تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: بحث (تلبيس الشّرّاح على البزدوي والسرخسي في مسائل الكلام) للأستاذالدكتور خالد العروسي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Feb 2010
    المشاركات
    67

    افتراضي بحث (تلبيس الشّرّاح على البزدوي والسرخسي في مسائل الكلام) للأستاذالدكتور خالد العروسي

    تلبيس الشّرّاح
    على
    البزدوي والسرخسي
    في
    مسائل الكلام

    إعداد : أ.د/ خالد بن محمد العروسي
    جامعة أم القرى
    كلية الشريعة















    بسم الله الرحمن الرحيم
    المقدمة

    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين,وعلى آله وصحبه, ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين,
    أما بعد:
    فلا يخفى على من له أدنى تأمّل لمصنفات الأصوليين حصرُهم الخلاف في مسائل الكلام بين مذهبىْ الشيخين : أبي حسن الأشعري, وأبي منصور الماتريدي, ولا يُعرّجون على مذهب السلف إلا قليلا, وربما حملهم على ذلك اعتقادهم بتلك المقولة الفاسدة : ( مذهب السلف أسلم, ومذهب الخلف أعلم)(1), بل وربما سلبوا وصف السلامة أيضا عن مذهب السلف,فقد نقل الزركشي عن بعض شيوخه قوله : (بل مذهب الخلف أعلم وأسلم),فلذا كانوا يستحقرون مذهب السلف بحجة أن هؤلاء لم يتمرسوا بقضايا العقول وأدلته,كما تمرس بها الخلف, ولم يجابهوا ويناظروا ما ظهر بعدهم من فرق ومذاهب, فحصل لهؤلاء من ملكة النظر والاستدلال ما لم يحصل للسلف, فصار مذهب أحمد بن حنبل, ومحمد بن إسماعيل البخاري, وعبد الله بن المبارك, وابن خزيمة, وأضرابهم من جبال العلم, وبحور الفقه, دون مذهب الخلف في العلم والحكمة..........وال سلامة أيضا, فلا حول ولا قوة إلا بالله.
    هذا كله بيّنٌ هيّنٌ إذا قارنته بمحاولة بعض المتكلمة من أهل الأصول وغيرهم, تحريف أو تغيير كلام بعض كبار ائمة المذاهب , ممن كانت عباراتهم أو اشاراتهم في مسائل الكلام تُنبئ عن معتقد السلف, فيلوون تلك النصوص, ويحملونها على غير المعانى التى أرادها أصحابها, استنكافا أن يجدوا هؤلاء الكبار قد خالفوا أئمتهم من أهل الكلام.
    وهذا ما وقفتُ عليه إبّان تحقيقي لكتاب "التقرير شرح أصول البزدوي",لأكمل الدين البابرتي, وقراءتي المصاحبة لهذا التحقيق "لأصول شمس الأئمة السرخسي", فإني وجدتُ هذين الفحلين لم يكتفيا بالإعراض عن نقل أقوال وآراء الشيخ أبى منصور الماتريدي- على خلاف المتأخرين عنهما-, بل تعدى ذلك إلى المعارضة والمناقضة, في مسائل كلامية انتحلها, فعزّ ذلك على الشرّاح, فتعسّفوا فى التأويل, وتكتّموا عن التعريض, ولبّسوا في الأقوال.
    وهذا الذي وقفتُ عليه, لم أجد أحدا نبّه عليه, أو أشار إليه, ما حملني على تقييده في هذه الوريقات, لا سيّما وأن المشهور بين الباحثين والدارسين أن شمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام البزدوي, كانا على عقيدة الشيخ أبي منصور الماتريدي, وهذا ما ظهر لي خلافه.
    وربما يسأل سائل : ليس لشمس الأئمة السرخسي شرح على كتابه,فأين موضع التحريف والتلبيس على كلامه؟
    والجواب: يعرف كل من مارس أصول الحنفية, أن أقوال واختيارات شمس الأئمة حازت شرف المكانة بين كل الأقوال والاختيارات, لا سيّما إذا كان الشرح لأصول البزدوي, فقلّ أن يُورد الشارحون قولا للبزدوي, إلا ويشفعوه برأى السرخسي إما موافقا في الأغلب أو مخالفا في القليل,لذا كان "أصول السرخسي" مشروحا بهذا الاعتبار.
    ولستُ أزعم أني قد استقصيت كل ما عند الإمامين, فهذا عزيز المنال, لكن حسبي أن مسألة : كلام الله عزّ وجلّ, الذي حرّف الشرّاحُ فيها مراد الشيخين, هى أمّ المسائل الكلامية, وهى من أخصّ المسائل التى اختص بها أبو الحسن الأشعري, وأبو منصور الماتريدي, فمن خالفهما فيها, فهو مخالف لهما في بقية المسائل الملحقة بها, ولولا مكانة الشيخين- أى: البزدوى والسرخسي- في المذهب خاصة, وعند أهل العلم عامة, وشناعة التحريف, لما حفلتُ بهذا البيان والتقييد.
    وقبل أن أشرع في ذكر هذه المسألة, أحسبُ أن تمهيدا يقتضيه المقام, أبيّنُ فين أن جنس ما وقع للشيخين, قد وقع لغيرهما, مذكور في كتب التراجم والتاريخ, حتى لا يتعجب متعجب, فيُنكر ما أذكره أو يستبعده,فلنشرع في قراءة التمهيد:
    تمهيد
    ( حُبّك الشىء يُعمي ويُصمّ)(2), كذا جاء في الأثر, والمغالاة في المحبة والتعظيم مدعاة لغمط الناس وبطر الحقّ, وإلا فأىّ غمط أعظم من غمط علم السلف, والانتقاص من فهمهم وفقههم؟!
    ولستُ بصدد مقابلة الازدراء والغمط بمثله, فمعاذ الله أنْ أنتقص ممن أُمرت بإنزالهم منازلهم ,كما جاء في الحديث : ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنْ نُنزل الناس منازلهم )(3), وأىُّ منزلة أعظم من منزلة ورثة الأنبياء, فإن من الأشاعرة والماتريدية من ساد الدنيا , علماً وفقهاً وفضلاً, فإنْ ذُكروا, تذكرتُ : الحافظ البيهقي, والحافظ الفقيه النووي, وسلطان العلماء العزّ بن عبد السلام, وغيرهم كثير.
    ثمّ إنّ الإنصافَ في القول, والعدلَ في الحُكْم, دينٌ أمرنا الله تعالى به, حتى مع العدوّ : ( ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)[المائدة:8] , فكيف بأهل الملّة والدين من عوام الناس؟ فضلاً عن علمائهم وفضلائهم؟, يقول ابن تيمية في عموم أهل الكلام : ( ثم ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة, وحسنات مبرورة, وله في الردّ على كثير من أهل الإلحاد والبدع, والانتصار لأهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم, وتكلّم فيهم بعلم وصدق وعدل وانصاف......وصار الناس بسبب ذلك : منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل, ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل, وخيار الأمور أوساطها)(4).
    وقال في موضع آخر عن القاضي أبي بكر الباقلاني- وهو من كبار أصحاب الأشعري-: (مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة, والمحاسن الكثيرة, والردّ على الزنادقة والملحدين, واهل البدع, حتى أنه لم يكن في المنتسبين إلى ابن كلاّب والأشعري, أجلّ منه وأحسن كتبا)(5).
    وفي مقابل هؤلاء , طائفةٌ- على فضلهم- حملهم التعصّب على غير الجادة, وربما حرّفوا وتعسّفوا نصرةً لمذهبهم , ومن هؤلاء :
    الحافظ أبو القاسم ابن عساكر, فإنه ألّف كتابا ينافح فيه عن الشيخ أبي الحسن الأشعري وسمه ب" تبيين كذب المفتري فيما نسب للأشعري", فذكر فيه ترجمة لخلائق من أهل العلم, ونسبهم إلى الأشعري, وكثير منهم لا يُعرف بأشعريته,بل بعضهم عُرف بمناقضته ومعارضته للأشعري, مثل الشيخ أبي إسحاق الشيرازي الذى لا يرتاب كل من قرأ كتبه استنكافه عن الأشعرية ومذهبهم, ومع هذا يقول ابن عساكر : (وكان يظن بعض من لا يفهم أنه- أى: الشيرازي- مخالف للأشعري, لقوله في كتابه في أصول الفقه:" وقالت الأشعرية: إن الأمر لا صيغة له"(6),وليس ذلك لأنه لا يعتقد اعتقاده, وإنما قال ذلك لأنه خالفه في هذه المسألة مما انفرد به أبو الحسن, وقد ذكرنا في كتابنا هذا عنه فتواه فيمن خالف الأشعرية, واعتقد تبديعهم, وذلك أوفى دليل على أنه منهم)(7).
    أمّا هذا الذي لا يفهم, فيعني به أبا الحسن الكرجي الشافعي, فإنه صاحب هذه المقالة, ذكرها في في كتابه "الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول الزاما لذوي البدع والفضول", فقال فيه : ( ومعروف شدّة الشيخ أبي حامد الإسفراييني على أهل الكلام, حتى ميّز أصول الشافعي عن أصول الأشعري, وبه اقتدى أبو اسحاق الشيرازي في كتابيه "اللمع" و"التبصرة", حتى لو وافق قولُ الأشعري وجها لأصحابنا ميّز, وقال: هو قول أصحابنا, وبه قالت الأشعرية, ولم يعدّهم من أصحاب الشافعي, استنكفوا منهم ومن مذهبهم في أصول الفقه, فضلا عن أصول الدين)(8)
    وهذا الذي قاله أبو الحسن الكرجي, ونقله ابن تيمية كالمقرّر له, حقٌّ, ودفاع ابن عساكر لا يقوم على ساق صحيحة, فإنه انتقى مسألة واحدة, موهماً أنها الوحيدة التى ميّز فيها أبو إسحاق الشيرازي مذهب الشافعي عن مذهب الأشعري, وليس الأمر كذلك لمن قرأ كتابىّْ الشيرازي, بل كان الشيخ كثير التمييز والتفريق, حتى قاربت العشرين فيما تتبعته من كتابه.
    ثمّ على فرض التسليم أنها مسألة واحدة , هى المذكورة, لكنها تُعدُّ من المسائل الفاصلة, التى اختص بها الأشعرى, وقام مذهبه عليها, وهى: مسألة كلام الله من الأمر والنهى والخبر, هل له صيغة, أم أن ذلك معنى قائم في النفس؟, فإذا خالف الشيرازي في خاصّة مذهبه, نافيا أن يكون ذلك مذهب الشافعي, لزم منه ألاّ يكون متبعا له(9).
    ثمّ ماذا يُقال في التعريض الذي عرّض به في كتابه-في مسألة المجتهدات, هل المصيب واحد؟- حين قال عن أبي الحسن الأشعري : ( وهذه بقية اعتزال بقى في أبي الحسن رحمه الله)(10)؟, وبقاء شىء من الاعتزال هو المأخذ الذي يأخذه أهل السنة والجماعة على الشيخ أبى الحسن, بعد توبته منه, فهل بعد هذا التعريض يُقال إنه متّبع له؟
    بل التمييز يظهر في الضمائر المستعملة, سياقها يدل على الاستنكاف, من ذلك حين قال : (هذا مذهب أصحابنا, ومذهب هؤلاء)(12), فاستعلى حتى عن التصريح بهم.
    أمّا الفتوى التي نقلها الحافظ ابن عساكر وجعلها دليلا على أشعرية الشيرازي, فلا دليل فيها على ذلك, وصورة الفتوى :
    ( ما قول السادة الأئمة في قوم اجتمعوا على لعن فرقة الأشعرية, وتكفيرهم , وما الذي يجب عليهم؟
    فأجاب الشيخ الشيرازي : الأشعرية أعيان أهل السنة, انتصبوا للردّ على المبتدعة من القدرية والرافضة وغيرهم, فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنة, وإذا رُفع أمر من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين, وجب عليه تأديبه بما يرتدع به كل أحد)(13).
    وسبب هذه الفتوى أن ملك بغداد محمود بن سبكتكين إبّان فتنة ابن القشيري لمّا قدم بغداد, أمر في مملكته بلعن أهل البدع على المنابر, وذكر فيهم الأشعرية, فأجاب طائفةٌ من أهل العلم على هذه الفتوى بمثل جواب الشيخ أبي إسحاق, وهذا من كمال دينه, وتمام انصافه, وجوابه حقٌّ لا مرية فيه, فإنه لا يجوز لعن أو تكفير شخص معيّن أو طائفة من المسلمين, وهذه عقيدة أهل السنّة والجماعة, يقول الشيخ تقيّ الدين ابن تيمية : ( مذهب أهل السنة والجماعة, أنه قد يجتمع في الشخص الواحد, او الطائفة الواحدة, ما يُحمد به من الحسنات, وما يُذم به من السيئات, والسيئة إن كانت عن خطأ أو تأويل, فهى مما عفى الله تعالى عنه)(14).
    ثمّ قد تقرّر في عُرف العلماء والباحثين, أن مذاهب الناس لا تؤخذ من ردودهم وإنما تُعرف من تقريراتهم, وهذه الفتوى إنما هى ردٌّ على سؤال, فليس من الإنصاف في شىء الحكم على مذهبه أو عقيدته, لأسطر ٍكتبها احقاقا لحق, وردا على باطل, لا سيّما وأن الشيرازي تقريراته في كتبه كلها تدل على خلافه مع الأشعريين.
    وثمّ شاهدٌ آخر على صنيع التعصب, ومن أحد المعظّمين للأشعري, وهو الإمام الفقيه تاج الدين السبكي, فإنه- وبضربة لازبٍ- أدخل كلَّ امّة محمد صلى الله عليه وسلّم تحت لواء الأشعرية, ولم يستثن منهم إلا شرذمة من المعتزلة, والمجسمة, -وهذا المصطلح الأخير تشنيع يُطلقه القومُ, على من سلك مذهب السلف, في إثبات صفات الرب, ولم يتأولها كما تأولوها-, يقول التاج: (أنا أعلم أن المالكية كلهم أشاعرة, لا استثني احدا, والشافعية غالبهم أشاعرة لا استثني إلا من لحق منهم بتجسيم أو اعتزال ممن لا يعبأ الله به( كذا!),والحنفية أكثرهم أشاعرة يعتقدون عقيدة الأشعري, لا يخرج منهم إلا من لحق منهم بالمعتزلة, والحنابلة أكثر فضلاء متقدميهم أشاعرة)(15).
    وهل ترك التاج لغير الأشعرية من أحد؟! ولا يخفى على ذي لُبّ ما في كلام الشيخ من مبالغة, وهذه طريقتهم في عدّ من سكت- وهم كثير- عن الخوض في مسائل الكلام, يعدونهم من الأشعرية,وينسبو للساكت مذهبا, وهؤلاء المتوقفون عن الخوض في هذه المسائل, لهم مسوّغات لهذا السكوت, استشففتها من كتب التاريخ والتراجم, ولعلّي أتعرض لها بعد قليل, لكن أكثرُها مبالغةً, دعوى الشيخ أن أكثر الحنفية, أشاعرة!
    وهذه دعوى عريضة, والحنفية لا تُقرُّ له بذاك! فمن تتبّع مصنفات الحنفية علم مدى اعتدادهم بمذهب الشيخ أبي منصور الماتريدي, وإذا ذُكر الخلاف ميّزوا مذهب أبي منصور بأنه مذهب ( أهل السنة), في مقابل مذهب الأشعري الذي يذكرونه مجردا, وهاذان مثالان جمعتُهما على عجَلٍ :
    - في مسألة : كلام الله تعالى, هل هو من صفات الذات أو الفعل؟, يقول الكاساني : ( فكلام الله تعالى مُحدَثٌ عند المعتزلة, لأنه يُنفى ويُثبت, فكان من صفات الفعل, فكان حادثا, وعند الأشعرية أزلىٌّ لأنه يلزم بنفيه نقيصةٌ, فكان من صفات الذات, فكان قديما, ومذهبنا: وهو مذهب أهل السنة والجماعة, أن صفات الله أزلية, والله تعالى موصوف بها في الأزل سواء كانت راجعة إلى الذات أم إلى الفعل)(16).
    - وفي مسألة: هل التحسين والتقبيح عقليان أم شرعيان؟ قال صدر الشريعة المحبوبي في "التوضيح": ( وعندنا الحاكم بالحسن والقبح هو الله), ثم قال شارحه سعد الدين التفتازاني مميّزا هذا المذهب عن مذهب الأشعرية : ( لا يُقال هذا المذهب هو مذهب الأشعرية بعينه, لأنا نقول : الفرق هو أن الحسن والقبح عند الأشاعرة, لا يُعرفان إلا بعد كتاب ونبيٍّ, وعلى هذا المذهب قد يعرفهما العقل )(17).
    والأمثلة كثيرة, وفي مسألة البحث الآتية مثال آخر, لكن الذي حمل التاج على هذا القول, هو دعواه الأخرى أنْ ليس بين الأشعرية والماتريدية خلاف, إلا في مسائل يسيرة, ردّها التاج إلى خلاف لفظي!(18), ثم شرح عقيد الشيخ أبي منصور في كتاب سمّاه: "السيف المشهور شرح عقيدة أبي منصور".
    وهذه دعوى أعرض من سابقتها, فإذا كان الخلاف يضرب بجذوره عميقا بين أهل المذهب الأشعري نفسه, فكيف مع غيرهم؟, وإنْ كنتَ في ريب من هذا, فدونَك احدى المطولات من كتب الأصول, ك"البحر المحيط" للزركشي, لتقف على هذا الخلاف والاختلاف.
    هذا, وربما نَقِم الحنفية على الأشعري , فإنه زعم أن أبا حنيفة النعمان, كان يقول بخلق القرآن, ثم استتيب, ثم عدّ الحنفية فرقة من فِرَق المرجئة(19).
    أمّا تلك المبالغة في تعداد الأشاعرة, وإدخال من لم يُعرف بانتسابه لهم, تحتهم, فسببه: أن هناك من العلماء من آثر السلامة ولم يخض في مسائل الكلام, أمّا ورعا, أو خوفاً وخشيةً من تسلّط الأشاعرة عليه.
    ولستُ أبالغ , ولا أفتئتُ عليهم, فمن استقرأ كتب التاريخ علم أن للأشاعرة سطوةً ودولةً امتدت لقرون طويلة, أخذت المخالفين لمذهب الأشعري بالترغيب والترهيب, وهاك شواهد على ذلك من كلام الثقات, بل بشهادة الأشاعرة أنفسهم:
    - قال الحافظان ابن كثير , وابن حجر العسقلاني : ( لما وقعت المناظرة بين ابن تيمية والشافعية,أخذ جمال الدين المزّىّ, يقرأ كتاب "خلق أفعال العباد",للبخاري, وفيه فصل في الرد على الجهمية, فغضب الأشاعرة, فقالوا : نحن المقصودون! فبلغ ذلك القاضي الشافعي, فأمر بسجنه)(20).والإمام محمد بن إسماعيل البخاري, إمام الأئمة بلا مدافعة, وكتابه هذا جمع فيه الصحيح من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم, التي يثبت فيها أن الله يتكلم بصوت, وأن صوته ليس كصوت المخلوقين, وانه يتكلم كيف شاء ومتى شاء...........فكان هذا جُرما يستحق صاحبه السجن, ولولا السلطة والدولة, لما استطاع القاضي سجنه. ولو قرأ الشيخ المزّىّ كتاب "الفصوص" لإبن عربي, أو "رسائل ابن سبعين", لسلم من السجن.
    - وشاهدٌ آخر- هو من أهلها- تاج الدين السبكي, فقال في "الطبقات" : ( لما شغرت مشيخة دار الحديث الأشرفية, بوفاة الحافظ المزّىّ, عيّنَ تقيُّ الدين السبكي (والده), الحافظَ شمس الدين الذهبي, فتكلّم العلماء فيه, بأنه ليس بأشعري(كذا!), وأن الحافظ المزّىّ ما وليها إلا بعد أن كتب بخط يده, فأشهد على نفسه بأنه أشعري العقيدة......حتى ولّوْا تقيَّ الدين السبكي, لأنه أشعري العقيدة قطعا وقطع الشك باليقين أولى(كذا والله!)...)(21).
    ولو صحّ ما ذكره عن الحافظ المزّيّ, أنه كتب بخطه وأشهد على نفسه, بأنه أشعري العقيدة, فما أراه فعل ذلك إلا لحاجة أو ضرورة, تتعلق برزقه وقوته, وإلا فمن المعلوم والمشهور, ان الحافظ جمال الدين المزّيّ, كان ينتحل مذهب السلف, ومن أشياع ابن تيمية, وتعرّض للسجن بسبب ذلك, كما مرّ بك قبل قليل.
    هذا الذي سقته لك يشهد, بأن سيف الترهيب كان مسلولاً, لكل من خالف عقيدة الأشعري, تؤازره سلطةٌ ودولةٌ, قادرة على بسط يدها بالعقوبة لكل من تسوّل له نفسه المخالفة. فإن لم تكن عقوبةٌ, فتبكيتٌ وتشنيعٌ من جنس ما سبق نقله عن التاج, فآثر طائفة من أهل العلم السلامة, فسكتوا, فأخذَ من أخذَ من المؤرخين والمترجمين هذا السكوت على أنه موافقة للأشعري. لذا لا تعجب إذا وجدتَ بعض الشرّاح يتعسّفون أو يُلبّسون, على الأئمة إذا وجدوا عقيدة تخالف ما ألفوه, إما تعصبا , وإما خوفا من معاصريهم, وهذا ما وقع لفخر الإسلام البزدوي, وشمس الأئمة السرخسي, مع شرّاح كتبهم, وهو ما سأوضحه في المسألتين الآتيتين:


    المسألة الأولى:
    كلام الله تعالى:
    وهذه هى أُمّ المسائل الكلامية التي تتعلق بأفعال الله الاختيارية, المتعلقة بمشيئته وقدرته, كالسمع, والبصر, والرضا, والغضب, والقول فيها اثباتاً أو نفياً أو تأويلاً, يلزم منه اطّراده في بقية الصفات.
    ولِعِظَم هذه المسألة قيل: إنه سُمّى علم الكلام لأجلها(22).
    وأبو منصور الماتريدي, وأبو الحسن الأشعري, وأتباعهم, منعوا تكلّم الله تعالى بالحرف والصوت, وأنه لا يُسمع كلامه, ومنعوا قيام الصفات الاختيارية بذاته تعالى, مما يتعلّق بمشيئته وقدرته, وجعلوا كلام الله تعالى مجرد المعنى(23).
    وذهب أئمة السنة والسلف بلا مدافعة : أحمد بن حنبل, ومحمد بن إسماعيل البخاري, وعثمان بن سعيد الدارمي, وعبد الله بن المبارك, وجمهور أهل الحديث, إلى اثبات حقيقة الكلام, وأنه تعالى تكلّم بحرف وصوت يُسمع, وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء, كيف شاء(24).
    ومسألة كلام الله تعالى, تعرّض لها الشيخان: فخر الإسلام البزدوي, وشمس الأئمة السرخسي, في باب الأمر,واحتجوا على أنه للوجوب بقوله تعالى : ( إنما قولنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) [النحل:40], فقال البزدوي :
    ( وهذا عندنا على أنه أُريد به ذِكْرُ الأمر بهذه الكلمة, والتكلّم بها على الحقيقة, لا مجازاً عن سرعة الإيجاد, بل كلاماً بحقيقته, من غير تشبيه ولا تعطيل)(25).
    وقال السرخسي :
    ( فالمراد حقيقة هذه الكلمة عندنا, لا أن يكون مجازاً عن التكوين, كما زعم بعضهم,فإنا نستدل به على أن كلام الله غيرُ مُحْدَث ولا مخلوق, لأنه سابق على المحدثات أجمع, وحرف الفاء للتعقيب)(26).
    ومن هنا تعاقب الشرّاح على تعسّف هذه النصوص وتحريفها(27):
    - والمقصود بالردّ هنا هو : أبو منصور الماتريدي, لكن الشرّاح تواطؤا- من غير شعور- على الكتمان, وكأنه عزّ عليهم أن يتناول الشيخ أبا منصور أحدٌ بالنقد , لا سيّما قول السرخسي: (لا كما زعم بعضهم), فإن "الزعم" في لغة العرب يأتي للقول الكذب, أو الكلام الذي لا يُوثق به(28).
    ولم يصرّح بالمقصود سوى صدر الشريعة المحبوبي, في "التوضيح", وكذلك ما جاء في هامش احدى نُسَخ "أصول السرخسي", كما أشار إلى ذلك محققه : أبو الوفاء الأفغاني(29).
    - ثم تواطؤا كذلك وتبعهم صدر الشريعة والتفتازاني في "التلويح والتوضيح", على حمل كلام الشيخين , على ( كلام الله تعلى النفسي, الذي ليس بحرف ولا صوت)(30).
    كذا قيّدوا كلام الشيخين! وهذا تلبيس قبيح, فبين وفاة الشيخين, ووفاة أبي منصور الماتريدي, وأبي الحسن الأشعري, أكثر من مئة وخمسين عاما, وشيوع واستقرار هذا المصطلح: (الكلام النفسي), فلا تُذكر هذه الصفة إلا مقيّدة بالكلام النفسي, لأن الجانحين لهذا الأصل, يقولون : إن الكلام مشترك بين الألفاظ المسموعة وبين الكلام النفسي, فدفعا لهذا الاشتراك الموهم, يقيدونه ب(النفسي), ولو كان هذا مُراد الشيخين لذكراه, لكنهما مناقضةً لأبي منصور, أثبتا حقيقة الكلام, الذي ليس بحرف ولا صوت,( بلا تشبيه ولا تعطيل), كما أكّد ذلك فخر الإسلام.
    ثم كيف يستقيم حمل كلام الله تعالى بالحقيقة , على الكلام النفساني؟!,فإنه لا يُقال لمن قام به الكلام النفساني, ولم يتكلّم به: إن هذا كلامٌ حقيقةً,وإلا لزم أن يكون الأخرس متكلّما حقيقةً.
    - هذا الذي ذكرتُه هو الذي يقتضيه السياق, وتقتضيه اللغة العربية التي كتبا بها, ومع ذلك فنقلُ نصّ الشيخ أبي منصور في تفسير هذه الآية, يقطع أىَّ تأويل, فإني ذكرتُ في النقطة السابقة, أن الشيخين كتبا ذلك مناقضةً لأبي منصور, يقول الشيخ أبو منصور, رحمه الله : (ثم قوله تعالى:{كن فيكون} , ليس هو من الله تعالى أن {كن}, بالكاف والنون, ولكنه عبارة عنه بأوجز كلام يُؤدى)(31), فنفى الشيخ الحرف, ونفى حقيقة الكلام, وجعل :}كن{, من (كان) التامة, أىّْ : احدث, فيحدث, فلم يتكلّم الله بها, كما لم يتكلّم بها في قوله : {كونوا قردةً خاسئين} [البقرة:165], فليس ثمّة أمر هنا, فهم لم يؤمروا أن يغيروا أنفسهم إلى قردة, إذْ لا قدرة لهم عليه, وهذا من مجاز التشبيه, والمعنى : ( أن ما قضاه الله تعالى من الأمور وأراد كونه, فإنما يكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف)(32).
    فما نفاه الشيخ أبومنصور هناك, أثبته الشيخان هنا, والمنفىُّ هناك : حقيقة الكلام, والحرف., والمثبت هنا ردّاً عليه: حقيقة الكلام, (من غير تشبيه أو تعطيل) كما عبّر به فخر الإسلام, أو ( غير محدث ولا مخلوق) , كما عبّر به شمس الأئمة.
    - لذا احتاج الشرّاح ومن تبعهم إلى تنصيب خلاف, حتى يكون ردّ الشيخين سائغا , فقالوا : إن البزدوي والسرخسي مالا إلى مذهب الأشاعرة القائلين بأن الله تكلّم- كلاما نفسيا- بكلمة:{كن}, عند تكوين الأشياء , وليست مجازا عن التكوين , مخالفين بذلك عامّة أهل السنة (كذا!) , ويقصدون به مذهب أبي منصور(33).
    وعلى فرض التسليم جدلا, بحمل كلام البزدوي والسرخسي على كلام الله تعالى النفسي, لكن ايرادهم هذا الخلاف ضعيف , لا يترتب عليه محذور أشعريٌّ أو ماتريديٌّ , وأعني بذلك أنه على كلا القولين : الكلام النفسي القائم بذات الله- وهو أصل أصولهم- , مستقرٌ غير منقوض, فمن قال : قوله تعالى : {كن فيكون}, هوعبارة عن سرعة الإيجاد, هو مقرٌ بأن القرآن هو كلام الله تعالى النفسي, لكنّه أوّل هذه الآية. ومن قال : بل تكلّم الله بهذه الكلمة, بكلام نفسي قائم بذاته, هو مقرٌ بهذا الأصل., فالخلاف صوري, وقد لمّح صدر الشريعة والتفتازاني إلى هوان هذا الخلاف – لو صح- , فقالا: ( وعلى المذهبين يكون الوجود مرادا من هذا الأمر )(34).
    والدليل على هذه المبالغة أن أساطين الأشاعرة, كالفخر الرازي, والتوحيدي, والبيضاوي, وغيرهم(35), فسّروا الآية على أنه عبارة عن سرعة الإيجاد, موافقين أبا منصور, غير متحرّجين من مخالفة أصلٍ, ولا متأثّمين من مخالفة الأشعري القائل : إن وجود الأشياء كان بخطاب :}كن{, وتبعه ابن الباقلاني(36). لذا كان ايراد الشرّاح هذا الوجه من الخلاف تسويغا للردّ في غاية الضعف.
    - بعد أن أثبت الشيخان هذه الصفة, نزها الله تعالى وصفاته عن ( التشبيه والتعطيل ) كما صنع البزدوي, وعن ( الخلق والحدوث) كما فعل السرخسي.
    لكن الشيخ عبد العزيز البخاري أمعن في تعسّفه, فجعل قولَ السرخسي : ( غير محدث) مذهباً مائلاً للأشاعرة, جافياً لمذهب أهل السنّة! (الماتريدية), فقال : ( يريد -أى السرخسي- به ما تمسكت الأشعرية في اثبات أزلية كلام الله تعالى بهذه الآية , فقالوا : إنه تعالى أخبر أنه خلق المخلوقات بخطاب :{كن}, فلو كان هذا مخلوقا, لاحتاج إلى خطاب آخر, وكذا في الثاني, والثالث, إلى ما لا يتناهى)(37).
    وهذا الذي نسبه الشيخ للأشاعرة صحيح, فإنهم يستدلون على أزلية كلام الله تعالى, وأنه غير مخلوق, منعاً لقيام الحوادث بالله, ف{كن}, حرفان: الكاف تسبق النون, و{كن}, التى خلق بها السموات, هى قبل{كن}, التي سيقيم بها القيامة, لذا منعوا أن يتكلّم الله بما شاء متى شاء, فهذا مرادهم ب(غير مخلوق) , ولا يعنون به أن صفة الكلام غير مخلوقة, فهذا أمر متفق عليه بين السلف والأشعرية.
    لكن الشيخ عبد العزيز أخطأ فى حمل كلام السرخسي في قوله ( غير محدث) على هذا المعنى , لأن السرخسي غاير بين لفظ ( المخلوق) ولفظ ( المحدث) بالعطف, وكذلك صنع في مواضع من كتابيه : "أصول الفقه" و"المبسوط", كما ستأتي أمثلته بعد قليل, أما الدليل الذي نقله عن الأشاعرة فساوَوْا فيه بين اللفظين, والفرق بينهما أن ( غير مخلوق) أىّْ: في نفسه, و( غير محدث) أىّْ : أحدثه في غيره, أو: المخلوق المنفصل, وسبب هذا التغاير, أن طائفة من أهل البدع , توقفوا في كلام الله تعالى, فلا يقولون : مخلوق, ولا غير مخلوق, لكنهم يقولون : هو محدث مجعول, أحدثه في غيره(38), لذلك يردّ عليهم أهل العلم بنفي كلا الاصطلاحين.
    وآيةُ هذا أن السرخسي لما استدل على كون المعنى في القرآن الكريم معجزا بنفسه, ولا يُشترط انضمام النظم له, قال : ( إن المعجز كلام الله, وكلام الله تعالى غير محدث ولا مخلوق, والألسنةُ كلُّها محدثةٌ : العربيةُ, والفارسيةُ, وغيرُهما..)(39), فغاير بينهما, وجعل المحدث ما خلقه وأحدثه في غيره من الألسن.
    وغاير بينهما كذلك في مسألة نسخ القرآن بالسنة, فقال : ( ولا شكّ أن السنة لا تكون مِثْلاً للقرآن ولا خيرا منه, والقرآن كلام الله غير محدث ولا مخلوق, وهو معجز, والسنة كلامُ مخلوق, وهو غير معجز)(40).
    - أكّد فخر الإسلام البزدوي أن الله تكلّم كلاما على وجه الحقيقة, حين عطف قوله : ( لا مجازاً عن الايجاد, بل كلاماً بحقيقته..), على الظرف المنصوب في قوله : ( على الحقيقة), وهو حالٌ من الضمير في قوله : (والتكلّم بها), والعامل في الحال هو قوله: ( والتكلّم ), وهذا التأكيد حمل الشيخ عبد العزيز البخاري على نفث أمنية قال فيها : ( ولو قيل : لا مجازٌ, وبل كلامٌ, بالرفع عطفاُ على الظرف المرفوع المحل, وهو قوله : ( على أنه أُريد به كذا), لكان أحسن, لأن الخلاف إنما وقع في نفس التكلّم أهو موجود عند وجود الأشياء أم لا؟ لا في وصف التكلّم, أنه موجود بطريق الحقيقة, أم هو موجود بطريق المجاز؟, ومجازاً بالنصب يقتضي أن يكون الخلاف في الوصف لا في الأصل )(41).
    وليس بأمانيِّ الشيخ عبد العزيز البخاري, ولا أمانيِّ أهل الكلام, فصفة الكلام قد وقع فيها الخلاف, بين السلف وبين المتأولين لها, لكنّ القوم لا يعترفون بمذهب السلف, وهذا الذي تمنى الشارح غيره, هو مراد فخر الإسلام , وشمس الأئمة., والعجب أن الشيخ البخاري, قد شهد للمؤلف وكتابه بأنه : ( كتاب عجيب الطبيعة, رائع الترتيب, صحيح الأسلوب, ليس في جودة تركيبه, وحسن ترتيبه مرية )(42), لكنه امترى في تركيب هذه الجملة, لأنها لم توافق ما ألفه من اعتقاد.
    - فإن عجبتَ مما سبق, فهذه أعجب, فإن الشيخ عبد العزيز البخاري زعم أن قول البزدوي : ( وهذا عندنا), بمعنى : ( أىْ نفسه وأقرانه, دون السلف المتقدمين )(43).
    وهذا لعمري مسبّةٌ للبزدوي وقرينه السرخسي, أن يؤلّفا كتابا نصرةً للمذهب النعماني, ثم يُضمّنا كتابيهما كلاما من ( عندهما), يخالفان به السلف! والسلف هنا :هو الشيخ أبو منصور الماتريدي! وحاشاهما, فإن الناشىء في هذا الفن يعلم أن قول وجوه المذهب : (عندنا), أىْ عند أئمته وأصحابهم, وهنا يقصدان : أبا حنيفة النعمان, وأبا يوسف, ومحمد بن الحسن, فهؤلاء هم أسلاف فخر الإسلام وشمس الأئمة., أما أسلاف الشيخ عبد العزيز البخاري ( المتقدمين!)- فعلى فضلهم- ليسوا بأكْفَاء لهم, لا في العلم, ولا الفقه, ولا الفضل, اللهم إلا على مذهب من يقول : ( طريقة الخلف أعلم وأحكم وأسلم!).
    وقبل ختم هذه المسألة , لا بدّ من التنبيه على أمر ذكرتُه عرضا قبلُ, وهو أن الشيخين أعرضا تماما عن النقل عن أبي منصور الماتريدي, ولم يحتفيا به وبكلامه كما فعل المتأخرون عنهما.
    فإن اعترض معترض بأن الشيخين ألفا في الفقه والأصول, والشيخ أبو منصور جلّ تأليفاته في العقائد؟
    فالجواب : فخر الإسلام البزدوي بدأ كتابه -كما هومعروف- بأصل التوحيد, فقرر عقيدة الإمام أبي حنيفة النعمان, ونقل من كتابه "الفقه الأكبر" , ولم ينقل البتة عن الشيخ أبي منصور , وكذلك فعل السرخسي في كتابه, فإنه تعرّض إلى مسائل كلامية عديدة, لكنه أعرض كما أعرض صاحبه عن النقل عنه, وما أرى أنهما فعلا ذلك إلا استنكافا عنه وعن معتقده.
    ثم إن حفاوة المتأخرين بالشيخ أبى منصور جاوزت المسائل العقدية إلى المسائل الأصولية والفقهية, فلم تكن هذه هى العلة في ترك الشيخين لتقريراته واختياراته.






    المسألة الثانية:
    التوقف في دلالة حكم العام:
    وليس ثمة تلبيس أو تحريف هنا بالمعنى المصطلح, لكن الشرّاح تعامَوْا عن التعريض الذي عرّض به شمسُ الأئمة أبا منصور الماتريدي, حين نعته بأنه لا سلف له في القرون الثلاثة, فقال : ( قال بعض المتأخرين ممن لا سلف لهم في القرون الثلاثة : حكمه – أى العام – الوقف, حتى يتبيّن المراد منه)(44).
    وصلة هذه المسألة بأصول الدين, أن طائفة من المتكلمين توقفوا فى دلالة العموم في المسائل العلمية العقدية, فتوقفوا في عموم آيات الوعد والوعيد , وسببه أن فرقة من المرجئة لمّا ناظروا الوعيدية من المعتزلة وغيرهم في قوله تعالى :{وإن الفجار لفي جحيم}[الانفطار:14], وقوله تعالى : :{ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها} [النساء:14], وغيرها من آيات الوعيد, التي تدل بعمومها على دخول عصاة الموحدين, اضطروا إلى جحد هذا العموم, لئلا يلزمها خصومها بوعيد الفسّاق, مما يخالف أصل المرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب.
    ولمّا ناظر بعضُ المتكلمين المرجئةَ في عموم آيات الوعد, كقوله تعالى : {الله ولىّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة:257], وقوله تعالى : { يُثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا} [ابراهيم:23], وغيرها من الآيات, التي دلّ عمومها على دخول عصاة الموحدين تحت هذا الوعد, اضطروا كذلك إلى جحد هذا العموم بالتوقف, حتى لا يتطاول خصومهم عليهم(45).
    والتوقف هو مذهب- إضافة للمرجئة- أبي الحسن الأشعري, وأبي منصور الماتريدي(46)., لذلك عرّض به شمس الأئمة السرخسي, ونعته بمخالفة السلف.
    وربّ قائلٍ يقول: الوقف هو مذهب المرجئة, وأبى الحسن الأشعري, فما الذي يقطع بأن المراد أبومنصور الماتريدي؟
    والجواب : تخصيص شمس الأئمة هذا النقد ل(بعض المتأخرين), ينفي أن المقصود بهم المرجئة, كفرقةٍ أو طائفةٍ, فإن الكلام وارد على شخص أو أشخاصٍ عدّة.
    وكذلك يبعد أن يكون المقصود بهذا النعت, أبا الحسن الأشعري, لما عُلم أن المصنفين في المذهب, يتناولون بالنقد والإنكار من ينتسب إليهم, إذا كانت المخالفة مستشنعة , لذا تجد أشدّ الناس ضراوة على الزمخشري – مثلا- هم الحنفية,لأنه ينتسب إليهم, ثم على فرض التسليم , أن المقصود أبا الحسن الأشعري أو غيره , فأن يكون المقصود أبا منصور من باب أولى.
    وقد ينقدح اعتراض أيضا في الأذهان : ربما كان هذا الإنكار لمن توقّف في دلالة العموم في المسائل الفرعية الفقهية؟
    والجواب : هذا احتمال أبعد من سابقه, فإن التوقف في عموم المسائل الفرعية التي يسوغ فيها لا تستدعي إنكارا, ولا يُوصف المتوقف بأنه ( لا سلف له في القرون المفضلة),فهذا وصف لا ينطبق إلا على من أتى ببدعة عقدية.
    هذا ما وقفت عليه, فإن كان من صواب فمن الله التوفيق والسداد, وإن كان من خطأ , فمني ومن الشيطان, واللهَ تعالى أسأل أن ينفعني بما كتبت, وأن ينفع من يقرأها, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.







    الحواشي والتعليقات

    (1) انظر: البحر المحيط 3/441, وتوجيه الزركشي المتكلّف لهذا القول, وانظر كذلك : مجموع الفتاوى4/157
    (2) يُروى حديثاً بسندٍ لا يصح, رواه أبو داود, في كتاب الأدب, باب في الهوى, رقم (5130), والصحيح وقفه على أبي ذر رضى الله عنه
    (3) رواه أبو داود في كتاب الأدب, باب في تنزيل الناس منازلهم, رقم (4842), عن عائشة رضى الله تعالى عنها, والحديث منقطع, لكن السخاوي في المقاصد الحسنة: 1/295 حسّنه بشواهده.
    (4) انظر : درء تعارض العقل والنقل 2/102
    (5) درء تعارض اعقل والنقل 2/99
    (6) انظر: شرح اللمع 1/199
    (7) انظر: تبيين كذب المفتري 1/277
    (8) نقله عنه ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 6/601
    (9) انظر : الفتاوى الكبرى 6/664
    (10) انظر: شرح اللمع 2/408
    (11) المصدر السابق
    (12) المصدر السابق
    (13) نقلها تاج الدين السبكي في الطبقات 3/338-379, ونقلها ابن تسمسة كذلك فى الفتاو الكبرى 6/602
    (14) الفتاوى الكبرى6/262
    (15) طبقات الشافعية3/358
    (16) انظر: بدائع الصنائع3/9
    (17) انظر: التلويح على التوضيح 1/366
    (18) طبقات الشافعية 3/380
    (19) انظر : أصول الديانة ص27, مقالات الإسلاميين 1/219
    (20) انظر : البداية والنهاية14/42
    (21) طبقات الشافعية 10/200-201
    (22) انظر : التحبير شرح التحرير 3/1247
    (23) انظر: المستصفى 1/10, المحصول1/1/135,شرح الفقه الأكبرص40
    (24) انظر :مجموع الفتاوى12/173, التحبير شرح التحرير3/1252, فتح الباري 13/492
    (25) انظر: أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار 1/264
    (26) أصول السرخسي1/18
    (27) انظر: كشف الأسرار1/264, بنيان الوصول (مخطوط 27/أ), التقرير 1/250
    (28) انظر : مادة "زعم" فى لسان العرب
    (29) التوضيح مع شرحه التلويح1/286-290
    (30) المرجع السابق
    (31) انظر: شرح تأويلات أهل السنة 1/268
    (32) انظر : تفسير النسفي1/124
    (33) المراجع السابقة
    (34) التلويح على التوضيح 1/290
    (35) تفسير الرازي 4/25, البحر المحيط 1/585, تفسير البيضاوي1/85, البحر المحيط للزركشي 2/275
    (36) انظر : الإبانة عن أصول الديانة 1/65, تمهيد الأوائل1/275
    (37) كشف الأسرار 1/264
    (38) انظر: مجموع الفتاوى 5/532
    (39) اصول السرخسي 1/282, وانظر كذلك : المبسوط 1/37
    (40) اصول السرخسى 2/67
    (41) كشف الأسرار 1/264
    (42) كشف الأسرار 1/26
    (43) كشف الأسرار 1/264
    (44) اصول السرخسي 1/132
    (45) انظر : أصول الجصاص1/40, البحر المحيط2/191, مقالات الإسلاميين 1/226
    (46) انظر: تلخيص الأوائل 2/494, التوحيد للماتريدي 1/342

  2. #2

    افتراضي رد: بحث (تلبيس الشّرّاح على البزدوي والسرخسي في مسائل الكلام) للأستاذالدكتور خالد الع

    ذكر كاتب المقال أن له تحقيقاً على التقرير شرح البزدوي
    فهل طبع تحقيق الأخ العروسي للتقرير؟
    فقد طبع التقرير كاملا في الكويت في وزارة الأوقاف، في ثمانية مجلدات، بتحقيق الدكتور عبد السلام صبحي صالح.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •