بسم الله العلي القدير والحمد لله ذي الفضل الغزير والصلاة والسلام على البشير النذير، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم.في ظل الفتن المدلهمة، وفي ظل الصواب الغائب جله، وفي زمان يحار فيه الحليم، ولا يبصر طريقه فيه من يظنه الكثير بصير..بين ضياع الأمانة وتوسد الأمر لغير أهله، وبين رفع العلم وترؤس الجهال..توجه شاب في مقتبل عمره إلى طالب علم كبير، اعتزل الناس زمانا خشية على دينه، ولا شك أن الشيطان يفعل بالواحد ما لا يفعله بالجماعة، غير أن الجماعة قد تكون على المرء مهلكة، ويكون فعل الشيطان به - مهما كان - محمدة، فكم من جماعة نقلت العاصي من معصيته إلى بدعة قبيحة، وكم من جماعة نقلت البصير بعد تبصره إلى الشك والضياع والتشتت.. والله يفعل ما يشاء..تعرض ذلكم الطالب إلى أمور ليست في عيون الصحابة مهلكات ولكنها في عيون الحمقى مرديات، فابتعد شيئا قليلا عن إظهار بعض الأشياء من الأمور الصالحة غير أن قلبه ينطوي عليها لا يحيد عنها قيد أنملة، فرآه البعيد بعيدا وليس بالبعيد، وأبصره القريب مقبلا إذ هو بصير..فما لبث أن نزع الطالب عن هذا الابتعاد، فعاد خيرا مما كان، واستفاد من تجربته أشد ما يستفاد، وكم من بلاء يعيد صاحبه أصح مما كان عليه..فكان من ذلكم الشاب المسكين أن عيره بابتعاده ولامه لعدم ثباته، وما أصاب لو تأمل، وما أحسن لو تدبر، فكان عونا للشيطان على أخيه، وبئس المعين والمعان، غير أن الله ثبت ذلكم الطالب فهداه إلى رد جليل - تعظيما لا تحقيرا - يدحض به سوء خلق الأول، ويشد به إيمانه، فأجابه قائلا:"أخي ما تلوم عليّ، أما سمعت حديث أنس بن مالك وأبي ثعلبة الخشني أنه أُتِيَ الأخيرُ فقيل له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أيَّةُ آية؟ قيل: قوله تعالى: {يَا أيُّها الذينَ آمَنُوا عَلَيْكُم أنْفُسَكُم لا يُضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُم}. قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام، فإن من ورائكم أياما، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم. حسنه الترمذي وابن العربي والمنذري والعسقلاني والسيوطي، وصححه الطحاوي والشوكاني وأحمد شاكر والألباني، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح غير واحد وهو ثقة. وهل ما سمعت أن الألباني حسَّن في صحيح الجامع حديثا لعبد الله بن مسعود يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: المتمسك بسنتي عند اختلاف أمتي كالقابض على الجمر.فقال له: وماذا تعني من الحديثين فالحديثان فيمن يقبضون ولست منهم.فأجابه: تمهل أيها الشاب، وما يدريك؟ هلا تأملت الحديث: (القابض على الجمر).. لماذا اختار عليه الصلاة والسلام هذا النوع من التمسك، ولماذا لم يختر غيره؟ فقال له: لا أدري، ولماذا؟فأجابه: لأن القابض على الجمر مهما قويت كفه ومهما قوي عزمه وصبره، فإنه لا محالة تاركه، ويأخذ صفة القبض من كثرة قبضه بعد تَفَلُّتِه لا من ثباته على القبض فحسب.. ولو أنك تأملت لوجدت ذلك واضحا دون أن تتبع هواك.فقال له: إذا علينا أن نترك السنة ثم نعود فنقبضها.فأجابه: لا يا أيها الشاب من يفعل ذلك لا يتقصده، ولكن أمر التمسك شديد وأهل البدع لا يعدون من المتمسكين ولو كان ظاهر أمرهم التمسك، وإنما التمسك أن تحيا على السنة وبالسنة وللسنة، فتوالي وتعادي في السنة، وتثبت على التوحيد وتوالي أهله، وتعادي وتتبرأ من أهل الشرك، فلو انتبهت لهاتين الخاصيتين لوجدت أن الأمر في زماننا هذا أشد غربة من غيره. وأين هم الذين يذكرون أهل البدع ويحذرون منهم مع يقينهم أن أهل البدع في كل زمان يكونون أكثر من أهل السنة بلا ريب.فالمتمسك على هذا النحو هو الوحيد الذي يستشعر حقيقة: كيف هي شدة التمسك وكيف هو معذور لو تفلتت منه الجمرة.. مــــنــــقــــ ول