الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد ..
فقد مر بنا بعض الملاحظات على كتاب التجسيم والمجسمة للشيخ عبد الفتاح اليافعي وفقه الله وكان منها تصديره كتابه ببعض النقولات والآثار الضعيفة التي لا تثبت عند أهل الحديث وكذلك النقل عن كتب قد اختلف في نسبتها إلى أصحابها منها كتاب الفقه الأكبر للإمام أبو حنيفة رحمه الله ،...
ونكمل التعليق بذكر بعض الملاحظات الأخرى التي ظهرت لي خلال مطالعتي للكتاب ..
فأولا :
من الملاحظات أيضا نقل الشيخ عن كتاب الفقه الأكبر المنسوب للإمام الشافعي رحمه الله وهذا الكتاب لا يثبت بحال وعدم نسبته للشافعي رحمه الله أوضح من عدم نسبة كتاب الفقه الأكبر والأبسط للإمام أبي حنيفة رحمه الله ، حيث أن أقدم مخطوطة للكتاب كانت سنة (986)أي بعد وفاة الإمام بنحو ثمانية قرون , وهذه مسافة زمنية طويلة جداً , وتدل بلا شك على أن الكتاب موضوع على الإمام الشافعي رحمه الله خاصة وأنه لم يذكر أي سند للكتاب يتصل بالإمام مما يؤكد كونه موضوعاً عليه ..
كما أن كبار علماء المذهب الشافعي المترجمين للإمام لم يرد للكتاب أي ذكر عندهم وهذا كافٍ في تضعيف نسبة الكتاب للإمام رحمه الله ..
وقد أشار الشيخ عبد الفتاح بنفسه لهذا حيث قال :
(قول الإمام الشافعي في تنزيه الله عن المجسمة (ت 204 ) في الفقه الأكبر المنسوب للإمام الشافعي صـ 11 ) وفي هذا إشارة من الشيخ أن في نسبة هذا الكتاب للشافعي شك وريب ....
والكتاب لمن اطلع عليه من أوله إلى آخره تقرير لعقيدة متكلمي الأشاعرة ، فكيف بالإمام الذي كان حكمه في أهل الكلام الضرب بالجريد والنعال وأن يطاف بهم في الأسواق ،أن يقع هو في نفس ما نهى عنه فيقرر العقيدة على طريقة أهل الكلام ؟ !
فإن كنت تعلم أن الكتاب لا تصح نسبته للشافعي رحمه الله فلا يجوز لك أن تنقل عنه كلمة واحدة وتنسبها له رحمه الله فهذا يخالف الأمانة العلمية ومقتضى قواعد البحث العلمي النزيه ..
أما إن كنت لا تعلم فها قد علمت فنأمل ان تحرر هذا الموضع والله الموفق
ومن النكت هنا أن دهاقنة الكذب ومحترفي التحريف من المنتسبين للأشاعرة في هذا الزمان أمثال فودة قد أكدوا على عدم صحة نسبة هذا الكتاب للإمام الشافعي وقد كانوا يتمنون أن تصح النسبة ولكنهم ويا بؤسهم لم يجدوا حيلة !
ثانيا :
فقد نقلت عن الإمام أحمد في صـ46 ما حكاه بعض الحنابلة عنه بلا إسناد كأبي الفضل التميمي رحمه الله وهو من كبارالأئمة وأهل العلم الحنابلة ولكنك بالقطع لا تنكر أن في الحنابلة من تأثر بمنهج أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم ومن هؤلاء أبو الفضل التميمي الذي كتب في عقيدة أحمد رحمه الله وذكر الكلام عنه بلا إسناد على سبيل الحكاية ، ومن المعروف أن الإمام أحمد رحمه الله ما كان يتكلم بهذه الألفاظ التي ذكرها عنه أبو الفضل ولم يثبت من ذلك شيئا في كتبه المسندة إليه ،مما يؤكد أن الإمام أبو الفضل كان يذكر ما يفهمه عن أحمد بألفاظه هو ،وأنت في بحثك العلمي يجب عليك التحقق من نسبة الألفاظ إلى أصحابها ،لا سيما وأن من تنقل عنه إمام مثل أحمد له كتبه ومؤلفاته التي تكلم فيها عن معتقده والتي صحت نسبتها إليه بألفاظها وحروفها وليس فيها ما أنت بصدد إثباته عنه في نفي ما تسميه الجسمية ..
وما نقلته عن الإمام البيهقي رحمه الله بسنده إلى أحمد وهو صحيح السند كما ذكر البيهقي وغيره عن طريق حنبل فلا شك فيه ،ولكن هذا أولا :
ليس فيما تتكلم فيه لأنه إن صح ففي تأويل الإمام أحمد وليس هذا من باب الجسمية في شيء ،ولست تتدعي ولانحن ان كل من أوّل فقد قرر أن الظاهر يدل على التجسيم !
فنحن نقر التأويل عندما تتوفر مقتضياته ويصح حمله وليس من باب طريقة أهل الكلام من أن الظاهر ممنوع لأنه يدل على التجسيم ،بل لأن الدلائل اللغوية والشرعية وقرائن السياق دلت على ذلك ولهم في ذلك تقرير يختلف عن طريقة المتكلمين ..
وثانيا : أن العلماء قد تكلموا فيما ينفرد به حنبل وهو لا شك ثقة ولكنه يهم كما ذكر ذلك جملة من أهل العلم وهذا لا شك من أوهامه ،حيث أنه قد خالف ما تواتر عن الإمام أحمد رحمه الله من رفض التأويل والعمل بظاهر النصوص ، وإثبات الصفات عن أحمد أشهر من يحتاج إلى أن أنقل عنه في هذا الموضع ، ولذا رفض كبار أئمة المذهب هذا الأثر وقالوا هذا مما وهم فيه حنبل رحمه الله ، والكلام مقرر في غير هذا الموضع ولا أظنه يخفى على الشيخ إن شاء الله ..
وخلاصة الكلام في هذا الموضع أن الشيخ لم ينقل عن الإمام أحمد من ألفاظه الثابتة عنه نفي الجسم على مصطلح أهل الكلام ولاغيره بل أنكر اللفظ كما هو ثابت عنه ، وإنما نقل عمن يحكي عن الإمام أحمد عقيدته بألفاظه هو لا بألفاظ أحمد كصاحب المسودة وابن حمدان وأبو الفضل التميمي التوفي سنة 410 للهجرة مما يعني أن بين الإمامين ما يزيد عن قرن ونصف من الزمان !!!
قال في مجموع الفتاوى (4/167):
( "ولهذا لما كان أبو الحسن الأشعري وأصحابه منتسبين إلى السنة والجماعة كان منتحلا للإمام أحمد ذاكرا أنه مقتد به متبع سبيله وكان بين أعيان أصحابه من الموافقة والمؤالفة لكثير من أصحاب الإمام أحمد ما هو معروف حتى إن أبا بكر عبد العزيز يذكر من حجج أبي الحسن في كلامه مثل ما يذكر من حجج أصحابه لأنه كان عنده من متكلمة أصحابه وكان من أعظم المائلين إليهم التميميون أبو الحسن التميمي وابنه وابن ابنه ونحوهم وكان بين أبي الحسن التميمي وبين القاضي أبي بكر بن الباقلاني من المودة والصحبة ما هو معروف مشهور ولهذا اعتمد الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه الذي صنفه في مناقب الإمام أحمد لما ذكر اعتقاده اعتمد على ما نقله من كلام أبي الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي وله في هذا الباب مصنف ذكر فيه من اعتقاد أحمد ما فهمه ولم يذكر فيه ألفاظه وإنما ذكر جمل الاعتقاد بلفظ نفسه وجعل يقول وكان أبو عبدالله وهو بمنزلة من يصنف كتابا في الفقه على رأي بعض الأئمة ويذكر مذهبه بحسب ما فهمه ورآه وإن كان غيره بمذهب ذلك الإمام أعلم منه بألفاظه وأفهم لمقاصده..) ا.هـ


وثالثا :
أما قول الإمام ابن الماجشون رحمه الله فليس فيه ما تستدل بكلامه عليه وهو نفي التجسيم ولا أريد أن أقول أنما ذكرته وغيره تكثرا فأنت عندي صادق إن شاء الله ولكن أنبه على أن ليس في كلامه شيئا مما تسميه نفي التجسيم عن الله سبحانه وتعالى ، وغايته نفي الحد عن الله وعن صفاته وهو كنفي الكيف عند السلف كما سبق والمقصود به نفي العلم بالكيف وكذلك هنا فقد نفى رحمه الله عن الله وصفاته حدا يعرفه عارف فقال : ( وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منهى " يعرفه عارف " أو يحد قدره واصف ؟ )
والكلام واضح بين لا يحتاج إلى كثير تعليق ... ونحن نقول بما يقول ..
والشاهد أن ليس في كلامه رحمه الله ما عنونت به هذا الفصل من أنك تنقل عن الأئمة نفيهم الجسمية عن الله ، وفيما نقلت عن هذا الإمام إشارة سيئة للأئمة أهل السنة الذين يثبتون الحد لله سبحانه وتعالى كابن المبارك وغيره بأنهم من المجسمة وهذا لا يجوز ...
ورابعا :
ما ذكرته عن الإمام الفراهيدي الخليل بن أحمد رحمه الله فهو كلام بلا زمام ولا خطام وكيف يتأتي لمثلك يحرر منهج السلف في العقيدة أن ينقل عن كتب التواريخ المتأخرة التي ذكرت ما هذا بلا إسناد ؟
فنقلنك عن الوافي في الوفيان عن صلاح الدين الصفدي رحمه الله وه من المؤرخين الأدباء لا ينبغي بحال ،وهو من أهل القرن الثامن ت 764 وبينه وبين الخليل ابن أحمد الفراهيد قرابة الستة قرون ،فهل يصح هذا النقل عنه وهذا الحكاية الغريبة ؟
وهل كان في وقت الإمام قد شاعت هذه الألفاظ المحدثة ؟!
إن هذا النقل وامثالة لا تثبت به حادثة تحكي خلافا بين اثنين من أهل هذا الزمن، فكيف تحشر مثل هذه النقول في نقل العقائد التي يزعم البعض أنه لا تقبل فيها الأحاديث الصحيحة المسندة إذا ورددت عن طريق الآحاد ؟!
وخامسا :
وماذكرته عن الإمام علي الرضى ابن موسى الكاظم رحمه الله والذي رواه عنه أبو الشيخ رحمه الله في كتاب العظمة فلا يثبت عنه بحال ودلائل الضعف أو الوضع عليه بادية ولا ينبغي أن تكون عل مثلك خافية وابحث في ترجمة الغلابي ترى العجب !
ولا أدري كيف تعتمد تلك الروايات في تقرير عقيدة الناس وهل في مواطن النزاع هل يعتمد على مثل تلك النقول ؟!
وسادسا :
ما ذكرته عن ذي النون المصرى الصوفي الزاهد فهو ضعيف تسلسل إسناده بالضعفاء والمجاهيل !!
وسابعا :
ما نقلته عن الإمام يحي بن معاذ الرازي رحمه الله يلحق بما قبله فهو تالف السند ولا يصح !!!
وإني لأعجب من الشيخ وقد رأيت له ردا على الرافضة وقد كان له في نقض احتجاجهم ببعض الآثار تحقيقا منيفا أبطل به احتجاجهم وردهم على أعقابهم فكيف به يصدر كتابه بهذه الآثار الواهية الذي لا يشرف الإحتجاج بمثلها أحد ؟!
وثامنا :
ما نقله الشيخ عن الإمام ابن قتيبة الدينوري رحمه الله لا شيء فيه مطلقا يمكن الإحتجاج به على نفي الجسم على مصطلح أهل الكلام أو الأشاعرة، وكل ما ذكره نقول به ونعتقده ، ولكنه لا يفيد الشيخ في ما أراد أن يستدل به عليه ، وأذكر الشيخ أنه قد عقد فصلا في بيان معنى الجسم عند أهل الكلام وقرر بعد ذلك نفيه عن الله سبحانه وتعالى بناء على اصطلاحهم !
وهو ينقل هذه الأثار ليثبت أن نفي الجسم " بهذا المعنى " معروف لدى السلف مقرر في عقائدهم ،وهو ما نخالفه فيه !!!
وقد بينت سبب مخالفتي له في هذا ،وذكرت أن الجسم بحسب اصطلاح أهل ا لكلام قد خرج عن المعنى اللغوي المعروف عند العرب حيث أنهم قد انتزعوا منه معنى وعمموه فأطلقوا قيام الصفة بالموصوف تركيبا وأفعال الفاعل حوادث وتغييرا فأدى ذلك إلى أن جعلوا إثبات الصفات التي جاءت في الكتاب والسنة تجسيما وتركيبا ، وعدوا أفعاله تغييرا وحدوثا ،فاصطلحوا معنى محدثا ثم حاكموا نصوص الكتاب والسنة إليه فخرجوا عن هدي سلفهم الذين ما كانوا يعرفون هذه المصطلحات الحادثة والله الموفق
وللحديث بقية