خُلُقُ : ( الحَيَاءِ ) .. وَفَضِيْلَتُهُ لِلنِّسَاءِ ، وَعِبَرٌ مِنْ قِصَّةِ : ( كَلِيْمِ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ )
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ ، والصلاةُ والسلامُ على نبينا محمدٍ الأمينِ ، وعلى آلهِ وأصحابهِ أجمعينَ ، وبعدُ :
الحياءُ هو : ( إنقباضُ النَّفسِ مِن شيءٍ ، وتَركه حَذرًا عَن اللَّومِ فيهِ ) ( التعريفات للجرجاني / 94 ) ، يُقال : ( إمرأةٌ حَيِيَّةٌ ) أي : ( ذاتُ حياءٍ ) ، والحياءُ خُلُقٌ عظيمٌ ، وهو في المرأةِ من أصلِ فِطرتِها ( السَّليمةِ ) ، ولا تتخلى إمراةٌ عن هذا الخُلُقِ العظيمِ ؛ إلا خالفتْ الفِطرةَ ( السَّليمةَ ) ! ، و ( الحياءُ ) ليسَ بعيبٍ ولا بمنقصةٍ ، بل هو شَرفٌ ـ للمرأةِ ـ ورِفْعةٌ ، ومـتى ما رَفَعَــتْ المرأةُ سِـــــتارَ ( الحياءِ ) عنها ، وإتَّصفتْ بالجُرأةِ والصَّلافَةِ ؛ سَقَطَتْ هَيبتُها ، وقَلَّتْ قِيمتُها ، وقد وردتْ أحاديثُ كثيرةٌ في فَضلهِ ؛ مِنهـا : ما قالهُ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ ـ : ( الإِيْمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً ـ أَوْ بِضْعٌ وَسِتّونَ شُعْبَةٌ ـ ، فَأَفْضَلُهَا قَولُ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيْقِ ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيْمَانِ ) ، وقالَ ـ أيضاً ـ عن الحيـاءِ أنَّهُ : ( لَا يَأتِيْ إِلَّا بِخَــيْرٍ ) ، وقالَ ـ أيضاً ـ : ( الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ ، ـ أَوْ قَالَ ـ : الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ ) ، وقالَ ـ أيضاً ـ : ( الحَيَاءُ وَالإِيْمَانُ قُرَنَاءُ ـ جَمِيْعَاً ـ ، إِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا ؛ رُفِعَ الآخَرُ ) ، وكانَ ـ صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ ـ : ( أَشَدُّ حَيَاءً مِنْ العَذْرَاءِ فِـي خِدْرِهَا ) .
والحياءُ نوعانِ : ( مَحمودٌ ) ، و ( مَذمومٌ ) ، فأما ( المَحمودُ ) ؛ فَهوَ أن يَستَحيِيَ المرءُ مما يُستَحيا مِنهُ ـ ( شَرْعاً وعُرْفاً ) ـ ؛ كالمعاصي وقَبائحِ الأُمورِ ، وأما ( المذمومُ ) ؛ فَهوَ أن يَستَحيِيَ المرءُ مِنْ قولِ الحقِ وفِعلِ الحقِ وما أَمَرَتْ بِهِ الشريعةُ وحَضَّتْ عليهِ وحَثَّتْ ، فهذا مما لا يَنبغي الحياءُ مِنْهُ ، و ( لا حَياءَ فِيْ فَهْمِ الدِّيْنِ وَتَبْلِيْغِهِ ) ، ولهذا كانتْ السَّيدةُ عائشةُ ـ رضي اللهُ عنها ـ مُعْجـبةٌ ـ جِداً ـ بنساءِ الأنصارِ ، حتى أَنها أَثْنتْ عَليهِنَّ ؛ فقالتْ : ( رَحِمَ اللهُ نِسَاءَ الأَنْصَارِ ؛ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ حَيَاؤُهُنَّ أَنْ يَتَفَقْهنَ فِي الدِّيْنِ ) .
وسنأخُذُ بعضَ العِبَرِ مِنْ قِصَّةِ نبي اللهِ مُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ حينَ فَرَّ بِدينهِ مُهاجِراً إلى اللهِ ـ تعالى ـ قاصداً دِيارَ ( مَدْيَنَ ) ؛ للخَلاصِ مِنْ سَطوةِ فِرعونَ وقَهرهِ ، وهذهِ العِبَرُ هي مِنْ خَمْسِ آياتِ مِنْ سُورةِ القَصَصِ ، وسَأَسْرُدُ الآياتِ ثُمَّ نُفَصِّلُ فِيها ..
قالَ اللهُ ـ تعالى ـ : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ { 23 } فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ { 24 } فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَــالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَــوْمِ الظَّالِمــــــ ِينَ { 25 } قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ { 26 } قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ { 27 }} ( سورة القصص 23 ـ 27 ) .
1 ـ قولُهُ : { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ }؛ أَي : إِن هَاتينِ المرأتينِ تُحاوِلانِ مَنْعَ أغنامَهُمَا عَنْ وُرُودِ الماءِ ؛ حتَّى لا يُزاحِمْنَّ الرِّجالَ ! ؛ لِمـَـا لِلْمُزاحمةِ والخُلْطَةِ مِنْ مَفاسدٍ ، فيَنتَظرنَ حتى يَنتهيَ القومُ مِنْ السُقيا ، وبَعدها يَسقينَ أَغنامَهُـما ! ، وهــــذا مِنَ ( الحَـيَاءِ ) ، فَرَقَّ قَلْبُ مُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ لهما ، ورَحِمَ حالَـهُما ؛ فقالَ لهما : { مَا خَطْبُكُمَا } ؟! .
2 ـ بعدَ أَن سَأَلَ مُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ المرأَتينِ عَن سَببِ عَدمِ وُرُودِهما الماءَ للسُقيا ؛ جاءَ جَوابَهُما : { قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } ! ، وهذا جَوابٌ حَكيمٌ وسَديدٌ ؛ يَنُمُّ عنْ فِطْنَةٍ ، وحُسْنِ إختيارٍ لِلأَلفاظِ ! ؛ فَقَدْ أَعطَيَتَا عُذرينِ لمُـوسى ـ عليهِ السلامُ ـ ؛ الأوَّلُ : أَنَّهُما امرأتان ، وبِالتَّالي ؛ فَإنَّ مُزاحمتَهُما لِلرِّجالِ ؛ يُعتبرُ نَقصاً في ( الحَيَاءِ ) ! ، وممِّا ( قَدْ ) يُعرضْهُنَّ لِلسُّوءِ ! ، والثَّاني : أَنَّ أباهُما رَجلٌ ( طاعنٌ في السِنِّ ) لا يَستطيعُ رَعْيَ الغَنَمِ ، وهذا العُذرُ يَدُلُّ على فِطْنَتِهِمَا ؛ لِكي يَعرفَ مُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ أَنَّهُ لَولا إِضطِرارُهُما ؛ لَـمَا خَرجتا مِنْ بَيتِهِما ـ أَصْلاً ـ ! ، ولكنَّها ( الضَّرورةُ المُلجئةُ لِذلكَ ) ، ومع هذا ( الإِضطِرارَ ) فإِنهُما تَحملتا مَرارَةَ الإِنتظارِ وعَدَمَ مُزاحمةِ الرِّجالِ ! ؛ مَخافةَ ( الفِتْنَةِ ) !! ، { فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } ، ولَمْ يَكن لمُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ طعامٌ سِوى ( البَقْلِ ) و ( ونَباتِ الشَّجَرِ ) حتى ألَمَّ بهِ الجُهْدُ !! ، ويَذكرُ أهلُ التفسيرِ أنَّ القَومَ بَعدما سَقَوا مَواشِيَهِم ؛ وَضعوا على عَيْنِ البِئْرِ صَخرةً عظيمةً لا يَستطيعُ تَحريكَها إِلا عَشرةٌ مِنْ الرِّجالِ ، فأَزالها مُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ وَحدَهُ ! ـ ؛ ليَسقِيَ غَنَمَ المَرأتينِ ، وهذهِ هيَ ( القُوَّةُ ) ـ التي سَأُشيرُ إليها لاحِقَاً ـ .
3 ـ قولُهُ : { فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء } ؛ والـ { اسْتِحْيَاء } هو : ( شِدَّةُ الحَيَاءِ ) ، وكما قالَ أَهلُ التَّفسيرِ أَنها جَاءتْ تَمشي مِشْيَةَ ( الحَيِيَّةِ ) مُغَطِّيَةً وَجهَها ، وهكذا يَنبغي لِلمرأةِ المُسلمةِ ! ، { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } ، وقَولُها : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا }إحترازٌ جَميلٌ في الكَلامِ ؛ مِنْ كونِ أباها هُو مَنْ دعاهُ ، ولمْ تَقُـل : ( تَعَالَ لِنَأجُرَكَ ) ! ، وقِيلَ أَنَّ الأَبَ هُوَ ( شُعَيْبٌ ) ـ عليهِ السلامُ ـ ، وقَيلَ لَا .. هُوَ ليسَ بـ ( شُعَيْبٍ ) ـ عليهِ السلامُ ـ ؛ إنَّما هُوَ رَجلٌ صَالحٌ مِنْ صُلَحاءِ ( مَدْيَنَ ) مِنْ قَومِ شُعَيْبٍ ـ عليهِ السلامُ ـ ، وكانَ ( شُعَيْبُ ) ـ عليهِ السلامُ ـ قَد تُوفيَ قَبلَ ذلكَ الوَقْتِ ، والصَّوابُ هُوَ القولُ الثاني ، وهذا مَا قالَ بِهِ ( إبنُ كثيرٍ ) ، و ( السَّعديُّ ) ـ رحمَهُما اللهُ تعالى ـ وغيرُهُما ـ ، وذكرَ أهلُ التفسيرِ أَنَّ المرأةَ كانتْ تَمشي أَمامَ مُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ ؛ لِتَدُلَّهُ على الطَّريقِ ، وكانتْ الرِّيحُ تُكَفْكِفُ ثَوبَها ؛ فقالَ لها مُوسى ـ عليهَ السلامُ ـ ( كوني خلفي وأشيري عليَّ بجهةِ الطريقِ برَمي الحَصَا ) ، وهذا مِنْ حِرصِ مُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ عَلَيها ! ، وهذهِ هيَ ( الأَمَانَةُ ) ـ بِحقٍ ـ ، { فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ، مِنْ أَنَّهُ فَرَّ مِنْ بَطشِ فِرعونَ وكَيدِهِ ؛ طَمأَنَهُ ـ هذا الرَّجلُ الصالحُ ـ بأن هذهِ الدِّيارَ ليسَ لِفرعونَ عليها سُلطةٌ ، ولنْ يَصِلَ إليكَ ، ومِنْ ثَمَّ أَكرَمَهُ ـ بَعدَ أَنْ أمَّنَهُ ـ أَكرَمَهُ بالطَّعامِ .
4 ـ قولُهُ : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } ، إِقْتَرَحَتْ إِحدى بَناتِ هذا الرَّجلِ الصَّالحِ على أَبيها بِأَنْ يَستعمِلَ مُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ أَجيراً عِندَهمْ ؛ لِـمَا رَأَتْ مِنْ ( قُوَّتِهِ ) ! ، و ( أَمَانَتِهِ ) ! .
5 ـ قولُهُ :{ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }، وفي هذا جَوازُ أَنْ يَعرضَ الرَّجلُ ابْنَتَهُ لِلزَّواجِ مِمَّنْ يَراهُ كُفْؤاً لها ، ويَتَوسَّمُ بِهِ خَيراً ، وقَد أُعجِبَ الرَّجلُ الصَّالحُ بـ ( قُوَّةِ وأَمَانَةِ ) مُوسى ـ عليهِ السلامِ ـ ، فَهاتانِ صفتانِ مُتلازِمتانِ ، ويَقِلُّ قَدْرُ الرَّجُلِ إِذا فَقَدَ إِحْدَاهُما ! ، وقـولُهُ: { إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ }، لَمْ يُجبرهُ على واحِدةٍ ، ولَمْ يُشِرْ إلى إِحْداهُما ، وإِنَّما جَعلَ الإِختيارَ لمُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ ، وهذا مِنْ أَعــالِي مَنازلِ الكَــرَمِ ! ، وكانَ مَهرُها هُوَ أَنْ يَعملَ أَجيراً عِندَهُ ثَمانيَ حِجَجٍ ـ أَيْ : سَنَواتٍ ـ ! ، وإِذا زادَ مُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ فَوقَها سَنَتَيْنِ ؛ فَهذا فَضْلٌ مِنْ مُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ على الرَّجلِ الصَّالحِ ؛ فَقَبِلَ مُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ بِهذا الشَّرطِ ، وتَزوجَ المَرأةَ ، وبَقِيَ عِندَ أَبيهَا إِلى نِهايَةِ الأَجَلِ ، وقِيْلَ إِنَّهُ أتَمَّهَا إِلى عَشْرِ سِنِيْنٍ .. واللهُ أَعلى وأَعلمُ .. وصلى اللهُ وسلَّم وباركَ على نَبينا مُحمَّدٍ وعلى آلهِ وأَصحابِهِ أَجمعينَ .