لما قدم عبد الله بن علي العباسي الشام -وقد قُتل من قتل من بني أمية بعد ذهاب دولتهم- استدعى الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي وهو في جنده وحشمه وقال له:
ما تقول في دماء بني أمية؟
قال الأوزاعي: قد كانت بينك وبينهم عهود، وكان ينبغي أن تفي بها.
قال الأمير: ويحك، اجعلني وإياهم لا عهد بيننا.
قال الأوزاعي: فأجهشت نفسي وكرهت القتل، فتذكرت مقامي بين يدي الله، فلفظتها فقلت:
دمائهم عليك حرام!
فغضب عبد الله بن علي وانتفخت عيناه وأوداجه، فقال:
ويحك، ولم!
قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيب زان، ونفس بنفس، وتاركٌ لدينه).
قال: ويحك، أليس الأمر لنا ديانة؟
قلت: كيف ذاك؟
قال: أوليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي؟
قلت: لو أوصى لعلي ما حكّم الحكمين.
فسكت وقد اجتمع غضبه، فجعلت أتوقع رأسي يسقط بين يديه، فأشار بيده هكذا، وأومأ أن أخرجوه، فخرجت.
وفي هذا الحادث فضيلة لعبد الله بن علي، وهو في ساعة تأسيس ملكه، وانتصاره على خصمه، واجتماع الأمر له، واضطرام النار تحت الرماد من أنصار الحكم السابق الذين ينتظرون أملاً في النجاح، لينتفضوا ويثوروا، فإن العباسي احتمل هذه الصراحة العظيمة من ذلك الإمام الأعظم، ولو أن أكبر حكيم في فرنسا جادل وزيراً فرنسياً عند نشوب الحرب العظمى في أمر الحرب وأن الألمان خير مما يزعمه فيهم ساسة الفرنسيس، لما احتمل ذلك منه، ولأسلمه إلى محكمة عسكرية.
وأعظم من فضيلة عبد الله بن علي فضيلة الإمام الأوزاعي الذي كان يعلم بأن صراحته في الحق تُعرضه للقتل، وأجهشت نفسه وكرهت القتل، ثم لم يكتم حكم الله عندما تذكر مقامه غداً بين يدي الله عز وجل.
والأوزاعي هو ذلك الطود من أطواد الإسلام الذي لما علم الثوري بمقدمه خرج إلى ملقاه، وأخذ بخطام بعيره من القطار ووضعه على رقبته، وجعل إذا مر بجماعة قال:
الطريق للشيخ!
تُرى لو بقيت هذه الجرأة في إعلان الحق في علماء الإسلام إلى اليوم، هل يبقى على وجه الأرض عاقل يتردد في قبول هذا الدين، والدخول في هدايته؟
أضاعوا الإسلام فأضاعهم، ونسوا الله فأنساهم أنفسهم ..

كتبها: الشيخ الأديب السيد محب الدين بن أبي الفتح بن عبد القادر الخطيب، المتوفى سنة 1389هـ رحمه الله تعالى.
المصدر: كتاب (الحديقة مجموعة أدب بارع وحكمة بليغة)، المجلد الثالث، الجزء الثاني عشر، الصفحة 1482.