تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: حجية شرع من قبلنا ، وهل هو شرع لنا

  1. افتراضي حجية شرع من قبلنا ، وهل هو شرع لنا

    بسم الله الرحمن الرحيم
    هذا بحثٌ مختصر ، في مسألةٍ مهمة ، ألا وهي شرع من قبلنا هل هو شرعٌ لنا أم لا ، وهذا البحث ، إنما كان ضمن كتاب كبير أعمل عليه ، فآليتُ أن نقلته هنا للفائدة .


    اختلف العلماءُ في صحة الاحتجاج بشرعِ مَن قبلنا ، على أقوال أشهرها قولين :


    * القول الأوَّل : قول جمهور علماء الأمَّة ، وهو أنَّ شرع مَن قبلنا شرعٌ لنا إلاَّ ما نُسِخَ مِنه ، وهذا قول الحنفيَّة والمشهور عند المالكيَّة والشافعيَّة ، ورواية عن الإمام أحمد ، قال أبو المعالي الجويني رحمه الله : (وللشافعي ميلٌ إلى هذا وبنى عليه أصلاً مِن أصولهِ في كتاب الأطعمة ، وتابعهُ معظم أصحابه) انتهى [كتاب البرهان ج1/ص174] .


    واستند الجمهور إلى أدلَّةٍ كثيرة ، أبرزها :


    (1) الدليلُ الأوَّل : قــولــه تــعــالى : {أولــئــك الذين هدى الله فبهداهم اقــتــده} [سورة الأنعام 90] ، ووجه الدِّلالة : أنَّ الله جل ذكره أمرَ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم ، وهذا يقتضي أنَّ شرعهم شرعٌ له .


    (2) الدليلُ الثاني : قــولــه تعالى : {شرع لكم مِن الدين ما وصَّى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [سورة الشورى 13] ، ووجه الدِّلالة : أنَّ "مِن" في قوله {مِن الدين} للتبعيض ، فدلَّ على أنَّ الله شرعَ لنا أحكامًا كان قد شـــرعها لمن قـــبلـــنــا . والدين اســمٌ لكل ما يُـــدان الله به ، فتدخل كل الأحكام في ذلك ، سواءٌ كانت الأصول أم الفروع .


    (3) الدليلُ الثالث : قوله تعالى : {ثم أوحينا إليك أن اتَّبع ملة إبراهيم حنيفًا} [سورة النحل 123] ، وقوله تعالى : {قل إنَّني هداني ربي إلى صراطٍ مستــقيم ديــنًـا قــيِّـــمًا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان مِن المشركين} [سورة الأنعام 161] . وهذا نصٌّ في اتباع ملة إبراهيم ، والملة هي الدين ، وتشمل الأصول والفروع .


    (4) الدليلُ الرابع : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رَجَعَ إلى التوراة في رجم الزانيين مِن اليهود [أخرجهُ مالك في الموطأ برقم (2374) ، والبخاري برقم (6841) ، ومسلم برقم (1699)] .


    واعتُرِضَ على هذا الاستدلال : بأنَّ رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوراة ، لم يكن لأخذ الحكمِ مِنهم ، بل تحقيقًا لكذبهم وإلزامًا لهم بما في كتابهم ، كما وَرَدَ في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّه قال : إنَّ اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنَّ رجلاً مِنهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تجدون في التوراة في شأنِ الرجم ؟" ، فقالوا : نفضحهم ويُجلدون ، فقال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إنَّ فيها الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفَع يدهُ فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد ، فيها آية الرجم ، فأمرَ بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِمَا ، فرأيتُ الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة .


    وأُجيب على هذا الاعتراض : بأنَّ بيان كذبهم وإلزامهم بما في كتابهم لا ينفي كونه قد حكمَ به ، وصار شرعًا له .


    * القول الثاني : أنَّ شرع مَن قبلنا ليس شرعًا لنا ، وهذا القول رواية عند الحنابلة ، واختاره بعض الشافعية ، وابن جرير الطبري رحمه الله .


    واستدلوا بأدلَّة كثيرة ، أبرزها :


    (1) الدليلُ الأوَّل : قـــولـــه تــعـــالى : {لكلٍّ جعلنا مِنكم شِرعَةً ومِنهاجًا} [سورة المائدة 48] ، قالوا : فاختص كل نبيٍّ بشريعة .


    ويُجاب على هذا الاستدلال مِن وجهين :


    الأوَّل : أنَّ الآية ليست نصًّا صريحًا في اختصاص كل نبيٍّ بشريعة مختلفةٍ اختلافًا تامًّا عن شرائع بقيَّة الأنبياء ، إنَّما هو محضُ إخبارٍ بأنَّ الله جعل لكل نبيٍّ بعثهُ شريعةً يحكم بها .


    الثاني : أنَّنا لا نعترضُ على وجود الاختلاف بين شرائع الأنبياء ، لكنَّ ذلك الاختلاف إنَّما كان باعتبار الأكثر ، واختلاف الشرائع فيما بينها في أكثر الأحكام لا ينفي اشتراكها في بعض الأحكام ، فأمَّا ما كان منسوخًا في شرعنا فهو المقصود باختصاص شريعة مَن قبلنا بهِ .


    (2) الدليلُ الثاني : قولهُ تعالى : {وآتينا موسى الكتاب وجعلناهُ هدىً لبني إسرائيل} [سورة الإسراء 2] ، قالوا : فــخـــصـــصـــ هم بهِ في قوله {هدىً لبني إسرائـــيـــل} ، فدل هذا على أنَّه لا يلزمنا العمل به .


    وأُجيب على هذا الاستدلال : بأنَّ الآية لا تدل على أنَّه ليس بهدىً لغيرهم ، كقوله تعالى عن القرآن : {هدىً للمتقين} والقرآن هدىً للناس أجمع .


    (3) الدليلُ الثالث : أنَّ أكثر الأنبياء عليهم السلام بُــعـــثـــوا إلى أقوامهم خاصَّةً ، ونبينا عليه الصلاة والسلام مبعوثٌ إلى الناس كافة ، كما ثبت في الصحيحين أنَّه صلى الله عليه وسلم قال : "أُعطيتُ خمسًا لم يعطهنَّ أحد قبلي" حتى قال : "وكان النبي يُبعَث إلى قومهِ خاصة وبُعثتُ إلى الناسِ عامَّة" ، [أخرجه البخاري برقم (335) ومسلم برقم (521) ، وأحمد برقم (14314)] ، والنبي عليه الصلاة والســلام أمَـــرَ الناس باتـــبـاعهِ ولم يأمر الناس بالعملِ بــشـــريــعــة مَن قبله ، كما قال تــعــالى عنه : {فاتبعوني يحببكم الله} .


    وأُجيب عن هذا الدليل : بأنَّنا لا نُسلِّم أنَّ هذا الدليل يفيدُ اختصاصهُ بشريعةٍ لا يشوبها شيءٌ مِن شريعة الذين قبله .


    (4) الدليلُ الرابع : ما رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه لما رأى مع عمر رضي الله عنه شيئًا مِن التوراة غضبَ وقال : "أمتهوِّكونَ فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بــيــده لقد جــئــتكم بها بــيــضاء نــقــيَّــة ، لا تــســألوهم عن شيءٍ فــيخبروكم بحقٍّ فتكذبوا به ، أو بباطلٍ فتصدقوا به ، والذي نفسي بيده لو أنَّ موسى عليه السلام كان حيًّا ما وسعه إلاَّ أن يتَّبعني" [رواه أحمد (15223)] .


    ووجهُ الدلالة : أنَّ في الحديث نهيٌ صريحٌ عن الأخذ بشريعة مَن قبلنا ، ولو كان جائزًا لنُقِلَ عنهُ صلى الله عليه وسلم جواز ذلك .


    وأُجيبَ على هذا الاستدلال : بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يغضب لـمَّا رأى التوراة مع عمر إلاَّ لأنَّها محرَّفة ، ولم تُنقَل إلينا نقلاً موثوقًا به ، فأمَّا ما ثبتَ بطريق القرآن أو الرسول أنَّه شرعٌ لمن قبلنا فهو شرعٌ لنا قطعًا ، ما لم يرد دليلُ النسخ .


    والراجح مِن الأقوال : كما يظهرُ هو القول الأوَّل ، والعلم عند الله .


    ويجبُ التنبه إلى أمورٍ في هذه المسألة :


    (1) أنَّ مَن قال بحجيَّة شرع مَن قبلنا ما لم يرد النسخ ، لم يذهب إلى أنَّ الرجوع إلى تلك الأحكام عن طريق كتبهم المحرفة ، بل عن طريق القرآن أو السنَّة ، وهذا ما نبَّه عليه الإمام الشوكاني رحمه الله ، لـمَّا تعرَّض لهذه المسألة ، حيث قال : (وقد فصَّل بعضهم تفصيلاً حسنًا ، فقال : إنَّه إذا بلغنا شرع مَن قبلنا على لسان الرسول أو لسان مَن أسلم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ، ولم يكن منسوخًا ولا مخصوصًا فإنَّه شرعٌ لنا ، وممن ذكر هذا القرطبي ، ولابدَّ مِن هذا التفصيل على قول القائلين بالتعبد ، لما هو معلومٌ مِن وقوع التحريف والتبديل ، فإطلاقهم مُقيَّدٌ بهذا القيد ، ولا أظنُّ أحدًا مِنهم يأباه) انتهى [إرشاد الفحول ص785] .


    (2) أنَّ مَن قال بأنَّ شرع مَن قبلنا ليس شرعًا لنا ، فهو يُـــقــرُّ بأنَّ شريعتنا وشرائع مَن قبلنا تتفق في الأصول الكليَّة وتختلف في الفروع ، وبعضهم يُعبِّر عن المتفق عليه بالتوحيد والإيمان ، والبعض الآخر يُـعبّرُ عن ذلك بأصل الدين .


    كتبهُ : صالح الجبرين .
    رابط المقال :
    http://salehaljibreen.blogspot.com/2...blog-post.html



    * * *

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    11,596

    افتراضي رد: حجية شرع من قبلنا ، وهل هو شرع لنا


  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    11,596

    افتراضي رد: حجية شرع من قبلنا ، وهل هو شرع لنا

    فصل
    [في حكم شرع من قبلنا]


    • قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٧٢]:
    «ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابنَا وَأَصْحَابِ أَبي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا لاَزِمَةٌ لَنَا إِلاَّ مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى نَسْخِهِ».
    [م] في تحرير محلِّ النِّزاع ينبغي التفريق بين حالتين مجمع عليهما وثالثة مختلف فيها:
    الحالة الأولى: أن يثبت أوَّلًا أنَّه شرع لمن قبلنا، وذلك بطريقٍ صحيحٍ، وأن يثبت ـ ثانيًا ـ أنَّه شرع لنا، فشرع من قبلنا بهذا الاعتبار شرع لنا إجماعًا مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٣].
    الحالة الثانية: إن لم يثبت بطريقٍ صحيحٍ كالمأخوذ من الإسرائيليات، أو ثبت بطريقٍ صحيح أنَّه شرع من قبلنا، لكن ورد في شرعنا التصريح بنسخه، فشرع من قبلنا بهذا الاعتبار ليس شرعًا لنا إجماعًا، كالإصر والأغلال التي كانت عليهم فهي موضوعة في شرعنا، قال تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧].
    الحالة الثالثة: وهي محلّ النِّزاع في شرع من قَبْلَنَا، وذلك إذا ثبت بطريق صحيح من كتاب الله أو سُنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ولو كانت من أخبار الآحاد، ولم يرد في شرعنا ما يُؤيِّده ويقرِّره ولا ما يبطله وينسخه، فإنَّ ما عليه الأكثرون أنَّ شرع من قبلنا بهذا الاعتبار حُجَّة يقتضي العمل به لوجوب العمل بجميع نصوص الكتاب والسُّنَّة الصحيحة(١)، وإن كان الظاهر المتقرّر في علم الأصول أنَّ شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، وهو مذهب الشافعي وبه قال ابن حزم، لقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨]، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلي.. (وآخرها) وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً»(٢)، وفي الحديث دلالة صريحة على أنَّ شريعة غير نبيِّنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم لا تلزمنا من ناحية أنَّ الله تعالى لم يبعث إلينا أحدًا من الأنبياء غيره، وإنما كان غير النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يبعث إلى قومه فقط لا إلى غير قومه(٣).
    والخلاف وإن كان له أثر معنويٌّ إلَّا أنَّ مَن احتجَّ به لم يستدلَّ به مستقلًّا، بل عضَّده بدليلٍ ثابتٍ في شرعنا، ومن أبطله فإنه ـ غالبًا ـ ما يستأنس بنصوصٍ تُذكر في شرع من قبلنا.
    ومن الفروع الفقهية التي ذكر فيها الأخذ بشرع من قبلنا هي:
    ١ ـ في الأفضل في الأضحية، فمذهب مالك أنَّ الأفضل في الضحايا الكباش ثمَّ البقر ثمَّ الإبل، وعمدته شرع من قبلنا من جهتين: الأولى فيما فعله إبراهيم عليه السلام من فداء ولده بكبش، والثانية: إنَّ الذِّبح العظيم الذي فدى به إبراهيم عليه السلام سُنَّة باقية إلى اليوم، وأنها الأضحية وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ﴾ [سورة الصافات: ١٠٨]، وعضَّده بما ثبت عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه ضحَّى بالكبش(٤)، وكذلك فعل ابن عمر رضي الله عنهما وغيرُه.
    أمَّا مذهب الشافعي وأحمد، فإنَّ الأفضل الإبل، ثمَّ البقر، ثمَّ الغنم، لعموم قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا»(٥)، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم عندما سُئل: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَل ؟ قال: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا»(٦)، وقياسًا على الهدي بجامع القربة بالحيوان، فكانت البدنة فيه أفضل، وأنَّ ما فعله رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فقد فعل ما يجزي في الدم فأعلاه خير منه(٧)، وذلك دلالة قوله صلَّى الله عليه وسلَّم، والقول أقوى من الفعل، وأرجح منه.
    ٢ ـ في حكم الجُعالة، فمن اعتبرها شرع من قبلنا استدلَّ بقوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ [سورة يوسف: ٧٢]، وهو مذهب مالك اعتمادًا على أصله في الأخذ بشرع من قبلنا ما لم يرد نسخه، والشافعية وإن كانوا لا يعتبرون بشرع من قبلنا في الحُجِّية إلَّا أنهم يستأنسون به على خبر أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه رقى رجلًا بفاتحة الكتاب على قطيع من الغنم وشارطه على البرء(٨)، والأحناف وإن كانوا يعتبرون حُجِّية الأخذ بشرع من قبلنا إلَّا أنَّ الجعالة تتضمَّن معنى الغرر المنهي عنه، ذلك لأنَّ الجعالة إجارة، والإجارة تفسدها جهالة المنفعة المعقود عليها، الأمر الذي يفضي إلى المنازعة فيمنع(٩).
    ٣ ـ في جعل المنفعة مهرًا، فمن رأى جواز جعل المنفعة صداقًا استدلّ بقوله تعالى: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [سورة القصص: ٢٧]، فكان هذا شرعُ من قبلنا شرعًا لازمًا لنا حتى يرد الدليل على ارتفاعه، ومن منع الاحتجاج بشرع من قبلنا قال: لا يجوز النكاح بالإجارة(١٠).
    ٤ ـ في ضمان ما تتلفه الدواب، فمن اعتمد الأخذ بشرع من قبلنا على ما أفسدته الدواب ليلًا فهو مضمون على أصحابها، ولا ضمان عليهم فيما أفسدته في النهار عَمِلَ بقوله تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ [الأنبياء: ٧٨]، والنَّفْشُ عند أهل اللغة لا يكون إلَّا بالليل، وهذا عمدة مالك -رحمه الله- في العمل بشرع من قبلنا، والشافعي -رحمه الله- وإن لم يأخذ بهذا الأصل إلَّا أنه أخذ به على وجه الاستئناس وعُضِّد ذلك «بقضاء رسول اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأنَّ ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها»(١١)، وأبو حنيفة -رحمه الله- استدلَّ على عدم الضمان مُطلقًا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «جُرْحُ العَجْمَاءِ جُبَارُ»(١٢)، ولم يعمل بشرع من قبلنا ـ وهو من أصوله ـ لورود في شرعنا ما ينسخه(١٣).
    [في تعبُّد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بشرع من قبله]

    • قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٧٣]:
    «وَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبيِ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»(١٤)، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [سورة طه: ١٤]، وَإِنَّمَا خُوطِبَ بذَلِكَ مُوسَى عليه السلام فَأَخَذَ بهِ نَبيُّنَا مُحَمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم».
    [م] في مسألة تعبُّد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بشرع مَن قبلَه من الأنبياء فقد وقع الخلاف بين أهل العلم في حالتين:
    الأولى: في تعبُّد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قبلَ البعثة بشرع مَن قبله، وبالجملة اختلفوا فيها على مذاهب:
    إنَّه متعبّد بشريعة مَن قبلَه مع اختلافهم في تعبّده هل كان على سبيل الإطلاق أم على سبيل التعيين ؟ وقال بعض الحنفية والمالكية: إنّه غير متعبّد بشريعة من قبلَه، وتوقّف في ذلك القاضي عبد الجبار والجويني والغزالي والآمدي وغيرهم.
    الثانية: في تَعبُّدِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعد البعثة بشرع مَن قبلَه، والظاهر من المانعين من تعبُّده قبل البعثة نفيهم التعبُّد بعد البعثة، وأمَّا المثبتون والمتوقُّفون فقد اختلفوا على قولين:
    لم يكن متعبِّدًا باتباعها بل كان منهيًّا عنها، وبه قال أبو إسحاق الشيرازي في آخر قوليه واختاره الغزالي، وما عليه أكثر الحنفية وجمهور الشافعية والمالكية وطائفة من المتكلمين أنَّه كان متعبّدًا بشرع مَن قبلَه إلَّا ما نسخ منه واختاره الرازي(١٥).
    ولا يخفى أنَّ كلَّ رسولٍ إنَّما تعبَّده اللهُ بشريعةٍ خاصَّةٍ به، أمَّا الدِّينُ الجامع وهو الإسلام فهو عامٌّ لسائر الأنبياء والمرسلين، وهذا هو المقصود من توحيد المِلَّة والدِّين، وتعدّد الشرائع والمناهج(١٦)، لقوله تعالى: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨].




    (١) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ٦ ـ ٧)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي: (٤/ ٤١٢)، «مذكرة الشنقيطي» (١٦١).

    (٢) متفق عليه، أخرجه البخاري في «التيمم» (١/ ٤٣٥ ـ ٤٣٦)، وفي «الصلاة» (١/ ٥٣٣)، ومسلم في «المساجد» (٥/ ٣)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

    (٣) انظر: «الإحكام» (٢/ ٩٤٣)، و«النبذ» كلاهما لابن حزم (٩١).

    (٤) أخرجه البخاري في «الأضاحي» (٥٥٦٤)، ومسلم في «الأضاحي» (٥١٩٩)، وأبو داود في «الضحايا» (٢٧٩٦)، والترمذي في «الأضاحي» (١٥٧٣)، والنسائي في «الضحايا» (٤٤٠٣)، وابن ماجه في «الأضاحي» (٣٢٣٩)، وأحمد (١٢٢٨٤) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

    (٥) متفق عليه: أخرجه البخاري (٢/ ٣٦٦)، ومسلم (٦/ ١٣٥)، وأبو داود (١/ ٢٤٩)، والترمذي (٢/ ٣٧٢)، والنسائي (٣/ ٩٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

    (٦) متفق عليه: أخرجه البخاري (٥/ ١٤٨)، ومسلم (٢/ ٧٣) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

    (٧) «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٤١٦)، «المغني» لابن قدامة (٩/ ٤٣٩)، «مغني المحتاج للشربيني» (٤/ ٢٨٥).

    (٨) أخرجه البخاري (١٠/ ٢٠٩)، ومسلم (١٤/ ١٨٧) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

    (٩) «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ٢٣٢)، «المغني» لابن قدامة (٥/ ٤٠٠)، «بدائع الصنائع» للكاساني (٦/ ٢٥٧٩)، «مغني المحتاج» للشربيني (٢/ ٤٢٩).

    (١٠) «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ٢٠)، «المغني» لابن قدامة (٧/ ٢١٢).

    (١١) سبق تخريجه، انظر: الرابط.

    (١٢) سبق تخريجه، انظر: الرابط.

    (١٣) انظر «المغني» لابن قدامة (٩/ ١٨٨)، «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ٣١٨)، «فتح القدير» لابن الهمام (٨/ ٣٥١)، «مغني المحتاج» للشربيني (٤/ ٢٠٦).

    (١٤) أخرجه البخاري (٢/ ٧٠)، ومسلم (٥/ ١٩٣)، وأبو داود (١/ ٣٠٧)، والترمذي (١/ ٣٣٥)، والنسائي (١/ ٢٩٣)، وابن ماجه (١/ ٢٢٧)، والدارمي (١/ ٢٨٠)، والبيهقي (٢/ ٢١٨)، من حديث أنسِ بن مالك رضي الله عنه. وهذا الحديث ذكره المصنِّف بصيغة التمريض الموضوعة لما عدا الصحيح والحسن، وهذه الطريق مغايرة لمنهج العلماء المحقِّقين من أهل الحديث الذين يميِّزون بين صيغتين عند إيراد الحديث: صيغة الجزم موضوعة للصحيح والحسن، وصيغة التمريض موضوعة لما عداهما، وهذا أدب أخلَّ به جماهير أصحاب العلوم، ما عدا حذَّاق المحدِّثين كما أشار إليه النووي وغيره . [انظر: «المجموع» للنووي (١/ ٦٣)، «فتح المغيث» للسخاوي (١/ ٥٤)، «قواعد التحديث» للقاسمي (٢١٠)].

    (١٥) انظر تفصيل المسألة في المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٧٤).

    (١٦) انظر وجه اتفاق الشرائع السابقة ووجه اختلافها في «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ١٠٦ ـ ١٠٧ ـ ١١٣ ـ ١٨٥).



    https://ferkous.com/home/?q=inara-12-9

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    11,596

    افتراضي رد: حجية شرع من قبلنا ، وهل هو شرع لنا


  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    11,596

    افتراضي رد: حجية شرع من قبلنا ، وهل هو شرع لنا


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •