) (6/166)، و(الكفاية) للخطيب (ص:196).

[20]-كما في: (4/11).

[21]-انظر: (فتح المغيث) (2/330).

[22]-قال الحافظ-رحمه الله-في: (التقريب) (2/300/301/رقم:3771-و"3/295/حرف الياء"-مع التحرير): (... صدوق يحطئُ رُمي بالإرجاء، من التاسعة...خ م-قالت أم الفضل: مسلم روى له في: "المقدمة" فقط. تنبه). وقال الأرناؤوط وعواد عند قول الحافظ: (صدوق يحطئُ رُمي بالإرجاء): (بل: صدوق حسن الحديث، وهو إلى التوثيق أقرب، فقد وثقه:
1-ابن معين،
2-والنسائي في رواية،
3-وابن قانع،
4-وذكره ابن حبان في: "الثقات"،
وضعفه أحمد-فيما قيل-، وابن سعد، والعجلي، ولعلهم ضعفوه لأجل ما رمي به من الإرجاء، وفي هذا التضعيف ما فيه بسبب العقائد، كما يظهر من تفاصيل أقوالهم فيه.
وقد روى له البخاري حديثاً واحداً في: (فضائل القرآن) (5048) من روايته عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي موسى في قول النبي-صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود". وهذا الحديث قد رواه مسلم (793) من طريق أخرى عن أبي بردة، عن أبي موسى، وهو حديث صحيح معروف).

[23]-انظر: (السير) (4/214).

[24]-كما في: (مقدمة التمهيد) (ص:63) لابن عبد البر.

[25]-انظر: "(ص:71) نقلاً عن (مجلة الشرق) (عدد:362)، و(مجلة المصور) (عدد:3507)، و(الاستهزاء بالدين وأهله)