الأكثرية
في ميزان الشرع
د. أبو محمود
بحث
منشور في صفحته على الفيس بوك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد والأنبياء والرسل أجمعين أما بعد ...أحب أن أبين في هذه الورقات وعلى سبيل الاجمال لا التفصيل موقف الشرع المطهر من مسألة العمل والأخذ بالأكثرية أو الأغلب وهل الأكثرية والأغلبية مذمومة مطلقا ؟؟؟؟؟وهذه المسألة من المسائل الشرعية التي وقع عليها الظلم ( المظلومة ) في هذا الزمان حيث وصل الأمر بالبعض أنه يتوجس من أن يتكلم في بعض صورها وأحكامها خشية أن يرمى بالديمقراطية والعلمانية أوالانسلاخ من النصلذلك رأيت أن أتحدث في هذه المسألة بنوعيها ( أغلبية الدلالة والمعنى وأغلبية الرأي والقول ) دون فصل بينهما فلو أردنا أن نفصل بينهما ونفصل القول في كل نوع مع التمثيل سيطول بنا البحث وسيكون في مصنفات لا ورقات وليس هذا مقصدي هنا فإن مقصدي هنا بيان الحكم مع الاجمال وسيكون حديثي في هذه المسألة في ثلاثة محاور على النحو الآتي :المحور الأول : هل الأكثرية والأغلبية مذمومة مطلقا ؟؟؟؟؟ إن الأصل في الاستدلال والعمل أن المرجعية فيهما للوحي (الكتاب والسنة) فما نص عليه فهو الحق الذي ينبغي أن لا نحيد عنه قال تعالى )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(وقال الله تعالى: ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)وروى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : ( إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قوماً فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعينيَّ، وإني أنا النذير العُريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذَّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذَّب بما جئت به من الحق)وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهم ( ما تمسكتم بهما ) كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض ) . رواه الحاكم وصححه الألباني .وقال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين : " لا تقولوا حتى يقول، ولاتأمروا حتى يأمر ، ولا تفتوا حتى يفتي ، ولا تقطعوا أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضي "والنصوص على ذلك كثيرة وهذه المسألة مجمع عليها عند أهل السنة فلا حاجة لذكر أكثر من ذلك من الأدلة بعد هذا التمهيد للجواب أقول : إذ كان الأمر كما ذكرنا فالحق هو ما جاء بالكتاب والسنة الصحيحة سواء عمل به الأكثرية أو الأقليةفإذا وافقت الأكثرية الحق فلا يصح أن نتركه ونقول لا نعمل به لأن عليه الأكثرية والأكثرية مذمومة في كتاب الله فإذا تقرر عندنا هذا الأصل الذي توافرت عليه نصوص الشريعة المطهرة فهمنا أن ما جاء من نصوص الشرع في ذم الأكثرية كقوله تعالى: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) وقوله تعالى (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ) إنما جاء هذا الذم في مثل هذه النصوص وغيرها للأكثرية لعدم موافقتها للحق الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام وما تلبست به الأكثربة من باطل يضاد الوحي المطهر يدلنا على ذلك قوله تعالى عن قوم نبي الله يونس عليه وعلى انبياء الله الصلاة والسلام (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُم ْ إِلَى حِينٍ.)نخلص مما سبق إلى أن الأكثرية إنما تمدح أو تذم حسب موافقتها من الحق أو مخالفتها لهفالشرع لا يريد أن يثبت لنا أن الأكثرية كأكثرية تمثل الخطأ والباطل ولا الأقلية كأقلية تمثل الصواب والحق.. فالمسألة لا ترتبط بالكثرة والقلة وإنما ترتبط بما تتصف به الأكثرية والأقليةالمحور الثاني : هل الأكثرية والأغلبية معتبرة في تقرير الأحكام والآراء ؟؟؟؟إن الناظر في نصوص الشريعة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء يجد أن الغلبة والكثرة في الأوصاف أو الأحوال أو الأفعال ونحو ذلك والتي لا تخالف الشرع لها تأثير واعتبار في تقرير الأحكام واستنباطها والترجيح وفيما يأتي بيان ذلك :قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) فالله أوجب القتال والجهاد رغم ما فيه من مشاق ومتاعب للنفس البشرية ولكن هذه المشاق والمتاعب غير معتبرة لأن المنافع والمصالح المتحققة بالجهاد أعظم وأكثر وأغلب وقال الله تعالى ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ )وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان الماء قلتين فإنه لا ينجس ) رواه أبو داود وفي رواية ابن ماجة ( إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء )وروى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : ( مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ قَالَ عُمَرُ فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِأَنْتُ مْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ) وروى مسلم في صحيحه عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا وفي رواية فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا ، وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ( .إذا نظرنا في النصوص السابقة فإننا نجد أن الأكثرية والأغلبية في الوصف أو العدد أو الحال كان لها أثر في تقرير الحكم وعلى هذا الفهم كانت سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فقد روى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري من حديث ابن عباس ( أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشأم ، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد ، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه ، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشأم . قال ابن عباس : فقال عمر : ادع لي المهاجرين الأولين ، فدعاهم فاستشارهم ، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشأم ، فاختلفوا ، فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ، ولا نرى أن ترجع عنه ، وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء ، فقال : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي الأنصار ، فدعوتهم فاستشارهم ، فسلكوا سبيل المهاجرين ، واختلفوا كاختلافهم ، فقال : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح ، فدعوتهم ، فلم يختلف منهم عليه رجلان ، فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء ، فنادى عمر في الناس : إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه . قال أبو عبيدة بن الجراح : أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ؟ ! نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان ، إحداهما خصبة ، والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف ، وكان متغيبا في بعض حاجته ، فقال : إن عندي في هذا علما ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ) . قال : فحمد الله عمر ثم انصرف )قال ابن حجر _ رحمه الله _ في شرحه لهذا الحديث : ( وفيه الترجيح بالأكثر عددا والأكثر تجربة لرجوع عمر لقول مشيخة قريش مع ما انضم إليهم ممن وافق رأيهم من المهاجرين والأنصار ، فإن مجموع ذلك أكثر من عدد من خالفه من كل من المهاجرين والأنصار ، ووازن ما عند الذين خالفوا ذلك من مزيد الفضل في العلم والدين ما عند المشيخة من السن والتجارب ، فلما تعادلوا من هذه الحيثية رجح بالكثرة ووافق اجتهاده النص ، فلذلك حمد الله - تعالى - على توفيقه لذلك )قلت : وليس هذا فحسب بل إن هذه المسألة منتشرة مشتهرة في كل علم من علوم علوم الشرع فإننا إذا نظرنا في مسائل الشريعة وأقوال العلماء وجدنا أن هذه المسألة معتبرة مقررة عندهم في الاستدلال والاستنباط والعمل والترجيح والأمثلة على ذلك كثيرةنذكر منها : قاعدة العمل بغلبة الظن ( الظن الراجح ) في الاستنباط والعملويندرج تحت هذه القاعدة مسائل كثيرة منهاالأخذ بخبر الواحد في الاعتقادإن مما هو مقرر عند أهل السنة الأخذ في خبر الواحد في أبواب العقيد وإن لم يكن قطعي الثبوت لأنه وإن لم يكن قطعي الثبوت فإن أغلب الظن على ثبوته قال الإمام ابن القيم : ( وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد وأنه لا يحتاج إلى التثبت، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبت حتى يحصل العلم. ومما يدل عليه أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وفعل كذا وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة. وفي صحيح البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع، وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما سمعه من صحابي غيره، وهذه شهادة من القائل وجزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نسبه إليه من قول أو فعل، فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم ) مختصر الصواعق المرسلة .قال النووي قال في شرحه لصحيح مسلم : ( الذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها، ويفيد الظن ولا يفيد العلم، وأن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل ).ويندرج تحت العمل بغلبة الظن الأخذ بغلبة الظن في العبادات ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( ِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ) متفق عليهومن ذلك مسألة من اشتبهت عليه القبلة ولم يجد من يسأل فقد نص العلماء أنه يتحرى القبلة ويصلب إلى شطر الجهة التي يغلب على ظنه أنها جهة القبلةومن الأمثلة على اعتبار الأكثرية المنضبطة بنوعيها انتشارها واشتهارها في تقرير علم أصول الفقه :إن لكثرة انتشار هذه المسألة بنوعيها ( الدلالة والرأي ) وتأثيرها في مباحث أصول الفقه أفردها عبد العزيز بن حمد الداوود برسالة دكتوراة (الكثرة والقلة وأثرهما في مسائل أصول الفقه) فلتراجعويكفينا مثالا على ذلك نظرة سريعة لكلام اهل الأصول في مبحث حجية العرف ومن الأمثلة على الأخذ بالأكثرية وغلبة الظن انتشار هذه المسألة واشتهارها في علم مصطلح الحديث والرجال:تنتشر مسألة العمل بالأكثرية وغلبة الظن في كثير من مباحث هذا العلم وفنونه ومن هذه الفنون :الحديث الشاذ ، وتعريف العدالة ، وزيادة الثقة ، والعلة ، وتعارض الجرح والتعديل ، وتعارض الوصل والأرسال ، وكلام الأقران ..........ومن الأمثلة على تأثير الأكثرية المعتبرة الأخذ فيها في باب السياسة الشرعية :وقبل أن أذكر الأمثلة على تأثير الأغلبية المعتبرة في السياسة الشرعية يجدر بنا أن نشير إلى أن هذه النقطة بحاجة ماسة لمن يفردها بمجلد مستقل لأهميتها وعظم أثرها في هذا الزمان .ومن الأمثلة على دور هذه المسألة المهم في السياسة الشرعية قول من قال العلماء أن الإمامة تنعقد ببيعة جمهور أهل الحل والعقديقول ابن تيمية رحمه الله: (وإنما صار - أي أبو بكر - إماماً بمبايعة جمهور الصحابةالذين هم أهل القدرة والشوكة. ولم يضر تخلف سعد بن عبادة رضي الله عنه، لأن ذلك لايقدح في مقصود الولاية، فإن المقصود حصول القدرة والسلطان اللذين بهما تحصل مصالحالإمامة، وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك، فمن قال يصير إماماً بموافقة واحدأو اثنين أو أربعة وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة فقد غلط، كما أن من ظن أن تخلفالواحد أو الاثنين أو العشرة يضر فقد غلط) منهاج السنة وانظر تفصيل المسألة في كتاب الأحكام السلطانية وكتاب أعلام الأنام بميلاد دولة الإسلامومن الأمثلة على ذلك وما رواه البخاري في صحيحه من حديث مالك عن الزهري أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن المسور بن مخرمة أخبره ( أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا فقال لهم عبد الرحمن لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحدا من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان قال المسور طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت فقال أراك نائما فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم انطلق فادع الزبير وسعدا فدعوتهما له فشاورهما ثم دعاني فقال ادع لي عليا فدعوته فناجاه حتى ابهار الليل ثم قام علي من عنده وهو على طمع وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئا ثم قال ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا فقال أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون)ومن ذلك قول الماوردي في الأحكام السلطانية (وإذااختلف أهل المسجد في اختيار إمامعمل على قول الأكثرين فإن تكافأ المختلفون اختار السلطان لهم قطعا لتشاجرهم من هو أدين وأسن وأقرأ وأفقه وهل يكون اختياره مقصورا على العدد المختلف فيه أو يكون عاما في جميع أهل المسجد ؟ على وجهين:
أحدهما : أنه يكون مقصورا على ذلك العدد المختلف في اختياره أحدهم ولا يتعداهم إلى غيرهم لاتفاقهمعلى ترك من عداهم .
والثاني : أنه يختار من جميع أهل المسجد من يراه لإمامته مستحقا لأن السلطان لا يضيق عليه الاختيار . )أقول : في هذا القدر من الأمثلة كفاية لتقرير أن الأكثرية التي لا مخالفة فيها للشرع ولم يأت دليل صحيح صريح على عدم اعتبارها مقررة معتمدة في الاستدلال والاستنباط والعمل بل قد نص الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز على إجماع الصحابة على الأخذ برأي الأكثرية المعتبرة بشروطها في بعض صورها كما سيأتي في المحور الثالثالمحور الثالث : فائدة نفيسة من كلام الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز – حفظه الله - في أثر الأغلبية في الشورى :أحب أن أنقل لكم في هذا المحور كلام الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز في مسألة أثر الأغلبية في الشورى وبعض أحكامهاحيث قال – حفظه الله – في العمدة ص 128-132 :(مسألة أخيرة: أثر الأغلبية في الشورى.أي هل هناك اعتبار لرأي الأغلبية في الشورى، وما هو موقع هذا الاعتبار؟الجواب عن هذا السؤال يتناول: ما هي الأغلبية المعتبرة شرعا؟ وما هي شروط اعتبارها؟ وما هو أثرها؟أولا: ما هي الأغلبية المعتبرة شرعا؟الأغلبية هي أغلبية أهل العلم الذين هم أهل الشورى، لا أغلبية العامة. لأن الله تعالى أمر برد المشكلات إلى أهل العلم، فقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ} ، مع قوله تعالى في شأن عموم الناس {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} .وقد ورد هذا التفريق واضحا في حديث ابن عباس الذي ذكرته آنفا بشأن ما دار بين عبد الرحمن بن عوف وعمر، حيث نصح عبد الرحمن عمرَ بألا يتكلم أمام عامة الناس في موسم الحج، بل ينتظر حتى يرجع إلى المدينة ويكلم الصحابة، قال عبد الرحمن لعمر (لا تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ فَأَخَافُ أَنْ لا يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ مُطِيرٍ فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا فَقَالَ وَاللَّهِ لَأَقُومَنَّ بِهِ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ) .ولذلك فلا أرى للاستفتاء الشعبي موضعا في دار الإسلام، وفي النظم الجاهلية يعتبر هذا الاستفتاء أقوى دستوريا من قرارات النواب بالبرلمان، إذ إن الاستفتاء هو أنموذج للديمقراطية المباشرة، أما البرلمان فأنموذج للديمقراطية الغير مباشرة، والأولى أقوى من الثانية عندهم.ولا يُعترَض على إنكاري للاستفتاء الشعبي بحديث سبي هوزان الذي ذكرته في مسألة العرفاء على الناس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلب رأي الجند فيما هو خالص لهم وهو السبي الذي كانوا قد غنموه في غزوة حنين، فلما أسلم أهل هوزان ووفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم سألوه أن يَمُنَّ عليهم بنسائهم وأموالهم، فخيرهم صلى الله عليه وسلم بين السبي وبين الأموال فاختاروا رد السبي، فَرَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم نصيبه وتبعه الناس على ذلك إلا من أبى منهم فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم برَدِّ السبي وعوضهم عنه. وهذا واضح فيما رواه البخاري عن مروان والمسور بن مخرمة، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوفد هوزان: «اخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْن ِ إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ ـ إلى قوله ـ فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا فَقَامَ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاءِ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ» .ثانيا: ما هي شروط اعتبار رأي أغلبية أهل الشورى؟سبق أن ذكرت كلام شارح العقيدة الطحاوية في طاعة الأمير في مواضع الاجتهاد، حيث قال: [وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة والحاكم وأمير الحرب وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف، أعظم من أمر المسائل الجزئية] . وقد ذكرت من قبل أيضا أدلة هذا الكلام من الكتاب والسنة.فالحاصل أن رأي الأغلبية يعتبر بشرطين:1 = في مواضع الاجتهاد حيث لا نص شرعي واضحا يحسم الخلاف.2 = إذا لم يبت الأمير في موضع الاجتهاد برأيه، وفَوَّض الأمر إلى أهل الشورى.ثالثا: ما هو أثر رأي الأغلبية؟رأي الأغلبية يفيد الترجيح، وهذا ما ذكره ابن حجر في شرح حديث استشارة عمر لمن معه عندما قدم الشام فوجد الطاعون قد وقع بها، وقد سبق الحديث بتمامه.قال ابن حجر في فوائد هذا الحديث [وفيه الترجيح بالأكثر عددا والأكثر تجربة لرجوع عمر لقول مشيخة قريش مع ما انضم إليهم ممن وافق رأيهم من المهاجرين والأنصار، فإن مجموع ذلك أكثر من عدد من خالفه من كل من المهاجرين والأنصار، وَوَازَنَ ما عند الذين خالفوا ذلك من مزيد الفضل في العلم والدين ما عند المشيخة من السن والتجارب، فلما تعادلوا من هذه الحيثية رجح بالكثرة ووافق اجتهادُه النصَّ، فلذلك حمد الله تعالى على توفيقه لذلك] .قلت: ففائدة الأغلبية هي الترجيح عندما لا يستطيع الأمير أن يَبُثَّ في الأمر برأيه، ولا أن نقول إنها ملزمة له، لما فصلناه من قبل. ويدل على هذا أيضا أن أبا بكر لم يلتفت إلى المشورة عندما عزم على قتال مانعي الزكاة لما قويت عنده الحجة على ذلك وقد كانت حجة أبي بكر في قتالهم اجتهادية، إذ لم يحضره النص الوارد في قتالهم وهو حديث ابن عمر مرفوعا: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ» ، حتى لقد شَكَّك البعض في صحة هذا الحديث بأنه لو كان صحيحا لعرفه أبو بكر وعمر ولاحتج أبو بكر به لحَسْم الخلاف، ورد ابن حجر على هذا بأن [السُّنة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة ويطلع عليها أحادهم] . وقد عقد البخاري رحمه الله بابا مستقلا في كتاب الاعتصام من صحيحه لهذه المسألة وهو (باب 22 ـ الحجة على من قال إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة، وما كان يغيب بعضهم عن مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمور الإسلام) وقوله (بعضهم) أي بعض الصحابة، ثم ساق رحمه الله الأدلة على ذلك .وإليك عبارة البخاري في عدم التفات أبي بكر إلى الشورى لما قويت عنده الحجة، كما أوردها في كتاب الاعتصام (باب 28)، قال رحمه الله: [ورأي أبو بكر قتال من مَنَعَ الزكاة فقال عمر: كيف تقاتل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْدُ عُمَرُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى مَشُورَةٍ إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ» أ هـ. علما بأن حجة أبي بكر كانت اجتهادية ولم تكن نَصِّية كما سبق.وإضافة إلى استدلال ابن حجر بحديث شورى عمر في الطاعون على أن الكثرة تفيد الترجيح، عندي دليل آخر وهو قصة مبايعة عثمان بن العفان بالخلافة رضي الله عنه. فقد ورد في حديث البخاري عن المِسْوَر بن مَخْرَمة قال: «وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي ـ إلى قوله ـ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ» . ففي هذه القصة توفر الشرطان اللذان أشرت إليهما في اعتبار رأي الأغلبية، وهو أن يكون في أمر اجتهادي لا نص فيه، وأن الأمير لم يَبُتّ برأيه ووكل الأمر إلى أهل الشورى ففي هذه القصة لم يبت عمر برأيه ووَكَلَ إليهم الاختيار. وموضع الدلالة من الحديث هو قول عبد الرحمن بن عوف (إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ) وتمت بيعة عثمان على هذا. ففي هذا الترجيح برأي الأغلبية ووافقه على ذلك بقية الصحابة حتى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. فهذا الحديث يعتبر حجة في الترجيح بالأغلبية بالشروط التي أشرت إليها، كما أن هذه المسألة يمكن أن تدخل في اجماعات الصحابة رضي الله عنهم لهذا الحديث. ولم أر من نبه على هذا من قبل فيما أعلم، فللّه الحمد والمنة. وقد أورد في حديث المسور بن مخرمة حديثا رواه الدار قطني في (غرائب مالك)، وفيه أن عمر قال لأصحاب الشورى (ويتبع الأقل الأكثر)، فإن صحت هذه الرواية فهي حجة أخرى في الترجيح بالأغلبية لأنها سنة أحد الخلفاء الراشدين المهديين] .هذا فيما يتعلق بمسألة الأغلبية، ومن هم المُعْتَبر رأيهم شرعا؟ وما هي شروط اعتبار رأي الأغلبية؟ وما هو أثر رأيهم؟.أضف إلى هذا فإن الكثرة لها اعتبار في العلوم الشرعية من وجوه متعددة : ففي علم الحديث الكثرة تنقل الخبر من الآحاد إلى المتواتر ومن الظنية إلى القطعية، والكثرة ترفع الضعيف إلى الحسن وترفع الحسن إلى الصحيح بكثرة الطرق من المتابعات والشواهد، والكثرة هي التي تجعل إحدى روايتي الحديث محفوظة والأخرى شاذة أو معروفة ومنكرة. والكثرة هي التي بنى عليها الإمام مالك مذهبه في الأخذ بعمل أهل المدينة على خبر الآحاد. والكثرة هي التي تجعل أحد القولين في المسألة هو قول المشهور والآخر قول المخالف. بهذا تعلم أن الكثرة لها اعتبار في الشريعة ولكن بشروط.وقد ذكرت أثناء كلامي عن تشكيل مجلس العرفاء أحد شِقي مجلس الشورى الإسلامي. أنه إذا تعدد الصالحون في منطقة ما، يمكن اختيار أحدهم إذا تشاحوا بالانتخاب أو بالقرعة، وشرعية الانتخابات مبينة على المسألة السابقة وهي أن رأي الأغلبية يفيد الترجيح بالشروط المذكورة على أن يراعى فيمن يُدْلون بأصواتهم الانتخابية من العامة شروط عدالة الشهود الأمثل فالأمثل فليس لامرأة أو لكافر (أو ذمي) أو لفاسق رأي في هذا بخلاف المعمول به في الديمقراطية.وقد ذكر الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في كتابه (المَخرج من الفتنة) قال: [سؤال: هذا التصويت الذي تقوم عليه هذه الحكومات هل له أصل من الشرع. والجواب: التصويت يعتبر طاغوتا، وقال أيضا: ولا اعتبار بالكثرة فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وقال أيضا: فالواجب أن ترد المسألة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة العلماء، ولما أعرض الناس عن العلماء تخبطوا وانتشرت الفوضى] . أ هـقلت: وفيما قاله نظر، فقوله [التصويت يعتبر طاغوتا] هكذا بإطلاق غير صحيح، إذ كان ينبغي له التفصيل وبيان ما يجوز من هذا كما فصلته في مسألة (أثر الأغلبية في الشورى) كذلك قوله [ولا اعتبار بالكثرة] أيضا في إطلاقه خطأ، ومردود عليه بقول عبد الرحمن بن عوف (أَمَّا بَعْدُ يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ) فهذا القول حجة بإجماع الصحابة في الأخذ برأي الأغلبية بالشروط التي ذكرتها، وهي:1 = أن يكون أصحاب الرأي في المسألة من أهل العلم المختصين في هذا الأمر.2 = أن تكون المسألة من مسائل الاجتهاد حيث لا نص شرعي يحسم الخلاف.3 = أن لا يبت الأمير برأيه في موضع الاجتهاد، وفَوَّض الأمر إلى هؤلاء.4 = أن لا يكون مع المخالف للأغلبية حجة قوية.أما قول الشيخ [فالواجب أن ترد المسألة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم] فلا خلاف في هذا، ولكنا نتكلم عن التصويت ورأي الأغلبية في مجال الاجتهاد حيث لا نص واضحا. وأما شرعية القرعة فستأتي في الفصول التالية إن شاء الله تعالى. ) اهـــقلت : نخلص مما سبق أن مسألة الأكثرية المعتبرة بنوعيها ليست دخيلة على الشريعة بل هي أمر مشروع مأذون العمل به في أبواب ومسائل كثيرة بشروط منضبطةهذا ما أردت أن أبينه في هذه العجالة فقد أردت أن أبين حكم الأخذ بالأكثرية المعتبرة من حيث الإجمال وأما تفاصيلها وشروطها وصورها وحالتها وفروعها فهذا بحث يحتاج إلى سفر كبير وجهد عظيم يسر الله من يقوم به على أفضل وجه
وفي الختام
أسأل الله أن يتقبل مني هذه العجالة وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم
أخوكم
د. أبو محمود
كتبها في الأول من شهر رمضان المبارك
من عام 1433هـــ