للدكتور ياسر برهامى
مختصر فقه الخلاف
..
بسم الله الرحمن الرحيم
في هذه الفترة التي نمر بها في ساحة الدعوة إلى الله تعالى يسعى العلماء العاملون وطلبة العلم المخلصون بقصارى جهدهم إلى توحيد الكلمةولم الشمل ورأب الصدعوالتوحد لإعلاءكلمة الله ، وكلذلك إنما يتأتى بتضييق فجوة الخلاف بين أبناء الأمةوتجاوز ما يسعنا مجاوزته إلىغيره للتقدمخطوات للأمام بعد إحياء الصحوة الإسلاميةفي نفوس أبناءالأمة .
وما كنا نظن أن يخرج علينا من ينادي بطمس الخلاف أصلاً ليصنع من ذلك إطارًا مطاطيًا يسع كل الأفكارالمنحلة الشاذة بحجة التوحد لدفع العدو المشترك ، ولذا توجب علينا توضيح فقه الخلاف بين المسلمين وأنواعه وأحكامه ؛ فكانت هذه الكلمات ...
الاختلاف أمر قدري كوني
قال الله تعالى وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَأُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَوَلِذَلِ كَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَالْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( (هود : 118-119)
قال ابن كثير رحمه الله : قال الحسن رحمه الله : الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك ، فمن رحم ربك غير مختلف . فقيل له لذلك خلقهم ؟ قال : خلق هؤلاء لجنته ، وخلق هؤلاء لناره ، وخلق هؤلاء لرحمته ، وخلق هؤلاء لعذابه . وكذا قال عطاء والأعمش . اهـ
وقد دلت الأدلةعلى أن الاختلاف بين الناس واقع لا محالةوقضاء الله به نافذ لسبق الكلمة منه بتأجيلالفصل والقضاء بين الناس إلى أجل مسمى .
ولكن هل يعني هذا أن نستسلم لهذا القدر ؟
كلا ،فهذا الاختلاف من قدر الله الذي أمرنا شرعًا أن نفر منه إلى قدر اللهبالائتلاف والاجتماع ،فندفع القدر بالقدر ،ننازع القدرالمكروه بالقدر المحبوب ،والواجب إتْباع الشرع والإيمان بالشرع ،وليس تركالشرع والاحتجاج بالقدر .
قال تعالى : ) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( ( آل عمران : 103)
دلت الآية على أن الاجتماع يكون على حبل الله المنزل من السماء إلى الأرض،وهذا هوالاجتماع المأمور به شرعًا .
وهذا يوضح لنا المنهج الصحيح فيما يكون عليهالاجتماع ،ليس كما يظن البعض أن نجتمع على أي شيء وأن أصل الأصول أن تجتمع القلوب ،فهذا وهم كبيرأن تجتمع القلوب على غير حبل الله المتين وعلى غير البينات ،فلن يتحقق هذاالاجتماع الموهوم ،ولو فرضنا تحققه لكان غير مشروع ؛ لأن الله لم يأمرنا بأي اجتماع وإنماأمرنا باجتماع معين.
وقال تعالى : ) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِمَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ( (آل عمران : 105)
دلت الآية على أنه ليس أي افتراق منهيًا عنه ،وإلا فأهلالإسلام يفارقون أهل الكتاب وأهل الملل الباطلة ؛ فهل هذا الافتراق مذموم ؟. هم المذمومونعليه ؛ ذلك أنهم خالفوا البينات .
وقال النبيrناهيًا عن الاختلاف : (( إنما هلك من كانقبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم )) رواه مسلم
وقال r : (( لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم )) ( صحيح الجامع : 5070) ، ورواه مسلم بلفظ : بين وجوهكم. وفي هذا الحديث دليل صريح على أن الاختلاففي الظاهر يؤدي إلى الاختلاف في الباطن .
وكذلك من أوضح الأدلة على ذلك ما رواه أبو داود عن أبيثعلبة الخشني قال : كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية ، فقالرسول الله r : (( إنتفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنماذلكم من الشيطان )) فلم ينزلوا بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض حتىيقال لو بسط عليهم ثوب لعمهم . (صحيح الترغيب: 3127)
فالواجب الشرعي عند الاختلاف يكون بأمرين :
1-السعي إلى التوحد والاجتماع على سنة رسول اللهrبفهم وتطبيق الخلفاء الراشدين ومن معهم من الصحابة رضيالله عنهم.
2-محاربة البدع والأهواء المفرقة للأمة حتى يقل أنصارها وأتباعها .
أنواع الخلاف الواقع بين المسلمين
ينقسم الخلاف الواقعبين المسلمين إلى : اختلاف تنوع ، واختلاف تضاد .
واختلافالتضاد ينقسم إلى : خلاف سائغ ( أي معتبر غير مذموم ) ، وخلاف غير سائغ مذموم ( أيغير معتبر مذموم )
أولاً : اختلاف التنوع
وهو ما لا يكون فيه أحد الأقوال مناقضًا للأقوال الأخرى ، بل كل الأقوال صحيحة؛ ولذا فتسميته خلافًا من باب المجاز فقط.
أمثلة هذا الاختلاف
1-وجوه القراءات وأنواع التشهدات والأذكار .
2-ومنه الواجب المخير مثل كفارة اليمين ، فهو مخير بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فأي واحد من الثلاثة أجزأه ، ولكن لا يجوز الانتقال إلى الصوم إلا إذا عدمت هذه الثلاثة .
3-ومنه تنوع الهمم في الأعمال الصالحة ، فيجتهد في نوع خاص من الأعمال كالصلاة أو الصوم أو الصدقة أو الجهاد ، وكذا تنوع الهمم في طلب العلم ، فيجتهد في علم معين مثل علم التفسير أو علم الحديث أو علم التجويد . ولكن مع أداء الواجب فيغيرها .
4-ومنه تنوع الأعمال بين الجماعات الإسلامية ، فبعضها تجعل همها الأكبر طلب العلم بأنواعه ، وبعضها تجعل همها التبليغ والدعوة ، وبعضها الجهاد في سبيل الله ، ولا شك أن هذا كله مطلوب وليس بمذموم ، بل تحقيق التكامل فيه بين الاتجاهات الإسلامية هو ما يحقق للصحوة كل خير .
..
محاذير هذا الاختلاف
1-أن يكون انشغال الأفراد والجماعات بما يرونه أفضل الأعمال سببًا لتركهم الواجبات الأخرى التي تمثل الحد الأدنى من الإسلام ، فلابد من تحقق القدر الأدنى الذي لا يسع المسلم جهله من معاني الإسلام والإيمان وصلاح القلوب ؛ فلا يجوز أن يكون الاشتغال بعلم الحديث مثلاً سببًا للجهل بالعقيدة أو الفقه بالحلال والحرام، وكذلك لا يجوز لطلاب العلم في وقت الجهاد أن يتركواالجهاد العيني زعمًا بانشغالهم بطلب العلم ،كما أنه لا يجوز للمجاهدين أن يتركوا الواجب عليهم منالعلوم التي هي فرض عين عليهم زعمًا بانشغالهم بالجهاد ، فإن جهلهم ومعاصيهم منأعظم أسباب هزيمتهم . وأما فروض الكفايات فلا يجوز تقديمها ابتداءًا على فروض الأعيان . وعلى الجماعات الإسلامية التي تهتم كل منها ببعض فروضالكفايات أن تتعاون مع بعضها لشد أزرها وتحقيق التكامل والتعاون فيما بينها ، معتقديم النصح لما يرونه من أخطاء داخل أي منها .
2-تربية الأفراد داخل هذه الجماعات على تحقير العلوم الأخرى التي ليس لجماعته اهتمام كبير بها ؛ ففي الحديث : (( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم )) ، فقد ربى النبيr الصحابة علىعدم تحقير أي عمل صالح يصدر من أي مسلم ومسلمة بل ربما كان فيه نجاته ، كما في حديث البغي التي دخلت الجنة في كلب سقته .
3-أن يكون عقد الولاء والبراء على هذه الأعمال المتنوعة والأولويات المختلفة ، وتقديمه على أصل الولاء لدين الله والمنهج الإسلامي الصحيح منهج أهل السنة والجماعة بشموله وتوازنه . قال تعالى : (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْالَّذِي نَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ )) ( المائدة : 55)
فهذا النوع من الخلاف ينبغي استثماره لتحقيق التكامل بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم .
..
ثانيًا : اختلاف التضاد
وهو أن يكون كل قول من أقوال المختلفين يضاد الآخر ويحكم بخطئه أو بطلانه في أصل الحكم الشرعي لا الفتوى فحسب .
ووقوع هذا النوع من الخلاف بين الملل والعقائد والأديان من المعلوم بالضرورة والمجمع عليه بين المسلمين . ولم يخالف في ذلك إلا الزنادقة المنافقون الذين ينادون بوحدة الأديان ومساواة الملل تحت مسمى الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي .
ولا خلاف بين العلماء أن من لم يكفر اليهود والنصارى بل حتى لو شك في كفرهم فهو كافر مرتد مكذب لله ورسوله r . قال تعالى : (( وَمَن يَبْتَغِغَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَالْخَاسِرِي نَ )) ، وقال النبي r : (( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار )) (متفقعليه)
..
هل المصيب للحق واحد أم كل مجتهد مصيب؟
الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، وعليه أئمة العلم أن الحق واحد في قول أحد المجتهدين ، ومن خالفه فهو مخطئ في الأصول أو الفروع ، في العقائد أو الأعمال ، في الأمور العلمية أو العملية .
والدليل على ذلك قوله تعالى : (( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَوَكُ لّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً )) ، والدلالة من الآية أنهما لو استويا في إصابة الحكم لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم معنى ، وهي تدل أيضًا على أن المجتهد الذي بذل وسعه في البحث عن الحق فأخطأه أن الإثم مرفوع عنه ، بل يثاب على اجتهاده ،لأن الله سبحانه مدح كلاً منهما وأثنى عليهما بقوله : (( وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ))
وقال النبي r: (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر )) (متفقعليه)
وأما إجماع الصحابة فقد قال ابن قدامة رحمه الله : أما الإجماع؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم اشتهر عنهم في وقائع لاتحصى إطلاق الخطأ على المجتهدين . (روضة الناظر : 196)
قال ابن قدامة رحمه الله : قال بعضأهل العلم : هذا المذهب ( وهو أن الاجتهاد لا ينقسم إلى خطأ وصواب ) أوله سفسطة وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقًا ، وبالآخرة يخير المجتهديْن بين النقيضيْن عند تعارض الدليليْن ويختار من المذاهب أطيبها .
ولذا فتعليل الأحكام بالخلاف ليس بحجة
قال ابن عبد البر رحمه الله : الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجة في قوله . ( جامع بيان العلم ص356)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ولا يجوز تعليل الأحكام بالخلاف فإن تعليلها بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر ،فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر ، وإنما ذلك وصف حادث بعد النبي r ، وليس يسلكه إلا من لم يكن عالمًا بالأدلة الشرعية في نفس الأمر لطلب الاحتياط .
أنواع اختلاف التضاد
ينقسم اختلاف التضاد إلى خلاف سائغ (أي معتبر وغير مذموم) ، وخلاف غير سائغ (أي غير معتبر ومذموم)
( 1 ) الخلاف السائغ
وهو ما لا يخالف نصًا من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع أو قياس جلي ، سواء كان في العقائد أو الأحكام .
والنص هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا .
أسباب وجود الخلاف السائغ
1-من هذه الأسباب أن الشرع لم ينصب دليلًا قاطعًا على كل المسائل ، بل جعل لبعضها دليلاً ظنيًا يحتاج إلى بحث واجتهاد ونظر .
2-ومنها أن قدرة العباد على البحث والاجتهاد مختلفة ، فما يقدر عليه البعض يعجز عنه البعض الآخر .
3-ومنها أن أفهام العباد مختلفة متفاوتة قد فضل الله بعضهم على بعض فيها ، فما يراه الواحد قد يغيب عنالآخرين .
4-ومنها أن طريقة التعلم والتعليم بين علماء المسلمين في بلادهم مختلفة ،وقد فطر الله العباد على التأثر بما تعلموه أولاً
ويترتب على ما سبق
أن الخلاف السائغ ينشأ نتيجة عدم وصول الدليل إلى المخالف ، وإذا وصله قد لا يثبت عنده إما لضعف أو لنسخ أو لغير ذلك ، وإذا ثبت قد لا يرى فيه دلالة أصلاً ، أو يجمع بينه وبين أدلة أخرى .
إذا علمنا أن هذه الأسباب لا يمكن إزالتها عرفنا الآتى :
1-أن الاجتهاد في معرفة الراجح من أقوال أهل العلم بحسب ما وصل إليه من الأدلة وما استنبطه منها لن يلغي اجتهاد غيره .
2-أن هذا الراجح راجح نسبي أي أنه راجح عند بعض أهل العلم مرجوح عند البعض الآخر .
3-لا يجوز أن تضيق الصدور بوجود هذا النوع من الخلاف بين أهل العلم خاصة بين أهل السنة وأتباع السلف .
4-لا يمكن أن تجتمع الأمة كلها في كل المسائل على قول واحد ، فلن يحدث هذا إلا إذا زالت أسباب هذا الخلاف كلها ، وذلك بعيد .
5-ليكن شعارنا في ذلك دائمًا (يسعنا ما وسع السلف ، ولا يسعنا ما لم يسعهم) .
ما هو الواجب تجاه هذا النوع من الخلاف ؟
يختلف ذلك حسب مرتبة كل إنسان في العلم
1-العالم المجتهد يلزمه البحث والاجتهاد وجمع الأدلة والنظر في الراجح منها، فما ترجح عنده قال به وعمل به وأفتى .
2-طالب العلم المميز (القادر على الترجيح) عليه أن يعمل بما ظهر له دليله من أقوال العلماء .
3-العامي المقلد (العاجز عن معرفة الراجح بنفسه) عليه أن يقلد الأعلم الأورع الأوثق إلى نفسه من أهل العلم ، ويسألـه عن الراجح فيعمل به فينفسه ، ويجوز نقله لغيره من غير إلزام لهم ومن غير إنكار على من خالفه بأي من درجات الإنكار .
أما ما يفعله كثير من أهل زماننا في مسائل الخلاف السائغ أو غير السائغ بأخذ ما يشتهي ، لا بحسب الأدلة والاجتهاد ، بل بمجرد موافقته ما يظنونه مصلحة أو تيسيرًا على الناس وأن الرسول r لم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وبحجة أن المسألة خلافية ، فهذا من الجهل العظيم المخالف للإجماع الذي نقله ابن عبد البر وغيره أنه لا يجوز تتبع رخص العلماء فضلاً عن الزلات والسقطات .
قال ابن قدامة رحمه الله : قال بعض أهل العلم : هذا المذهب ( وهو أن الاجتهاد لا ينقسم إلى خطأ وصواب ) أوله سفسطة وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقًا ، وبالآخرة يخير المجتهديْن بين النقيضيْن عند تعارض الدليليْن ويختار من المذاهب أطيبها .اهـ . وقد سبق نقل كلام ابن تيمية وابن عبد البرأن التعلق بالخلاف ليس بحجة أصلا .
مصادمة السنة بآراء الرجال ليس من الخلاف السائغ
قد تكون المسألة اجتهادية من مسائل الخلاف السائغ عند العلماء ، ولكن يكون البعض قد استبانت له سنة رسول الله r فلا يقول بها ، بل يعارضها بأقوال العلماء المجردة عن الدليل عنده ، فهو يعرف السنة ويعرف أن بعض أهل العلم خالفها ، ولا يعرف وجهه ولا دليله . فلا تكون هذه المسألة في حقه من الخلاف السائغ بل هذا مخالف للإجماع .
قالالشافعي رحمه الله : أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول اللهrلم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس .
وقال لرجل سأله عن مسألة فأجابه فيها بحديث ،فقال له : أتقول به يا أبا عبد الله ؟ قال : أتراني خرجت من الكنيسة ، أتراني أشد على وسطي زنارًا ؟ أقول قال رسول اللهrولا أقول به ؟ نعمعلى العين والرأس.
وسئل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن مسألة فأجاب فيها ثم قال : ائت ابن مسعود فسله فسوف يوافقني . فقال ابن مسعود : قد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين إن وافقته ، ولكن أقول بقول رسول الله r . وذكر الحديث .
وقد قال ابن مسعود ذلك عن نفسه لأنه علم الحديث بخلاف أبي موسى الذي لم يعلمه . وهذا من أدب ابن مسعود رضي الله عنه .
أمثلة للخلاف السائغ
أولاً : في الأمور الاعتقادية والعلمية :
هذا النوع من الخلاف يندر وجوده في أمور الاعتقاد ؛لأن الأصول الكبرى من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته ، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره،كلها إما من المعلوم من الدين بالضرورة أو المجمع عليه بين المسلمين.
ولكن قد يوجد في بعض تفاصيل ذلك بعض الخلاف السائغ ،ومن ذلك :
الخلاف في رؤية النبيr ربه ليلة الإسراء ،والخلاف في الخضر هل هونبي أم لا ؟ وكذا في مريم ،والخلاف في عصمة الرسل من الصغائر غير المزرية ،والخلاف في رؤية الله فيالآخرة هل هي خاصة بالمؤمنين فقط ؟ أم يراه المؤمنون والمنافقون ثم يحجب المنافقون؟ أم يراه كل أهل الموقف ثم يحجب الكفار والمنافقون؟والخ لاف في أول المخلوقات هل هو العرش أم القلم أم الماء ؟
ومنه : الخلاف في كثير من مسائل التكفير ؛ مثل تكفير تارك الصلاة وباقي المباني الأربعة عدا الشهادتين تكاسلاً ، وكذا تكفير بعض أهل البدع كالخوارج والرافضة والمعتزلة.
ومنه : الاختلاف في تحقيق المناط في قضايا تكفيرالأعيان بناءً على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.
ثانيًا : في الأمور الفقهية والعملية :
والخلاف في هذه الأمور كثير جدًا ، ولكن نشير إلى بعض المسائل التي عمت بها البلوى ، مما قد يسبب شقاقًا ونزاعًا بين أبناء الصحوة .
فمنه : الخلاف في كثير من مسائل الطهارة مثل : الخلاف في جواز استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة ، والخلاف في وجوب المضمضة والاستنشاق في الوضوء أو استحبابهما ، والخلاف في وجوب غسل الجمعة.
ومن مسائل الصلاة من هذا النوع من الخلاف : الخلاف في قراءة الفاتحة خلف الإمام خاصة في الجهرية ، والخلاف في وضع اليدين على الصدر بعد الركوع وإرسالهما ، والخلاف في النزول على اليدين أم على الركبتين في السجود ، والخلاف في وجوب بعض الصلوات غير الصلوات الخمس مثل صلاة العيدين وتحية المسجد والوتر ، والخلاف في وجوب صلاة الجماعة وصلاة القصر ، والخلاف في مشروعية صلاة الحاجة والتسابيح والغائب ، وكذا في القنوت في صلاة الصبح .
ومن هذا النوع أيضًا الخلاف في زكاة الزروع في غير ما نص عليه الرسول r ، والخلاف في وجوب زكاة الحلي المعد للزينة ، والخلاف في جواز إخراج القيمة في الزكاة .
ومنه : الخلاف في مسألة اختلاف المطالع في رؤية الهلال ، والخلاف في وجوب الكفارة على من أفطر متعمدًا في رمضان بأكل أو شرب ، والخلاف في الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان هل تقضيان ما عليهما أم تفديان أم كلاهما ، والخلاف في جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة التراويح .
ومنه : الخلاف في وجوب الحج هل هو على الفور أم على التراخي ، والخلاف في وجوب العمرة واستحبابها ، والخلاف في وجوب طواف الوداع واستحبابه . والخلاف في وجوب الأضحية والعقيقة أو استحبابهما .
ومنه : الخلاف وقوع الطلاق المعلق أم عدم وقوعه ، وفي وقوع طلاق الثلاث بلفظ واحد هل يقع ثلاثًا أم واحدًا ، وفي وجوب كفارة اليمين ، وفي حد الخمر هل هو أربعون جلدة أم ثمانون ؟
ومنه : الخلاف في وجوب ستر المرأة وجهها عن الرجال الأجانب أم استحبابه فقط ، وفي وجوب الختان أم استحبابه فقط في حق كل من الرجال والنساء .
ومنه : الخلاف في التصوير الشمسي (الفوتوغرافي) فقط هل هو داخل في النهي أم لا ؟ ، والخلاف في أكل اللحوم المستوردة منالدول الغربية هل يجوز أكلها أم يحرم ؟، والخلاف في أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية، والخلاف في تحريم الإسبال بدون خيلاء أم كراهيته فقط، والخلاف في جواز زيارة المرأة للقبور، والخلاف في جواز التوسل إلى الله بحق بعض المخلوقين .
تنبيـه
يظن البعض أن الخلاف السائغ يكون بين الوجوب والاستحباب أو بين الكراهة والتحريم فقط ، والحق أنه أوسع من ذلك فقد يُختلف في الشيء الواحد فيقول البعض باستحبابه والبعض بحرمته ، أو يقول البعض بسنيته والبعض ببدعيته ، ولعل ما مر من الأمثلة يوضح ذلك .
..
( 2 ) الخلاف غيرالسائغ
وهو ما خالف نصًا من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع أو قياس جلي ، سواء كان في العقائد أو الأحكام .
وقد قدمنا أن النص ما لا يحتمل إلا معنىً واحدًا ، مع التنبيه أنه لا مجال للقياس في العقائد .
أمثلة الخلاف غير السائغ
وهذا النوع من الخلاف يكثر في المسائل الاعتقادية وهو أقل في الفروع العملية .
أولاً : في الأمور الاعتقادية والعلمية :
وهذا منه ما يكون كفرًا نوعًا وعينًا ، ومنها ما يكون كفرًا نوعًا لا عينًا ، ومنها ما يكون بدعة ضلالة وليست كفرًا .
فمن النوع الأول وهو ما يكفر فيه المخالف نوعًا وعينًا
1-غلاة النفي والتعطيل في أسماء الله وصفاته ؛ كغلاة الجهمية والباطنية والفلاسفة .
2-الحلولية والاتحادية.
3-غلاة الصوفية الذين يعتقدون بآلهة مدبرة للعالم مع الله في الضر والنفع وتصريف الأمور والتشريع ويصرحون بصرف العبادة لها من دون الله .
4-غلاة القدرية الأوائل نفاة العلم الإلهي ، وكذلك من ينفي كتابة المقادير في اللوح المحفوظ .
5-غلاة الجبرية الذين يصرحون بنسبة الظلم إلى الله تعالى .
6-غلاة المرجئة الذين يقولون أن الإيمان هو المعرفة فقط ، ويصرحون بإيمان إبليس وفرعون ، ولا يحرمون ما علم تحريمه بالضرورة ولا يوجبون الفرائض المعلومة من الدين بالضرورة . ولذا أطلق عليهم (المرجئة الإباحية)
7-غلاة الرافضة والشيعة الباطنية ، الذين يعتقدون الإلهية في غير الله كالعلويين والنصيريين والدروز ، أو يعتقد خطأ الرسالة أو تحريف القرآن .
8-من يعتقد أنالشريعة الإسلامية غير صالحة إما مطلقًا أو لهذا الزمان ، ويفضل عليها شرائع البشرالوضعية ، أو يساويها بها أو يجوزها أو يلزم الكافة بها ، أو يجحد حكم الله من أصله .
9-من يعتقد بمساواة الملل وعدم كفر اليهود والنصارى .
ومن النوع الثاني وهو ما يكون كفرًا نوعًا لا عينًا
1-المعتزلة : الذين يثبتون أسماء الله دون الصفات .
2-الخوارج: الذين يكفرون الصحابة رضي الله عنهم ويكفرون مرتكب الكبيرة ويخلدونه في النار .
3-الرافضة : الذين يكفرون الصحابة ، ويعتقدون أن أول الخلفاء علي رضي الله عنه .
4-القدرية : الذين يثبتون علم الله وكتابة المقادير ، وينفون مشيئته وخلقه لأفعال العباد .
5-الصوفية : الذين يطوفون بقبور الأولياء ، ويصرفون لهم العبادة كطلب المدد والنذر والذبح .
6-من يلزم الناس فيالتشريع العام بقوانين وأحكام تخالف شرع الله ويحتمه عليهم .
7-ومنه تهنئة الكفار بأعيادهم الكفرية أو بمناصبهم الطاغوتية بزعم سماحة الإسلام أو مصلحة الدعوة .
والصحيح في هذا النوع من الخلاف أن هذه الأقوال البدعية أقوال كفرية ، ولكن نظرًا لكثرة الجهل وانتشار البدع وعدم تميز أصحاب العقائد الكفرية عن غيرهم من أهل البدع غير المكفرة لم يمكن إطلاق الكفر على عمومهم وعوامهم قبل إقامة الحجة على أعيانهم .
نتابع ......