الأساسُ في العيدِ أن يكون نابضًا بالفرح, عامرًا بالحبورِ والبهجةِ, لا تفارقُ البسمةُ ثغرَ الناس ولا الإشراق مُحيَّاهم, فالنفوسُ مطمئنةٌ, والقلوبُ مطمئنةٌ, والتهنئةُ متبادَلة وحالةُ العيد كما قال الشاعر , أتيتَ يا عيدُ والأرواحُ مشرقةٌفللبـلابل ألـحانٌ وتغريـدُ
والعيد في الحقيقة هو محبةٌ وإخاءٌ, وصفاءُ قلوبٍ, وخالصُ ودادٍ, وتسامحُ نفوسٍ, وصادقُ دعاءٍ, فهو الذي ينشرُ المحبةَ, وينْزِع من النفوس أشجارَ الحقد, ويجتثّ من القلوبِ جذور الضغائن, كما عبّر عن ذلك أحدُهم بقوله:إنّ هذا العيدَ جاءْنـاشـرًا فينا الإخاءْنازعًا أشجارَ حقدمصلحًا مُهدي الصفاءْولكنْ, من المعلوم أن أحوال الناس تختلف, فالحياة دائمًا فيها حزنٌ عند قوم وسرورٌ عند آخرين, بؤس ونعيم, سُقم وعافية... ودموعُ الحزانى تسحُّ حتى في العيد, فلا يشعرون بفرحه, لذلك نرى أن عبدالله بنَ الحسين بنِ الحجاج عندما بشرّوه بقدوم العيد قال:قالوا: أتى العيد, فاستبشر به فرحًافقلت: مالي وما للعيدِ والفرحِوفي يوم العيد يحاول بعض المحزونين أن يُخبّئوا أحزانهم وذلك حتى لا يُنغصوا على الناس فرحتَهم, في حين نرى أن من الناس من تأبى عبراتُه إلا أن تسيل, وجفونُه إلا أن تُقرِّحها الدموعُ, وإذا كان الشجيُّ شاعرًا فتأبى قوافيه إلا أن تُنظم, وعاطفته الجيَّاشَةُ إلا أن تُسكب في بحور الشعر.وعند ذكر العيدِ والشعراء فلزاما علينا أن نتذكر المتنبي وقصيدته التي يُسائل العيد فيها قائلًا:عِيـدٌ بأيَّةِ حـالٍ عُـدْتَ يا عِيدُبما مـضَى أم لأمْرٍ فيه تجْـديدُ؟أما الأحبَّةُ فـالبَـيْـداءُ دونَـهمُفـلـيْتَ دونَك بِيدًا دونَـها بِيدُلم يترك الدّهرُ من قلبي ولا كبديشـيئًا تَتَيِّـمـه عـينٌ ولا جِيْدُوالشعراءُ الذين لم تدخل البهجةُ إلى قلوبهم يوم العيد, بل دخلها الشجن والأسى, تختلفُ دواعي أحزانِهم باختلاف أحوالهم.فمنهم من كان أسيرًا يوم العيد, وهل هناك أشدُّ حزنًا كأسيرٍ يومَ العيد؟هذا ما حصل مع الشاعر أبي فراس الحمداني الذي حضره العيد، وهو أسيرٌ ببلد الروم فقال:يا عيدُ ما جـئتَ بمحبوبِعلى مُعَنَّـى القلبِ مكروبِيا عيدُ قد عدتَ على ناظرٍعن كل حسنٍ فيكَ محجوبِومنهم من أتى عليه العيد وهو نائي الديار عن وطنه, تلفحُهُ نارُ الغربة.. هجرهُ الأحبابُ, فسكب العبراتِ, وتجرّع الحسراتِ, وفوق هذا كله نزل به فقر مدقع, وإملاق مقيت.. فمن أين سيأتيه الفرحُ؟, وأنى للبسمة أن تلوحَ على محياه؟!, وهذه هي حالة الشاعر محمد بن هبة الله الذي قال:وقائلٍ قال يومَ العـيد لـي ورأىتَـمَـلْـمُـلي ودمـوعُ العين تنهمرُمالـي أراك حـزينًا باكيـًا أسِفًاكأن قلبَـك فـيه النـارُ تستـعـرُ؟فقلت: إني بـعـيدُ الدار عن وطنٍومُمْلقُ الكفّ, والأحـبابُ قد هجرواومن المواقف المؤلمةِ يومَ العيد, أن يرى الأبُ أن جميع صغار الحي قد حصلوا على الهدايا, وهو فقير لا يملك مالًا يعطيه لطفله الصغير, فهو لا يملكُ إلا الدموعَ الحرَّى, ولهيبَ الزفرات, فأخذَ يُعلّلُ صغيره بالأمنياتِ والوعود, لعله أن يجد فيها شيئًا من السلوان, وذلك كما حصل مع الشاعر قيصر سليم الخوري عندما وصف حرمان طفله في العيد, وبكاءَ أمه بعدما عاينت ذلك المشهدَ, فيقول:رأى بُنَيَّ صغارَ الحيّ قـد غنمـوافـي ليلة العيد أشياءً وما غنماوجاءَ يسأل مالًا لسـتُ أمـلكُهُولو أتـى طالبًا روحي لما حُرماوعدتُهُ وجفـوني حشوُهـا أَرَقٌوعدًا تعلـَّق فـي أجفانه حُلُمالما رأت أمُّـه حالـي وحـالتَهمالت لناحيةٍ تُذري الدموعَ دماومن المواقف التي تكونُ أشدَّ إيلامًا, وأكثر تأثيرًا, موقفٌ لإنسانٍ كان في العيد الماضي مَلِكًا, يرفُلُ في أثواب السعادة, ويتقلّب في جنان الدنيا.. فما أتى عليه عيدٌ جديدٌ إلا وهو في المنفى بعيدًا عن وطنه, تداعبُ مقلتَهُ أطيافٌ لنعيمٍ مضى, ومُلكٍ تلاشى, وأعني بذلك المعتمدَ بنَ عبّاد الذي كان متربّعًا على عرش إشبيليةَ، ثم ما لبث أنْ لعبت به الدنيا, وقلبَ له الدهرُ ظهرَ الْمِجَنِّ, فقيّده ابنُ تاشفين, ونفاه إلى «أغماتَ» وهي مدينة بالمغرب فدخل عليه من بنيه، من يسلم عليه ويهنيه يوم العيد، وفيهم بناتُهُ, وعليهن أطمارٌ بالية، وكُنَّ يبكينَ والضَّياعُ قد غيَّر صورَهُن، وحيَّر نظرهن، وأقدامُهن حافيةٌ، وآثار نعيمهن عافيةٌ، فقال مخاطبًا نفسه, متذكرًا أعياده الماضيةَ التي كانت تأتيه وهو في الملك ونعيمه:فيما مضى كُنتَ بالأعيادِ مسرورافساءك العيدُ في أغمـاتَ مأسوراترى بناتِك فـي الأطمارِ جائعةًيغزِلْن للناسِ ما يـمْلِكْن قطميرابَرَزْنَ نـحْـوك للتَّسليمِ خاشعةًأبصارُهُنَّ حسـيـراتٍ مَكاسِيرايطأْن فـي الطينِ والأقدامُ حافيةٌكـأنَّها لـم تطأ مِسكًا وكافُوراومن الشعراء من يهيّجُ حزنَه يوم العيد رؤيةُ الناس يهنئون أحبابَهم, ويُضحون بقرابينهم, وهو وحيدٌ لا أحدَ يُهنّئُهُ, ولا خليلَ يواسيه, سوى دمعٍ أحمرَ على وجنتيه يذرفُهُ ويُذريه, فهاهو أبوالبقاء خالدٌ البلويُّ يقول:أتى العيدُ واعتاد الأحبّـةُ بعضَهمببعضٍ, وأحبابُ الـمتيّم قد بانواوأضحى وقد ضحَّوا بقربانهمْ ومالديه سوى حُمْـرِ المـدامع قربانُوكذلك الشاعرُ أبوالفرج سلامةُ بنُ بحر فقد أشعلَ العيدُ أشجانه, وزاد همومه, لأنه ذكَّره بعهد مضى مع الأحباب, ولم تبق منه إلا طلولُ الذكريات, فقال:من سرَّهُ العيدُ فـما سرنيبل زاد هـمّي وأشجانيلأنه ذكَّـرنـي ما مضىمن عهد أحبابي وإخوانيونظيرهما أيضًا لشاعر غيره يؤكد فيهما أنْ لا عيدَ ولا فرحَ إلا بحضور الأحباب:من سرَّهُ العيدُ الجديــدُ فما لقيت به سروراكان السرورُ يتمُّ لـيلو كان أحبابي حضـوراومما يثيرُ الشجنَ يوم العيد أن يرى الشاعرُ أعداء الأمة يَعيثون في الأرض فسادًا, ويُكثرون من بَغيهم وإجرامهم.. وذلك كما حلّ في فلسطينَ الثكلى, ومن ثَمّ في العراق الجريح.. وتذكرتُ في هذا الصددِ قصيدةً لي نُشرت صباحَ يوم العيد عنوانُها: «عيدُ البائسين في العراق وفلسطين», قصيدةٌ كانت مُترعةً بالبؤس, ومُتّشِحةً بالأسى, ومطلعُها:أين السعادةُ قل لي أيُّها العيــدُ؟!وفـي فلسطينَ قتـلٌ ثــم تشريدُوأما بالنسبة لِمُفضليّة الشاعر تأبّط شرًا, والتي خاطب فيها العيد, فقد ذكر أبوالفرج أن العيد فيها هو ما اعتادَ الإنسانَ من همٍّ أو شوقٍ أو مرضٍ أو ذِكْرِوفي بداية القصيدة خطابٌ موجَّهٌ للعيد من تأبط شرًا (وهو لم يقصد عيدَ أضحى أو فطرٍ لأنه شاعرٌ جاهليٌّ!!) يقول فيه:يا عِيدُ مالَكَ من شَـوْقٍ وإِيـراقِومَـرِّ طَيـْفٍ علَى الأَهوالِ طَرَّاقِيَسْرِي علَى الأَيْنِ والحيَّاتِ مُحْتَفِيًانـفسي فِـداؤُكَ مِن سارٍ علَى ساقِوعلى كل الأحوال فإنه لم يُسَرَّ في ذلك العيدِ الذي عادَه محمّلًا بالهموم والأشواقِ...ختامًا: العيدُ في سروره وبهجته والتلهّفِ للقائه من أجمل ما في ذكريات الطفولة, وكلما تقدم الإنسانُ في العمر, وابتعد به قِطار الزمن عن رياض الطفولة البريئة خفَّتْ بهجةُ العيد لديه, وما ذلك إلا لكثرةِ هموم الحياة, وتَجدُّدِ مُنغصاتها, وإنني أحببتُ أن أختم هذا المقالَ بأبياتٍ حلوةٍ مشهورةٍ للشاعر إيليا أبوماضي , يقول فيها:أقبلَ العيـدُ ولكـنْليس في الـناس المسرّهْلا أرى إلا وجـوهًاكالحاتٍ مُكـفـهِرَّهْأيها الشاكي الليـاليإنـما الغِـبطةُ فكرهْلا تكنْ مُرًّا ولا تجــعلْ حياةَ الناسِ مرهْإنـه العيدُ وإنّ الــعيدَ مثلُ العُرس مرَّهوأسأله تعالى أن يجعل أعيادَنا عامرةً بالمسراتِ, وأن يُفرّج كرب كل مكروب, وحزنَ كلّ محزون, إنه سميع قريب
الشاعر الأديب : مصطفى قاسم عباس
منقول من مجلة الوعي الإسلامي