تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: مدخل التنمية البشرية في الخطاب الديني الجديد (عمرو بسيوني)

  1. #1

    افتراضي مدخل التنمية البشرية في الخطاب الديني الجديد (عمرو بسيوني)


    أولا : المدخل النظري :

    1 ـ جوهر التنمية البشرية :

    لا يقلل من قيمة المفهوم الإعلامي للتنمية البشرية على أنها : ( تنمية الناس بالناس للناس ) [1] ـ كما يشيع مدربو التنمية البشرية ـ تلقائيته في التعبير عن لب التنمية البشرية ، فهو يشابه تماما ، وبمحاذاة مدهشة تعريف إبراهام لنكولن ـ الرئيس الأمريكي الأسبق ـ الأيقوني للديمقراطية على أنها : ( حكم الشعب بالشعب للشعب ) ، ورغم أن الأخير ـ كما الأول ـ لا يختلف الباحثون أنه ليس تعريفا علميا صحيحا ، على المستوى الفلسفي أو الإجرائي ، إلا أنهم لم يختلفوا كذلك أن مثل هاته التعريفات هي اللسان الناطق باسم تلك المذاهب .


    فالحاصل أن كل ما من شأنه الارتقاء بوضع الإنسان ، فرديا واجتماعيا ، فهو لب وهدف وغاية فن التنمية البشرية ، الذي ينتزع أدواته لتحقيق تلك الغايات من مجالات شتى ، من علم النفس ، والاجتماع ، والفلسفة ، والطب ، والدين ، والسياسة ، وغير ذلك .

    2 ـ بين الإسلام والتنمية البشرية / تفلسف التقاطع والتمايز :

    يمكننا أن نقرر بوضوح : أن جوهر الإسلام هو معرفة الحق تعالى ، وتحصيل السعادة الدنيوية والأخروية بتلك المعرفة ، ومقتضياتها من اتباع الشرع وتصديق الخبر .
    وجوهر التنمية البشرية : التموضع حول النفس البشرية ، واستغلال طاقاتها ، لاستلهام النجاح الدنيوي .

    فالإسلام ليس منهجا حياتيا محضا ، يُعنى بتدبير شؤون الإنسان وتنظيمها ، على المستوى الفردي ، بحيث يحقق الاتساق مع نفسه ، ويؤدي إلى التقييم الإيجابي للذات والرضا عنها ، والبحث عن مغزى للحياة ، ورفع مستوى المعيشة ، وتنظيم الوقت ، وعلى المستوى الاجتماعي بتحقيق النجاح العملي ، وإجادة الأدوار الاجتماعية ، وتحقيق الحراك الاجتماعي لأعلى ، وتطوير مهارات الحوار ، وتربية قيم العمل الجماعي وروح القيادة ، وحسن التعامل مع الرئيس والمرؤوسين ، وتحسين العلاقة بالأسرة ، ونحو ذلك مما يهتم به مدربو التنمية البشرية [2] .

    دون أدنى إشكال ؛ نحن نقرر أن الإسلام يؤدي إلى كل ذلك بأهدى سبيل ، لكنه ليس منهجا حياتيا هذا دوره الوحيد ، أو الضروري ، أو التفصيلي ، بدليل أن كل ما هو مذكور من أهداف سامية قد يكون مهدرا إذا تعارض مع مفاهيم أكثر أهمية وفق التصور الإسلامي .

    وسنتناول هذا بشيء من التفصيل في الشق الثاني من هذا المقال .
    وهذه مجموعة من نصوص شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمة الله عليه ـ تبين منطلق المنهج الإسلامي في العلم والهدى والسعادة :

    1 ـ " أصل العلم والهدى: هو الإيمان بالرسالة المتضمنة للكتاب والحكمة " .
    2 ـ " لما كان ـ في نفس الأمر ـ وجود محبوب مألوه: كان أصل السعادة الإيمان بذلك وأصل الإيمان: قول القلب الذي هو التصديق وعمل القلب الذي هو المحبة على سبيل الخضوع إذ لا ملائمة لأرواح العباد: أتم من ملاءمة إلهها الذي هو الله الذي لا إله إلا هو " .
    3 ـ " الأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى العدم وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها ، فهي دائمة الافتقار إليه لا تستغني عنه لحظة لا في الدنيا ولا في الآخرة " .

    3 ـ إشكالية العقل الأداتي :

    تنبه بعض علماء النفس والاجتماع إلى ما يتعلق بجوهر ما نسميه حاليا بالتنمية البشرية الوضعية ، وانفكاكها عن القيمة ، والمكون العلماني المادي فيها ، مما حدا بهم للبحث ـ في سياقات تتعلق بالمجتمع الرأسمالي وتفاعلاته ـ فيما يعرف بالعقل الأداتي .

    نشأ البحث في العقل الأداتي في مدرسة " فرانكفورت " المعروفة في علم الاجتماع ، على يد روادها " هوركايمر " ، و" تيودور أدورنو " .

    يقول الدكتور المسيري : " «العقل الأداتي» ترجمة للمصطلح الإنجليزي «إنسترومنتال ريزون instrumental reason» ، ويُقال له أيضاً «العقل الذاتي» ، أو «التقني» ، أو «الشكلي» ، وهو على علاقة بمصطلحات مثل : «العقلانية التكنولوجية» ، أو «التكنوقراطية» ، ويقف على الطرف النقيض من : «العقل النقدي» ، أو «الموضوعي» .

    والعقل الأداتي : هو العقل الذي يلتزم، على المستوى الشكلي، بالإجراءات دون هدف أو غاية، أي أنه العقل الذي يوظف الوسائل في خدمة الغايات ، دون تساؤل عن مضمون هذه الغايات وما إذا كانت إنسانية أو معادية للإنسان. وهو ـ على المستوى الفعلي ـ العقل الذي يحدد غاياته وأولوياته وحركته انطلاقاً من نموذج عملي مادي بهدف السيطرة على الطبيعة والإنسان وحوسلتهما [3] " [4] .

    ويقول الدكتور عابد الجابري : " العقل الأداتي : هو العقل الذي يربط الحق والخير والحسن بالمنفعة والنجاح .

    شعاره : كل ما يحقق النجاح فهو حق وصواب وجميل. ومن الطبيعي أن ينساق هذا "العقل الأداتي" مع شعار "الغاية تبرر الوسيلة" " [5] .

    ثم جاء عالم الاجتماع الألماني " يورغن هابرماس " وتناول ما يتعلق بالعقل الأداتي على أنه العقل السائد في المجتمعات الرأسمالية الحديثة ، التي فقد فيها العقل دوره كملكة فكرية ، واختزلت طبيعته إلى مجرد أداة لتحقيق الأهداف ، كما تحول إلى أداة لتوفير الوسائل ، وهو ما يتكلم عنه باعتباره : (الطبيعة الاختزالية للعقل الأداتي ) ، التي ظهرت في مؤلفات من سبقه في مدرسة " فرانكفورت " ، مثل : " هوركايمر وأدورنو " في " جدل التنوير" [6] ، " هوركيمر " في " أفول العقل " [7] ، و" ماركيوز " في " الإنسان ذو البعد الواحدّ" [8] .

    وناقش " هابرماس " أن ذلك المفهوم للعقل الأداتي وطبيعته الاختزالية قد عظمت دوره كأداة لتحقيق المصالح الشخصية ، وأبعدته عن وظيفته الأساسية كوسيلة لفهم الحياة وغاية وجود الإنسان فيها ، وهو ما سماه بالعقل التواصلي " " Communicative Reason .

    فالعقل التواصلي هو المفهوم الذي حدده " هابرماس " لمحاولة تنمية البعد الموضوعي والإنساني للعقل ، إنه يتجاوز العقل المتمركز حول الذات ، والعقل الأداتي الوضعي الذي يفتت ويجزئ الواقع ؛ ويحول كل شيء إلى موضوع جزئي حتى العقل نفسه [9] .

    ونحن نرى أن العقل الأداتي هو المسيطر سيطرة تامة على إجراءات التنمية البشرية الحديثة ، فهي تعنى بإجراءات منفصلة عن القيمة لتحقيق أهداف ذاتية للإنسان .

    ـ ثانيا : الموضوع :

    1 ـ مدخل التنمية البشرية في الخطاب الديني :

    أقصد بمدخل التنمية البشرية في الخطاب الديني ـ الإسلامي ـ : ذلك الخطاب الإسلامي الذي يهدف إلى تنمية المسلم فرديا واجتماعيا من خلال أدوات فن التنمية البشرية التي ذكرناها ، والذي يستمد أدواته من مجالات وعلوم مختلفة .

    تقويم ذلك المدخل في الخطاب الديني الجديد يتعلق تعلقا مباشرا بسؤالين :
    1 ـ هل نحن ضد التنمية البشرية على طول الخط ؟

    ـ إذا فكَّكنا مفهوم التنمية البشرية وفق المنظور الذي عرضناه لها ، فإن أهدافا تكفل السعادة الدنيوية للإنسان ليست مما يعارضه الإسلام ، ولكن المكون العلماني الذي تقوم عليه التنمية البشرية هو العائق الأساسي أمام التنمية البشرية لتكوِّن خطابا إسلاميا حقيقيا .

    يمكننا أن نقول إن الإسلام ـ بالمعنى التراثي ـ وجد فيه نوع من الخطاب الهادف إلى ترقية الإنسان ، كما في علم التزكية والتصوف ، بل وفي علم السياسة القديم ، وأنواعا من التآليف المتعلقة بتربية الأولاد ، ونصيحة المؤدبين والمعلمين وطلاب العلم ، وكتب الآداب ، وعلم الأخلاق ، لكن تلك الترقية لم يكن مجرد الارتقاء الدنيوي غايتها ، فالناظر في رُبع " المنجيات " ، و" المهلكات " في إحياء علوم الدين للغزالي ، يتبين له أن المهلكات والمنجيات يراد بها الغاية العظمى للإنسان ، وهي الدار الآخرة ، فالمهلكات ما تحول بينه وبين السعادة الأبدية في الجنة ، والمنجيات ما تحول بينه وبين الشقاء الأبدي في النار ، ولو رافق الأول نعيم الدنيا وما فيها ، ورافق الثاني عذاب الدنيا وما فيها ، وفي هذا أحاديث نبوية مشهورة .

    تعبيد الإنسان لربه ، وترغيبه في فعل ما يحبه ، وترهيبه من فعل ما يكرهه ، وربطه الدائم بخالقه وواهبه الوجود ، وتذكيره بالدار الآخرة ، وأنها خير وأبقى ، للحصول على السعادة الخالدة ، ذلك القلب النابض الحي لمعنى ترقية الإنسان في الإسلام لم يتنافَ مع نجاحه في الدنيا ، فالعلاقة بينهما ليست انفصالية ، ولا متناقضة ، فالإسلام يدعو المسلم للعلم والعمل وتحصيل الرزق المباح ، ومخالقة الناس بخلق حسن ، لكن الفرق الجوهري في المنظور الإسلامي لعلاقة الارتقاء الديني بالدنيوي أنه ليس لازما ولا ضرورة ، لأن للحياة امتدادا آخر بعد الموت ، تكون مقاييس النجاح والفشل فيه غير متطابقة مع مقاييسه الدنيوية ، بل قد تخالفها بالكلية ، ومن ثمَّ فمن الطبعي أن تكون وسائل الإسلام وأهدافه معبرة بوضوح عن منظوره القيمي ، الذي لا يأتي النجاح الدنيوي فيه مقدما في سلم القيم على النجاح الديني .

    فوسائل مثل مهارات تنظيم الوقت ، أو إعداد الجداول اليومية ليست من الدوائر التي يمنعها الإسلام ، ولا من الدوائر التي يدعو إليها ـ بطبيعة الحال ـ ، بل هي من دائرة العفو ، الذي مجاله التجربة والبحث .

    فكل ما يكون من هذا الصنف فإنه ليس مجالا للنقد من الوجهة الإسلامية ، ولكن الاختلاف الجوهري بين مفاهيم التنمية البشرية والخطاب الإسلامي هو المكون العلماني الذي تقدم بيانه ، والذي يصل في مراحل متأخرة من التنمية البشرية إلى معارضات صريحة مع الإسلام ، مثل مفاهيم الطاقة الكونية ، واستمدادها من الأحجار والأشجار والأشخاص ، كما يدعو بعض غلاة مدربي التنمية البشرية !

    2 ـ هل يمكننا تطوير علم تنمية بشرية إسلامية ؟
    ـ لعل هذا يكون هو السؤال المترتب على السؤال الماضي ، بمعنى أنه إذا كان في التنمية البشرية ـ غربية المنشأ ـ مكون علماني واضح ، فهل من الممكن أن نلقح بين الجوهرين الإسلامي والتنموي ، ونطور علما للتنمية البشرية الإسلامية ؟
    يجب أن نبحث هذا السؤال بشيء من التفصيل .

    · تماهي التنمية البشرية مع الدين :

    حاول كثيرا متبنو التنمية البشرية ـ العرب خصوصا ـ أن يلقحوا بين الجوهرين ، وذلك لمعرفتهم أن الدين أهم مكونات الذهنية العربية على الإطلاق ، فأي تنمية بشرية لا تستند إلى الدين ـ بشكل قشري أو لبي ـ لا يمكن أن تنفع المجتمع العربي ، لأسباب يطول شرحها ، كما قال ابن خلدون : " العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة ؛ والسّبب في ذلك أنّهم لخلق التّوحّش الّذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمّة والمنافسة في الرّئاسة ، فقلّما تجتمع أهواؤهم ، فإذا كان الدّين بالنّبوءة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم ، وذلك بما يشملهم من الدّين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التّحاسد والتّنافس ، فإذا كان فيهم النّبيّ أو الوليّ الّذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلّف كلمتهم لإظهار الحقّ تمّ اجتماعهم وحصل لهم التّغلّب والملك " .

    بيد أنهم لم ينجحوا في محاولتهم التلفيق بين جوهري التنمية البشرية ، والدين ، وذلك لسببين رئيسين :

    الأول : لاختلاف المنطلق بين الإلهي ، والوضعي البشري :
    فمنطلق التنمية البشرية الإنساني وجوهرها الإنساني يتعارض مع منطلق الدين الإلهي وجوهره ، فالمكون العلماني في التنمية البشرية المعاصرة أمر لا يمكن تجاوزه .

    فسبيل تحقيق الأهداف الفردية والاجتماعية من منظور التنمية البشرية لا يتوقف على الدين ، وليس الدين واجبا في ضبطه ، بل لو كان الإنسان ملحدا لكنه في الوقت نفسه متسق مع نفسه ومحيطه الاجتماعي فهو إنسان ناجح وفق المفهوم التنموي البشري .

    الثاني : الاستعمال الغائي للديني :

    نعم ، فنحن لا ننكر أن متبني التنمية البشرية ـ لاسيما العرب ـ يستخدمون الدين ـ وقد يكون مع حسن النية والهدف ـ ، عن طريق الاستدلال بنصوص دينية عامة ، أو اقتباس ملامح بعض الشخصيات الدينية المشهورة ، لكن هذا لم يعد كونه استخداما غائيا ، وَسِيلِيًّا ، بهدف تدعيم فكرة التنمية البشرية.
    وطبيعة الدين أنه لا يمكن أن يكون وسيلة ، لأن طبيعته حاكمة ، تعلو ولا يعلى عليها ، فالتصور الذي يحسِّن أن يتلف الإنسان نفسه من أجل دينه ليس من الممكن أن يكون مجرد وسيلة لتحقيق رفاه الإنسان ! ، حتى لو أقررنا أن رفاه الإنسان ـ والكلام عن الرفاهية بمفهومها الدنيوي ـ قد يحصل بالدين ؛ لأن ثمة انعكاسا في سلم القيمة بين الجوهرين ، الديني والتنموي .

    وهذه مجموعة من نصوص شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمة الله عليه ـ في بيان الفرق بين منهج الإسلام ومنطلقه ، وغيره من المناهج ، وهي مجموعة من النصوص التي يتكلم فيها الشيخ عن سياقات مختلفة ، تتعلق ببعض الفرق الصوفية ، وبعض معارف الفلاسفة الدنيوية ، لكن ملاك الشاهد فيها واحد ، وهو قضية تعظيم الوسيلة حتى تطغى على الغاية ، وكذا الغلو في الشأن الدنيوي على حساب الديني :

    1 ـ " كثير من الناس وأهل الطبع المتفلسفة وغيرهم فيعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ويأخذون بظاهر من القول ، يرون ظاهر الحركات والأعمال التي للموجودات ويرون بعض أسبابها القريبة وبعض حكمها وغاياتها القريبة أن ذلك هو العلة لها فاعلا وغاية " .

    2 ـ " أما ما يذكرونه من العلوم النظرية: فالصواب منها منفعته في الدنيا. وأما " العلم الإلهي " فليس عندهم منه ما تحصل به النجاة والسعادة بل وغالب ما عندهم منه ليس بمتيقن معلوم " .

    3 ـ " يجعلون العبادات رياضة لأخلاق النفس حتى تستعد للعلم. فتصير النفس عالما معتزلا موازيا للعالم الموجود. وهؤلاء ضالون؛ بل كافرون من وجوه " .

    4 ـ " وقد أضلوا بشبهاتهم من المنتسبين إلى الملل من لا يحصي عدده إلا الله. فإذا كان ما به تحصل السعادة والنجاة من الشقاوة ليس عندهم أصلا ؛ كان ما يأمرون به من الأخلاق والأعمال والسياسات كما قال الله تعالى: {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} "
    .
    إذا تبين ما سبق ، فإن الخلط بين علم التنمية البشرية بمفهومه المعاصر والخطاب الدعوي الإسلامي متعذر ، وغير قابل للتحقيق ، ولا ينتج إلا مسخا أشوه ، خطابا بقشرة إسلامية ، ومفاهيم علمانية ، كما سنستعرض في ملامح ذلك الخطاب .

    ـ قد يرد السؤال : هل يمكن تخليص التنمية البشرية المعاصرة من ذلك المكون العلماني ، وأسلمتها ؟

    نرى أن هذا ممكن ، وذلك بإعادة ترتيب القيم وفق التصور الإسلامي الذي ذكرناه ، وترسيخ المفاهيم الإسلامية الصحيحة للحياة ، وأطر التعامل بين البشر ، المتفقين والمختلفين ، وفق الحقوق والواجبات التي جاء بها الوحي المقدس .

    ـ هل سيكون ذلك الخطاب التنموي الإسلامي بديلا عن الخطاب الديني إذن ؟

    نقول : لو طغى الخطاب التنموي البشري ، ولو بالأسس الإسلامية فأين الخطاب الديني الذي يقوم على بيان حقائق الدين ، ومفاهيم الوحي إذن ؟

    إن الانجرار خلاف فشل المسلمين الدنيوي ـ وهو حق في غالب أمورهم ـ لا ينبغي أن يتولد منه طرح للخطاب الديني بخطاب تنموي ولو إسلاميا !

    إن خطورة انقلاب الدعاة الإسلاميين إلى مطورين بشريين ـ ولو بالمفهوم الإسلامي الذي نرى إمكان تطويره ـ وترك مجال الصراع الرهيب بين قيم الإسلام ، وقيم المادية والحداثة لهو خطر داهم ، فكيف ولو كان انقلابهم إلى مطورين بشريين بغير المفهوم الإسلامي الذي نرى تطويره ، بحيث يغدو خطابهم تنمويا مشتملا على المكون العلماني بقشرة إسلامية ؟

    نحن لا ندعو لخطاب ديني بشكل منمط سلفا ، بحيث يكون الكلام فيه بطريقة معينة ، أو يجب أن لا يخلو الكلام من نصوص دينية بنسبة مئوية معينة مثلا ! ، لكن الخطاب الديني الذي يخلو من الكشف عن حقائق الإسلام بوضوح وتجلية محاسنه في خضم صراع المفاهيم الحالي لهو أخطر على الدين من خطاب التنمية البشرية العلماني نفسه [10] .

    3 ـ ملامح خطاب التنمية البشرية الإسلامي :

    أعرض فيما يلي أبرز الملامح العامة للخطاب الديني الجديد الذي يستعمل التنمية البشرية أو يقترب منها :

    1 ـ استخدام مصطلحات مجملة مشحونة بقيم غير إسلامية ، ذات طابع علماني ، مع إصباغها ببعض الألفاظ الشرعية ، وتلقيحها بمعنى إسلامي ، ومن ثم قبولها في الوسط الشرعي ، وبين الجماهير المسلمة ، دون تفصيل لمحتوياتها ، وعرضها على محكمات الشريعة ، مثل : حرية العقيدة ، حرية التفكير والإبداع ، الديمقراطية ، المدنية ، احترام الآخر ، قبول الآخر ، حقوق الإنسان ، حقوق المرأة ، المساواة ، الفن ، سيادة الأمة ، الأغلبية ، الطائفية ، التشدد ، الوسطية ، المواطنة ، وغير ذلك .

    وتصل في مراحل أخرى إلى مصطلحاتٍ أكثرَ إيغالا في مخالفة محكمات الشريعة ، كحرية التشكيك في العقيدة مثلا .

    2 ـ معارضة حقائق دينية ومفاهيم شرعية بأخرى حداثية ، كإهدار عقوبة المرتد ، أو التحايل عليها ، وإنكار خضوع الفن بكافة مستوياته لضوابط الشرع ، والتوسع في الاختلاط ، والاعتراض على مبدأ الحسبة في المجتمع ، ونحو ذلك .

    3 ـ إلقاء اللوم على الخطاب الديني السائد ، والممارسات الخاطئة فيه ـ من وجهة نظره ـ .

    ولا إشكال أن الخطاب الديني التقليدي يعاني قصورا واضحا في الجانب الديني والدنيوي معا ، لكن هل الممارسات التي ينتقدها الخطاب الديني الجديد هي ممارسات خاطئة فعلا ؟

    يأخذ الخطاب الديني الجديد على الخطاب التقليدي : تشدده في قضايا المرأة ، وأحادية الرأي ، وعدم قبول الآخر وإنصاف المخالف ، والغلو في جانب الترهيب والتخويف في الدين ـ عذاب القبر وما يشبه ـ ، والتوسع في جانب سد الذريعة ، ومعاداة الفنون ، والرياضة ، وقمع حرية الإبداع ، وممالأة السلطات المستبدة ، ونحو ذلك .

    ويُمَارَس في عملية النقد تلك خليطٌ بين إنكار ما هو صحيح في الخطاب الديني السائد ، ومواجهة ما هو خاطئ فيه بممارسات أكثر خطأ ، كأغلب ما نذكره في تلك الملامح .

    4 ـ إخفاء هوية ومرجعية الدين كدين ، والوحي كوحي من ذلك الخطاب ، فيشيع في ذلك الخطاب ألفاظ مثل : ثوابت المجتمع ، عادات المجتمع ، أخلاق المجتمع ، قيم المجتمع ، أو يستبدل بالمجتمع الإنسانية ، ونحو ذلك ، وهذا خطير على مستويين ، أولا : أن في هذا نزعا لمرجعية الوحي ، وإحلال المجتمعات أو الإنسانية مكانها ، وهذا فاسد ، إذ ليست كل قيم المجتمع من قيم الوحي ، ولا كل قيم الوحي من قيم المجتمع ، وثانيا : أن فيها تغريبا للدين ، والوحي ، والقرآن ، والسنة ، والنبي ، ناهيك عن عشرات الكلمات الشرعية الأخرى ، من الخطاب الديني ، وأي بلاء أعظم من خلو خطاب الدين المروج للوحي من ذلك ؟ ، وهذا الأثر الخطير ليس الوحيد ، إذن لهان الخطب على جسامته ، ولكن هذا لا يلبث أن يتحول في نفسية المتلقين إلى حاجز نفسي حقيقي بينهم وبين الدين ، فترى وتسمع بوضوح تندرا وسخرية واستنكارا لمن يستعمل تلك الألفاظ ومفاهيمها في كلامه !

    5 ـ التهاون في المفاصلة بين الحق والباطل ، والصحيح والخطأ ، وما ينجر عن ذلك من مجافاة للوضوح بشأن السنة والبدعة ، بل الإيمان والكفر أحيانا ، فيستخدم ذلك الخطاب أسلوبا تمييعا ، قائما على تلاعب لفظي ، ومجاوزات لغوية ، يخرج بها من مآزق المفاصلة ـ وهو ضرورة دينية قرآنية سنية ـ ، ليظل متسقا مع قيم إنسانية يدعو إليها كقبول الآخر ، والتسامح ، والانفتاح .

    6 ـ التموضع حول الذات كما هي أدبيات علم التنمية البشرية ، والتخفف من حقوق الجماعة ، وذلك لأن النزعة الفردية هي السمة الغالبة للخطاب الديمقراطي والتنموي ـ بطبيعة الحال كما ألمعنا في المقدمة النظرية إلى التشابه المدخلي بين الديمقراطية والتنمية البشرية ـ ، ما يظهر في هوس الحريات ، والإبداع ، والحقوق .

    وتعرُّض الخطاب الديني التنموي للقضايا الاجتماعية يكون في الغالب على حساب محكمات شرعية أخرى ، كالولاء والبراء ! ، فهو إما غال في الذاتية ، على حساب الجماعة ، مخالفا للشرع ، وإما غال في الجماعية إلى درجة الذوبان ، على حساب الولاء والبراء الشرعيين ! ، فيدعو لنبذ الطائفية ، والمذهبية ، والتماهي مع الآخر ، وتجاوز الخلافات التاريخية ، ونحو ذلك .

    7 ـ الاستخدام للنصوص الدينية والشخصيات والقدوات الدينية استخداما غائيا مصلحيا لا حقيقيا وفق واقعها ، وذلك يشتمل على أحد أمرين أو كليهما : إما ابتسار واقتطاع أو انتقاء مخل ، فينتقي من القرآن أو السنة ، أو سير السلف نصوصا عامة أو مواقف خاصة يقيم عليها صروح قيم الحداثة والمدنية الجديدة ، وهذا موضوع كبير جدير بالاستقصاء والبحث ، لولا ضيق المقام [11] ، ولا يخفى أن هذا تحريف للدين والتاريخ سويا ، وإما إخفاء أو تشويه أو تحريف الحوادث التي تخالف القيم الحداثية التي يدعو إليها الخطاب .

    4 ـ سلبيات التنمية الإسلامي :

    لا شك أن هناك تقاطعا بين سلبيات خطاب التنمية البشري الديني مع ملامحه ؛ لأن أغلب تلك الملامح كان سلبيا في تقديرنا ، فنذكر هاهنا نقاطا مركزة
    1 ـ إضعاف المفاهيم الإسلامية وحقائق الوحي .
    2 ـ تحريف المفاهيم الإسلامية وحقائق الوحي ، وإنتاج مفاهيم شوهاء جديدة .
    3 ـ إضفاء الشرعية والدين على المفاهيم المخالفة للوحي .
    4 ـ إضعاف الولاء والبراء ، والهوية الإسلامية .
    5 ـ إضعاف الروح الجماعية الإيمانية .
    6 ـ جعل الترف والرفاه الإنساني هدفا أسمى للوجود .
    7 ـ التماهي مع القيم الغربية .
    8 ـ الإعجاب والانبهار بالشخصيات والأفكار والقيم الغربية .


    بقلم
    الشيخ/ عمرو علي بسيوني



    · المراجع:

    [1] وهو عنوان مقال لمحمد علي الحلبي ، على جريدة ( المتوسط ) الإلكترونية ، العدد 177 ، 6-12 أغسطس ـ 2012 م .
    [2] كعينة عشوائية يمكنك أن تطالع عناوين أشهر من كتب في ذلك المجال على المستوى الشعبي ، " ديل كارنيجي " : ( دع القلق وابدأ الحياة. ـ كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس ؟ ـ اكتشف القائد الذي بداخلك - فن القيادة في العمل ـ - فن الخطابة ـ فن إدارة الوقت ـ كن يقظا ـ كيف تحقق هدفك ؟ ـ كيف تكون قائدا ناجحا ومبدعا ؟ ـ فن التعامل مع الناس ) .
    [3] مفهوم الحوسلة عند المسيري وغيره : تحويل الشيء إلى وسيلة .
    [4] العلمانية الجزئية / العلمانية الشاملة ، المجلد الأول ، 134 ، دار الشروق ، ط1 ، 2002
    [5] مقال : قيم ثقافة السلام في الديانات السماوية ، حديث الشهر لموقعه .
    [6] لماكس هوركهايمر ، وثيودور ف أدورنو ، ترجمة الدكتور جورج كتورة ، دار الكتاب الجديد المتحدة ، ط1 ، 2006 .
    ونشر هذا الكتاب بالألمانية أول مرة سنة 1944 ، ويعتبر من بواكير أعمال مدرسة فرانكفورت في الاجتماع .
    [7] صدر سنة 1947 .
    [8] ترجمة : جورج طرابيشي ، نشر دار الآداب ، بيروت ، ط3 ، 1988 م .
    [9] راجع :
    هبرماس ، القول الفلسفي للحداثة ، ترجمة : د فاطمة الجيوشي ، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية ، دمشق ، 1995 ، ص 45
    يورغين هابرماس ، مستقبل الطبيعة الإنسانية : نحو نسالة ليبرالية ، نقله إلى العربية : د جورج كتورة ، مراجعة : الأستاذ أنطوان هاشم ، المكتبة الشرقية ، بيروت ، ط1 ، 2006 ، ص 66
    يورغن هابرماس ، العلم والتقنية كأيدولوجيا ، ترجمة : حسن صقر ، منشورات الجمل ، كولونيا ، ألمانيا ، ط1 ، 2003 ، ص 43
    يورغن هابرماس ، المعرفة والمصلحة ، ترجمة : حسن صقر ، مراجعة : إبراهيم الحيدري ، منشورات الجمل ، كولونيا ، ألمانيا ، ط1 ، 2001 ، ص 225
    إيان كريب ، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس ، ترجمة : د محمد حسين غلوم ، مراجعة : د محمد عصفور ، عالم المعرفة ( 244 ) ، الكويت ، إبريل 1999 ، ص 309
    محمد نور الدين أفاية ، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة / نموذج هابرماس ، أفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، المغرب ، بيروت ، لبنان ، ط2 ، 1998 ، ص 32
    [10] كتب أحمد سالم متعرضا لصراع المفاهيم سلسلة بعنوان ( معركة المفاهيم الثالثة ) ، منشورة في ملتقى التفسير على شبكة الإنترنت .
    [11] راجع على سبيل المثال : مقالا لسلطان العميري بعنوان ( التوظيف الحداثي للاجتهادات العمرية ـ قراءة نقدية ) ، على موقع رؤى فكرية .


    حقوق النشر محفوظة لموقع "المركز العربي للدراسات والأبحاث"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر


    http://www.arabicenter.net/ar/news.p...n=view&id=1816

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2009
    المشاركات
    197

    افتراضي رد: مدخل التنمية البشرية في الخطاب الديني الجديد (عمرو بسيوني)

    جزاك الله خيرا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •