همس لي صاحبي الفلسطيني المغترب قائلا: لدينا في الجالية الفلسطينية ((صراع على الدين)) بين الإسلاميين وخصومهم من العلمانيين...
قلت له: عفواً، ولكني لا أتصور أن الصراع في حقيقته على الدين، بقدر ما هي منازلة بين أنصار الدين وخصومه...
استغرب صديقي من إجابتي، فاستسمحته في إطالة الجواب، قائلاً:
عندما فشت في الأمة الرايات الشيوعية والقومية والعلمانية خلال الستينيات وأوائل السبعينيات، كان خصوم الإسلاميين لا يجدون غضاضة في التصريح المكشوف، برغبتهم المحمومة لعزل الشريعة الإسلامية عن الحياة، والسخرية بالحجاب واللحية وكافة شعائر الإسلام.
ومع بزوغ شمس الصحوة الإسلامية، وانفضاض الناس عن المشروع القومي والشيوعي وانجفالهم عنها نحو الخيار الإسلامي، أصبح التصريح بالسخرية بشعائر الإسلام، خيارا غير واقعي لدى الخصوم، إذ إن هذا سيعرض من يتبناه لغضب الشارع الإسلامي، والرمي به في مزبلة التاريخ بلا رجعة، ولهذا عمد خصوم الإسلاميين "الليبراليون الجدد" إلى خطاب جديد، اقتضته ظروف المرحلة في نظرهم، وخلاصته طرح المنهج العلماني في لهجة تصالحية مع الإسلام، مع الاستعانة بنتاج أصحاب المدرسة العصرانية في فهم النصوص الشرعية، بحيث يشعر المتلقي بعدم وجود تعارض بين العلمانية والإسلام.
لقد فرغت للتو من قراءة كتاب "السياسة بين الحلال والحرام، أنتم أعلم بأمور دنياكم" لليبرالي السعودي (د.تركي الحمد)، ولاحظت أن الدكتور أجهد نفسه في التأليف في مجال لا يحسنه، فقد أخذ يستدل بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبعض الآثار عن الصحابة.....وختم ذلك بنقلين عن الشيخ الندوي وابن باز رحمها الله، ومع أن الحصيلة الشرعية الضحلة للدكتور، ظهرت مراراً من خلال استنباطات ذوقية لا علاقة لها بمنهج الاستنباط العلمي، أو عزو الأحاديث النبوية لكتب التاريخ، مثل كتاب البداية والنهاية أو سيرة ابن هشام، إلا أنه حرص أن يوظف هذه اللهجة الشرعية التصالحية مع الدين لتأييد أفكاره، وطفق الدكتور الحمد خلال مراحل كتابه، تصريحاً تارة وتلميحاً تارة أخرى، لبلورة ما يعتبره "حتمية الحل العلماني" للدول العربية، وحاول لي أعناق النصوص وقطع دلالتها المباشرة، إن لزم الأمر، ليؤكد أن الإسلام جاء مؤيداً للعلمنة أو على الأقل محايداً في شؤون السياسة..
إن خطورة هذا الخطاب، والذي تشكل المدرسة العصرانية رافداً علمياً له، أنه يصور لعموم الناس، أن العلمانية ما هي إلا منهج دنيوي مباح لا يتعارض مع جوهر الإسلام، وأن مشكلة الليبراليين ليست مع الإسلام، وإنما هي مع فهم الدعاة أو من يسمونهم بـ"الإسلامويين" للإسلام.
وأما الإسلام بمصادره وشعائره، فهو محل التقدير والاحترام، بل ربما زعموا أنهم أحرص من دعاة الإسلام على الإسلام، إذ إن إقحام الإسلام في السياسة بالدخول في الممارسات الانتخابية وتشكيل الأحزاب...الخ، مما يؤدي لتدنيس الإسلام والحط من مكانته، وهذا الأسلوب الماكر في تسويق الخطاب الليبرالي، قد يتعذر كشفه من قبل العامة، سيما وأن بعض "المتساقطين" من الصف الإسلامي سار في ركابه، بل ربما انطلى مكر أولئك على بعض الإسلاميين من الإعلاميين والمثقفين، تحت دعاوى "التسامح الإسلامي" و"الوئام الفكري"، وهنا يبرز واجب أهل العلم الشرعي في التصدي لهذا الأسلوب الحديث، إذ لا يعسر على طالب العلم الشرعي المتمكن، تفكيك هذا الخطاب وإظهار عواره للمتلقي.
ويجدر بطالب العلم في خضم هذه المنازلة، ألا ينجرف نحو "الشخصنة"، بل عليه أن يركز على نقد الأفكار ومحددات هذا المنهج، ففي هذا فوائد عديدة، من أهمها أن كشف عوار هذا الفكر، يغني عن تتبع رموزه وحملته، فالوجوه تتغير والأشخاص يتبدلون، وأما محددات هذا الخطاب فهي باقية.
كما أن من مزايا التركيز على الأفكار، الارتقاء بعقلية شباب الصحوة، الذين دأب المتحمسون منهم على نقد بعض العلمانيين بـ"الواسطة"، دون الإطلاع على حقيقة انحرافهم، عدا بعض النقول من رواية أو كتاب، لم يطلعوا عليه يوماً، مما ساهم في بناء فكري هش لقطاع عريض من الشباب.
ولست أدعو هنا ليقرأ الشباب المسلم كتابات هؤلاء، ولكن من رام مناقشة أفكار الليبراليين، أو دحض شبهاتهم أمام الناس، فلا يسعه التقليد والنقل من كتب فلان أو فتوى فلان، بل عليه أن يعرف جيداً مكامن انحراف هؤلاء عن الشريعة الإسلامية، ودحض شبهاتهم، والمكتبة الإسلامية زاخرة بالمادة العلمية والفكرية، ولكنها تحتاج لشباب جادين لا يقتاتون على صراعات إعلامية واتهامات مدوية، لا يملك قائلها سوى الاستقواء بالسلطة السياسية أو الدينية، ليضرب بها مخالفيه، فهذا اللون لن يكتب له النجاح مستقبلاً في ظل الانفتاح المعرفي والإعلامي، وتراخي قبضة السلطة الدينية أو التيار الديني الرسمي، كنتيجة طبيعية للمتغيرات التي تعيشها البلاد على مختلف الأصعدة.
http://www.alasr.ws/index.cfm?method...*******id=9686