كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
صفية الشقيفي
(11) تسمية الإعجاز بالصرفة ونقضها
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (11)
لا أدري كيف ضل الرجلان في تيه الحوار والمناظرة، حتى اهتديا، بعد الإرهاق والتعب والهمود والخمود، إلى قول مذهل للعقول
[مداخل إعجاز القرآن: 56]
سمياه: (الصرفة)، لتكون هذه الصرفة في شأن القرآن مصححة أيضًا لشرطهما الذي أحدثاه، وهو: (مدار الآية على عجز الخليقة)، ولتخفى أيضًا ما في هذا الشرط من المغمز المفضي إلى فساده واضطرابه. وهذه (الصرفة)، كما وصفها أبو عثمان الجاحظ نفسه آنفًا، هي أن الله تعالى (رفع من أوهام العرب، وصرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن، بعد أن تحداهم الرسول بنظمه ...)، وكذلك قال مواضع أخر من كتبه، ولم يزد على هذا.
أما بيان مقالة أبي عثمان وأبي إسحق في (الصرفة) فهو كما ترى: الشأن في آيات الأنبياء جميعًا هو أن (العجز) عنها قائم في أنفس الخلائق، وذلك أن الله سبحانه حين فطر الخلائق سلبهم القدرة على أشياء استأثر بها سبحانه دونهم، لأنها داخلة دخولاً مبينًا في صفاته سبحانه، فإذا جاءت الخلائق (آية) هي حدوث شيء قد سلبوا القدرة عليه فطرة، وجدوا (العجز) عنه في أنفسهم وجدانًا ظاهرًا مغروزًا في طباع الإنس والجن والملائكة المقربين.
والقرآن بلا ريب، هو لنبينا صلى الله عليه وسلم (آية)، دالة على صدق نبوته كآيات سائر الأنبياء، فإذا كان ذلك كذلك، فشرط الآية، وهو (عجز الخليقة)، يستوجب، كما استوجب في
[مداخل إعجاز القرآن: 57]
سائر آيات الأنبياء، أن تتلقى الخلائق القرآن بعجز تجده قائمًا في أنفسها مغروزًا فيها، لأنهم قد سلبوا القدرة على مثله فطرة فطروا عليها. هذا شرط لازم لآية كل نبي، بيد أن هذا (العجز) الذي يتطلبه شرط الآية هو في شأن القرآن غير مستبين ولا ظاهر، بل هو أمر مشكل. فالقرآن كلام عربي النظم والتأليف، وقدرة العرب على نظم كلام وتأليفه بلسانها، بل قدرة سائر الخلائق على نظم كلام وتأليفه بألسنتها، أمر مقطوع بأنه قائم في أنفسها قيامًا ثابتًا مغروزًا فيها، فطرة فطروا عليها. وإذن فقد صار محالاً أن تكون الخلائق مما تتلقى هذا القرآن العربي النظم والتأليف، بعجز قائم في أنفسها مغروز فيها، يقطعها قطعًا عن نظم كلام وتأليفه مع تمام قدرتها فطرة على نظم الكلام وتأليفه.
ومع هذا المحال الذي لا شك في استحالته عقلاً، فإن (العجز) قد وقع، مع ظهور هذه الاستحالة ظهورًا بينًا لا محيص منه. فالعرب قد طولبوا في آيات من القرآن بأن يأتوا بسورة من مثله، بل أكبر من ذلك مجيء البيان القاطع للعرب وغير العرب من الإنس والجن بأنهم لا يستطيعون البتة أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فقيل لهم: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88].
[مداخل إعجاز القرآن: 58]
وقد كان الأمر كما قد قيل لهذه الخلائق! لم ينتصب أحد من العرب لمعارضة هذا القرآن بسورة من مثله، وانقطعت الخلائق كلها انقطاعًا لا ريب فيه عن الإتيان بمثل هذا القرآن. فهذا الانقطاع المستبين هو (العجز) كل العجز عن نظم كلام وتأليفه يضارع نظم القرآن، مع أن قدرة الخلائق على نظم كلام وتأليفه بألسنتهم باقية على عهدهم بها لم تتغير ولم تتبدل. فهذا حادث واقع غير خفي، وإن كان محالاً في العقل.
وإذن، فهذا المحال الذي صار واقعًا لا شك في وقوعه، لا يتأتى تفسيره، وإخراجه من الاستحالة، إلا على وجه واحد: أن يكون قد حدث في أنفس الخلائق (عجز) مستأنف مبتدع، جاء مقارنًا لتنزيل القرآن، هو نفسه (آية) أخرى دالة على صدق هذا النبي الذي أوحى إليه هذا القرآن، صلى الله عليه وسلم. ومعنى ذلك أن الله تعالى حين نزل القرآن على نبيه منذ أول يوم، كان قد أحدث في أنفس الخلائق (عجزًا) عن الإتيان بمثله، فتلقت الخلائق (آية القرآن) بعجز قائم في أنفسها عن الإتيان بمثله. وبين كل البيان أن (العجز) الذي هو شرط في آية كل نبي صار الآن (عجزان): عجز قديم مغروز في أنفس الخلائق عند الفطرة الأولى لأنهم سلبوا القدرة سلبًا جازمًا عن أفعال قد استأثر الله
[مداخل إعجاز القرآن: 59]
بها وحده سبحانه دون خلائقه جميعًا، فتأتي آيات الأنبياء جميعًا من هذا الباب، فتتلقاها الخلائق بالتسليم والعجز.
هذا هو (العجز الأول)، ثم (عجز) أحدثه الله إحداثًا عند تنزيل آية نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن، وهو (عجز) مستحدث فجأة في أنفس الخلائق، وهو عجز لا يسلبها القدرة على نظم الكلام وتأليفه بتة، فذلك إلحاق لها بالبهائم والعجماوات، بل هو عجز يسلبها القدرة على نظم الكلام وتأليفه في حالة واحدة ليس غير، هي الحالة التي تريغ فيها الخلائق، أو تسول لها أنفسها، معارضة القرآن بنظم وتأليف يشابهه أو يدانيه، فعندئذ يقطعها (العجز) قطعًا مبينًا على إتيان ما أراغته من الإتيان بمثل هذا القرآن، ثم هي بعد ذلك مطلقة قدرتها إطلاقًا على ما شاءت من نظم الكلام وتأليفه، بلا حرج عليها في ذلك! وهذا هو (العجز الثاني).
على هذا الوجه زال الإشكال، فيما توهم أبو إسحق النظام وأبو عثمان الجاحظ، وسلم لهما الشرط الذي وضعاه وهو: (مدار الآية على عجز الخليقة)، وهذا (العجز الثاني) الذي ضرب على الخلائق كلها عند تنزيل القرآن سيظل مستقرًا في أنفس الخلائق حتى يرث الله الأرض ومن عليها بلا ريب في
[مداخل إعجاز القرآن: 60]
ذلك. وقد استحدثا لهذا (العجز) اسما، وهو (الصرفة)، لأن الله سبحانه حين نزل القرآن، كتب فجأة على العرب وعلى سائر الخلائق أن تكون أوهامهم مصروفة صرفًا سرمدًا عن القدرة على نظم كلام وتأليفه، إذا راموا معارضة القرآن أو الإتيان بسورة من مثله، مع بقاء قدراتهم سالمة على نظم الكلام وتأليفه في سائر أحوالهم. وهذه (الصرفة) كما ترى، تسلب نظم القرآن وتأليفه كل فضيلة، لأنهم معجزون بالصرفة لا غير!! بل أكبر من ذلك، أن هذه (الصرفة) تجعل مطالبة الخليقة في الإتيان بمثل القرآن مطالبة ظاهرها أنهم مخيرون في فعل ما طولبوا به تخييرًا مطلقًا، وباطنها أنهم مجبرون على ترك فعل ما طولبوا به إجبارًا مفاجئًا لا مخلص منه، ولا إرادة لهم فيه، ولا يملكون له دفعًا. فهم قادرون عاجزون في وقت معًا. وهذا عبث محض، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا).[مداخل إعجاز القرآن: 5-61]