بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فخطر علماء السوء كبير، وضررهم عظيم؛ فهم بمثابة قطاع الطريق إلى الله تعالى؛ حرَّموا الحلال، وأحلَّوا الحرام، وكتموا الحق مع حاجة الناس إليه، ودعوا الناس بأقوالهم، وصدُّوهم بأفعالهم.
كان الإمام أحمد رحمه الله يقول: "إذا تكلم العالم تقية، والجاهلُ يجهل، متى يتبين الحق؟!"، ولذلك لما قال له تلميذه أبو سعيد في محنته: يا إمام قلها فإن لك عيالًا (يقصد بذلك أن يوافق الحاكم فيما يقول) فقال له الإمام: انظر، فنظر فإذا خلق كثير كلهم معه ورقة وقلم ينتظر أن يكتب ما يقوله الإمام، ورجع تلميذه يصف له المشهد، فقال له: والله ما يكون لي أن أنجو بنفسي وأضل هؤلاء".

وكان ابن المبارك رحمه الله يقول:
رأيت الذنوب تميت القلوب* وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب* وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ* وأحبار سوء ورهبانها

فشبه علماء السوء من هذه الأمة بالأحبار والرهبان الذين باعوا دينهم بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، وكانوا يقولون: "من فَسَدَ من عُبَّادِنا ففيه شبه من النصارى، ومن فَسَدَ من علمائنا ففيه شبه من اليهود"
وفي تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 79]
قال الإمام ابن كثير: "وفي المسند، والترمذي أن عدي بن حاتم قال: يا رسول الله، ما عبدوهم، قال: "بلى، إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم "فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين، فإنما يأمرون بما أمَرَ الله به وبلغتهم إياه رسله الكرام" اهـ.
وقال أبو حازم: "إن بني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء، فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا ذلك العلم وأتوا به إلى الأمراء فاستغنت به عن العلماء، واجتمع القوم على المعصية فسقطوا وانتكسوا، ولو كان علماؤنا يصونون علمهم لم تزل الأمراء تهابهم"

ولما طلب سليمان بن عبد الملك من أبي حازم النصيحة، قال له أبو حازم: إن أناسًا أخذوا هذا الأمر عنوة من غير مشاورة من المسلمين ولا اجتماع من رأيهم، فسفكوا فيه الدماء على طلب الدنيا، ثم ارتحلوا عنها، فليت شعري ما قالوا؟ وما قيل لهم؟.
فقال بعض جلسائه: بئس ما قلت يا شيخ.
قال أبو حازم: كذبت، إن الله تعالى أخذ على العلماء ليبننه للناس ولا يكتمونه.
قال سليمان: اصحبنا يا أبا حازم، نصب منك وتصب منا.
قال: أعوذ بالله من ذلك!
قال: ولمَ؟
قال: أخاف أن أركن إليكم شيئًا قليلًا؛ فيذيقني ضعف الحياة وضعف الممات.
قال: فأَشِر عليّ.
قال: اتق الله أن يراك حيث نهاك، وأن يفتقدك حيث أمرك

كلمات من نور أحرى أن تنقش على القلوب، وتكون نبراسًا لهؤلاء الذين أعماهم الجاه والمناصب وزخرف الدنيا والشهرة فيها، فألقوا دينهم خلف أظهرهم، وجعلوه مطية لبلوغ المآرب.
وقديمًا قالوا: "إن هذا العلم شريف، من أراد به الدنيا وجدها، ومن أراد بها الآخرة وجدها".
ولما أُدخل الإمام أبو حنيفة السجن وضرب بالسياط بين أيدي أبي جعفر المنصور، أتته أمه تزوره، وفي يوم قالت له: يا نعمان إن علمًا ما أفادك غير الضرب والحبس لحقيق بك أن تنفر عنه، فأجابها: "يا أمه، لو أردتُ الدنيا لوصلت إليها، ولكني أردت أن يعلم الله أني صُنت العلم، ولم أعرض نفسي فيه للهلكة".

فهؤلاء الأفاضل زهدوا في الدنيا فجاءتهم الدنيا، وأعرضوا عنها فأقبلت عليهم، وهابوا الله فهابهم الناس، فما أبعد علماء السوء عن مسلك سلف الأمة الكرام الذين لم تأخذهم في الله لومة لائم، فقاموا لله بحقه، وعلموا الحق ورحموا الخلق، وبهم قام الإسلام، وبه قاموا.
قال أبو الأسود الدؤلي رحمه الله:
يا أيها الرجل المعلم غيره* هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى* كيما يصح به وأنت سقيم
أراك تلقح بالرشاد عقولنا* نصحًا وأنت من الرشاد عديم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها* فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُقبل ما تقول ويُقتدى* بالعلم منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله* عار عليك إذا فعلت عظيم

فاعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه، واعلموا أن هذا الأمر دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم، والإسلام حاكم، والناس محكوم عليهم، ولا عبرة بقول أو بفعل صدر من إنسان وإن كان مشهورًا، فخالفَ به كتابَ الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ابن آدم خطاء، وخير الخطاءين التوابون.
فهيا بنا نرجع لعلماء الأمة المعتبرين الذين سلكوا مسالك السلف في فهمهم لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين.