تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 11 من 23 الأولىالأولى ... 23456789101112131415161718192021 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 201 إلى 220 من 441

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #201
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1135 الى صـ 1141
    الحلقة (201)


    لطيفة:

    لا بد من حمل قوله تعالى: (تركوا) على المشارفة؛ ليصح وقوع (خافوا) خبرا له، ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة، ونظيره: [ ص: 1135 ] فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف [البقرة: من الآية 231] أي: شارفن بلوغ الأجل، ولهذا المجاز في التعبير عن المشارفة على الترك بالترك سر بديع، وهو التخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع في الحياة، ولا في الذب عن الذرية الضعاف، وهي الحالة التي - وإن كانت من الدنيا - إلا أنها لقربها من الآخرة ولصوقها بالمفارقة صارت من حيزها، ومعبرا عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك، كذا في الانتصاف.
    تنبيه:

    قال بعض المفسرين: إنه يجب أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، ويحب لذرية غيره من المؤمنين ما يحب لذريته، وأن على ولي اليتيم أن لا يؤذي اليتيم ، بل يكلمه كما يكلم أولاده بالأدب الحسن والترحيب، ويدعو اليتيم: يا بني يا ولدي، وقد جاء في الرقة على الأيتام آثار كثيرة، اهـ.

    وفي الآية إشارة إلى إرشاد الآباء - الذين يخشون ترك ذرية ضعاف - بالتقوى في سائر شؤونهم حتى تحفظ أبناؤهم وتغاث بالعناية منه تعالى، ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله تعالى، وإشارة إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع، وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف ، كما في آية: وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنـز لهما وكان أبوهما صالحا [الكهف: 82] إلى آخرها، فإن الغلامين حفظا - ببركة صلاح أبيهما - في أنفسهما ومالهما.
    [ ص: 1136 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا [10]

    إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما أي: على وجه الظلم من الورثة، أو أولياء السوء وقضاته، بخلاف أكل الفقير الناظر في أموالهم بقدر أجرته، كما تقدم.

    إنما يأكلون في بطونهم نارا أي: ما يجر إلى النار ويؤدي إليها وسيصلون أي: في القيامة سعيرا أي: نارا مستعرة .

    روى ابن حبان في: "صحيحه " وابن مردويه، وابن أبي حاتم عن أبي برزة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: ألم تر أن الله قال: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية.

    لطيفة:

    قال الزمخشري : في بطونهم، أي: ملء بطونهم، يقال: أكل فلان في بطنه وفي بعض بطنه، قال الشاعر:


    كلوا في بعض بطنكمو تعفوا فإن زمانكم زمن خميص


    قال الناصر : ومثله: قد بدت البغضاء من أفواههم أي: شرقوا بها وقالوها بملء أفواههم، ويكون المراد بذكر البطون تصوير الأكل للسامع حتى يتأكد عنده بشاعة هذا الجرم بمزيد تصوير، ولأجل تأكيد التشنيع على الظالم لليتيم في ماله خص الأكل؛ لأنه أبشع الأحوال التي يتناول مال اليتيم فيها، والله أعلم.
    [ ص: 1137 ] تنبيه:

    روى أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم أنه لما نزلت هذه الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد عليهم ذلك، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير [البقرة: من الآية 220] الآية، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه، وقد مضى ذلك في سورة البقرة.

    قال الرازي رحمه الله: ومن الجهال من قال: صارت هذه الآية منسوخة بتلك، وهو بعيد؛ لأن هذه الآية في المنع من الظلم، وهذا لا يصير منسوخا بتلك، بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى - إن كان على سبيل الظلم - فهو من أعظم أبواب الإثم، كما في هذه الآية، وإن كان على سبيل التربية والإحسان فهو من أعظم أبواب البر، كما في قوله: وإن تخالطوهم فإخوانكم

    وقال رحمه الله قبل ذلك: ما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته تعالى وكثرة عفوه وفضله؛ لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى.
    [ ص: 1138 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما [11]

    يوصيكم الله في أولادكم شروع في تفصيل أحكام المواريث المجملة في قوله تعالى: للرجال نصيب إلخ.

    قال الحافظ ابن كثير : هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة - هن آيات علم الفرائض، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك، انتهى.

    والمعنى: يأمركم الله ويعهد إليكم في شأن ميراث أولادكم بعد موتكم للذكر أي: منهم مثل حظ الأنثيين أي: نصيبهما اجتماعا وانفرادا.

    أما الأول: فإنه يعد كل ذكر بأنثيين، في مثل ابن مع بنتين، وابن ابن مع بنتي ابن، وهكذا في السافلين، فيضعف نصيبه ويأخذ سهمين، كما أن لهما سهمين.

    وأما الثاني فإن له الكل وهو ضعف نصيب البنت الواحدة، لأنه جعل لها في حال انفرادها النصف، فاقتضى ذلك أن للذكر - عند انفراده - مثلي نصيبها عند انفرادها، وذلك الكامل، فالمذكور هنا ميراث الذكر مطلقا، مجتمعا مع الإناث ومنفردا، كما حققه صاحب "الانتصاف".
    تنبيه:

    قال السيوطي : استدل بالآية من قال بدخول أولاد الابن في لفظ (الأولاد) للإجماع على إرثهم، دون أولاد البنت.

    [ ص: 1139 ] لطائف:

    الأولى: وجه الحكمة في تضعيف نصيب الذكر هو احتياجه إلى مؤنة النفقة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق، فهو إلى المال أحوج، ولأنه لو كمل نصيبها - مع أنها قليلة العقل، كثيرة الشهوة - لأتلفته في الشهوات إسرافا، ولأنها قد تنفق على نفسها فقط، وهو على نفسه وزوجته.

    الثانية: لم يقل: للذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن الضعف يصدق على المثلين فصاعدا، فلا يكون نصا، ولم يقل: للأنثيين مثل حظ الذكر، ولا للأنثى نصف حظ الذكر؛ تقديما للذكر بإظهار مزيته على الأنثى، ولم يقل: للذكر مثلا نصيب الأنثى؛ لأن المثل في المقدار لا يتعدد إلا بتعدد الأشخاص، ولم يعتبر ههنا.

    الثالثة: إيثار اسمي (الذكر والأنثى) على ما ذكر أولا من الرجال والنساء؛ للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق، من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا، كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورثون الأطفال، كالنساء.

    الرابعة: استنبط بعضهم من هذه الآية أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها ، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم.

    كما جاء في الحديث الصحيح، وقد رأى امرأة [ ص: 1140 ] من السبي، فرق بينها وبين ولدها فجعلت تدور على ولدها، فلما وجدته من السبي أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فوالله! لله أرحم بعباده من هذه بولدها .

    فإن كن أي: الأولاد، والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله تعالى: نساء يعني بنات خلصا ليس معهن ذكر فوق اثنتين خبر ثان أو صفة لـ(نساء) أي: نساء زائدات على اثنتين فلهن ثلثا ما ترك أي: المتوفى المدلول عليه بقرينة المقام.
    تنبيه:

    ظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعدا حيث لا ذكر معهن، ولم يسم للبنتين فريضة.

    وقد اختلف أهل العلم في فريضتهما، فذهب الجمهور إلى أن لهما - إذا انفردتا عن البنين – الثلثين.

    وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف، احتج الجمهور بالقياس على الأختين، فإن الله سبحانه قال في شأنهما: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين، كما ألحقوا الأخوات - إذا زدن على اثنتين - بالبنات، في الاشتراك في الثلثين.

    وقيل: في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث، كان للابنتين - إذا انفردتا - الثلثان، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد.

    قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط؛ لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين، وأيضا للمخالف أن يقول: إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف، فهذا دليل على أن هذا فرضهما.

    ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة النصف إذا انفردت بقوله: وإن كانت واحدة فلها النصف كان فرض البنتين - إذا انفردتا - فوق فرض الواحدة، وأوجب القياس على الأختين [ ص: 1141 ] الاقتصار للبنتين على الثلثين.

    وقيل إن (فوق) زائدة، والمعنى: إن كن نساء اثنتين كقوله تعالى: فاضربوا فوق الأعناق [الأنفال: من الآية 12] أي: الأعناق.

    ورد هذا النحاس وابن عطية فقالا: هو خطأ؛ لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى.

    قال ابن عطية: ولأن قوله (فوق الأعناق) هو الفصيح وليست (فوق) زائدة بل هي محكمة المعنى؛ لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ، كما قال دريد بن الصمة : اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال، انتهى.

    وأيضا لو كان لفظ (فوق) زائدا كما قالوا، لقال: فلهما ثلثا ما ترك، ولم يقل: فلهن ثلثا ما ترك.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #202
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1142 الى صـ 1148
    الحلقة (202)

    وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان [ ص: 1142 ] والحاكم والبيهقي في: "سننه" عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك أخرجوه من طرق، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر .

    قال الترمذي : هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، وقد رواه شريك أيضا عن عبد الله بن محمد بن عقيل من حديثه، كذا في: "فتح البيان".

    وإن كانت أي: المولودة واحدة أي: امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت فلها النصف أي: نصف ما ترك، ولم يكمل لها لأنها ناقصة، ولذلك لم يجعل لها الثلثان اللذان هما نصيب الابن معها. ثم ذكر بعد ميراث الأولاد ميراث الوالدين فقال: ولأبويه أي: الميت، وهو كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه، والمراد بالأبوين الأب والأم، والتثنية على لفظ الأب للتغليب لكل واحد منهما السدس مما ترك من المال إن كان له ولد ذكر أو أنثى فإن لم يكن له للميت ولد ذكر أو أنثى: وورثه أبواه فلأمه الثلث أي ثلث المال مما ترك، والباقي للأب للذكر مثل حظ الأنثيين، لكن قرر لها الثلث تنزيلا لها منزلة البنت مع الابن لا منفردة؛ حطا لها عن درجتها؛ لقيام البنت مقام الميت في الجملة، قاله المهايمي .

    فإن كان له أي: للميت إخوة من الأب والأم، أو من الأب أو من الأم، ذكورا أو إناثا فلأمه السدس يعني لأم الميت سدس التركة من بعد وصية يوصي بها أو دين خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه الفروض المذكورة إنما تقسم للورثة من بعد إنفاذ وصية يوصي بها الميت إلى الثلث، ومن بعد قضاء دين على الميت.

    وقرئ في (السبع): يوصي مبنيا للمفعول وللفاعل.

    [ ص: 1143 ] قال الحافظ ابن كثير : أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية.

    وروى أحمد والترمذي وابن ماجه وأصحاب التفاسير من حديث ابن إسحاق ، عن الحارث بن عبد الله الأعور ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: إنكم تقرءون هذه الآية: من بعد وصية يوصي بها أو دين وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه .

    ثم قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث الحارث ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم، لكن كان حافظا للفرائض، معتنيا بها وبالحساب، فالله أعلم.

    قال السيوطي في: "الإكليل": في الآية أن الميراث إنما يقسم بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا، وفيها مشروعية الوصية، واستدل بتقديمها في الذكر من قال بتقديمها على الدين في التركة، وأجاب من أخرها بأنها قدمت؛ لئلا يتهاون بها، واستدل بعمومها من أجاز الوصية بما قل أو كثر، ولو استغرق المال ، ومن أجازها للوارث والكافر، حربيا أو ذميا، واستدل بها من قال: إن الدين يمنع انتقال التركة إلى ملك الوارث ، ومن قال: إن دين الحج والزكاة مقدم على الميراث ، لعموم قوله: أو دين انتهى.

    وقد روى الإمام أحمد وابن ماجه بسند صحيح عن سعد بن الأطول أن أخاه مات وترك ثلاث مائة درهم، وترك عيالا فأردت أن أنفقها على عياله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه فقال: يا رسول الله! قد أديت عنه، إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة، قال: فأعطها فإنها محقة .

    [ ص: 1144 ] لطيفة:

    (فائدة) وصف الوصية بقوله: يوصي بها هو الترغيب في الوصية والندب إليها.

    وإيثار (أو) المفيدة للإباحة في قوله: (أو دين) على (الواو) للدلالة على تساويهما في الوجوب، وتقدمهما على القسمة مجموعين أو منفردين، وتقديم الوصية على الدين - ذكرا مع تأخرها عنه حكما - ما قدمنا من إظهار كمال العناية بتنفيذها؛ لكونها مظنة التفريط في أدائها ولاطرادها، بخلاف الدين، أفاده أبو السعود .

    آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا أي: لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم، والمعنى: فرض الله الفرائض - على ما هو - على حكمة، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة، والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع، وأنتم لا تدرون تفاوتها، فتولى الله ذلك فضلا منه، ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير، وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لأمر القسمة، ورد لما كان في الجاهلية.

    قال السمرقندي : ويقال: معنى الآية أن الله تعالى علمكم قسمة المواريث، وأنكم لا تدرون أيهم أقرب موتا فيرث منه الآخر، انتهى.

    فريضة من الله نصبت نصب مصدر مؤكد لفعل محذوف، أي: فرض الله ذلك فرضا، أو لقوله تعالى: يوصيكم الله فإنه في معنى: يأمركم ويفرض عليكم.

    إن الله كان عليما أي: بالمصالح والرتب حكيما أي: في كل ما قضى وقدر، فيدخل فيه بيان أنصباء الذكر والأنثى دخولا أوليا.
    [ ص: 1145 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم [12]

    ولكم نصف ما ترك أزواجكم من المال إن لم يكن لهن ولد ذكر أو أنثى منكم أو من غيركم فإن كان لهن ولد على نحو ما فصل فلكم الربع مما تركن من المال، والباقي لباقي الورثة من بعد وصية يوصين بها أو دين أي: من بعد استخراج وصيتهن وقضاء دينهن ولهن الربع مما تركتم من المال إن لم يكن لكم ولد ذكر أو أنثى، منهن أو من غيرهن فإن كان لكم ولد على النحو الذي فصل فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين الكلام فيه كما تقدم، وفي تكرير ذكر الوصية والدين من الاعتناء بشأنهما ما لا يخفى.

    لطيفة:

    في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء ؛ لأنه تعالى حيث ذكر الرجال في هذه الآية ذكرهم على سبيل المخاطبة، وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة، وأيضا خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات، وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك، وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء، كما فضلوا عليهن في النصيب، كذا يستفاد من [ ص: 1146 ] الرازي.

    وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة أي: تورث كذلك وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أي: الإخوة والأخوات من الأم أكثر من ذلك أي: من واحد فهم شركاء في الثلث يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم.

    قال المجد في: "القاموس": والكلالة: من لا ولد له ولا والد، أو ما لم يكن من النسب لحا، أو من تكلل نسبه بنسبك، كابن العم وشبهه، أو هي الإخوة للأم، أو بنو العم الأباعد، أو ما خلا الوالد والولد، أو هي من العصبة من ورث منه الإخوة للأم، فهذه سبعة أقوال محكية عن أئمة اللغة.

    وقال ابن بري : اعلم أن الكلالة في الأصل هي مصدر (كل الميت يكل كلا وكلالة) فهو كل إذا لم يخلف ولدا ولا والدا يرثانه، هذا أصلها.

    قال: ثم قد تقع الكلالة على العين دون الحدث، فتكون اسما للميت الموروث، وإن كانت في الأصل اسما للحدث على حد قولهم: هذا خلق الله أي: مخلوق الله.

    قال: وجاز أن تكون اسما للوارث على حد قولهم: رجل عدل أي: عادل، وماء غور أي: غائر.

    قال: والأول هو اختيار البصريين من أن الكلالة اسم للموروث ، قال: وعليه جاء التفسير في الآية: إن الكلالة الذي لم يخلف ولدا ولا والدا، فإذا جعلتها للميت كان انتصابها في الآية على وجهين:

    أحدهما: أن تكون خبر (كان) تقديره: وإن كان الموروث كلالة، أي: كلا ليس له ولد ولا والد.

    والوجه الثاني: أن يكون انتصابها على الحال من الضمير في (يورث) أي: يورث وهو كلالة، وتكون (كان) هي التامة التي ليست مفتقرة إلى خبر.

    قال: ولا يصح أن تكون الناقصة كما ذكره الحوفي؛ لأن خبرها لا يكون إلا الكلالة، ولا فائدة في قوله (يورث) والتقدير إن وقع أو حضر رجل يموت كلالة، أي: يورث وهو كلالة أي: كل.

    وإن جعلتها للحدث دون العين جاز انتصابها على ثلاثة أوجه:

    أحدها: أن يكون انتصابها على المصدر، على تقدير حذف مضاف تقديره: يورث وراثة كلالة، كما قال الفرزدق:


    ورثتم قناة الملك لا عن كلالة


    أي ورثتموها [ ص: 1147 ] وراثة قرب لا وراثة بعد.

    وقال عامر بن الطفيل :


    وما سودتني عامر عن كلالة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب


    ومنه قولهم: هو ابن عم كلالة أي: بعيد النسب، فإذا أرادوا القرب قالوا: هو ابن عم دنية.

    والوجه الثاني: أن تكون الكلالة مصدرا واقعا موقع الحال، على حد قولهم: جاء زيد ركضا، أي: راكضا، وهو ابن عمي دنية أي: دانيا، وابن عمي كلالة أي: بعيدا في النسب.

    والوجه الثالث: أن تكون خبر (كان) على تقدير حذف مضاف، تقديره: وإن كان الموروث ذا كلالة.

    قال: فهذه خمسة أوجه في نصب الكلالة:

    أحدها: أن تكون خبر (كان).

    والثاني: أن تكون حالا.

    الثالث: أن تكون مصدرا، على تقدير حذف مضاف.

    الرابع: أن تكون مصدرا في موضع الحال.

    الخامس: أن تكون خبر (كان) على تقدير حذف مضاف، فهذا هو الوجه الذي عليه أهل البصرة والعلماء باللغة، أعني أن الكلالة اسم للموروث دون الوارث.

    قال: وقد أجاز قوم من أهل اللغة - وهم أهل الكوفة - أن تكون الكلالة اسما للوارث، واحتجوا في ذلك بأشياء منها:

    قراءة الحسن: (وإن كان رجل يورث كلالة) بكسر الراء، فالكلالة على ظاهر هذه القراءة هي ورثة الميت، وهم الإخوة للأم.

    واحتجوا أيضا بقول جابر أنه قال: يا رسول الله، إنما يرثني كلالة.

    فإذا ثبت حجة هذا الوجه كان انتصاب (كلالة) أيضا على مثل ما انتصبت في الوجه الخامس من الوجه الأول، وهو أن تكون خبر (كان) ويقدر حذف مضاف؛ ليكون الثاني هو الأول، تقديره: وإن كان رجل يورث ذا كلالة، كما تقول: ذا قرابة ليس فيهم ولد ولا والد، قال: وكذلك إذا جعلته حالا من الضمير في (يورث) تقديره: ذا كلالة.

    قال: وذهب ابن جني في قراءة من قرأ: [ ص: 1148 ] (يورث كلالة) و: (يورث كلالة) أن مفعولي (يورث ويورث) محذوفان أي: يورث وارثه ماله، قال: فعلى هذا يبقى (كلالة) على حاله الأولى التي ذكرتها، فيكون نصبه على خبر (كان) أو على المصدر، وتكون (الكلالة) للموروث لا للوارث.

    قال: والظاهر أن الكلالة مصدر يقع على الوارث وعلى الموروث، والمصدر قد يقع للفاعل تارة وللمفعول أخرى، والله أعلم.

    قال ابن الأثير : الأب والابن طرفان للرجل، فإذا مات ولم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب الطرفين كلالة.

    وفي الأساس: ومن المجاز: كل فلان كلالة، إذا لم يكن ولدا ولا والدا، أي: كل عن بلوغ القرابة المماسة.

    وقال الأزهري: ذكر الله الكلالة في سورة النساء في موضعين:

    أحدهما قوله: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس

    والموضع الثاني قوله تعالى: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك [النساء: 176] الآية.

    فجعل الكلالة هنا الأخت للأب والأم، والإخوة للأب والأم، فجعل للأخت الواحدة نصف ما ترك الميت، وللأختين الثلثين، وللإخوة والأخوات جميع المال بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين.

    وجعل للأخ والأخت من الأم في الآية الأولى الثلث، لكل واحد منهما السدس، فبين بسياق الآيتين أن الكلالة تشتمل على الإخوة للأم مرة، ومرة على الإخوة والأخوات للأب والأم.

    ودل قول الشاعر أن الأب ليس بكلالة، وأن سائر الأولياء من العصبة بعد الولد كلالة; وهو قوله:


    فإن أبا المرء أحمى له ومولى الكلالة لا يغضب



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #203
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1149 الى صـ 1155
    الحلقة (203)


    [ ص: 1149 ] أراد: أن أبا المرء أغضب له إذا ظلم، وموالي الكلالة - وهم الإخوة والأعمام وبنو الأعمام وسائر القرابات - لا يغضبون للمرء غضب الأب، انتهى.

    وروى ابن جرير وغيره عن الشعبي قال: قال أبو بكر - رضي الله عنه -: إني قد رأيت في الكلالة رأيا - فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله بريء منه - أن الكلالة ما خلا الولد والوالد.
    تنبيه:

    اتفق العلماء على المراد من قوله تعالى: وله أخ أو أخت : الأخ والأخت من الأم.

    وقرأ سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف: وله أخ أو أخت من أم، وكذا فسرها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فيما رواه قتادة عنه.

    قال الكرخي : القراءة الشاذة كخبر الآحاد؛ لأنها ليست من قبل الرأي.

    وأطلق الشافعي الاحتجاج بها، فيما حكاه البويطي عنه، في باب (الرضاع) وباب (تحريم الجمع) وعليه جمهور أصحابه؛ لأنها منقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يلزم من انتفاء خصوص قرآنيتها انتفاء خصوص خبريتها.

    وقال القرطبي : أجمع العلماء على أن الإخوة ههنا هم الإخوة لأم.

    قال: ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم، أو للأب، ليس ميراثهم هكذا، فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى: وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين هم الإخوة لأبوين، أو لأب.

    لطيفة:

    إفراد الضمير في قوله تعالى: وله أخ إما لعوده على الميت المفهوم من المقام، أو على واحد منهما، والتذكير للتغليب، أو على الرجل، واكتفي بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه.

    من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار حال من [ ص: 1150 ] ضمير: يوصي (على قراءته مبنيا للفاعل) أي: غير مدخل الضرر على الورثة، كأن يوصي بأكثر من الثلث، ومن فاعل فعل مضمر يدل عليه المذكور (على قراءته مبنيا للمجهول) وتخصيص هذا القيد بهذا المقام؛ لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم.

    وقد روى ابن أبي حاتم، وابن جرير ، عن ابن عباس مرفوعا: الضرار في الوصية من الكبائر ، ورواه النسائي في: "سننه" عن ابن عباس موقوفا، وهو الصحيح كما قال ابن جرير .

    وصية من الله مصدر مؤكد لفعل محذوف، وتنوينه للتفخيم، كقوله: فريضة من الله أو منصوب بـ(غير مضار) على أنه مفعول به، فإنه اسم فاعل معتمد على ذي الحال، أو منفي معنى، فيعمل في المفعول الصريح، ويعضده القراءة بالإضافة، أي: غير مضار لوصية الله وعهده في شأن الورثة.

    والله عليم بالمضار وغيره حليم لا يعاجل بالعقوبة، فلا يغتر بالإمهال.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم [13]

    تلك الأحكام حدود الله أحكامه وفرائضه المحدودة التي لا تجوز مجاوزتها ومن يطع الله ورسوله في قسمة المواريث وغيرها يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار أي: من تحت شجرها ومساكنها خالدين فيها لا يموتون ولا يخرجون وذلك الفوز العظيم النجاة الوافرة بالجنة.
    [ ص: 1151 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [14]

    ومن يعص الله ورسوله في قسمة المواريث وغيرها ويتعد حدوده بتجاوز أحكامه وفرائضه بالميل والجور يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين أي: لكونه غير ما حكم الله به، وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.

    وقد روى أبو داود في باب (الإضرار في الوصية) من (سننه) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار .

    وقرأ أبو هريرة : من بعد وصية حتى بلغ: وذلك الفوز العظيم ورواه الترمذي وابن ماجه .

    ورواه الإمام أحمد بسياق أتم، ولفظه: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله، فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله، فيدخل الجنة قال: ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: تلك حدود الله إلى قوله: عذاب مهين

    ثم بين تعالى بعضا من الأحكام المتعلقة بالنساء إثر بيان أحكام المواريث بقوله:
    [ ص: 1152 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا [15]

    واللاتي يأتين الفاحشة أي: الخصلة البليغة في القبح - وهي الزنى - حال كونهن من نسائكم فاستشهدوا عليهن أي: فاطلبوا من القاذفين لهن أربعة منكم أي: من المسلمين فإن شهدوا عليهن بها فأمسكوهن في البيوت أي: احبسوهن فيها، ولا تمكنوهن من الخروج؛ صونا لهن عن التعرض بسببه للفاحشة حتى يتوفاهن الموت أي: يستوفي أرواحهن، وفيه تهويل للموت وإبراز له في صورة من يتولى قبض الأرواح وتوفيها، أو يتوفاهن ملائكة الموت أو يجعل الله لهن سبيلا أي: يشرع لهن حكما خاصا بهن، ولعل التعبير عنه بـ(السبيل) للإيذان بكونه طريقا مشكوكا، قاله أبو السعود .

    وقد بينت السنة أن الله تعالى أنجز وعده، وجعل لهن سبيلا، وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أنزل الوحي كرب له وتربد وجهه، وإذا سري عنه قال: خذوا عني خذوا عني - ثلاث مرار - قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة والرجم، والبكر جلد مائة ونفي سنة هذا لفظ الإمام أحمد .

    وكذا رواه أبو داود الطيالسي ولفظه عن عبادة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل عليه الوحي عرف ذلك فيه، فلما أنزلت: أو يجعل الله لهن سبيلا [النساء: 15] وارتفع الوحي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا حذركم قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة .
    [ ص: 1153 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما [16]

    واللذان بتخفيف النون وتشديدها يأتيانها أي: الفاحشة منكم أي: الرجال فآذوهما بالسب والتعيير؛ ليندما على ما فعلا فإن تابا وأصلحا أي: أعمالهما فأعرضوا عنهما بقطع الأذية والتوبيخ، وبالإغماض والستر، فإن التوبة والصلاح مما يمنع استحقاق الذم والعقاب إن الله كان توابا أي: على من تاب رحيما واسع الرحمة، وهو تعليل للأمر بالإعراض.
    تنبيه:

    هذا الحكم المذكور في الآيتين منسوخ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة.

    قال الإمام الشافعي في "الرسالة" في (أبواب الناسخ والمنسوخ) بعد ذكره هاتين الآيتين [376]: ثم نسخ الله الحبس والأذى في كتابه فقال: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [النور: من الآية 2].

    [377] فدلت السنة على أن جلد المائة للزانيين البكرين (لحديث عبادة بن الصامت المتقدم).

    ثم قال: [380] فدلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرين، ومنسوخ عن الثيبين، وأن الرجم ثابت على الثيبين الحرين ، ثم قال: [381] لأن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم - أول ما نزل، فنسخ به الحبس والأذى عن الزانيين.

    [382] فلما رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماعزا ولم يجلده، وأمر أنيسا أن يغدو على امرأة الأسلمي، فإن اعترفت رجمها - دل على نسخ الجلد عن الزانيين الحرين الثيبين، وثبت الرجم عليهما؛ لأن كل شيء - أبدا - بعد أول فهو آخر، انتهى.
    [ ص: 1154 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما [17]

    إنما التوبة على الله استئناف مسوق لبيان أن قبول التوبة من الله تعالى ليس على إطلاقه، كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه توابا رحيما، بل هو مقيد بما سينطق به النص الكريم.

    قوله تعالى: التوبة مبتدأ، وقوله تعالى: للذين يعملون السوء خبره.

    وقوله تعالى: على الله متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، ومعنى كون التوبة عليه سبحانه صدور القبول عنه تعالى، وكلمة " على " للدلالة على التحقق البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه، والمراد بالسوء المعصية، صغيرة أو كبيرة، كذا في أبي السعود .

    بجهالة متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل " يعملون " أي: متلبسين بها، أي: جاهلين سفهاء، أو بـ: " يعملون " على أن الباء سببية، أي: يعملونه بسبب الجهالة، والمراد بالجهل السفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل لا عدم العلم، فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة، والجهل بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب، كقوله:


    فنجهل فوق جهل الجاهلينا


    ثم يتوبون من قريب أي: من زمان قريب، وظاهر الآية اشتراط وقوع التوبة عقب المعصية بلا تراخ، وإنها بذلك تنال درجة قبولها المحتم تفضلا، إذ بتأخيرها وتسويفها [ ص: 1155 ] يدخل في زمرة المصرين، فيكون في الآية إرشاد إلى المبادرة بالتوبة عقب الذنب ، والإنابة إلى المولى بعده فورا، ووجوب التوبة على الفور مما لا يستراب فيه، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان وهو واجب على الفور، وتتمته في "الإحياء".

    إذا عرفت هذا، فما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى: من قريب ما قبل حضور الموت بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه، أعني البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان، عياذا بالله تعالى.

    (فإن قيل): من أين يستفاد قبول التوبة قبل حضور الموت؟

    (قلنا) يستفاد من الآية التي بعدها، ومن الأحاديث الوافرة في ذلك لا من قوله تعالى: من قريب بما أولوه، وذلك لأن الآية الثانية وهي قوله تعالى: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن صريحة في أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقي ما وراءه في حيز القبول.

    وقد روى الإمام أحمد ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر .

    ورواه ابن ماجه والترمذي وقال: حسن غريب.

    وروى أبو داود الطيالسي ، عن عبد الله بن عمرو قال: من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه.

    (قال أيوب ): فقلت له: إنما قال الله عز وجل: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فقال: إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.


    وروى نحوه الإمام أحمد ، وسعيد بن منصور ، وابن مردويه .

    وروى مسلم ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #204
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1156 الى صـ 1162
    الحلقة (204)



    وروى [ ص: 1156 ] الحاكم مرفوعا: من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه .

    وروى ابن ماجه عن ابن مسعود بإسناد حسن: التائب من الذنب كمن لا ذنب له .

    وقوله تعالى: فأولئك يتوب الله عليهم أي: يقبل توبتهم: وكان الله عليما حكيما
    القول في تأويل قوله تعالى:

    وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما [18]

    وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت عند النزاع قال عند مشاهدة ما هو فيه إني تبت الآن فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه ولا الذين يموتون وهم كفار فلا ينفعهم ندمهم ولا توبتهم؛ لأنهم بمجرد الموت يعاينون العذاب.

    روى الإمام أحمد ، عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله يقبل توبة عبده ويغفر لعبده ما لم يقع الحجاب قيل: يا رسول الله! وما الحجاب؟ قال: أن تموت النفس وهي مشركة ولهذا قال تعالى: أولئك أعتدنا أي: أعددنا لهم عذابا أليما
    القول في تأويل قوله تعالى:

    يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا [19]

    [ ص: 1157 ] وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها نهي عما كان يفعله أهل الجاهلية بالنساء من الإيذاء والظلم.

    روى البخاري ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم الآية.

    ورواه أبو داود والنسائي وغيرهم، ولفظ أبي داود ، عن ابن عباس : أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت، أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك، أي: نهى عنه.

    قال السيوطي : ففيه أن الحر لا يتصور ملكه ولا دخوله تحت اليد، ولا يجري مجرى الأموال بوجه.

    و: كرها بفتح الكاف وضمها قراءتان، أي: حال كونهن كارهات لذلك! أو مكرهات عليه، والتقييد (بالكره) لا يدل على الجواز عند عدمه؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، كما في قوله: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق [الإسراء: من الآية 31].

    ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن الخطاب للأزواج، كما عليه أكثر المفسرين.

    روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أن الآية في الرجل تكون له المرأة، وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر، فيضرها لتفتدي به.

    والعضل الحبس والتضييق.

    [ ص: 1158 ] أي: ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن، أي: من الصداق، بأن يدفعن إليكم بعضه اضطرارا فتأخذوه منهن.

    إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أي: زنى، كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين، يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك، وتخالعها، كما قال تعالى في سورة البقرة: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله [البقرة: من الآية 229] الآية.

    وروي عن ابن عباس أيضا وغيره: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان، واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله: الزنى والعصيان والنشوز وبذاء اللسان وغير ذلك، يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه، ويفارقها.

    قال ابن كثير : وهذا جيد، والله أعلم.

    قال أبو السعود : (مبينة) على صيغة الفاعل من (بين) بمعنى تبين، وقرئ على صيغة المفعول، وعلى صيغة الفاعل من (أبان) بمعنى تبين أي: بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة، ويعضده قراءة أبي: (إلا أن يفحشن عليكم) انتهى.

    وفي "الإكليل" استدل قوم بقوله: ببعض ما آتيتموهن على منع الخلع بأكثر مما أعطاها، انتهى.

    ثم بين تعالى حق الصحبة مع الزوجات بقوله: وعاشروهن أي: صاحبوهن بالمعروف أي: بالإنصاف في الفعل والإجمال في القول حتى لا تكونوا سبب الزنى بتركهن، أو سبب النشوز أو سوء الخلق، فلا يحل لكم حينئذ.

    قال السيوطي في: "الإكليل": في الآية وجوب المعروف من توفية المهر والنفقة والقسم [ ص: 1159 ] واللين في القول وترك الضرب والإغلاظ بلا ذنب.

    واستدل بعمومها من أوجب لها الخدمة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها.

    فإن كرهتموهن يعني كرهتم الصحبة معهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا أي: ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولدا صالحا يكون فيه خير كثير، وبأن ينيلكم الثواب الجزيل في العقبى بالإنفاق عليهن والإحسان إليهن، على خلاف الطبع.

    وفي "الإكليل" قال إلكيا الهراسي : في هذه الآية استحباب الإمساك بالمعروف وإن كان على خلاف هوى النفس ، وفيها دليل على أن الطلاق مكروه .

    وقد روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر .

    و(يفرك) بفتح الياء والراء، معناه يبغض.

    لطيفة:

    قال أبو السعود : ذكر الفعل الأول - مع الاستغناء عنه - وانحصار العلية في الثاني للتوسل إلى تعميم مفعوله؛ ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من الله تعالى ليس مخصوصا بمكروه دون مكروه، بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق، حسب اقتضاء الحكمة، وإن ما نحن فيه مادة من موادها، وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد ما لا يخفى.

    تنبيه جليل في الوصية بالنساء والإحسان إليهن :

    كفى في هذا الباب هذه الآية الجليلة الجامعة، وهي قوله تعالى: وعاشروهن بالمعروف

    قال ابن كثير : أي: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: [ ص: 1160 ] ولهن مثل الذي عليهن [البقرة: 228].

    وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي رواه الترمذي عن عائشة ، وابن ماجه عن ابن عباس ، والطبراني عن معاوية .

    وقال - صلى الله عليه وسلم -: خيركم خيركم للنساء رواه الحاكم عن ابن عباس .

    وقال - صلى الله عليه وسلم -: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم رواه ابن عساكر ، عن علي عليه السلام.

    وعن عمرو بن الأحوص - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يقول: بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه، وذكر ووعظ ثم قال: ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن رواه الترمذي ، وقال: حديث حسن صحيح.

    وقوله: (عوان) أي: أسيرات، جمع عانية.

    وعن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ [ ص: 1161 ] قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت رواه أبو داود .

    وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، ورميه بقوسه ونبله، ومداعبة أهله رواه أبو داود .

    وفي رواية له: كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا تأديبه فرسه، ورميه عن قوسه، ومداعبته أهله .

    قال ابن كثير : وكان من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - يتودد إليها بذلك، قالت: سابقني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعدما حملت اللحم فسبقني، فقال: هذه بتلك .

    وكان - صلى الله عليه وسلم - يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار.

    وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة انتهى.

    [ ص: 1162 ] وقال الغزالي في: "الإحياء" في (آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح): الأدب الثاني: حسن الخلق معهن واحتمال الأذى منهن؛ ترحما عليهن، لقصور عقلهن، قال الله تعالى: وعاشروهن بالمعروف وقال في تعظيم حقهن: وأخذن منكم ميثاقا غليظا [النساء: من الآية 21] وقال تعالى: والصاحب بالجنب [النساء: من الآية 36] قيل: هي المرأة.

    ثم قال: واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها؛ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يوما إلى الليل، وراجعت امرأة عمر عمر - رضي الله عنه - فقال: أتراجعيني؟ فقالت: إن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراجعنه، وهو خير منك.

    وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لعائشة : إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا، ورب محمد! وإذا كنت غضبى قلت: لا، ورب إبراهيم! قالت: قلت: أجل، والله يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #205
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1163 الى صـ 1169
    الحلقة (205)


    ثم قال الغزالي :

    الثالث: أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة، فهي التي تطيب قلوب النساء، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال، حتى روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسابق عائشة في العدو فسبقته يوما وسبقها في بعض الأيام، فقال - صلى الله عليه وسلم -: هذه بتلك .

    قال العراقي : رواه أبو داود ، والنسائي في: "الكبرى" وابن ماجه في حديث عائشة بسند صحيح.

    وقالت عائشة - رضي الله عنها -: سمعت أصوات أناس من الحبشة وغيرهم وهم يلعبون في يوم عيد، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتحبين أن تري لعبهم؟ قالت: قلت: نعم، فأرسل إليهم فجاؤوا، وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين البابين، فوضع كفه على الباب ووضعت رأسي على منكبه، وجعلوا يلعبون وأنظر، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: حسبك! وأقول: لا تعجل (مرتين أو ثلاثا) ثم قال: يا عائشة ! حسبك، فقلت: نعم .

    وفي رواية للبخاري قالت: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو.

    وقال عمر - رضي الله عنه -: ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا التمسوا ما عنده وجد رجلا.

    وقال لقمان رحمه الله تعالى: ينبغي للعاقل أن يكون في أهله كالصبي، وإذا كان في القوم وجد رجلا.

    [ ص: 1164 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - لجابر : هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك؟ رواه الشيخان.

    ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت: والله! لقد كان ضحوكا إذا ولج، سكوتا إذا خرج، آكلا ما وجد، غير سائل عما فقد. انتهى بتصرف.

    ثم نهى تعالى عن أخذ شيء من صداق النساء من أراد فراقهن، بقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا [20]

    وإن أردتم استبدال زوج أي: تزوج امرأة ترغبون فيها مكان زوج ترغبون عنها بأن تطلقوها وآتيتم إحداهن أي: إحدى الزوجات، فإن المراد بالزوج الجنس قنطارا أي: مالا كثيرا مهرا فلا تأخذوا منه شيئا أي: يسيرا، فضلا عن الكثير أتأخذونه بهتانا أي: باطلا وإثما مبينا بينا، والاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي: أتأخذونه باهتين وآثمين.
    [ ص: 1165 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا [21]

    وكيف تأخذونه إنكار لأخذه إثر إنكار، وتنفير عنه غب تنفير، على سبيل التعجب، أي: بأي وجه تستحلون المهر.

    وقد أفضى أي: وصل بعضكم إلى بعض فأخذ عوضه وأخذن منكم ميثاقا غليظا أي: عهدا وثيقا مؤكدا مزيد تأكيد، يعسر معه نقضه، كالثوب الغليظ يعسر شقه.

    قال الزمخشري : الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة، ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ انتهى.

    قال الشهاب الخفاجي: قلت بل قالوا:


    صحبة يوم نسب قريب وذمة يعرفها اللبيب


    أو الميثاق الغليظ ما أوثق الله تعالى عليهم في شأنهم بقوله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أو قول الولي عند العقد: أنكحتك على ما في كتاب الله: من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

    تنبيه في فوائد:

    الأولى: في قوله تعالى: وآتيتم إحداهن قنطارا دليل على جواز الإصداق بالمال الجزيل .

    وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نهى عن كثرته ثم رجع عن ذلك.

    كما روى الإمام أحمد عن أبي العجفاء السلمي قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تغلوا [ ص: 1166 ] صدق النساء، ألا لا تغلوا صدق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه، ولا أصدق امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليبتلى بصدقة امرأته.

    وقال مرة: وإن الرجل ليغلي بصدقة امرأته حتى تكون لها عداوة في نفسه، وحتى يقول: كلفت إليك عرق القربة، ورواه أهل السنن، وقال الترمذي : هذا حديث صحيح.

    وروى أبو يعلى عن مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: أيها الناس! ما إكثاركم في صدق النساء! وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم.

    قال: ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش ، فقالت: يا أمير المؤمنين! نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم، قال: نعم، فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال: وأي ذلك؟ قالت: أما سمعت الله يقول: وآتيتم إحداهن قنطارا الآية، قال: فقال: اللهم! غفرا، كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس! إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب.


    قال أبو يعلى : وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل، إسناده جيد قوي، قاله ابن كثير .

    وفي "الحجة البالغة" ما نصه: لم يضبط النبي - صلى الله عليه وسلم - المهر بحد لا يزيد ولا ينقص، إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة، والرغبات لها مراتب شتى، ولهم في المشاحة طبقات، فلا يمكن تحديده عليهم، كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص، ولذلك قال: التمس ولو خاتما من حديد غير أنه سن في صداق أزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا، أي: نصفا. انتهى.

    [ ص: 1167 ] وقد ورد ما يفيد الندب إلى تخفيفه وكراهة المغالاة فيه.

    أخرج أبو داود والحاكم، وصححه، من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خير الصداق أيسره .

    وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا قال: قد نظرت إليها، قال: على كم تزوجتها؟ قال: على أربع أواق، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: على أربع أواق؟ كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه قال: فبعث بعثا إلى بني عبس ، بعث ذلك الرجل فيهم.

    الثانية: خص تعالى ذكر من آتى القنطار من المال بالنهي؛ تنبيها بالأعلى على الأدنى؛ لأنه إذا كان هذا على كثرة ما بذل لامرأته من الأموال منهيا عن استعادة شيء يسير حقير [ ص: 1168 ] منها، على هذا الوجه، كان من لم يبذل إلا الحقير منهيا عن استعادته بطريق الأولى.

    ومعنى قوله: وآتيتم والله أعلم: وكنتم آتيتم، إذ إرادة الاستبدال - في ظاهر الأمر - واقعة بعد إيتاء المال واستقرار الزوجية، كذا في: "الانتصاف".

    الثالثة: اتفقوا على أن المهر يستقر بالوطء ، واختلفوا في استقراره بالخلوة المجردة، ومنشأ ذلك: أن (أفضى) في قوله تعالى: وقد أفضى بعضكم إلى بعض يجوز حملها على الجماع كناية؛ جريا على قانون التنزيل من استعمال الكناية فيما يستحيى من ذكره، والخلوة لا يستحيى من ذكرها فلا تحتاج إلى كناية، ويجوز إبقاؤها على ظاهرها.

    قال ابن الأعرابي : الإفضاء في الحقيقة الانتهاء، ومنه: وقد أفضى بعضكم إلى بعض أي: انتهى وآوى، هذا، والكناية أبلغ وأقرب في هذا المقام، ومما يرجحها أنه تعالى ذكر ذلك في معرض التعجب فقال: وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض، والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة، وهو الجماع، لا مجرد الخلوة، فوجب حمل الإفضاء إليه، ذكره الرازي من وجوه.

    ثم قال: وقوله تعالى: وكيف تأخذونه كلمة تعجب، أي: لأي وجه ولأي معنى تفعلون هذا؟ فإنها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذتك وتمتعك، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئا بذله لها بطيبة نفسه؟ إن هذا لا يليق بمن له طبع سليم وذوق مستقيم.

    الرابعة: في: "الإكليل" استدل بهذه الآية من منع الخلع مطلقا، وقال: إنها ناسخة لآية البقرة.

    وقال غيره: إن هذه الآية منسوخة بها.

    وقال آخرون: لا ناسخ ولا منسوخ بل هي في الأخذ بغير طيب نفسها. انتهى.

    [ ص: 1169 ] أقول: إن القول الثالث متعين؛ لأن كلا من آيتي البقرة وهذه في مورد خاص يعلم من مساق النظم الكريم، وذلك لأن قوله في البقرة: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [البقرة: من الآية 229] صريح في أن الزوجة إذا كرهت خلق زوجها أو خلقه أو نقص دينه أو خافت إثما بترك حقه، أبيح لها أن تفتدي منه وحل له أخذ الفداء مما آتاها، لقوله تعالى ثم: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم [البقرة: 229] إلخ.

    والحكمة في حل الأخذ ظاهرة، وهي جبر الزوج مما لحقه من ضعة اختلاعها له وهيمنتها حينئذ عليه، واسترداد ما لو أخذ منه لكان في صورة المظلوم؛ لأنه لم يجنح للفراق ولا رغب فيه، فكان من العدل الإلهي أن لا يجمع عليه بين خسارتي التمتع والمال.

    وأما هذه الآية فهي في حكم آخر، وهو ما إذا أراد استبدال زوجته لطموح بصره إلى غيرها من غير أن تفتدي منه، أو ترغب في خلع نفسها منه، فيضن بما آتاها ويأسف لأن تحوزه، وهو لا يريدها وليس لها في نفسه وقع، فعزم عليه أن لا يأخذ مما أصدقها شيئا قط بعد الإفضاء؛ لأنه لو أبيح له الأخذ حينئذ لكان ظلما واضحا؛ لأنه أخذ بلا جريرة منها، فكان في إبقاء ما في يدها مما آتاها جبر لما نابها من ألم الإعراض عنها واطراحها؛ رحمة منه تعالى وعدلا في القضيتين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #206
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1170 الى صـ 1176
    الحلقة (206)


    فالقائل بالنسخ فاته سر الحكمين، وليت شعري ماذا يقول في الحديث المروي في البخاري وغيره، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - لامرأة [ ص: 1170 ] ثابت: أتردين عليه حديقته! فقالت: نعم، فقال - صلى الله عليه وسلم - لزوجها: اقبل الحديقة وطلقها .

    ولا يقال: لعل القائل بنسخ الخلع اعتمد فيه قوله تعالى: وكيف تأخذونه إلخ، وفيه ما فيه من تهويل الأخذ والتنفير عنه كما أسلفنا، لأنا نقول إن دلائل الأحكام الناسخة أو المنسوخة إنما تؤخذ من الجمل التامة في الأصلين، فلا تؤخذ من شرط بلا جوابه مثلا، وبالعكس، ولا من مبتدأ بدون خبره وبالعكس، ولا من مؤكد بدون مؤكده، وهكذا.

    وما نحن فيه لو أخذ عموم تحريم الأخذ من قوله: وكيف تأخذونه لكان الاستدلال من المؤكد بدون ملاحظة مؤكده، وهذا ساقط؛ لأن قوله: وكيف - تنفير عما تقدم، متعلق به، وما قبله خاص، ولو زعم القائل بالنسخ أن قوله: وإن أردتم استبدال زوج عام في المخلوعة ومن أريد طلاقها - نقول: هذا باطل وفاسد؛ لأن مورد الآية في إرادته هو فراقها مبتدئا، فلا يصدق على المختلعة؛ لأنه لا يراد الاستبدال بغيرها ابتداء من جانب الزوج، وبالجملة فكل من قرأ صدر الآيتين على أن كلا في حكم على حدة، لا تعلق فيها له بالآخر، والنسخ لا يصار إليه بالرأي، وقد كثر في المتأخرين دعوى النسخ في الآيات هكذا بلا استناد قوي، بل لما يتراءى ظاهرا بلا إمعان، فتثبت هذا.

    وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للمتلاعنين، بعد فراغهما من تلاعنهما: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ - قالها ثلاثا - فقال الرجل: يا رسول الله: مالي؟ [ ص: 1171 ] يعني ما أصدقها، قال: لا مال لك، إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها .

    وفي سنن أبي داود وغيره، عن بصرة بن أكثم : أنه تزوج امرأة بكرا في خدرها، فإذا هي حامل من الزنى، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له: فقضى لها بالصداق وفرق بينهما، وأمر بجلدها، وقال: الولد عبد لك، والصداق في مقابلة البضع .

    ثم بين تعالى من يحرم نكاحهن من النساء ومن لا يحرم ، فقال سبحانه:
    [ ص: 1172 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا [22]

    ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بنكاح أو ملك يمين، وإن لم يكن أمهاتكم إلا ما قد سلف أي: سوى ما قد مضى في الجاهلية فإنه معفو لكم ولا تؤاخذون به إنه كان فاحشة أي: خصلة قبيحة جدا؛ لأنه يشبه نكاح الأمهات ومقتا أي: بغضا عند الله وعند ذوي المروآت، ولذا كانت العرب تسمي هذا النكاح: نكاح المقت ، وتسمي ذلك المتزوج، مقيتا، قاله ابن سيده.

    وقال الزجاج : المقت أشد البغض، ولما علموا أن ذلك في الجاهلية كان يقال له المقت أعلموا أنه لم يزل منكرا ممقوتا وساء سبيلا أي: بئس مسلكا، إذ فيه هتك حرمة الأب.

    وقد روى ابن أبي حاتم : أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت ، وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأته، فقالت: إنما أعدك ولدا، وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبا قيس توفي، فقال: خيرا ثم قالت: إن ابنه قيسا خطبني وهو من صالحي قومه، وإنما كنت أعده ولدا، فما ترى؟ فقال لها: ارجعي إلى بيتك، فنزلت: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية.

    وروى ابن جرير ، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل الله: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف وأن تجمعوا بين الأختين [النساء: من الآية 23].

    لطيفة:

    قال الرازي : مراتب القبح ثلاثة : القبح في العقول وفي الشرائع وفي العادات، فقوله تعالى: إنه كان فاحشة إشارة إلى القبح العقلي، وقوله: ومقتا إشارة إلى القبح الشرعي [ ص: 1173 ] وقوله: وساء سبيلا إشارة إلى القبح في العرف والعادة، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح، والله أعلم.

    قال ابن كثير : فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال.

    كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من طرق، عن البراء بن عازب - وفي رواية عن عمه - أنه بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما [23]

    حرمت عليكم أمهاتكم من النسب أن تنكحوهن، وشملت الجدات من قبل [ ص: 1174 ] الأب أو الأم وبناتكم من النسب، وشملت بنات الأولاد وإن سفلن وأخواتكم من أم أو أب أو منهما وعماتكم أي: أخوات آبائكم وأجدادكم وخالاتكم أي: أخوات أمهاتكم وجداتكم وبنات الأخ من النسب، من أي وجه يكن وبنات الأخت من النسب من أي وجه يكن، ويدخل في البنات أولادهن وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم قال المهايمي : لأن الرضاع جزء منها وقد صار جزءا من الرضيع، فصار كأنه جزؤها فأشبهت أصله، انتهى.

    ويعتبر في الإرضاع أمران:

    أحدهما: القدر الذي يتحقق به هذا المعنى، وقد ورد تقييد مطلقه وبيان مجمله في السنة بخمس رضعات، لحديث عائشة عند مسلم وغيره: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن.

    والثاني: أن يكون الرضاع في أول قيام الهيكل وتشبح صورة الولد، وذلك قبل الفطام، وإلا فهو غذاء بمنزلة سائر الأغذية الكائنة بعد التشبح وقيام الهيكل، كالشاب يأكل الخبز.

    عن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام رواه الترمذي وصححه، والحاكم أيضا.

    وأخرج سعيد بن منصور والدارقطني والبيهقي ، عن ابن عباس مرفوعا: لا رضاع إلا ما كان في الحولين وصحح البيهقي وقفه.

    قال السيوطي في: "الإكليل": واستدل بعموم الآية من حرم برضاع الكبير ، انتهى.

    وقد ورد الرخصة فيه [ ص: 1175 ] لحاجة تعرض، روى مسلم وغيره عن زينب بنت أم سلمة قالت: قالت أم سلمة لعائشة : إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي، فقالت عائشة : أما لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة؟! وقالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله! إن سالما يدخل علي وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرضعيه حتى يدخل عليك وأخرج نحوه البخاري من حديث عائشة أيضا.

    وقد روى هذا الحديث من الصحابة: أمهات المؤمنين، وسهلة بنت سهيل ، وزينب بنت أم سلمة ، ورواه من التابعين جماعة كثيرة، ثم رواه عنهم الجمع الجم.

    وقد ذهب إلى ذلك علي ، وعائشة ، وعروة بن الزبير ، وعطاء بن أبي رباح ، والليث بن سعد ، وابن علية ، وداود الظاهري، وابن حزم ، وذهب الجمهور إلى خلاف ذلك.

    قال ابن القيم : أخذ طائفة من السلف بهذه الفتوى منهم عائشة ، ولم يأخذ بها أكثر أهل العلم، وقدموا عليها أحاديث توقيت الرضاع المحرم بما قبل الفطام، وبالصغر، وبالحولين لوجوه:

    أحدها: كثرتها وانفراد حديث سالم .

    الثاني: أن جميع أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى عائشة - رضي الله عنهن - في شق المنع.

    الثالث: أنه أحوط.

    الرابع: أن رضاع الكبير لا ينبت لحما ولا ينشر عظما، فلا تحصل به البعضية التي هي سبب التحريم.

    الخامس: أنه يحتمل أن هذا كان مختصا بسالم وحده، ولهذا لم يجئ ذلك إلا في قصته.

    السادس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة وعندها رجل قاعد، فاشتد ذلك عليه وغضب، فقالت: إنه أخي من الرضاعة، فقال: انظرن إخوتكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة متفق عليه، واللفظ لمسلم .

    [ ص: 1176 ] وفي قصة سالم مسلك، وهو أن هذا كان موضع حاجة; فإن سالما كان قد تبناه أبو حذيفة ورباه، ولم يكن له منه ومن الدخول على أهله بد، فإذا دعت الحاجة إلى مثل ذلك فالقول به مما يسوغ فيه الاجتهاد، ولعل هذا المسلك أقوى المسالك، وإليه كان شيخنا يجنح، انتهى.

    يعني تقي الدين بن تيمية ، رضي الله عنهما.

    وأخواتكم من الرضاعة قال الرازي : إنه تعالى نص في هذه الآية على حرمة الأمهات والأخوات من جهة الرضاعة، إلا أن الحرمة غير مقصورة عليهن؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .

    وإنما عرفنا أن الأمر كذلك بدلالة هذه الآيات، وذلك لأنه تعالى لما سمى المرضعة أما، والمرضعة أختا، فقد نبه بذلك على أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب، وذلك لأنه تعالى حرم بسبب النسب سبعا:

    اثنتان منها هما المنتسبتان بطريق الولادة، وهما الأمهات والبنات.

    وخمس منها بطريق الأخوة، وهن الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، ثم إنه تعالى لما شرع بعد ذلك في أحوال الرضاع ذكر من هذين القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي، فذكر من قسم قرابة الولادة الأمهات، ومن قسم قرابة الأخوة الأخوات، ونبه بذكر هذين المثالين - من هذين القسمين - على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - أكد هذا البيان بصريح قوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فصار صريح الحديث مطابقا لمفهوم الآية، وهذا بيان لطيف. انتهى.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #207
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1177 الى صـ 1183
    الحلقة (207)

    لطيفة:

    تعرض بعض المفسرين في هذا المقام لفروع فقهية مسندها مجرد الأقيسة.

    قال الرازي : من تكلم في أحكام القرآن وجب أن لا يذكر إلا ما يستنبطه من الآية [ ص: 1177 ] فأما ما سوى ذلك فإنما يليق بكتب الفقه.

    وأمهات نسائكم أي: أصول أزواجكم وربائبكم جمع ربيبة، بمعنى مربوبة، قال الأزهري: ربيبة الرجل بنت امرأته من غيره . انتهى.

    سميت بذلك لأنه يربها غالبا، كما يربي ولده.

    اللاتي في حجوركم جمع حجر (بفتح أوله وكسره) أي: في تربيتكم، يقال: فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته، والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربى طفلا أجلسه في حجره، فصار الحجر عبارة عن التربية، وسر تحريمهن كونهن حينئذ يشبهن البنات إلا أنه إنما يتحقق الشبه إذا كن من نسائكم اللاتي دخلتم بهن لأنهن حينئذ بنات موطوءاتكم، كبنات الصلب، والدخول بهن كناية عن الجماع، كقولهم: بنى عليها، وضرب عليها الحجاب، أي: أدخلتموهن الستر، والباء للتعدية فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم أي: فلا حرج عليكم في أن تتزوجوا بناتهن إذا فارقتموهن أو متن.
    تنبيهات:

    الأول: ذهب بعض السلف إلى أن قيد الدخول في قوله تعالى: اللاتي دخلتم بهن راجع إلى الأمهات والربائب، فقال: لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها، لقوله: فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم

    وروى ابن جرير ، عن علي - رضي الله عنه - في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها: أيتزوج بأمها ؟ قال: هي بمنزلة الربيبة.

    وروي أيضا عن زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، ومجاهد، وابن جبير ، وابن عباس ، وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني، فيما نقله الرافعي عن العبادي ، وقد روي عن ابن مسعود مثله، ثم رجع عنه، وتوقف فيه معاوية، وذلك فيما رواه ابن المنذر، عن بكر بن كنانة أن أباه أنكحه امرأة بالطائف ، قال: فلم أجامعها حتى توفي عمي عن أمها، وأمها ذات مال كثير، فقال أبي: هل لك في أمها؟ [ ص: 1178 ] قال فسألت ابن عباس وأخبرته، فقال: انكح أمها، قال: وسألت ابن عمر فقال: لا تنكحها، فأخبرت أبي بما قالا، فكتب إلى معاوية ، فأخبره بما قالا، فكتب معاوية: إني لا أحل ما حرم الله، ولا أحرم ما أحل الله، وأنت وذاك، والنساء سواها كثير، فلم ينه ولم يأذن لي، فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحنيها.

    وذهب الجمهور إلى أن الأم تحرم بالعقد على البنت ولا تحرم البنت إلا بالدخول بالأم، قالوا: الاشتراط إنما هو في أمهات الربائب.

    وروي في ذلك عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أيما رجل نكح امرأة فلا يحل له نكاح ابنتها، وإن لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها، وأيما رجل نكح امرأة فلا يحل له أن ينكح أمها، دخل بها أو لم يدخل بها أخرجه الترمذي .

    قال الحافظ ابن كثير : هذا الخبر غريب، وفي إسناده نظر.

    وقال الزجاج : قد جعل بعض العلماء: اللاتي دخلتم بهن وصفا للنساء المتقدمة والمتأخرة، وليس كذلك؛ لأن الوصف الواحد لا يقع على موصوفين مختلفي العامل، وهذا؛ لأن النساء الأولى مجرورة بالإضافة، والثانية بـ(من) ولا يجوز أن تقول: مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون (الظريفات) نعتا لهؤلاء النساء ولهؤلاء النساء.

    [ ص: 1179 ] قال الناصر في: "الانتصاف": والقول المشهور عن الجمهور إبهام تحريم أم المرأة، وتقييد تحريم الربيبة بدخول الأم، كما هو ظاهر الآية، ولهذا الفرق سر وحكمة، وذلك لأن المتزوج بابنة المرأة لا يخلو بعد العقد وقبل الدخول من محاورة بينه وبين أمها، ومخاطبات ومسارات فكانت الحاجة داعية إلى تنجيز التحريم ليقطع شوقه من الأم فيعاملها معاملة ذوات المحارم، ولا كذلك العاقد على الأم فإنه بعيد عن مخاطبة بنتها قبل الدخول بالأم، فلم تدع الحاجة إلى تعجيل نشر الحرمة، وأما إذا وقع الدخول بالأم فقد وجدت مظنة خلطة الربيبة، فحينئذ تدعو الحاجة إلى نشر الحرمة بينهما، والله أعلم.

    الثاني: استدل بقوله تعالى: اللاتي في حجوركم من لم يحرم نكاح الربيبة الكبيرة والتي لم يربها، روى ابن أبي حاتم ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي، فوجدت عليها، فلقيني علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: ما لك؟ فقلت: توفيت المرأة، فقال: لها ابنة؟ قلت: نعم، وهي بالطائف، قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي بالطائف ، قال: فانكحها، قلت: فأين قول الله: وربائبكم اللاتي في حجوركم قال: إنها لم تكن في حجرك، إنما ذلك إذا كانت في حجرك؟

    قال الحافظ ابن كثير : إسناده قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب، على شرط مسلم، وإلى هذا ذهب الإمام داود بن علي الظاهري وأصحابه، وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك رحمه الله تعالى، واختاره ابن حزم.

    والجمهور على تحريم الربيبة مطلقا، سواء كانت في حجر الرجل أم لم تكن، قالوا: والخطاب في قوله: اللاتي في حجوركم خرج مخرج الغالب، فإن شأنهن الغالب المعتاد أن يكن في حضانة أمهاتهن تحت حماية أزواجهن، ولم يرد كونهن كذلك بالفعل.

    وفائدة وصفهن بذلك تقوية علة الحرمة وتكميلها، كما أنها النكتة في إيرادهن باسم الربائب دون بنات النساء، فإن كونهن بصدد احتضانهم لهن، وفي شرف التقلب في حجورهم، وتحت حمايتهم وتربيتهم، مما يقوي الملابسة والشبه بينهن وبين أولادهم، [ ص: 1180 ] ويستدعي إجراءهن مجرى بناتهم، لا تقييد الحرمة بكونهن في حجورهم بالفعل، كذا قرره أبو السعود .

    وفي "الانتصاف": إن فائدة وصفهن بذلك، هو تخصيص أعلى صور المنهي عنه بالنهي، فإن النهي عن نكاح الربيبة المدخول بأمها عام، في جميع الصور، سواء كانت في حجر الزوج أو بائنة عنه في البلاد القاصية، ولكن نكاحه لها وهي في حجره أقبح الصور، والطبع عنها أنفر، فخصت بالنهي لتساعد الجبلة على الانقياد لأحكام الملة، ثم يكون ذلك تدريبا وتدريجا إلى استقباح المحرم في جميع صوره، والله أعلم.

    وفي الصحيحين أن أم حبيبة - رضي الله عنها - قالت: يا رسول الله! انكح أختي بنت أبي سفيان (وفي لفظ لمسلم: عزة بنت أبي سفيان ) فقال: أوتحبين ذلك؟ قالت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ذلك لا يحل لي قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: بنت أم سلمة؟ قلت: نعم، فقال: لو أنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن (وفي رواية للبخاري : لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي) .

    قال ابن كثير : فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة، وحكم بالتحريم بذلك.

    الثالث: اشتهر أن المراد من الدخول في قوله تعالى: دخلتم بهن معناه الكنائي وهو الجماع؛ لأنه أسلوب الكتاب العزيز في نظائره؛ بلاغة وأدبا.

    ولذا فسره به ابن عباس وغير [ ص: 1181 ] واحد، فمدلول الآية صريح حينئذ في كون الحرمة مشروطة بالجماع، فلا تتناول غيره من اللمس والتقبيل والنظر لمتاعها، ومن أثبت تحريم الربيبة بذلك لحظ أن معنى الدخول أوسع من الجماع؛ لأنه يقال: دخل بها إذا أمسكها وأدخلها البيت.

    وفي "فتح البيان": الذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو النظر في معنى الدخول شرعا أو لغة، فإن كان خاصا بالجماع فلا وجه لإلحاق غيره به، من لمس أو نظر أو غيرهما، وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كان مناط التحريم هو ذلك. انتهى.

    وفي "شرح القاموس للزبيدي ": ودخل بامرأته كناية عن الجماع، وغلب استعماله في الوطء الحلال، والمرأة مدخول بها، قلت: ومنه الدخلة، لليلة الزفاف. انتهى.

    وحلائل أبنائكم أي: موطوآت فروعكم بنكاح أو ملك يمين، جمع حليلة، سميت بذلك لحلها للزوج.

    وقوله تعالى: الذين من أصلابكم لإخراج الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية، كما قال تعالى: فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم [الأحزاب: من الآية 37] وقال تعالى: وما جعل أدعياءكم أبناءكم [الأحزاب: من الآية 4].

    فالسر في التقيد هو إحلال حليلة المتبنى؛ ردا لمزاعم الجاهلية، لا إحلال حليلة الابن من الرضاع وأبناء الأبناء، كأنه قيل: بخلاف من تبنيتموهم فلكم نكاح حلائلهم.

    [ ص: 1182 ] وأن تجمعوا بين الأختين في حيز الرفع عطفا على ما قبله من المحرمات، أي: وحرم عليكم الجمع بين الأختين في الوطء بنكاح أو ملك يمين من نسب أو رضاع، لما فيه من قطيعة الرحم إلا ما قد سلف في الجاهلية فإنه معفو عنه إن الله كان غفورا رحيما تعليل لما أفاده الاستثناء.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما [24]

    والمحصنات أي: وحرمت عليكم المزوجات من النساء حرائر وإماء، مسلمات أو لا؛ لئلا تختلط المياه فيضيع النسب إلا ما ملكت أيمانكم أي: من اللائي سبين ولهن أزواج في دار الكفر، فهن حلال لغزاة المسلمين، وإن كن محصنات؛ لأن السبي لهن يرفع نكاحهن ويفيد الحل بعد الاستبراء.

    روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي [ ص: 1183 ] والنسائي وابن ماجه ، عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا من سبي أوطاس ، ولهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فاستحللنا فروجهن.
    تنبيه:

    استدل بعموم الآية من قال: إن انتقال الملك ببيع أو إرث أو غير ذلك يقطع النكاح .

    عن ابن مسعود قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها، وعنه: بيع الأمة طلاقها.

    وروي ذلك أيضا عن أبي بن كعب ، وجابر ، وابن عباس - رضي الله عنهم - قالوا: بيعها طلاقها.

    وروى ابن جرير ، عن ابن عباس قال: طلاق الأمة ست: بيعها طلاقها، وعتقها طلاقها، وهبتها طلاقها، وبراءتها طلاقها، وطلاق زوجها طلاقها.

    كذا قرأته في تفسير ابن كثير ، ولا يخفى أن المعدود خمسة، ولعل السادس بيع زوجها، حيث قال بعد ذلك: وروى عوف عن الحسن : بيع الأمة طلاقها وبيعه طلاقها ، فهذا قول هؤلاء من السلف، وحجتهم عموم الاستثناء في قوله تعالى: إلا ما ملكت أيمانكم


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #208
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1184 الى صـ 1190
    الحلقة (208)



    والجمهور على أن بيع الأمة ليس طلاقا لها، واحتجوا بحديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما، فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث، بل خيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ، وقصتها مشهورة، فلو كان [ ص: 1184 ] بيع الأمة طلاقها لما خيرت، وتخييرها دال على أن المراد من الآية المسبيات فقط، وبالجملة فالجمهور قصروا الآية على السبب الذي نزلت فيه.

    قال الرازي : وهو يرجع إلى تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، أي: وهو مقبول ومعمول به في غيرما موضع، كنصاب السرقة، وفي التنبيه الآتي زيادة لهذا فتأثره.

    فائدة:

    اتفق القراء على فتح الصاد في: " المحصنات : هنا، ويقرأ بالفتح والكسر في غير هذا الموضع، وكلاهما مشهور، فالفتح على أنهن أحصن بالأزواج أو بالإسلام، والكسر على أنهن أحصن فروجهن أو أزواجهن، واشتقاق الكلمة من الإحصان وهو المنع.

    كتاب الله مصدر مؤكد، أي: كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتابا وفرضه فرضا، فالزموا كتابه ولا تخرجوا عن حدوده وشرعه وأحل لكم عطف على: حرمت عليكم ما وراء ذلكم إشارة إلى ما ذكر من المحرمات المعدودة، أي: أحل لكم نكاح ما سواهن.

    أن تبتغوا مفعول له، أي: أحل لكم إرادة أن تبتغوا، أو بدل من (ما) أي: ابتغاء النساء بأموالكم أي: بصرفها إلى مهورهن محصنين حال من فاعل (تبتغوا) والإحصان: العفة، وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم غير مسافحين غير زانين، والسفاح الزنى والفجور، من السفح وهو الصب؛ لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة، وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل المرأة، قال: انكحيني، فإذا أراد الزنى قال: سافحيني.

    قال الزجاج : المسافحة أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح.
    تنبيه:

    قوله تعالى: وأحل لكم ما وراء ذلكم عام مخصوص بمحرمات أخر دلت عليها دلائل أخر، فمن ذلك، ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن كافة أهل العلم، وقال: لا نعلم بينهم اختلافا [ ص: 1185 ] في ذلك.

    ومن ذلك نكاح المعتدة ، ومن ذلك أن من كان في نكاحه حرة لا يجوز له نكاح الأمة ، ومن ذلك القادر على الحرة لا يجوز له نكاح الأمة، ومن ذلك من عنده أربع زوجات لا يجوز له نكاح خامسة، ومن ذلك الملاعنة فإنها محرمة على الملاعن أبدا، فالآية مما نزل عاما ودلت السنة ومواضع من التنزيل على أنها مخصصة بغيرها.

    قال الإمام الشافعي في "الرسالة":

    [244] فرض الله عز وجل على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله، صلى الله عليه وسلم.

    [245] فقال في كتابه: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم

    [250] وقال: وأنـزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما

    في آيات نظائرها.

    قال الشافعي :

    [252] فذكر الله عز وجل الكتاب وهو القرآن: وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

    [253] وهذا يشبه ما قال، والله أعلم.

    [254] لأن القرآن ذكر وأتبعته الحكمة، وذكر الله جل ثناؤه منه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز - والله أعلم - أن يقال: الحكمة ههنا إلا سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

    [255] وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحتم على الناس اتباع أمره - فلا يجوز أن يقال لقول: فرض، إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم.

    [256] لما وصفنا من أن الله تعالى جل ثناؤه جعل الإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - مقرونا بالإيمان به.

    [ ص: 1186 ] [257] وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبينة عن الله عز وجل معنى ما أراد دليلا على خاصه وعامه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه، فأتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله - صلى الله عليه وسلم - انتهى.

    وإنما أوردنا هذا؛ تزييفا لزعم الخوارج أن حديث: لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها المروي في الصحيحين وغيرهما خبر واحد، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز، كما نقله عنهم الرازي ، وأورد من حججهم أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة، وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة، فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن، فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى، وأنه لا يجوز، انتهى.

    وقد توسع الرازي هنا في الجواب عن شبهتهم، ومما قيل فيه: إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها مأخوذ من قوله تعالى: وأن تجمعوا بين الأختين

    قال العلامة أبو السعود : ويشترك في هذا الحكم الجمع بين المرأة وعمتها ونظائرها، فإن مدار حرمة الجمع بين الأختين إفضاؤه إلى قطع ما أمر الله بوصله، وذلك متحقق في الجمع بين هؤلاء، بل أولى؛ فإن العمة والخالة بمنزلة الأم، فقوله صلى الله عليه وسلم: لا تنكح المرأة ... إلخ من قبيل بيان التفسير لا بيان التغيير، وقيل: هو مشهور يجوز به الزيادة على الكتاب.

    وقال أيضا: ولعل إيثار اسم الإشارة (يعني في قوله: ما وراء ذلكم ) المتعرض لوصف المشار إليه وعنوانه على الضمير المتعرض للذات فقط - لتذكير ما في كل واحدة منهن من العنوان الذي عليه يدور حكم الحرمة، فيفهم مشاركة من في معناهن لهن فيها بطريقة الدلالة، فإن حرمة الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها ليست بطريق العبارة، بل بطريق الدلالة، كما سلف، انتهى.

    [ ص: 1187 ] وفي "تنوير الاقتباس": ويقال في قوله تعالى: أن تبتغوا بأموالكم أن تطلبوا بأموالكم تزوجهن وهي المتعة، وقد نسخت الآن، انتهى، وسيأتي الكلام على ذلك.

    فما استمتعتم به منهن أي: من تمتعتم به من المنكوحات بالجماع فآتوهن فأعطوهن أجورهن مهورهن كاملة فريضة أي: من الله عليكم أن تعطوا المهر تاما، و: فريضة حال من الأجور، بمعنى مفروضة، أو نعت لمصدر محذوف، أي: إيتاء مفروضا، أو مصدر مؤكد أي: فرض ذلك فريضة.

    ولا جناح عليكم لا حرج عليكم فيما تراضيتم به أنتم وهن من بعد الفريضة أي: من حطها أو بعضها أو زيادة عليها بالتراضي إن الله كان عليما حكيما فيما شرع من الأحكام.
    تنبيه:

    حمل قوم الآية على نكاح المتعة ، قالوا: معنى قوله تعالى: فما استمتعتم به منهن أي: فمن جامعتموهن ممن نكحتموهن نكاح المتعة فآتوهن أجورهن.

    قال الحافظ ابن كثير : وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شك أنه كان مشروعا في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك.

    وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرءون: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة) وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة.

    ولكن الجمهور على خلاف ذلك، والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر .

    وفي صحيح مسلم [ ص: 1188 ] عن الربيع بن سبرة الجهني ، عن أبيه أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أيها الناس! إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا انتهى.

    وفي "الكشاف": قيل: نزلت هذه الآية في المتعة، كان الرجل ينكح المرأة وقتا معلوما، ليلة أو ليلتين أو أسبوعا، بثبوت أو غير ذلك، ويقضي منها وطره ثم يسرحها، وسميت متعة لاستمتاعه بها، أو لتمتيعه لها بما يعطيها.

    وقال الخفاجي : روي أن سعيد بن جبير قال لابن عباس رضي الله عنهما: أتدري ما صنعت بفتواك؟ قال: سارت بها الركبان وقيل فيها الشعر، كقوله:


    قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس؟ هل لك في رخصة الأطراف آنسة
    تكون مثواك حتى مصدر الناس؟


    فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله! ما بهذا أفتيت ولا أحللت إلا مثل ما أحل الله الميتة والدم.

    وقال الإمام شمس الدين بن القيم رضوان الله عليه في: "زاد المعاد" في الكلام على ما في غزوة الفتح من الفقه، ما نصه: ومما وقع في هذه الغزوة إباحة متعة النساء، ثم حرمها - صلى الله عليه وسلم - قبل خروجه من مكة ، واختلف في الوقت الذي حرمت فيه المتعة على أربعة أقوال:

    أحدها: أنه يوم خيبر، وهذا قول طائفة من العلماء، منهم الشافعي وغيره.

    والثاني: أنه عام فتح مكة ، وهذا قول ابن عيينة وطائفة.

    والثالث: أنه عام حنين، وهذا في الحقيقة هو القول الثاني، لاتصال غزاة حنين بالفتح.

    والرابع: أنه عام حجة الوداع، وهو وهم من بعض الرواة، سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوداع، وسفر الوهم من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن واقعة إلى واقعة - كثيرا ما يعرض للحفاظ فمن [ ص: 1189 ] دونهم.

    والصحيح: أن المتعة إنما حرمت عام الفتح؛ لأنه قد ثبت في "صحيح مسلم " أنهم استمتعوا عام الفتح مع النبي - صلى الله عليه وسلم – بإذنه ، ولو كان التحريم زمن خيبر لزم النسخ مرتين، وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة، ولا يقع مثله فيها.

    وأيضا: فإن خيبر لم يكن فيها مسلمات، وإنما كن يهوديات، وإباحة نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعد، إنما أبحن بعد ذلك في سورة المائدة بقوله: اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [المائدة: 5] وهذا متصل بقوله: اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة: 3] وبقوله: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم [المائدة: 3] وهذا كان في آخر الأمر بعد حجة الوداع، أو فيها، فلم تكن إباحة نساء أهل الكتاب ثابتة من خيبر، ولا كان للمسلمين رغبة في الاستمتاع بنساء عدوهم قبل الفتح، وبعد الفتح استرق من استرق منهن [ ص: 1190 ] وصرن إماء للمسلمين.

    فإن قيل: فما تصنعون بما ثبت في"الصحيحين" من حديث علي بن أبي طالب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية وهذا صحيح صريح؟

    قيل: هذا الحديث قد صحت روايته بلفظين: هذا أحدهما.

    والثاني: الاقتصار على نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، هذه رواية ابن عيينة عن الزهري .

    قال قاسم بن أصبغ : قال سفيان بن عيينة : يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، لا عن نكاح المتعة، ذكره أبو عمر في: "التمهيد": ثم قال: على هذا أكثر الناس، انتهى.

    فتوهم بعض الرواة أن (يوم خيبر) ظرف لتحريمهن، فرواه: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعة زمن خيبر، والحمر الأهلية واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث، فقال: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعة زمن خيبر فجاء بالغلط البين.

    فإن قيل: فأي فائدة في الجمع بين التحريمين، إذا لم يكونا قد وقعا في وقت واحد، وأين المتعة من تحريم الحمر؟ قيل: هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - محتجا به على ابن عمه عبد الله بن عباس في المسألتين، فإنه كان يبيح المتعة ولحوم الحمر، فناظره علي بن أبي طالب في المسألتين، وروى له التحريمين، وقيد تحريم الحمر بزمن خيبر، وأطلق تحريم المتعة وقال: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم المتعة، وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، كما قاله سفيان بن عيينة ، وعليه أكثر الناس، فروى الأمرين محتجا عليه بهما، لا مقيدا لهما بيوم خيبر.... والله الموفق.

    ولكن ههنا نظر آخر، وهو أنه: هل حرمها تحريم الفواحش التي لا تباح بحال، أو حرمها عند الاستغناء عنها، وأباحها للمضطر؟ هذا هو الذي نظر فيه ابن عباس وقال: أنا أبحتها للمضطر كالميتة والدم، فلما توسع فيها من توسع، ولم يقف عند الضرورة، أمسك ابن عباس عن الإفتاء بحلها، ورجع عنه، وقد كان ابن مسعود يرى إباحتها ويقرأ: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [المائدة: 87].


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #209
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1191 الى صـ 1197
    الحلقة (209)





    [ ص: 1191 ] ففي "الصحيحين" عنه قال: كنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس لنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب ، ثم قرأ عبد الله: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [المائدة: 87].

    وقراءة عبد الله الآية عقيب هذا الحديث تحتمل أمرين:

    أحدهما: الرد على من يحرمها، وأنها لو لم تكن من الطيبات لما أباحها رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

    والثاني: أن يكون أراد آخر هذه الآية، وهو الرد على من أباحها مطلقا، وأنه معتد، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما رخص فيها للضرورة عند الحاجة في الغزو، وعند عدم النساء، وشدة الحاجة إلى المرأة، فمن رخص فيها في الحضر مع كثرة النساء، وإمكان النكاح المعتاد، فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين.

    فإن قيل: فكيف تصنعون بما روى مسلم في "صحيحه" من حديث جابر ، وسلمة بن الأكوع ، قالا: خرج علينا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أذن لكم أن تستمتعوا (يعني: متعة النساء).

    قيل: هذا كان زمن الفتح قبل التحريم، ثم حرمها بعد ذلك بدليل ما رواه مسلم في "صحيحه" عن سلمة بن الأكوع قال: رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أوطاس في المتعة ثلاثا، ثم نهى عنها .

    (وعام أوطاس ) هو (وعام الفتح) واحد؛ لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة .

    فإن قيل: فما تصنعون بما رواه [ ص: 1192 ] مسلم في: "صحيحه" عن جابر بن عبد الله ، قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث، وفيما ثبت عن عمر أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أنهى عنهما: متعة النساء ومتعة الحج؟

    قيل: الناس في هذا طائفتان: طائفة تقول: إن عمر هو الذي حرمها ونهى عنها، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع ما سنه الخلفاء الراشدون، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح، فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة ، عن أبيه، عن جده، وقد تكلم فيه ابن معين ، ولم ير البخاري إخراج حديثه في: "صحيحه" مع شدة الحاجة إليه، وكونه أصلا من أصول الإسلام، ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه أو الاحتجاج به، قالوا: ولو صح حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود حتى يروي أنهم فعلوها ويحتج بالآية.

    وقالوا أيضا: ولو صح لم يقل عمر : إنها كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنهى عنها، وأعاقب عليها، بل كان يقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - حرمها ونهى عنها.

    قالوا: ولو صح لم تفعل على عهد الصديق وهو عهد خلافة النبوة حقا.

    والطائفة الثانية: رأت صحة حديث سبرة ، ولو لم يصح فقد صح حديث علي رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم متعة [ ص: 1193 ] النساء .

    فوجب حمل حديث جابر على أن الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمن عمر - رضي الله عنه - فلما وقع فيها ظهر واشتهر، وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها، وبالله التوفيق. انتهى.

    هذا، والذين حملوا الآية على بيان حكم النكاح قالوا: المراد من قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به إلخ ... أنه إذا كان المهر مقدرا بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئا من المهر، أو تبرئه عنه بالكلية، بالتراضي، كما تقدم وهو كقوله تعالى: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا [النساء: 4] وقوله: إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح [البقرة: من الآية 237].

    وقد روى ابن جرير عن حضرمي : أن رجالا كانوا يقرضون المهر، ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة، فقال الله: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إلخ.

    يعني إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ.

    وأما الذين حملوا الآية على بيان المتعة، قالوا: المراد من نفي الجناح أنه إذا انقضى أجل المتعة لم يبق للرجل على المرأة سبيل البتة، فإن قال لها: زيديني في الأيام وأزيدك في الأجرة - كانت المرأة بالخيار، إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل، فهذا هو المراد من قوله: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة أي: من بعد المقدار المذكور أولا من الأجر والأجل، أفاده الرازي .

    قال السدي : إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى، يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما، فقال: أتمتع منك أيضا بكذا وكذا، فإن شاء زاد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة، وهو قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة

    قال السدي : إذا انقضت المدة فليس عليها سبيل، وهي منه بريئة، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها، وليس بينهما ميراث، فلا يرث واحد منهما صاحبه.

    [ ص: 1194 ] قال ابن جرير الطبري : أولى التأويلين في ذلك بالصواب التأويل الأول؛ لقيام الحجة بتحريم الله تعالى متعة النساء على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى.

    قال المهايمي : ثم أشار تعالى إلى نكاح ما يستباح للضرورة كنكاح المتعة، لكنها ضرورة مستمرة لا تنقطع بكثرة الإسلام فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم [25]

    ومن لم يستطع أي: لم يقدر منكم أيها الأحرار، بخلاف العبيد، أن يحصل طولا أي: غنى يمكنه به أن ينكح المحصنات أي: الحرائر المتعففات، بخلاف الزواني؛ إذ لا عبرة بهن المؤمنات إذ لا عبرة بالكوافر فمن ما ملكت أيمانكم أي: فله أن ينكح بعض ما يملكه أيمان إخوانكم من فتياتكم أي: إمائكم حال الرق المؤمنات لا الكتابية؛ لأنه لا يحتمل مع عار الرق عار الكفر، وقد استفيد من سياق هذه الآية أن الله تعالى شرط في نكاح الإماء شرائط ثلاثة : اثنان منها في الناكح، والثالث في المنكوحة.

    أما اللذان في الناكح فأحدهما أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق، وهو معنى قوله: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات [ ص: 1195 ] فعدم استطاعة الطول عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة، فإن قيل: الرجل إذا كان يستطيع التزوج بالأمة يقدر على التزوج بالحرة الفقيرة، فمن أين هذا التفاوت؟ قلنا: كانت العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة السادات، وعلى هذا التقدير يظهر التفاوت.

    وأما الشرط الثاني: فهو المذكور في آخر الآية وهو قوله: ذلك لمن خشي العنت منكم أي: الزنى بأن بلغ الشدة في العزوبة.

    وأما الشرط الثالث المعتبر في المنكوحة، فأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة، فإن الأمة إذا كانت كافرة كانت ناقصة من وجهين: الرق والكفر، ولا شك أن الولد تابع للأم في الحرية والرق، وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر، فيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكا للكافر، وما ذكرناه هو المطابق لمعنى الآية، ولا يخلو ما عداه عن تكلف لا يساعده نظم الآية.

    قال الزمخشري : فإن قلت: لم كان نكاح الأمة منحطا عن نكاح الحرة؟ قلت: لما فيه من اتباع الولد الأم في الرق، ولثبوت حق المولى فيها وفي استخدامها، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة، وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح، ومهانة، والعزة من صفات المؤمنين، وسيأتي مزيد لهذا عند قوله تعالى: وأن تصبروا خير لكم

    وقوله تعالى: والله أعلم بإيمانكم إشارة إلى أنه لا يشترط الاطلاع على بواطنهن، بل يكتفي بظاهر إيمانهن، أي: فاكتفوا بظاهر الإيمان، فإنه تعالى العالم بالسرائر وبتفاضل ما بينكم في الإيمان، فرب أمة تفضل الحرة فيه.

    وقوله تعالى: بعضكم من بعض اعتراض آخر جيء به لتأنيسهم بنكاح الإماء حالتئذ، أي: أنتم وأرقاؤكم متناسبون، نسبكم من آدم ودينكم الإسلام.

    فانكحوهن بإذن أهلهن أي: مواليهن لا استقلالا، وذلك؛ لأن منافعهن لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له.

    وآتوهن أعطوهن: أجورهن أي: مهورهن: بالمعروف أي: بلا مطل وضرار وإلجاء إلى الاقتضاء.

    واستدل الإمام مالك بهذا على أنهن أحق بمهورهن، وأنه لا حق فيه للسيد.

    [ ص: 1196 ] وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد، وإنما أضافها إليهن؛ لأن التأدية إليهن تأدية إلى سيدهن لكونهن ماله.

    محصنات حال من مفعول فانكحوهن أي: حال كونهن عفائف عن الزنى غير مسافحات حال مؤكدة: أي: غير زانيات بكل من دعاهن ولا متخذات أخدان أي: أخلة يتخصصن بهم في الزنى.

    قال أبو زيد : الأخدان الأصدقاء على الفاحشة، والواحد خدن وخدين.

    وقال الراغب: أكثر ذلك يستعمل فيمن يصاحب بشهوة نفسانية.

    ومن لطائف وقوع قوله تعالى: محصنات إلخ إثر قوله: وآتوهن أجورهن الإشعار بأنهن لو كن إحدى هاتين، فلكم المناقشة في أداء مهورهن ليفتدين نفوسهن.

    فإذا أحصن أي: بالتزويج، وقرئ على البناء للفاعل أي: أحصن فروجهن أو أزواجهن فإن أتين بفاحشة أي: فعلن فاحشة وهي الزنا فعليهن أي: فثابت عليهن شرعا نصف ما على المحصنات أي: الحرائر من العذاب أي: من الحد الذي هو جلد مائة فنصفه خمسون جلدة، لا الرجم.

    قال المهايمي : لأنهن من أهل المهانة، فلا يفيد فيهن المبالغة في الزجر.
    تنبيه:

    قال ابن كثير : مذهب الجمهور أن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة ، سواء كانت مسلمة أو كافرة، مزوجة أو بكرا، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنى من الإماء، وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك.

    فأما الجمهور فقالوا: لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم، وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء، فقدمناها على مفهوم الآية.

    فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن علي - رضي الله عنه - أنه خطب فقال يا أيها الناس! أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهن ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها [ ص: 1197 ] فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحسنت، اتركها حتى تماثل .

    وعند عبد الله بن أحمد عن غير أبيه: فإذا تعافت من نفاسها فاجلدها خمسين .

    وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر .

    ولمسلم: إذا زنت ثلاثا، ثم ليبعها في الرابعة .

    وروى مالك عن عبد الله بن عياش المخزومي قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين، في الزنا.

    الجواب الثاني: جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها وإنما تضرب تأديبا، وهو المحكي عن ابن عباس - رضي الله عنه - وإليه ذهب طاوس ، وسعيد بن جبير ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وداود بن علي الظاهري (في رواية عنه) وعمدتهم مفهوم الآية، وهو من مفاهيم الشرط، وهو حجة عند أكثرهم، فقدم على العموم عندهم.

    وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير .

    قال ابن شهاب : لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة، أخرجاه في الصحيحين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #210
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1198 الى صـ 1204
    الحلقة (210)





    وعند مسلم قال ابن شهاب : الضفير الحبل. قالوا: فلم يؤقت فيه عدد كما أقت في المحصنة، [ ص: 1198 ] وكما وقت في القرآن بنصف ما على المحصنات، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك، والله أعلم.

    وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور، عن ابن عباس مرفوعا : ليس على أمة حد حتى تحصن - يعني تزوج - فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات .

    ورواه ابن خزيمة مرفوعا أيضا وقال: رفعه خطأ، إنما هو من قول ابن عباس .

    وكذا رواه البيهقي ، وقال مثل قول ابن خزيمة .

    قالوا: وحديث علي وعمر قضايا أعيان، وحديث أبي هريرة عنه أجوبة:

    أحدها: إن ذلك محمول على الأمة المزوجة، جمعا بينه وبين هذا الحديث.

    الثاني: إن لفظة الحد في قوله: فليقم عليها الحد مقحمة من بعض الرواة بدليل:

    الجواب الثالث: وهو أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقديم من رواية واحد.

    وأيضا فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم من حديث عباد بن تميم عن عمه، وكان قد شهد بدرا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا زنت الأمة فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير .

    الرابع: أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظ (الحد) في الحديث على (الجلد) لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حد، أو أنه أطلق لفظة (الحد) على التأديب، كما أطلق (الحد) على ضرب من زنى من المرضى بعثكال نخل فيه مائة شمراخ، وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة، وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه، كأحمد وغيره من السلف، وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة، ورجم الثيب. انتهى.

    وله تتمة سابغة.

    وقال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد": وحكم في الأمة إذا زنت ولم تحصن بالحد، وأما قوله تعالى في الإماء: فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فهو نص في أن حدها بعد التزويج نصف حد الحرة من الجلد، وأما قبل التزويج فأمر بجلدها، وفي هذا الحد قولان:

    [ ص: 1199 ] أحدهما: أنه الحد، ولكن يختلف الحال قبل التزويج وبعده، فإن للسيد إقامته قبله، وأما بعده فلا يقيمه إلا الإمام.

    والقول الثاني: أن جلدها قبل الإحصان تعزير لا حد، ولا يبطل هذا ما رواه مسلم في "صحيحه": من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يعيرها ثلاث مرات، فإن عادت في الرابعة فليجلدها وليبعها ولو بضفير وفي لفظ: فليضربها بكتاب الله .

    وفي "صحيحه" أيضا من حديث علي - كرم الله وجهه - أنه قال: أيها الناس! أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهن، ومن لم يحصن، فإن أمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت، فأمرني أن أجلدها، الحديث .

    فإن التعزير يدخل فيه لفظ (الحد) في لسان الشارع، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى .

    وقد ثبت التعزير بالزيادة على العشرة جنسا وقدرا في مواضع عديدة لم يثبت نسخها، ولم تجتمع الأمة على خلافها.

    وعلى كل حال فلا بد أن يخالف حالها بعد الإحصان حالها قبله، وإلا لم يكن للتقييد فائدة.

    فإما أن يقال قبل الإحصان: لا حد عليها، والسنة الصحيحة تبطل ذلك، وإما أن يقال: حدها قبل الإحصان حد الحرة، وبعده نصفه، وهذا باطل قطعا مخالف لقواعد الشرع وأصوله، وإما أن يقال: حدها قبل الإحصان تعزير، وبعده حد، وهذا أقوى، وإما أن يقال: الافتراق بين الحالتين [ ص: 1200 ] في إقامة الحد لا في قدره، وأنه في إحدى الحالتين للسيد، وفي الأخرى للإمام، وهذا أقرب ما يقال.

    وقد يقال: إن تنصيصه على التنصيف بعد الإحصان؛ لئلا يتوهم متوهم أن بالإحصان يزول التنصيف، ويصير حدها حد الحرة، كما أن الجلد عن البكر يزال بالإحصان، وانتقل إلى الرجم، فبقي على التنصيف في أكمل حالتيها - وهى الإحصان - تنبيها على أنه إذا اكتفي به فيها ففي ما قبل الإحصان أولى وأحرى، والله أعلم.

    ذلك أي: إباحة نكاح الإماء لمن خشي العنت أي: المشقة في التحفظ من الزنى منكم أيها الأحرار وأن تصبروا على تحمل تلك المشقة، متعففين عن نكاحهن خير لكم من نكاحهن، وإن سبقت كلمة الرخصة؛ لما فيه من تعريض الولد للرق - قال عمر رضي الله عنه: أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه - ولأن حق المولى فيها أقوى فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر، ولأن المولى يقدر على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضر، وعلى بيعها للحاضر والبادي، وفيه من اختلال حال الزوج وأولاده ما لا مزيد عليه، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة، وذلك كله ذل ومهانة سارية إلى الناكح، والعزة هي اللائقة بالمؤمنين، ولأن مهرها لمولاها، فلا تقدر على التمتع به ولا على هبته للزوج، فلا ينتظم أمر المنزل، كذا حرره أبو السعود ، وقد قيل:


    إذا لم يكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره


    قال في "الإكليل": في الآية كراهة نكاح الأمة عند اجتماع الشروط، بقوله تعالى: وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم
    [ ص: 1201 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم [26]

    يريد الله أي: في تحريم ما حرم من النساء، وتحليل ما أحل بالشرائط ليبين لكم أي: شرائعه ويهديكم سنن الذين من قبلكم أي: يرشدكم إلى طرائق من تقدم من أهل الكتاب في تحريم ما حرمه؛ لتتأسوا بهم في اتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها.

    وفي الآية دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم كذلك في الملة السابقة.

    وقد قرأت في سفر الأحبار اللاويين من التوراة في (الفصل الثامن عشر) ما يؤيد ذلك، عدا ما رفعه تعالى عنا من ذلك مما فيه حرج.

    ويتوب عليكم أي: يتجاوز عنكم ما كان منكم في الجاهلية، أو يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته والله عليم أي: فيما شرع لكم من الأحكام حكيم مراع في جميع قضائه الحكمة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما [27]

    والله يريد أن يتوب عليكم أي: من المآثم والمحارم، أي: يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى، وفيه بيان كمال منفعة ما أراده الله تعالى، وكمال مضرة ما يريده الفجرة، كما قال سبحانه: ويريد الذين يتبعون الشهوات أي: ما حرمه الشرع، وهم الزناة أن تميلوا عن الحق بالمعصية ميلا عظيما يعني بإتيانكم ما حرم الله عليكم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [28]

    يريد الله أن يخفف عنكم أي: في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم، ولهذا أباح نكاح الإماء بشروطه، ونظير هذا قوله تعالى:يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [البقرة: من الآية 185] [ ص: 1202 ] وقوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج [الحج: 78].

    وخلق الإنسان ضعيفا أي: عاجزا عن دفع دواعي شهواته، فناسبه التخفيف لضعف عزمه وهمته وضعفه في نفسه، فالجملة اعتراض تذييلي مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف في أحكام الشرع.

    وفي "الإكليل" قال طاوس: ضعيفا أي: في أمر النساء لا يصبر عنهن، وقال وكيع: يذهب عقله عندهن، أخرجهما ابن أبي حاتم، ففيه أصل لما يذكره الأطباء من منافع الجماع ومن مضار تركه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [29]

    يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم أي: لا يأكل بعضكم أموال بعض بالباطل أي: ما لم تبحه الشريعة كالربا والقمار والرشوة والغصب والسرقة والخيانة، [ ص: 1203 ] وما جرى مجرى ذلك من صنوف الحيل.

    إلا أن تكون تجارة أي: معاوضة محضة كالبيع عن تراض منكم في المحاباة من جانب الآخذ والمأخوذ منه، وقرئ: (تجارة) بالرفع على أن (كان) تامة، وبالنصب على أنها ناقصة، والتقدير: إلا أن تكون المعاملة أو التجارة أو الأموال تجارة.

    قال السيوطي في "الإكليل": في الآية تحريم أكل المال الباطل بغير وجه شرعي، وإباحة التجارة والربح فيها، وأن شرطها التراضي، ومن ههنا أخذ الشافعي رحمه الله اعتبار الإيجاب والقبول لفظا؛ لأن التراضي أمر قلبي فلا بد من دليل عليه، وقد يستدل بها من لم يشترطهما إذا حصل الرضا، انتهى.

    أي لأن الأقوال كما تدل على التراضي فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا، فصح بيع المعاطاة مطلقا.

    وفي "الروضة الندية": حقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله تعالى، والمراد ها هنا أمارته، كالإيجاب والقبول، وكالتعاطي عند القائل به، وعلى هذا أهل العلم؛ لكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعضهم من ألفاظ مخصوصة، وأنه لا يجوز البيع بغيرها، ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو: (بعت منك وبعتك) فإنا لا ننكر أن البيع يصح بذلك، وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها، ولم يرد في ذلك شيء، وقد قال الله تعالى:تجارة عن تراض فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط، ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة، بأي لفظ وقع، وعلى أي صفة كان، وبأي إشارة مفيدة حصل، انتهى.

    وقوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فيه وجهان:

    الأول: أن المعنى لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين، فإن كلهم كنفس واحدة، والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم، بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل.

    والثاني: النهي عن قتل الإنسان نفسه ، وقد احتج بهذه الآية عمرو بن العاص على مسألة التيمم للبرد، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1204 ] على احتجاجه، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود، ولفظ أحمد :

    عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟! قال: قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئا وهكذا أورده أبو داود.

    قال ابن كثير : وهذا، أي: المعنى الثاني - والله أعلم - أشبه بالصواب، وقد توافرت الأخبار في النهي عن قتل الإنسان نفسه والوعيد عليه.

    روى الشيخان وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #211
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1205 الى صـ 1211
    الحلقة (211)

    وأخرج الشيخان عنه - رضى الله عنه - قال: شهدنا خيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال، حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة، فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها أسهما، فنحر بها نفسه، فاشتد رجال من المسلمين، فقالوا يا رسول الله، صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه، فقال: قم يا فلان، فأذن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر وهذا لفظ البخاري.

    وروى أبو داود عن جابر بن سمرة - رضي الله عنهما - قال: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قتل نفسه فقال: لا أصلي عليه .

    وفي الصحيحين من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة .

    ولهذا قال تعالى:
    [ ص: 1206 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا [30]

    ومن يفعل ذلك أي: القتل عدوانا وظلما أي: متعديا فيه، ظالما في تعاطيه، أي: عالما بتحريمه متجاسرا على انتهاكه فسوف نصليه أي: ندخله نارا أي: هائلة شديدة العذاب وكان ذلك أي: إصلاؤه النار على الله يسيرا هينا عليه، لا عسر فيه ولا صارف عنه؛ لأنه تعالى لا يعجزه شيء.

    قال النسفي : وهذا الوعيد في حق المستحل للتخليد، وفي حق غيره، لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته، انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [31]

    إن تجتنبوا أي: تتركوا كبائر ما تنهون عنه أي: كبائر الذنوب التي نهاكم الشرع عنها، مما ذكر ههنا ومما لم يذكر نكفر عنكم سيئاتكم أي: صغائر ذنوبكم، ونمحها عنكم، وندخلكم الجنة، كما قال تعالى: وندخلكم في الآخرة مدخلا كريما أي: حسنا وهي الجنة، و(مدخلا) قرئ بضم الميم، اسم مكان أو مصدر ميمي، أي: إدخالا مع كرامة، وبفتح الميم، وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر، وفي الآية دليل على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر ، ورد على من قال: إن المعاصي كلها كبائر ، وإنه لا صغيرة.

    قال الإمام ابن القيم في "الجواب الكافي": قد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة [ ص: 1207 ] والتابعين بعدهم، والأئمة على أن من الذنوب كبائر وصغائر، قال الله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [النساء: 31]، وقال تعالى: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم [النجم: من الآية 32].

    وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان: مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر .

    وهذه الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات:

    إحداها: أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها، والقيام بحقوقها، بمنزلة الدواء الضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كمية وكيفية.

    الثانية: أن تقاوم الصغائر، ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر.

    الثالثة: أن تقوى على تكفير الصغائر، وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر، فتأمل هذا، فإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة.

    وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وجلس وكان متكئا فقال: ألا وقول الزور (ثلاثا) .

    [ ص: 1208 ] وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -: اجتنبوا السبع الموبقات .

    قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات
    .

    وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أى؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك .

    قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون [الفرقان: 68] الآية، ثم ساق الخلاف في تعدادها، اهـ.

    وعندي أن الصواب هو الوقوف في تعدادها على ما صحت به الأحاديث، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبين لكتاب الله عز وجل، أمين على تأويله، والمرجع في بيان كتاب الله تعالى إلى السنة الصحيحة، كما أن المرجع في تعريف الكبيرة إلى العد دون ضبطها بحد، كما تكلفه جماعة من الفقهاء، وطالت المناقشة بينهم في تلك الحدود، وإن منها ما ليس جامعا، ومنها ما ليس مانعا، فكله مما لا حاجة إليه بعد ورود صحاح الأخبار في بيان ذلك.

    وقد ساق الحافظ ابن كثير ههنا جملة وافرة منها وجود النقل عن الصحابة والسلف والتابعين، فانظره فإنه نفيس.

    ثم نهى تعالى عن التحاسد ، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من المال ونحوه، مما يجري فيه التنافس بقوله:
    [ ص: 1209 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما [32]

    ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا أي: أصابوا وأحرزوا وللنساء نصيب مما اكتسبن أي: أصبن وأحرزن، أي: لكل فريق نصيب مما اكتسب في نعيم الدنيا قبضا أو بسطا، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له.

    وقد روى الإمام أحمد عن مجاهد أن أم سلمة قالت: يا رسول الله يغزو الرجال ولا يغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى: ولا تتمنوا الآية، ورواه الترمذي وقال: غريب.

    ورواه الحاكم في مستدركه وزاد: ثم أنزل الله: أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى [آل عمران: من الآية 195] الآية، فإن صح هذا فالمعنى: لكل أحد قدر من الثواب يستحقه بكرم الله ولطفه، فلا تتمنوا خلاف ذلك، ولا مانع من شمول الآية لما يتعلق بأحوال الدنيا والآخرة، فإن اللفظ محتمل ولا منافاة، والله أعلم.

    واسألوا الله من فضله أي: من خزائن نعمه التي لا نفاد لها، وقد روى الترمذي وابن مردويه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [ ص: 1210 ] سلوا الله من فضله، فإن الله عز وجل يحب [أن] يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج .

    إن الله كان بكل شيء عليما ولذلك جعل الناس على طبقات رفع بعضهم على بعض درجات حسب مراتب استعداداتهم الفائضة عليهم بموجب المشيئة المبنية على الحكم الأبية، قاله أبو السعود .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا [33]

    ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون أي: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون من المال جعلنا ورثة وعصبة يلونه ويحرزونه، وهم يرثونه دون سائر الناس.

    كما ثبت في الصحيحين، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر أي: اقسموا الميراث على أصحاب الفرائض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض، فما بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة، فـ (مما) تبيين لـ(كل).

    قال ابن جرير : والعرب تسمي ابن العم مولى، كما قال الفضل بن العباس :


    مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا يظهرن بيننا ما كان مدفونا


    [ ص: 1211 ] وفي "القاموس" و" شرحه تاج العروس": والمولى: القريب كابن العم ونحوه.

    قال ابن الأعرابي : ابن العم مولى، وابن الأخت مولى، وقول الشاعر:


    هم المولى وإن جنفوا علينا وإنا من لقائهم لزور


    قال أبو عبيدة : يعني الموالي، أي: بني العم، وقال اللهبي يخاطب بني أمية :


    مهلا بني عمنا مهلا موالينا امشوا رويدا كما كنتم تكونونا


    وقوله تعالى: والذين عقدت أيمانكم مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره مع الفاء وهو قوله: فآتوهم نصيبهم ويقرأ (عاقدت) بالألف، والمفعول محذوف أي: عاقدتهم، ويقرأ بغير ألف والمفعول محذوف أيضا هو والعائد، تقديره عقدت حلفهم أيمانكم، والعقد الشد والربط والتوكيد والتغليظ، ومنه: عقد العهد يعقده: شده.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #212
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1212 الى صـ 1218
    الحلقة (212)


    والأيمان: جمع يمين، إما بمعنى اليد اليمنى لوضعهم الأيدي في العهود، أو بمعنى القسم وهو الأظهر؛ لأن العقد خلاف النقض، وقد جاء مقرونا بالحلف في قوله تعالى: ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها [النحل: من الآية 91] [ ص: 1212 ] وفي قوله: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [المائدة: من الآية 89].

    وفي هذه الآية محامل كثيرة ووجوه للسلف والخلف، أظهرها لسلف المفسرين - رضوان الله عليهم - وهو أن المعني بالموصول الحلفاء، وهو المروي عن ابن عباس في البخاري كما سيأتي.

    قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير ، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وابن المسيب، وأبي صالح، وسليمان بن يسار، والشعبي، وعكرمة، والسدي، والضحاك، وقتادة، ومقاتل بن حيان - أنهم قالوا: هم الحلفاء، انتهى.

    ويزاد أيضا: علي بن أبي طلحة.

    وكان الحلفاء يرثون السدس من محالفيهم.

    وروى الطبري من طريق قتادة: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول: دمي دمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، فلما جاء الإسلام بقي منهم ناس، فأمروا بأن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس، ثم نسخ ذلك بالميراث، فقال: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض

    ولذا قال سعيد بن جبير : فآتوهم نصيبهم من الميراث، قال: وعاقد أبو بكر مولى فورثه.

    قال الزمخشري : والمراد بـ(الذين عاقدت أيمانكم) موالي الموالاة، كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، انتهى.

    [ ص: 1213 ] وعلى هذا فمعنى الآية: والذين عاقدتموهم على المؤاخاة والموالاة وتحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم على النصر والإرث - قبل نزول هذه الآية - فآتوهم نصيبهم من الميراث وفاء بالعقود والعهود؛ إذ وعدتموهم ذلك في الأيمان المغلظة.

    وروى ابن أبي حاتم : كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول، وترثني وأرثك، وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل حلف في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا عقد ولا حلف في الإسلام .

    وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي ، عن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة .

    وروى الإمام أحمد عن قيس بن عاصم أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف؟ فقال: ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به، ولا حلف في الإسلام .

    ورواه أيضا عن عمرو [ ص: 1214 ] بن شعيب ، عن أبيه، عن جده قال: لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة عام الفتح قام خطيبا في الناس، فقال: يا أيها الناس، ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام .

    قال ابن الأثير : الحلف في الأصل المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال والغارات فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا حلف في الإسلام وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين - وما جرى مجراه - فذلك الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة .

    يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام، والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام، انتهى.

    قال الحافظ ابن كثير : كان هذا - أي: التوارث بالحلف - في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ولا ينشئوا بعد هذه الآية معاقدة.

    روى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله تعالى: والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول: وترثني وأرثك، كان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل حلف في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام فلا يزيده إلا شدة، ولا عقد ولا حلف في الإسلام فنسختها هذه الآية: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله [الأنفال: 75].

    وروى أبو داود، عن ابن عباس في هذه الآية: كان الرجل يحالف الرجل وليس بينهما [ ص: 1215 ] نسب، فيرث أحدهما الآخر، فنسخ ذلك في الأنفال فقال: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض الآية.

    وروى ابن جرير ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله تعالى: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا يقول: إلا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، ذلك هو المعروف.

    وهكذا نص غير واحد من السلف أنها منسوخة بقوله: وأولو الأرحام الآية.

    أقول: على ما ذكر تكون الآية محكمة في صدر الإسلام منسوخة بعده.

    وثمة وجه آخر فيها، وهو أنها ناسخة لميراث الحليف بتأويل آخر، وهو ما رواه البخاري ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: ولكل جعلنا موالي ورثة والذين عقدت أيمانكم كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلما نزلت: ولكل جعلنا موالي نسخت، ثم قال: والذين عقدت أيمانكم من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له.

    وقد فهم بعضهم من هذا الأثر أن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل، وحكم الحلف الماضي أيضا، وأنه لا توارث به، والصحيح ما أسلفناه من ثبوت التوارث بالحلف السابق على نزول الآية في ابتداء الإسلام، كما حكاه غير واحد من السلف، وكما قال ابن عباس : كان المهاجري يرث الأنصاري دون ذوي رحمه حتى نسخ ذلك.

    وقد حاول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" الجمع بين الروايات المتقدمة ورواية [ ص: 1216 ] البخاري باحتمال أن يكون النسخ وقع مرتين:

    الأولى: حيث كان المعاقد يرث وحده دون العصبة، فنزلت: ولكل جعلنا فصاروا جميعا يرثون، ثم نسخ ذلك آية الأحزاب وخص الميراث بالعصبة، وبقي للمعاقد النصر والإرفاد ونحوهما، والله أعلم.

    هذا وثمة روايات أخر في سبب نزولها:

    منها: ما روى أبو داود ، وابن أبي حاتم ، عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع - وكانت يتيمة في حجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه - فقرأت: (والذين عاقدت أيمانكم) فقالت: لا تقرأ هكذا ولكن: والذين عقدت أيمانكم إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن - رضي الله عنهما - حين أبى الإسلام، فحلف أبو بكر لا يورثه، فلما أسلم أمره الله تعالى أن يورثه نصيبه.

    ومنها ما روى ابن جرير ، عن الزهري ، عن ابن المسيب قال: نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم ويورثونهم، فأنزل الله فيهم، فجعل لهم نصيبا في الوصية، ورد الميراث إلى الموالي في ذوي الرحم والعصبة، وأبى الله أن يكون للمدعين ميراثا ممن ادعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيبا في الوصية.

    واعلم أن هذه الوجوه السلفية المروية في نزول الآية كلها مما تصدق عليها الآية وتشملها وينطبق حكمها عليها، ولا تنافي بينها؛ لما أسلفناه في مقدمة التفسير، فراجعها ولا تغفل عنها.

    هذا، ولأبي علي الجبائي تأويل آخر في الآية، قال: تقدير الآية: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي، ورثة فآتوهم نصيبهم أي: فآتوا الموالي والورثة نصيبهم، فقوله: (والذين عاقدت أيمانكم) معطوف على قوله: الوالدان والأقربون والمعنى: إن ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به، وسمى الله تعالى الوارث مولى، والمعنى: لا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى المولى والوارث.

    [ ص: 1217 ] وقال أبو مسلم الأصفهاني: المراد بـ: (والذين عاقدت أيمانكم) الزوج والزوجة، والنكاح يسمى عقدا، قال تعالى: ولا تعزموا عقدة النكاح [البقرة: 235] فذكر تعالى الوالدين والأقربين وذكر معهم الزوج والزوجة، ونظيره آية المواريث في أنه لما بين ميراث الولد والوالدين ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة.

    أقول: هذا التأويل المذكور وما قبله طريقة من لا يقف مع الآثار السلفية في التفسير، ويرى مزاحمتهم في الاجتهاد في ذلك؛ ذهابا إلى أن ما لم يتواتر في معنى الآية من خبر أو إجماع فلا حجة في المروي منه آحادا، مرفوعا أو موقوفا، وإن صح، وهذه الطريقة سبيل طائفة قصرت في علم السمع وأقلت البحث عنه، فنشأ من ذلك النقص من الدين والزيادة فيه بالرأي المحض.

    ومذهبنا: أن لا غنى عن الرجوع إلى تفسير الصحابة - رضي الله عنهم - لما ثبت من الثناء عليهم في الكتاب والسنة، ولأن القرآن أنزل على لغتهم، فالغلط أبعد عنهم من غيرهم، لا سيما تفسير حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - فمتى صح الإسناد إليه كان تفسيره من أصح التفاسير، مقدما على كثير من الأئمة الجماهير؛ لوجوه متعددة:

    منها: أنه - رضي الله عنه - ثبت عنه أنه كان لا يستحل التأويل بالرأي، روي عنه أنه قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار، وفي رواية (بغير علم) رواه أبو داود في العلم، والنسائي ، والترمذي .

    فإذا جزم - رضي الله عنه - بأمر كان دليلا على رفعه، كما أسلفنا في المقدمة.

    [ ص: 1218 ] إن الله كان على كل شيء من الأشياء التي من جملتها الإيتاء والمنع شهيدا أي: عالما، ففيه وعد ووعيد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا [34]

    الرجال قوامون على النساء جمع قوام، وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب، أي: مسلطون على أدب النساء يقومون عليهن، آمرين ناهين، قيام الولاة على الرعية، وذلك لأمرين: وهبي وكسبي.

    أشار للأول بقوله تعالى: بما فضل الله بعضهم على بعض والضمير للرجال والنساء جميعا، يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم - وهم الرجال - على بعض، وهم النساء.

    وقد ذكروا في فضل الرجال: العقل والحزم والعزم والقوة والفروسية والرمي، وإن منهم الأنبياء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد، والأذان، والخطبة، والشهادة في مجامع القضايا، والولاية في النكاح والطلاق والرجعة، وعدد الأزواج وزيادة السهم، والتعصيب، وهم أصحاب اللحى والعمائم، والكامل بنفسه له حق الولاية على الناقص.

    وأشار للثاني بقوله سبحانه: وبما أنفقوا من أموالهم في مهورهن ونفقاتهن فصرن كالأرقاء، ولكون القوامين في معنى السادات وجبت عليهن طاعتهم، كما يجب على العبيد طاعة السادات.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #213
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1219 الى صـ 1225
    الحلقة (213)

    وروى ابن مردويه عن علي - رضي الله عنه - قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من الأنصار بامرأة، فقالت: يا رسول الله! إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري، وإنه ضربها فأثر في وجهها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس له ذلك [ ص: 1219 ] فأنزل الله تعالى: الرجال قوامون على النساء في الأدب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أردت أمرا وأراد الله غيره ورواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم مرسلا من طرق.

    قال السيوطي : وشواهده يقوي بعضها بعضا، وقال علي بن أبي طلحة في هذه الآية عن ابن عباس : يعني أمراء عليهن، أي: تطيعه فيما أمرها الله به من طاعة، وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله.

    وروى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها .

    فالصالحات أي: من النساء قانتات أي: مطيعات لله في أزواجهن حافظات للغيب قال الزمخشري : الغيب خلاف الشهادة، أي: حافظات لمواجب الغيب، إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة، من الفروج والأموال والبيوت بما حفظ الله أي: بحفظ الله إياهن وعصمتهن بالتوفيق لحفظ الغيب، فالمحفوظ من حفظه الله، أي: لا يتيسر لهن حفظ إلا بتوفيق الله، أو المعنى: بما حفظ الله لهن من إيجاب حقوقهن على الرجال، أي: عليهن أن يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن، حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن، فقوله: بما حفظ الله يجري مجرى ما يقال: هذا بذاك، أي: في مقابلته.

    وجعل المهايمي الباء للاستعانة حيث قال: مستعينات بحفظه؛ مخافة أن يغلب عليهن نفوسهن، وإن بلغن من الصلاح ما بلغن، انتهى.

    وروى ابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة مرفوعا: خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت حفظتك في نفسها ومالك، قال: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: الرجال قوامون على النساء إلى آخرها .

    [ ص: 1220 ] وروى الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت .
    تنبيه:

    قال السيوطي في "الإكليل" في قوله تعالى: الرجال قوامون على النساء إن الزوج يقوم بتربية زوجته وتأديبها ومنعها من الخروج، وإن عليها طاعته إلا في معصية، وإن ذلك لأجل ما يجب لها عليه من النفقة، ففهم العلماء من هذا أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها، وسقط ما له من منعها من الخروج.

    واستدل بذلك من أجاز لها الفسخ حينئذ، ولأنه إذا خرج من كونه قواما عليها فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح.

    واستدل بالآية من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها ، فلا تتصرف فيه إلا بإذنه، لأنه جعله (قواما) بصيغة المبالغة، وهو الناظر في الشيء الحافظ له.

    واستدل بها على أن المرأة لا تجوز أن تلي القضاء كالإمامة العظمى ؛ لأنه جعل الرجال قوامين عليهن، فلم يجز أن يقمن على الرجال، انتهى.

    واللاتي تخافون نشوزهن أي: عصيانهن وسوء عشرتهن وترفعهن عن مطاوعتكم، من (النشز) وهو ما ارتفع من الأرض يقال: نشزت المرأة بزوجها وعلى زوجها: استعصت عليه، وارتفعت عليه وأبغضته، وخرجت عن طاعته.

    فعظوهن أي: خوفوهن بالقول، كاتقي الله، واعلمي أن طاعتك لي فرض عليك، واحذري عقاب الله في عصياني، وذلك لأن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته، وحرم عليها معصيته؛ لما له عليها من الفضل والإفضال، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها رواه الترمذي ، عن أبي هريرة ، والإمام أحمد [ ص: 1221 ] عن معاذ ، والحاكم عن بريدة .

    وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح .

    ورواه مسلم ، ولفظه: إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح .

    واهجروهن بعد ذلك إن لم ينفع الوعظ والنصيحة في المضاجع أي: المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن، فيكون كناية عن الجماع.

    قال حماد بن سلمة البصري : يعني النكاح، وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الهجر هو أن لا يجامعها، ويضاجعها على فراشها، ويوليها ظهره، وكذا قال غير واحد.

    وزاد آخرون منهم السدي والضحاك وعكرمة وابن عباس (في رواية): ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها، وقيل: المضاجع المبايت، أي: لا تبايتوهن.

    وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت.

    واضربوهن - إن لم ينجع ما فعلتم من العظة والهجران - ضربا غير مبرح أي: شديد ولا شاق، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حجة الوداع: واتقوا الله في النساء، [ ص: 1222 ] فإنهن عوان عندكم، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح .

    قال الفقهاء: هو أن لا يجرحها، ولا يكسر لها عظما، ولا يؤثر شينا، ويجتنب الوجه؛ لأنه مجمع المحاسن، ويكون مفرقا على بدنها، ولا يوالي به في موضع واحد؛ لئلا يعظم ضرره.

    ومنهم من قال: ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف، أو بيده! لا بسوط ولا عصا، قال عطاء: ضرب بالسواك.

    قال الرازي : وبالجملة، فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه، والذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك تنبيه - يجري مجرى التصريح - في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق، وهذه طريقة من قال: حكم هذه الآية مشروع على الترتيب، فإن ظاهر اللفظ - وإن دل على الجمع - إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب.

    قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يهجرها في المضجع، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح، ولا تكسر لها عظما، فإن أقبلت وإلا فقد أحل الله لك منها الفدية.

    وقال آخرون: هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز، أما عند تحققه فلا بأس بالجمع بين الكل.

    وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه آدب لهم رواه عبد بن حميد ، والطبراني ، عن ابن عباس ، وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر .

    فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا أي: إذا رجعن عن النشوز عند هذا التأديب إلى الطاعة في جميع ما يراد منهن مما أباحه الله منهن، فلا سبيل للرجال عليهن بعد ذلك بالتوبيخ والأذية بالضرب والهجران إن الله كان عليا كبيرا فاحذروه، تهديد للأزواج على ظلم النسوان من غير سبب، فإنهن - وإن ضعفن عن دفع ظلمكم، وعجزن عن الانتصاف منكم - فالله سبحانه علي قاهر كبير قادر، ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن، فلا تغتروا بكونكم أعلى يدا منهن وأكبر درجة [ ص: 1223 ] منهن، فإن الله أعلى منكم وأقدر منكم عليهن، فختم الآية بهذين الاسمين فيه تمام المناسبة، ولما ذكر تعالى حكم النفور والنشوز من الزوجة ذكر ما إذا كان النفور من الزوجين بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا [35]

    وإن خفتم شقاق بينهما أصله شقاقا بينهما فأضيف الشقاق إلى الظرف، إما على إجرائه مجرى المفعول به اتساعا، كقوله: بل مكر الليل والنهار [سبأ: 33] أصله بل مكر في الليل والنهار، أو مجرى الفاعل بجعل البين مشاقا والليل والنهار ماكرين، كما في قولك: نهارك صائم، والضمير للزوجين، ولم يجر ذكرهما لجري ما يدل عليهما، وهو الرجال والنساء، أي: إن علمتم مخالفة مفرقة بينهما، واشتبه عليكم أنه من جهته أو من جهتها، ولا يفعل الزوج الصلح ولا الصفح ولا الفرقة، ولا تؤدي المرأة الحق ولا الفدية فابعثوا أي: إلى الزوجين لإصلاح ذات البين وتبين الأمر حكما رجلا صالحا للحكومة والإصلاح ومنع الظالم من الظلم من أهله أي: أقارب الزوج: وحكما من أهلها على صفة الأول، فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للإصلاح، فيلزمهما أن يخلوا ويستكشفا حقيقة الحال فيعرفا أن رغبتهما في الإقامة أو الفرقة إن يريدا أي: الحكمان إصلاحا يوفق الله بينهما أي: يوقع بينهما الموافقة فيتفقان على الكلمة الواحدة ويتساندان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض ويتم المراد، أو الضمير الأول للحكمين، والثاني للزوجين، أي: إن قصدا [ ص: 1224 ] إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله، بورك في وساطتهما، وأوقع الله بحسن سعيهما بين الزوجين الوفاق والألفة، وألقى في نفوسهما المودة والرحمة.

    إن الله كان عليما خبيرا بظواهر الحكمين وبواطنهما، إن قصدا إفسادا يجازيهما عليه، وإلا يجازيهما على الإصلاح.

    روى ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أمر الله عز وجل أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل، ومثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها، ومنعوها النفقة، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي لم يرض، ولا يرث الكاره الراضي.

    وروى عبد الرزاق في (مصنفه) عن ابن عباس قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين، قال معمر : بلغني أن عثمان بعثهما, وقال لهما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا.

    (وأسند) عن ابن أبي مليكة أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت: تصير إلي وأنفق عليك، فكان إذا دخل عليها، قالت: أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ؟ فقال: على يسارك في النار إذا دخلت، فشدت عليها ثيابها، فجاءت عثمان فذكرت له ذلك فضحك، فأرسل ابن عباس ومعاوية ، فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما، فقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شخصين من بني عبد مناف، فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما، فرجعا.

    [ ص: 1225 ] (وأسند) عن عبيدة قال: شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها مع كل واحد منهما فئام من الناس، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما، فقال علي للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي، وقال الزوج: أما الفرقة فلا، فقال علي : كذبت والله! لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك. ورواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير .

    قال الحافظ ابن كثير : وقد أجمع العلماء على أن الحكمين لهما الجمع والتفرقة، حتى قال إبراهيم النخعي : إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاثا فعلا، وهو رواية عن مالك.

    وقال الحسن البصري: الحكمان يحكمان في الجمع لا في التفرقة، وكذا قال قتادة وزيد بن أسلم ، وبه قال أحمد بن حنبل، وأبو ثور ، وداود ، ومأخذهم قوله تعالى: إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ولم يذكر التفريق، وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف، انتهى.

    وفي "الإكليل": أخرج ابن منصور أن المأمور بالبعث الحكام.

    وعن السدي : إنه الزوجان، فعلى الأول استدل به من قال: إنهما موليان من الحاكم، فلا يشترط رضا الزوجين عما يفعلانه من طلاق وغيره، وعلى الثاني استدل من قال: إنهما وكيلان من الزوجين، فيشترط.

    وقال ابن كثير : الجمهور على الأول - أعني أنهما منصوبان من جهة الحاكم - لقوله تعالى: فابعثوا حكما إلخ، فسماهما حكمين، ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه وهذا ظاهر الآية.

    وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى الثاني؛ لقول علي - رضي الله عنه - للزوج (حين قال: أما الفرقة فلا) فقال: كذبت، حتى تقر بما أقرت به.

    قالوا: فلو كانا حكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج، والله أعلم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #214
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1226 الى صـ 1232
    الحلقة (214)



    وفي الآية تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتوخاه، وفقه الله تعالى لمبتغاه.
    [ ص: 1226 ] تنبيه:

    قال الحاكم : في الآية دلالة على أن كل من خاف فرقة وفتنة جاز له بعث الحكمين، وقد استدل بها أمير المؤمنين على الخوارج فيما فعل من التحكيم، قال مشايخ المعتزلة: لأن المصاحف لما رفعت، فظهرت الفرقة في عسكره، وخاف على نفسه جازت المحاكمة، بل وجبت، ولهذا صالح - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية، وعلى هذا يحمل صلح الحسن عليه السلام.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا [36]

    واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا يأمر تعالى بعبادته وحده وبالإخلاص فيها بقوله: ولا تشركوا به شيئا كما قال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [البينة: 5] لأنه تعالى هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الأوقات والحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من الشرك الجلي والخفي للنفس وشهواتها، وما يتوصل بها إليها من المال والجاه، وهذه العبادة حق الله علينا.

    كما في الصحيحين عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا معاذ ، هل تدري ما حق الله على [ ص: 1227 ] العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا .

    ثم أوصى سبحانه بالإحسان إلى الوالدين إثر تصدير ما يتعلق بحقوق الله عز وجل - التي هي آكد الحقوق وأعظمها - تنبيها على جلالة شأن الوالدين بنظمها في سلكها بقوله: وبالوالدين إحسانا وقد كثرت مواقع هذا النظم في التنزيل العزيز كقوله: أن اشكر لي ولوالديك [لقمان: 14] وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [الإسراء: 23] أي: أحسنوا بهما إحسانا يفي بحق تربيتهما، فإن شكرهما يدعو إلى شكر الله المقرب إليه، مع ما فيه من صلة أقرب الأقارب الموجب لوصلة الله، وقطعها لقطعه، ثم عطف على الإحسان إليهما الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء، بقوله: وبذي القربى أي: الأقارب، وقد جاء في الحديث الصحيح، عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صلة وصدقة رواه الإمام أحمد والترمذي [ ص: 1228 ] والنسائي والحاكم وابن ماجه .

    ثم قال تعالى: واليتامى وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم؛ تنزلا لرحمته عز وجل والمساكين وهم المحاويج الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم، وتزول به ضرورتهم والجار ذي القربى أي: الذي قرب جواره، أو الذي له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين والجار الجنب أي: الذي جواره بعيد، أو الأجنبي، وقال نوف البكالي : (الجار ذي القربى) يعني الجار المسلم (والجار الجنب): يعني اليهودي والنصراني.

    وقد ورد في الوصية بالجار أحاديث كثيرة، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر .

    ومنها ما رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره .

    وروى الإمام أحمد ، عن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يشبع الرجل دون جاره .

    قال ابن كثير : تفرد به أحمد .

    وعن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: لأن يزني [ ص: 1229 ] الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره .

    قال: فقال: ما تقولون في السرقة؟ قالوا حرمها الله ورسوله، فهي حرام، قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره .


    قال ابن كثير : تفرد به أحمد ، وله شاهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود : قال: سألت - أو سئل - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك .

    وروى الإمام أحمد، عن أبي العالية ، عن رجل من الأنصار قال: خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا به قائم، ورجل معه مقبل عليه، فظننت أن لهما حاجة، قال: فقال الأنصاري: والله لقد قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جعلت أرثي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طول القيام، فلما انصرف، قلت: يا رسول الله! لقد قام بك الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام، قال: ولقد رأيته؟ قلت: نعم، قال: أتدري من هو؟ قلت: لا، قال: ذاك جبريل عليه السلام، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ثم قال: أما إنك لو سلمت عليه رد عليك السلام .

    ورواه عبد بن حميد، عن جابر بن عبد الله قال: جاء رجل من العوالي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجبريل عليه السلام يصليان حيث يصلى على الجنائز، فلما انصرف، قال الرجل: يا رسول الله من هذا الرجل الذي رأيت يصلي معك؟ قال: وقد رأيته؟ قال: نعم، قال: لقد رأيت خيرا كثيرا، هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى رأيت أنه سيورثه .

    قال ابن كثير : تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله.

    [ ص: 1230 ] وروى البزار عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقا.

    فأما الجار الذي له حق واحد: فجار مشرك لا رحم له، له حق.

    وأما الجار الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار.

    وأما الذي له ثلاثة حقوق: فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم
    .

    وقد روى الإمام أحمد والبخاري عن عائشة أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابا .

    وروى الإمام مسلم ، عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك .

    وفي رواية قال: إذا طبخت مرقا فأكثر ماءها، ثم انظر إلى أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف .

    وروى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه .

    ولمسلم: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه .

    والبوائق: الغوائل والشرور.

    [ ص: 1231 ] ورويا عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة .

    معناه: ولو أن تهدي لها فرسن شاة، وهو الظلف المحرق، وأراد به الشيء الحقير.

    ورويا عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره .

    وقوله تعالى: والصاحب بالجنب قال سعيد بن جبير : هو الرفيق الصالح.

    وقال زيد بن أسلم : هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر، أي: فإنه كالجار.

    وأوضحه الزمخشري بقوله: هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك، إما رفيقا في سفر وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم علم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان.

    وروي عن علي وابن مسعود قالا: هي المرأة، أي: لأنها تكون معك وتضجع إلى جنبك.

    وابن السبيل أي: ابن الطريق، أي: المسافر الغريب الذي انقطع عن بلده وأهله، وهو يريد الرجوع إلى بلده ولا يجد ما يتبلغ به، نسب إلى السبيل الذي هو [ ص: 1232 ] الطريق لمروره عليه وملابسته له، أو الذي يريد البلد غير بلده، لأمر يلزمه.

    وقال ابن عرفة : هو الضيف المنقطع به، يعطى قدر ما يتبلغ به إلى وطنه.

    وقال ابن بري : هو الذي أتى به الطريق، كذا في "تاج العروس" ولم يذكر السلف من المفسرين وأهل اللغة (السائل) في معنى ابن السبيل؛ لأنه جاء تابعا لابن السبيل في البقرة في قوله تعالى: ليس البر - إلى قوله: وابن السبيل والسائلين

    قال بعضهم في (ابن السبيل):


    ومنسوب إلى ما لم يلده كذاك الله نزل في الكتاب


    وما ملكت أيمانكم يعني المماليك، فإنهم ضعفاء الحيلة، أسرى في أيدي الناس كالمساكين، لا يملكون شيئا، وقد ثبت عن علي عليه السلام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل يوصي أمته في مرض الموت يقول: الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم رواه أبو داود ، وابن ماجه ، وهذا لفظ أبي داود .

    وروى الإمام أحمد عن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة ورواه النسائي.

    قال الحافظ ابن كثير : وإسناده صحيح، ولله الحمد.

    وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعطهم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته رواه مسلم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #215
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1233 الى صـ 1239
    الحلقة (215)

    وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق رواه مسلم أيضا.

    وعنه أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين، أو لقمة أو لقمتين، فإنه ولي حره وعلاجه . أخرجاه، ولفظه للبخاري.

    وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هم إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم أخرجاه.

    إن الله لا يحب من كان مختالا أي: متكبرا عن الإحسان إلى من أمر ببره فخورا يعدد مناقبه كبرا، وإنما خص تعالى هذين الوصفين بالذم - في هذا الموضع - لأن المختال هو المتكبر، وكل من كان متكبرا فإنه قلما يقوم برعاية الحقوق، ثم أضاف إليه ذم الفخور؛ لئلا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة، بل لمحض أمر الله تعالى.

    [ ص: 1234 ] روى أبو داود والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الكبر من بطر الحق وغمط الناس .

    وروى ابن جرير ، عن أبي رجاء الهروي قال: لا تجد سيئ الملكة (الملكة) إلا وجدته مختالا فخورا، وتلا: وما ملكت أيمانكم الآية، ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا وتلا: وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا [مريم: 32] وقد ورد في ذم الخيلاء والفخر ما هو معروف.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا [37]

    الذين يبخلون أي: بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به فيما تقدم ويأمرون الناس بالبخل أي: ولا يكونون سبب الإحسان، بل يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم [ ص: 1235 ] فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتا للسخاء ممن وجد، وفي أمثال العرب: أبخل من الضنين بنائل غيره، قال:


    وإن امرءا ضنت يداه على امرئ بنيل يد من غيره لبخيل


    قال الزمخشري بعد حكاية ما تقدم: ولقد رأينا ممن بلي بداء البخل من إذا طرق سمعه أن أحدا جاد على أحد، شخص به، وحل حبوته واضطرب، ودارت عيناه في رأسه، كأنما نهب رحله، وكسرت خزانته؛ ضجرا من ذلك وحسرة على وجوده. انتهى.

    ويكتمون ما آتاهم الله من فضله أي: من المال والغنى، فيوهمون الفقر مع الغنى، والإعسار مع اليسار، والعجز مع الإمكان وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا وضع الظاهر موضع المضمر؛ إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى، ومن كان كافرا بنعمة الله تعالى فله عذاب يهينه، كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء.

    فائدة:

    قال أبو البقاء : في قوله تعالى: الذين يبخلون وجهان:

    أحدهما: هو منصوب بدل من: " من " في قوله: من كان مختالا فخورا وجمع على معنى: " من " ويجوز أن يكون محمولا على قوله: مختالا فخورا وهو خبر كان وجمع على المعنى أيضا، أو على إضمار: أذم.

    والثاني: أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره: مبغضون، ودل عليه ما تقدم من قوله: " لا يحب " ويجوز أن يكون الخبر (معذبون) لقوله: وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا

    [ ص: 1236 ] ويجوز أن يكون التقدير: هم الذين، ويجوز أن يكون مبتدأ: والذين ينفقون معطوف عليه، والخبر: إن الله لا يظلم أي: يظلمهم.

    ثم قال: والبخل والبخل لغتان: وقد قرئ بهما، وفيه لغتان أخريان البخل - بضم الخاء والباء - والبخل - بفتح وسكون الخاء - انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا [38]

    والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس أي: قصد رؤية الخلق إياه، غفلة عن الخالق – تقدس - وعماية عنه؛ ليقال: ما أسخاهم وما أجودهم ولا يؤمنون بالله أي: الذي يتقرب إليه وحده ويتحرى بالاتفاق رضاه ولا باليوم الآخر الذي هو يوم الجزاء ومن يكن الشيطان له قرينا معينا في الدنيا فساء قرينا فبئس القرين والصاحب الشيطان؛ لأنه يضله عن الهدى ويحجبه عن الحق، وإنما اتصل الكلام هنا بذكر الشيطان؛ تقريعا لهم على طاعته.

    والمعنى: من يكن عمله بما سول له الشيطان فبئس العمل عمله، ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار.

    لطيفة:

    قوله تعالى: والذين عطف على " الذين يبخلون " أو على " للكافرين " وإنما شاركوهم في الذم والوعيد؛ لأن البخل كالإنفاق رياء، سواء في القبح واستتباع اللائمة والذم، ويجوز أن يكون العطف بناء على إجراء التغاير الوصفي مجرى التغاير الذاتي، كما في قوله:


    إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم


    [ ص: 1237 ] أو مبتدأ خبره محذوف، يدل عليه قوله تعالى: ومن يكن إلخ أي: فقرينهم الشيطان، وإنما حذف للإيذان بظهوره واستغنائه عن التصريح به، أو التقدير: فلا يقبل إحسانهم؛ لأن رياءهم يدل على تفضيلهم الخلق على الله، ورؤيتهم على ثوابه.

    وقد روى مسلم ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه.

    وروى ابن أبي حاتم في سبب نزول الآية، عن سعيد بن جبير قال: كان علماء بني إسرائيل يبخلون بما عندهم من العلم، فأنزل الله: الذين يبخلون الآية.

    وأخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق ، عن ابن عباس : أن رجالا من اليهود [ ص: 1238 ] كانوا يأتون رجالا من الأنصار ينتصحون لهم، فيقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون، فأنزل الله فيهم: الذين يبخلون الآية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما [39]

    وماذا عليهم لو آمنوا بالله أي: فلم يرجحوا الخلق عليه واليوم الآخر بالبعث والجزاء فلم يرجحوا تعظيمهم وحطامهم على ثوابه وأنفقوا مما رزقهم الله أعطاهم الله من المال، أي: طلبا لرضاه وأجر آخرته.

    قال العلامة أبو السعود : وإنما لم يصرح به؛ تعويلا على التفصيل السابق، واكتفاء بذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، فإنه يقتضي أن يكون الإنفاق لابتغاء وجهه تعالى وطلب ثوابه البتة، أي: وما الذي عليهم، أو: وأي تبعة ووبال عليهم في الإيمان بالله والإنفاق في سبيله؟! وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة، والاعتقاد في الشيء بخلاف ما هو عليه، وتحريض على التكفير [ ص: 1239 ] لطلب الجواب؛ لعله يؤدي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة والعوائد الجميلة، وتنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب إليه احتياطا، فكيف إذا كان فيه منافع لا تحصى، وتقديم الإيمان بهما؛ لأهميته في نفسه، ولعدم الاعتداد بالإنفاق بدونه.

    وأما تقديم (إنفاقهم رئاء الناس) على عدم إيمانهم بهما - مع كون المؤخر أقبح من المقدم - فلرعاية المناسبة بين إنفاقهم ذلك وبين ما قبله من بخلهم وأمرهم للناس به، انتهى.

    وكان الله بهم عليما وعيد لهم بالعقاب.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #216
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1240 الى صـ 1246
    الحلقة (216)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [40]

    إن الله لا يظلم مثقال ذرة أي: لا يبخس أحدا من ثواب عمله ولا يزيد في عقابه شيئا مقدار ذرة، وهي: (النملة الصغيرة) في قول أهل اللغة.

    قال ثعلب : مائة من الذر زنة حبة شعير، وهذا مثل ضربه الله تعالى لأقل الأشياء، والمعنى: إن الله تعالى لا يظلم أحدا شيئا، قليلا ولا كثيرا، فخرج الكلام على أصغر شيء يعرفه الناس وإن تك حسنة يضاعفها أي: وإن تك مثقال ذرة حسنة يضاعف ثوابها، وإنما أنث ضمير المثقال لتأنيث الخير، أو لإضافته إلى الذرة ويؤت أي: زيادة على الإضعاف من لدنه مما يناسب عظمته على نهج التفضل أجرا عظيما أي: عطاء جزيلا، وقد ورد في معنى هذه الآية أحاديث كثيرة، منها ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث [ ص: 1240 ] الشفاعة الطويل: وفيه: فيقول الله عز وجل: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار، وفي لفظ: أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقول أبو سعيد : اقرؤوا إن شئتم: إن الله لا يظلم مثقال ذرة

    وقد روى ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة - أي: بحسنته - ولا يخرج من النار أبدا.

    قال الحافظ ابن كثير : وقد يستدل له بالحديث الصحيح إن العباس قال: يا رسول الله! هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار .

    وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار؛ بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة انتهى.

    ورواه مسلم أيضا عن أنس أيضا مرفوعا، ولفظه: إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنة يجزى بها .
    [ ص: 1241 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [41]

    فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال الرازي : وجه النظم هو أنه تعالى بين أن في الآخرة لا يجري على أحد ظلم، وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه، فبين تعالى في هذه الآية أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق لتكون الحجة على المسيء أبلغ، والتبكيت له أعظم، وحسرته أشد، ويكون سرور من قبل ذلك من الرسول وأظهر الطاعة أعظم، ويكون هذا وعيدا للكفار الذين قال الله فيهم: إن الله لا يظلم مثقال ذرة [النساء: من الآية 40] ووعدا للمطيعين الذين قال الله فيهم: وإن تك حسنة يضاعفها [النساء: من الآية 40].

    ثم قال: من عادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه: كيف بك إذا كان كذا وكذا، وإذا فعل فلان كذا، أو إذا جاء وقت كذا؟ فمعنى هذا الكلام: كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل أمة برسولها، واستشهدك على هؤلاء، يعني قومه المخاطبين بالقرآن الذين شاهدهم وعرف أحوالهم، ثم إن أهل كل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم، وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم [المائدة: من الآية 117] ونظير هذه الآية قوله تعالى: ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم [النحل: من الآية 89] إلخ.

    [ ص: 1242 ] وروى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ علي. فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا فقال: حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان.

    زاد مسلم : شهيدا ما دمت فيهم، أو قال: ما كنت فيهم شك أحد رواته.

    وروى ابن جرير ، عن ابن مسعود في هذه الآية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شهيد عليهم ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا [42]

    يومئذ أي: يوم القيامة: يود أي: يتمنى: الذين كفروا بالله وعصوا الرسول بالإجابة لو تسوى بهم الأرض أي: يهلكون فيها، أي: يدفنون، فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، إذ هو أعز لهم من الهوان الذي يلحقهم من فضائحهم، كقوله: يوم ينظر المرء ما قدمت يداه الآية، فـ(تسوى) بمعنى: تجعل مستوية، والباء للملابسة، أي: تسوى الأرض متلبسة بهم.

    وقيل: الباء بمعنى (على) وفي "الدر المصون": وتسوية الأرض بهم أو عليهم: دفنهم، أو أن تنشق وتبلعهم، أو أنهم يبقون ترابا على أصلهم من غير خلق.

    وقوله تعالى: ولا يكتمون الله حديثا عطف على (يود) أي: ويعترفون [ ص: 1243 ] بجميع ما فعلوه لا يقدرون على كتمانه؛ لأن جوارحهم تشهد عليهم، أو (الواو) للحال، أي: يودون أن يدفنوا في الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثا، ولا يكذبونه بقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين كما روى ابن جرير ، عن الضحاك أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس ! قول الله تعالى: ولا يكتمون الله حديثا وقوله: والله ربنا ما كنا مشركين فقال له ابن عباس : إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت: ألقي على ابن عباس متشابه القرآن، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى يجمع الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فيقول المشركون: إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده، فيقولون: تعالوا نقل، فيسألهم فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين قال: فيختم على أفواههم ويستنطق جوارحهم فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين، فعند ذلك تمنوا لو أن الأرض سويت بهم ولا يكتمون الله حديثا.

    وروى عبد الرزاق ، عن سعيد بن جبير نحو ما تقدم، واعتمده الإمام أحمد في كتاب "الرد على الجهمية " في باب (بيان ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن) وساق مثل ما تقدم عن ابن عباس ، ثم قال: فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة ، وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا [43]

    يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [ ص: 1244 ] نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر في جماعة كانوا يشربونها ثم يصلون، أي: من مقتضى إيمانكم الحياء من الله، ومن الحياء منه أن لا تقوموا إلى الصلاة وأنتم سكارى لا تعلمون ما تخاطبونه، فالحياء من الله يوجب ذلك، وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه؛ للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهي، وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة - مع أن المراد هو النهي عن إقامتها - للمبالغة في ذلك.

    قال الحافظ ابن كثير : كان هذا النهي قبل تحريم الخمر ، كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر [البقرة: من الآية 219] الآية، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلاها على عمر ، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات، حتى نزلت: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إلى قوله تعالى: فهل أنتم منتهون [المائدة: 90 - 91] فقال عمر : انتهينا انتهينا.

    ولفظ أبي داود ، عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر فذكر الحديث، وفيه: نزلت الآية التي في النساء: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [ ص: 1245 ] فكان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قامت الصلاة ينادي: لا يقربن الصلاة سكران.

    وروى ابن أبي شيبة ، وابن [أبي] حاتم ، عن سعد - رضي الله عنه - قال: نزلت في أربع آيات: صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار، فأكلنا وشربنا حتى سكرنا، ثم افتخرنا، فرفع رجل لحى بعير فغرز بها أنف سعد، فكان سعد مغروز الأنف، وذلك قبل تحريم الخمر، فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية.

    والحديث بطوله عند مسلم ، ورواه أهل السنن إلا ابن ماجه .

    وروى أبو داود والنسائي ، عن علي - رضي الله عنه - أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: قل يا أيها الكافرون فخلط فيها، فنزلت: لا تقربوا الآية.

    وروى ابن أبي حاتم ، عن علي - رضي الله عنه - قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموا فلانا، قال فقرأ: (قل يا أيها الكافرون * ما أعبد ما تعبدون * ونحن نعبد ما تعبدون) فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة الآية، وكذا رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

    ولا جنبا عطف على قوله: وأنتم سكارى إذ الجملة في موضع النصب على الحال، والجنب الذي أصابته الجنابة، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والجمع؛ لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب.

    إلا عابري سبيل أي: مارين بلا لبث حتى تغتسلوا من الجنابة: أي: لا تقربوا موضع الصلاة - وهو المسجد - وأنتم جنب إلا مجتازين فيه، إما للخروج منه أو للدخول فيه.

    [ ص: 1246 ] روى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في معنى الآية قال: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال: تمر به مرا، ولا تجلس، ثم رواه عن كثير من الصحابة، منهم ابن مسعود وثلة من التابعين.

    وروى ابن جرير ، عن الليث قال: حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن قول الله عز وجل: ولا جنبا إلا عابري سبيل إن رجالا من المسجد تصيبهم الجنابة، ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد، فأنزل الله: ولا جنبا إلا عابري سبيل

    قال الحافظ ابن كثير : ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حبيب رحمه الله ما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #217
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1247 الى صـ 1253
    الحلقة (217)


    وهذا قاله - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته؛ علما منه أن أبا بكر - رضي الله عنه - سيلي الأمر بعده ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين، فأمر بسد الأبواب الشارعة [ ص: 1247 ] إلى المسجد إلا بابه - رضي الله عنه - ومن روى (إلا باب علي ) كما وقع في بعض السنن فهو خطأ، والصواب ما ثبت في الصحيح.

    ومن هذا التأويل احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، ويجوز له المرور .

    وثمة تأويل آخر في قوله تعالى: إلا عابري سبيل وهو أن المراد منه المسافرون، أي: لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين، فيكون هذا الاستثناء دليلا على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصلاة عند العجز عن الماء .

    وقد روى ابن أبي حاتم ، عن زر بن حبيش ، عن علي في هذه الآية، قال: لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة فلا يجد الماء، فيصلي حتى يجد الماء، ثم رواه من وجه آخر عن علي: ورواه عن جماعة من السلف أيضا: أنه في السفر.

    قال ابن كثير : ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن [ ص: 1248 ] عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم تجد الماء عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير لك وفي هذا التأويل بقاء لفظ الصلاة على معناه الحقيقي في الجملتين المتعاطفتين، وفي التأويل السابق تكون الصلاة في الجملة الثانية محمولة على مواضعها.

    قال في "فتح البيان": وبالجملة، فالحال الأولى أعني قوله: وأنتم سكارى تقوي بقاء الصلاة على معناه الحقيقي من دون تقدير مضاف، وسبب نزول الآية السابق يقوي ذلك، وقوله: إلا عابري سبيل يقوي تقدير المضاف، أي: لا تقربوا مواضع الصلاة، ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهي (أعني: (لا تقربوا) وهو قوله: وأنتم سكارى ) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي، وبعض قيود النهي (وهو قوله: إلا عابري سبيل ) يدل على أن المراد مواضع الصلاة، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد، وهما: لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب، وغاية ما يقال في هذا: إنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو جائز بتأويل مشهور.

    وقال ابن جرير (بعد حكايته للتأويلين): وأولى القولين بالتأويل لذلك تأويل من تأوله: [ ص: 1249 ] ولا جنبا إلا عابري سبيل إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء - وهو جنب - في قوله: وإن كنتم مرضى أو على سفر إلى آخره، فكان معلوما بذلك أن قوله: ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا لو كان معنيا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله: وإن كنتم مرضى أو على سفر معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك.

    وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل.

    قال: و(العابر السبيل) المجتازه مرا وقطعا، يقال منه: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا، ومنه قيل: عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه، ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار: هي عبر أسفار، وعبر أسفار؛ لقوتها على الأسفار.

    قال ابن كثير : وهذا الذي نصره (يعني ابن جرير ) هو قول الجمهور وهو الظاهر من الآية، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا، والله أعلم.

    وقوله تعالى: حتى تغتسلوا غاية للنهي عن قربان الصلاة ومواضعها حال الجنابة، والمعنى: لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل.
    تنبيهات:

    الأولى: في الآية تحريم الصلاة على السكران حال سكره حتى يصحو، وبطلانها وبطلان الاقتداء به، وعلى الجنب حتى يغتسل إلا أن يكون مسافرا، فيباح له التيمم.

    الثاني: تمسك بالآية من قال: إن طلاق السكران لا يقع؛ لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد، وبه قال عثمان بن عفان ، وابن عباس ، وطاوس، وعطاء ، والقاسم ، وربيعة ، والليث بن سعد ، [ ص: 1250 ] وإسحاق، وأبو ثور ، والمزني، واختاره الطحاوي، والمسألة مبسوطة في "زاد المعاد" للإمام ابن القيم.

    الثالث: في الآية دليل على أن ردة السكران ليست بردة؛ لأن قراءة سورة الكافرين بطرح اللاءات كفر، ولم يحكم بكفره حتى خاطبهم باسم الإيمان، وما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتفريق بينه وبين امرأته، ولا بتجديد الإيمان، ولأن الأمة اجتمعت على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه مخطئا لا يحكم بكفره، قاله النسفي.

    الرابع: استدل بأحد التأويلين السابقين على تحريم دخول المسجد على السكران ؛ لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول، فيقاس به كل ذي نجاسة يخشى منها التلويث والسباب ونحوه، كذا في "الإكليل".

    الخامس: استدل ابن الفرس بتوجيه الخطاب لهم في الآية على تكليف السكران ودخوله تحت الخطاب، وفيه نظر؛ لأن الخطاب عام لكل مؤمن، وعلى تقدير أنه قصد به الذين صلوا في حال السكر، فإنما نزل بعد صحوهم، كذا في "الإكليل".

    السادس: في قوله تعالى: حتى تغتسلوا رد على من أباح جلوس الجنب مطلقا إذا توضأ؛ لأن الله تعالى جعل غاية التحريم الغسل، فلا يقوم مقامه الوضوء، كذا في "الإكليل".

    أقول: إنما يكون هذا حجة لو كانت الآية نصا في تأويل واحد، وحيث تطرق الاحتمال لها - على ما رأيت - فلا.

    وقد تمسك المبيح - وهو الإمام أحمد - بما روى هو وسعيد بن منصور في "سننه" بسند صحيح أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك.

    قال سعيد بن منصور في "سننه": حدثنا عبد العزيز بن محمد - هو الدراوردي - عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة.

    قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.

    [ ص: 1251 ] السابع: قال العلامة أبو السعود : لعل تقديم الاستثناء على قوله: حتى تغتسلوا للإيذان من أول الأمر بأن حكم النهي في هذه الصورة ليس على الإطلاق، كما في صورة السكر؛ تشويقا إلى البيان، وروما لزيادة تقرره في الأذهان.

    الثامن: قال أيضا: في الآية الكريمة إشارة إلى أن المصلي حقه أن يتحرز عما يليه ويشغل قلبه، وأن يزكي نفسه عما يدنسها، ولا يكتفي بأدنى مراتب التزكية عند إمكان أعاليها.

    التاسع: أشعر قوله تعالى: حتى تعلموا ما تقولون بالنهي عن الصلاة حال النعاس ، كما روى الإمام أحمد والبخاري والنسائي عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول وفي رواية: فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه .

    وقد روى ابن جرير ، عن الضحاك في الآية قال: لم يعن بها سكر الخمر، وإنما عنى بها سكر النوم.

    قال ابن جرير : والصواب أن المراد سكر الشراب.

    [ ص: 1252 ] قال الرازي : ويدل عليه وجهان:

    الأول: أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر، والأصل في الكلام الحقيقة.

    والثاني: أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر، وقد ثبت في أصول الفقه أن الآية إذا نزلت في واقعة معينة ولأجل سبب معين امتنع أن لا يكون ذلك السبب مرادا بتلك الآية.

    العاشر: قال الحافظ ابن كثير : قد يحتمل أن يكون المراد من الآية التعريض بالنهي عن السكر بالكلية؛ لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات، من الليل والنهار، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما، والله أعلم.

    وعلى هذا فيكون كقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران: 102] وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام، والمداومة على الطاعة لأجل ذلك، انتهى.

    الحادي عشر: قال الرازي : قال بعضهم: هذه الآية، أي: لا تقربوا إلخ منسوخة بآية المائدة، وأقول: الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أن يقال: نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول، والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية، فهذا يقتضي جواز قربان الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول، ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة فقد رفع هذا الجواز، فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية، هذا ما حضر ببالي في تقرير هذا النسخ.

    والجواب عنه: أنا بينا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه إلا على سبيل الظن الضعيف، ومثل هذا لا يكون نسخا. انتهى.

    وإن كنتم مرضى أي: ولم تجدوا [ ص: 1253 ] بقربكم ماء تستعملونه، ومنه فقد من يناوله إياه، أو خشيته الضرر به أو على سفر لا تجدونه فيه أو جاء أحد منكم من الغائط أي: أو كنتم محدثين، والغائط هو المكان المنخفض، فالمجيء منه كناية عن الحدث؛ لأن المعتاد أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس.

    قال الخازن : كانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث، فكنوا به عن الحدث، وذلك أن الرجل منهم كان إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطا من الأرض، يعني مكانا منخفضا منها يحجبه عن أعين الناس، فسمي الحدث بهذا الاسم، فهو من باب تسمية الشيء باسم مكانه. انتهى.

    وإسناد المجيء إلى واحد مبهم من المخاطبين دونهم للتفادي عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا منه أو يستهجن التصريح به، كذا قاله أبو السعود .

    ثم قال: وكذلك إيثار الكناية فيما عطف عليه من قوله عز وجل: أو لامستم النساء على التصريح بالجماع، قال الشهاب: وفي ذكر (أحد) دون غيره إشارة إلى أن الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه.

    فلم تجدوا ماء قال المهايمي : أي: فلا تستحيوا من الله، بل اعتذروا إليه فتيمموا أي: اقصدوا: صعيدا أي: ترابا، أو وجه الأرض طيبا أي: طاهرا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا تعليل للترخيص والتيسير، وتقرير لهما، فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين، لا بد أن يكون ميسرا لا معسرا، وفي هذه الآية مسائل:

    الأول: الظاهر أن قوله تعالى: فلم تجدوا راجع إلى جميع ما قبلها، وحينئذ لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء، وأما ما قيل أنه راجع إلى قوله تعالى: أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء لأنه قد وجد المانع ههنا من تقييد السفر والمرض بعدم الوجود للماء، وهو أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الموضع كالصوم - فلا يفيد؛ لأن عدم الوجود معتبر فيهما لإباحة التيمم قطعا، إذ ليس السفر بمجرده مبيحا، وكذلك المرض.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #218
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1254 الى صـ 1260
    الحلقة (218)

    [ ص: 1254 ] وأما ما يقال من أنه قد يباح للمريض التيمم مع وجود الماء إذا خشي الضرر به - فعدم الوجود في حقه إذن غير قيد، فالجواب: أن هذا داخل تحت عدم الماء؛ لأن من تعذر عليه استعماله هو عادم له، إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع، فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه فهو عادم له، وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء، وهكذا من كان يحتاجه للشرب فهو عادم له.

    ولئن سلمنا – تنزلا - أن المراد مطلق الوجود فنقول: المدعى أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء، وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده لعارض يمنعه من الماء.

    فإن قيل: من أين تستدلون حينئذ على إباحة تيممه؟ قلنا: من التحقيق الذي ذكرناه، وهو أن المتعذر استعماله معدوم شرعا، وكذا من قوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم [النساء: من الآية 29] وقوله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [البقرة: من الآية 195] وقوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج [الحج: من الآية 78].

    ومما أخرجه أبو داود ، وابن ماجه والدارقطني من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك فقال: قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن [ ص: 1255 ] يتيمم ويعصر (ويعصب) على جرحه [خرقة] ثم يمسح عليه، ويغسل سائر جسده .

    ومما رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم والدارقطني، عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئا ، فهذا وما قبله يدل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر.

    قال مجد الدين ابن تيمية : في حديث عمرو من العلم أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة . انتهى.

    وقد روى ابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله تعالى: وإن كنتم مرضى قال: نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فأنزل الله هذه الآية.

    قال ابن كثير : هذا مرسل.

    الثانية: ما يصدق عليه مفهوم عدم الوجود المقيد بالقيام إلى الصلاة هو المعتبر في تسويغ التيمم، كما هو الظاهر من الآية، لا عدم الوجود مع طلب مخصوص، كما قيل: إنه يطلب في كل جهة من الجهات الأربع في ميل، أو ينتظر إلى آخر الوقت حتى لا يبقى إلا ما يسع الصلاة بعد التيمم - إذ لا دليل على ذلك، فإذا دخل الوقت المضروب للصلاة، وأراد المصلي القيام إليها فلم يجد حينئذ ما يتوضأ به، أو يغتسل في منزله أو مسجده، أو ما يقرب منهما، كان ذلك عذرا مسوغا للتيمم، فليس المراد بعدم الوجود في ذلك أن لا يجده بعد [ ص: 1256 ] الكشف والبحث وإخفاء السؤال، بل المراد أن لا يكون معه علم أو ظن بوجود شيء منه هنالك، ولم يتمكن في تلك الحالة من تحصيله بشراء أو نحوه. فهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء عند أهل اللغة، والواجب حمل كلام الله تعالى على ذلك، مع عدم وجود عرف شرعي.

    وقد وقع منه - صلى الله عليه وسلم - ما يشعر بما ذكرناه، فإنه تيمم في المدينة من جدار، كما ثبت ذلك في الصحيحين من دون أن يسأل ويطلب، ولم يصح عنه في الطلب شيء تقوم به الحجة، فهذا كما يدل على وجوب الطلب يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت، ويدل على ذلك حديث الرجلين اللذين تيمما في سفر ثم وجدا الماء، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فقال صلى الله عليه وسلم للذي لم يعد: أصبت السنة أخرجه أبو داود والحاكم وغيرهما من حديث أبي سعيد ، فإنه يرد [ ص: 1257 ] قول من قال بوجوب الانتظار إلى آخر الوقت على المتيمم، سواء كان مسافرا أو مقيما، كذا في (الروضة الندية).

    الثالثة: دلت الآية على أن المسافر إذا لم يجد الماء تيمم ، طال سفره أو قصر.

    الرابعة: قرئ في السبع (لامستم ولمستم) والملامسة واللمس يردان - لغة - بمعنى الجس باليد، وبمعنى الجماع، قال المجد في "القاموس" لمسه يلمسه ويلمسه: مسه بيده، والجارية جامعها، ثم قال: والملامسة المماسة والمجامعة.

    ومن ثمة اختلف المفسرون والأئمة في المعني بذلك هنا، فمن قائل بأن اللمس حقيقة في الجس باليد، مجاز في غيره، والأصل حمل الكلام على حقيقته؛ لأنه الراجح، لا سيما على قراءة (لمستم) إذ لم يشتهر في الوقاع كالملامسة.

    وروي عن ابن مسعود من طرق متعددة أنه قال: الملامسة ما دون الجماع، وعنه: القبلة من المس وفيها الوضوء، رواهما ابن جرير .

    وروى الطبراني بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال: يتوضأ الرجل من المباشرة، ومن اللمس بيده، ومن القبلة، وكان يقول في هذه الآية: أو لامستم النساء هو الغمز.

    وروى ابن جرير ، عن نافع أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة، ويرى فيها الوضوء، ويقول: هي من اللماس.

    وذكر ابن أبي حاتم أنه روي عن كثير من التابعين نحو ذلك، قالوا: ومما يؤيد بقاء اللمس على معناه الحقيقي قوله تعالى: ولو نـزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم [الأنعام: من الآية 7] أي: جسوه.

    وقال صلى الله عليه وسلم لماعز حين أقر بالزنى - يعرض له بالرجوع [ ص: 1258 ] عن الإقرار -: لعلك قبلت أو لمست؟ .

    وفي الحديث الصحيح: واليد زناها اللمس .

    وقالت عائشة : قل يوم إلا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف علينا، فيقبل ويلمس.

    ومنه ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الملامسة، وهو يرجع إلى الجس باليد.

    واستأنسوا أيضا بالحديث الذي رواه أحمد عن معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل فقال: يا رسول الله! ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا أتاه منها غير أنه لم يجامعها، قال فأنزل الله عز وجل هذه الآية: [ ص: 1259 ] وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل [هود: من الآية 114] الآية، قال: فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: توضأ ثم صل قال معاذ: فقلت: يا رسول الله! أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال: بل للمؤمنين عامة .

    ورواه الترمذي ، وقال: ليس بمتصل، والنسائي مرسلا، قالوا: فأمره بالوضوء؛ لأنه لمس المرأة ولم يجامعها.
    فصل

    ومن قائل: إن المعني باللمس هنا الجماع، وذلك لوروده في غير هذه الآية بمعناه، فدل على أنه من كنايات التنزيل، قال تعالى: وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [البقرة: من الآية 237] وقال تعالى: إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [الأحزاب: من الآية 49] وقال في آية الظهار: فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا [القصص: من الآية 3].

    وروى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس [ ص: 1260 ] في هذه الآية: أو لامستم النساء قال: الجماع.

    وروى ابن جرير عنه، قال: إن اللمس والمس والمباشرة: الجماع، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء، وقد صح من غير وجه عن ابن عباس أنه قال ذلك، وقد تقرر أن تفسيره أرجح من تفسير غيره؛ لاستجابة دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه بتعليمه تأويل الكتاب، كما أسلفنا بيان ذلك في مقدمة التفسير.

    ويؤيد عدم النقض بالمس ما رواه مسلم والترمذي وصححه عن عائشة قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك .

    وروى النسائي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي وإني لمعترضته بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله.

    قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص": إسناده صحيح، وقوله في "الفتح": يحتمل أنه كان بحائل أو أنه خاص به - صلى الله عليه وسلم - تكلف، ومخالفة للظاهر.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #219
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1261 الى صـ 1267
    الحلقة (219)



    وعن إبراهيم التيمي ، عن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ رواه أبو داود والنسائي . قال أبو داود : هو مرسل، إبراهيم التيمي [ ص: 1261 ] لم يسمع من عائشة ، وقال النسائي : ليس في هذا الباب أحسن من هذا الحديث، وإن كان مرسلا، وصححه ابن عبد البر وجماعة.

    وشهد له ما تقدم وما رواه الطبراني في المعجم الصغير من حديث عمرة عن عائشة قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فقلت: إنه قام إلى جاريته مارية ، فقمت ألتمس الجدار فوجدته قائما يصلي، فأدخلت يدي في شعره لأنظر أغتسل أم لا؟ فلما انصرف قال: أخذك شيطانك يا عائشة ، وفيه محمد بن إبراهيم عن عائشة ، قال ابن أبي حاتم : ولم يسمع منها.

    قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: أو لامستم النساء الجماع دون غيره من معاني اللمس؛ لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، ثم أسنده من طرق، وبه يعلم أن حديث عائشة قرينة صرفت إرادة المعنى الحقيقي من اللمس، وأوجبت المصير إلى معناه المجازي.

    وأما ما روي عن ابن عمر وابن مسعود ، فنحن لا ننكر صحة إطلاق اللمس على الجس باليد ، بل هو المعنى الحقيقي، ولكنا ندعي أن المقام محفوف بقرائن توجب المصير إلى المجاز.

    وأما قولهم بأن القبلة فيها الوضوء فلا حجة في قول الصحابي لا سيما إذا وقع معارضا لما ورد عن الشارع، ويؤيد ذلك قول اللغويين أن المراد بقول بعض الأعراب للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن امرأته لا ترد يد لامس الكناية عن كونها زانية، ولهذا قال له - صلى الله عليه وسلم -: طلقها .

    وأما حديث معاذ الذي استأنسوا به فلا دلالة فيه على النقض؛ لأنه لم يثبت أنه كان متوضئا قبل أن يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوضوء، ولا ثبت أنه كان متوضئا عند اللمس، فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد انتقض وضوؤه، كذا في "نيل الأوطار".

    [ ص: 1262 ] وقال ابن كثير : هو منقطع بين ابن أبي ليلى ومعاذ ، فإنه لم يلقه، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة المكتوبة، كما تقدم في حديث الصديق : ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله: ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم [آل عمران: من الآية 135] الآية.

    الخامسة: التيمم لغة : القصد، يقال: تيممته وتأممته ويممته، وآممته أي: قصدته، وأما الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد.

    قال الزجاج : الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره، لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك.

    وفي "المصباح": الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التراب الذي على وجه الأرض، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق.

    وفي "القاموس": الصعيد التراب أو وجه الأرض.

    قال الأزهري : ومذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله تعالى: صعيدا طيبا هو التراب. انتهى.

    واحتجوا بما في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء وفي لفظ: وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء .

    قالوا: فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره [ ص: 1263 ] معه.

    قالوا: وحديث جابر المتفق عليه: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا خصصه ما قبله لأن الخاص يحمل عليه العام، واحتجوا أيضا بأن الطيب لا يكون إلا ترابا.

    قال الواحدي: إنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيبا، والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله تعالى: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه [الأعراف من الآية: 58] فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة، فكان قوله: فتيمموا صعيدا طيبا أمرا بالتيمم بالتراب فقط، وظاهر الأمر للوجوب، واحتجوا أيضا بآية المائدة، قالوا: الآية ههنا مطلقة ولكنها في سورة المائدة مقيدة، وهي قوله سبحانه وتعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه [المائدة: من الآية 6] وكلمة (من) للتبعيض، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه.

    [ ص: 1264 ] قال الزمخشري : وقولهم إن (من) لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: (مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب) إلا معنى التبعيض، ثم قال: والإذعان للحق أحق من المراء. انتهى.

    وأجاب القائلون بجواز التيمم بالأرض وما عليها عن هذه الحجج بأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض؛ لأنه ما صعد، أي: علا وارتفع على وجه الأرض، وهذه الصفة لا تختص بالتراب، ويؤيد ذلك حديث: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره، وما ثبت في رواية بلفظ: وتربتها طهورا كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة - فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء؛ لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية، وهذا مفهوم لقب لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة، ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول، فيكون ذكر التراب في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام، وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث، ووجه ذكره أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة، ويؤيد هذا ما ثبت من تيممه صلى الله عليه وسلم من جدار.

    وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب، ودعوى أن الطيب لا يكون إلا ترابا طاهرا منبتا لقوله تعالى:: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا [الأعراف: 58] - فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيب بما ذكر، والضرورة تدفعه، فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجا للنبات، كذا في "الروضة الندية".

    [ ص: 1265 ] وأما الاستدلال بآية المائدة وظهور التبعيض في (من) فذاك إذا كان الضمير عائدا إلى الصعيد.

    قال الناصر في "الانتصاف": وثمة وجه آخر وهو عود الضمير على الحدث المدلول عليه بقوله: وإن كنتم مرضى إلى آخرها، فإن المفهوم منه: وإن كنتم على حدث في حال من هذه الأحوال: سفر أو مرض، أو مجيء من الغائط، أو ملامسة النساء - فلم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث فتيمموا منه، يقال: تيممت من الجنابة، قال: وموقع (من) على هذا مستعمل متداول، وهي على هذا الإعراب إما للتعليل أو لابتداء الغاية، وكلاهما فيها متمكن، والله أعلم.

    السادسة: أفاد قوله تعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم أن الواجب في التيمم عن وضوء أو غسل هو مسح الوجه واليدين فقط، وهذا إجماع، إلا أن في اليدين مذاهب للأئمة، فمن قائل بأنهما يمسحان إلى المرفقين؛ لأن لفظ اليدين يصدق في إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين، كما في آية الوضوء، وعلى ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة: فاقطعوا أيديهما [المائدة: من الآية 38] وقالوا: وحمل ما أطلق ههنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية.

    وروى الشافعي ، عن إبراهيم بن محمد ، عن أبي الحويرث ، عن الأعرج ، عن ابن الصمة قال: مررت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد علي، حتى قام إلى الجدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد علي .

    وهذا الحديث منقطع؛ لأن الأعرج - وهو عبد الرحمن بن هرمز - لم يسمع هذا من ابن الصمة ، وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة ، وكذا هو مخرج في الصحيحين عن عمير مولى ابن عباس قال: دخلنا على أبي جهيم بن الحارث، فقال أبو جهيم : أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فوضع يده على الحائط، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام .

    [ ص: 1266 ] ولأبي داود عن نافع قال: انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس ، فقضى ابن عمر حاجته، فكان من حديثه يومئذ أن قال: مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه فلم يرد عليه، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة، ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام، وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر .

    وفي رواية: فمسح ذراعيه إلى المرفقين، فهذا أجود ما في الباب، فإن البيهقي أشار إلى صحته، كذا في "لباب التأويل".

    قال ابن كثير في حديث أبي داود ما نصه: ولكن في إسناده محمد بن ثابت العبدي ، وقد ضعفه بعض الحفاظ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر ، قال البخاري وأبو زرعة وابن عدي : هو الصحيح.

    وقال البيهقي : رفع هذا الحديث منكر.

    قال ابن كثير : وذكر بعضهم ما رواه الدارقطني، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ولكن لا يصح؛ لأن في إسناده ضعفا لا يثبت الحديث به. انتهى. وذلك لأن فيه علي بن ظبيان ، قال الحافظ ابن حجر : هو ضعيف، ضعفه القطان وابن معين وغير واحد، وبه يعلم أن ما استدل به على إيجاب الضربتين - مما ذكر - ففيه نظر؛ لأن طرقها جميعها لا تخلو من مقال، ولو صحت لكان الأخذ بها متعينا لما فيها من الزيادة.
    [ ص: 1267 ] فصل

    ذهب الزهري إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين، ويدل على ذلك ما روي عن عمار بن ياسر قال: تمسحوا وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى، فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم . أخرجه أبو داود .

    قال الحافظ في "الفتح": وأما رواية الآباط فقال الشافعي وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكل تيمم صح للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعده فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به.
    فصل

    والحق الوقوف في صفة التيمم على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار ، من الاقتصار على ضربة واحدة للوجه والكفين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #220
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,317

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1268 الى صـ 1274
    الحلقة (220)

    [ ص: 1268 ] قال عمار : أجنبت فلم أصب الماء، فتمعكت في الصعيد، وصليت، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما كان يكفيك هكذا، وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه متفق عليه.

    وفي لفظ: إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين رواه الدارقطني .

    وروى الإمام أحمد وأبو داود ، عن عمار بن ياسر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في التيمم: ضربة للوجه واليدين .

    وفي لفظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالتيمم للوجه والكفين رواه الترمذي وصححه.

    قال ابن عبد البر : أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة، وأما الجواب عن المتفق عليه من حديث عمار بأن المراد منه بيان صورة الضرب وليس المراد منه جميع ما يحصل به التيمم - فتكلف واضح، ومخالفة للظاهر.

    وقد سرى هذا إلى العلامة السندي في "حواشي البخاري " حيث كتب على حديث عمار ما نصه: قد استدل المصنف (يعني البخاري ) بهذا الحديث على عدم لزوم الذراعين في التيمم في موضع، وعلى عدم وجوب الضربة الثانية في موضع آخر، وكذا سيجيء في روايات هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قدم في هذه الواقعة الكفين على الوجه، فاستدل به القائل لعدم لزوم الترتيب، فلعل القائل بخلاف ذلك يقول: إن هذا الحديث ليس مسوقا لبيان عدد الضربات ولا لبيان تحديد اليد في التيمم ولا لبيان عدم لزوم الترتيب، بل ذلك أمر مفوض إلى أدلة خارجة، وإنما هو مسوق لرد ما زعمه عمار من أن الجنب يستوعب البدن كله، والقصر في قوله: (إنما كان يكفيك) معتبر بالنسبة إليه، كما هو القاعدة أن القصر [ ص: 1269 ] يعتبر بالنظر إلى زعم المخاطب، فالمعنى: إنما يكفيك استعمال الصعيد في عضوين: وهما الوجه واليد.

    وأشار إلى اليد بـ(الكف) ولا حاجة إلى استعماله في تمام البدن، وعلى هذا يستدل على عدد الضربات وتحديد اليد ولزوم الترتيب أو عدمه بأدلة أخر، كحديث: التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين وغير ذلك، فإنه صحيح كما نص عليه بعض الحفاظ، وهو مسوق لمعرفة عدد الضربات وتحديد اليد، فيقدم على غير المسوق لذلك، والله تعالى أعلم. انتهى كلامه.

    وقوله: (فإنه حديث صحيح) فيه ما تقدم.

    وقد قال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" في (فصل: هديه صلى الله عليه وسلم بالتيمم) ما نصه: كان - صلى الله عليه وسلم - يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين، ولم يصح عنه أنه تيمم بضربتين، ولا إلى المرفقين.

    قال الإمام أحمد : من قال: إن التيمم إلى المرفقين فإنما هو شيء زاده من عنده، وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها ترابا كانت أو سبخة أو رملا.

    وصح عنه أنه قال: حيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل فالرمل له طهور .

    ولما سافر - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم، وماؤهم في غاية القلة، ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب، ولا أمر به، ولا فعله أحد من أصحابه، مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب، وكذلك أرض الحجاز وغيره، ومن تدبر هذا قطع بأنه كان يتيمم بالرمل، والله أعلم، وهذا قول الجمهور.

    وأما ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى، ثم إمرارها إلى المرفق، ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع، وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن، إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى، فيطبقها عليها، فهذا مما يعلم قطعا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله، ولا علمه أحدا من أصحابه، ولا أمر به، ولا استحسنه، وهذا هديه، إليه التحاكم، وكذلك لم يصح عنه التيمم لكل صلاة، ولا أمر به، بل أطلق، وجعله قائما مقام الوضوء وهذا يقتضي أن يكون حكمه حكمه، إلا فيما اقتضى الدليل خلافه. انتهى.

    [ ص: 1270 ] السابعة: ذكر هنا الحافظ ابن كثير سبب مشروعية التيمم قال: وإنما ذكرنا ذلك ههنا لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة، وبيانه: أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر، والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير، في محاصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني النضير، وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل، ولا سيما صدرها، فناسب أن يذكر السبب هنا، وبالله الثقة.

    قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ، حدثنا هشام ، عن أبيه، عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجالا في طلبها، فوجدوها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوها بغير وضوء، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل التيمم، فقال أسيد بن الحضير لعائشة : جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا.

    (طريق أخرى) قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أنبأنا مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت عائشة : فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، فجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1271 ] حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.

    قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.


    وقد رواه البخاري أيضا عن قتيبة بن سعيد ، عن مالك.

    ورواه مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، عن مالك .

    انتهى كلام ابن كثير .

    وأورد الواحدي في "أسباب النزول" هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضا.

    وقال ابن العربي: لا نعلم أي الآيتين عنت عائشة .

    قال ابن بطال : هي آية النساء أو آية المائدة.

    وقال القرطبي: هي آية النساء، ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء، فيتجه تخصيصها بآية التيمم.

    قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أن [ ص: 1272 ] المراد بها آية المائدة بغير تردد لرواية عمرو بن الحارث ؛ إذ صرح فيها بقوله: فنزلت: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية.

    وقال الحافظ قبل: استدل به (أي: بحديث عائشة ) على أن الوضوء كان واجبا عليهم قبل نزول آية الوضوء، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء، ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع.

    قال ابن عبد البر : معلوم عند جميع أهل المغازي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل منذ افترضت الصلاة عليه إلا بوضوء، ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند.

    قال: وفي قوله في هذا الحديث: (آية التيمم) إشارة إلى أن الذي طرأ عليهم من العلم حينئذ حكم التيمم لا حكم الوضوء، قال: والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به ليكون فرضه متلوا بالتنزيل.

    قال السيوطي في "لباب النقول" بعد تصويب هذا الكلام: فإن فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة ، والآية مدنية. انتهى.

    وقال الحافظ ابن حجر أيضا في قول أسيد (ما هي بأول بركتكم): يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، فيقوي قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد، وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباري فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق.

    وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع .. الحديث.

    فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق؛ لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة، وهي بعدها بلا خلاف.

    قال: وسيأتي في المغازي أن البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى ، وقدومه كان في وقت إسلام أبي هريرة ، ومما يدل على تأخر القصة أيضا عن قصة الإفك ما رواه الطبراني من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن عائشة قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر : يا بنية! في كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس؟ فأنزل الله عز وجل الرخصة [ ص: 1273 ] في التيمم.

    فقال أبو بكر : إنك لمباركة (ثلاثا) وفي إسناده محمد بن حميد الرازي ، وفيه مقال.

    وفي سياقه من الفوائد بيان عتاب أبي بكر الذي أبهم في حديث الباب، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ.

    وقال الإمام شمس الدين ابن القيم في "زاد المعاد" في (غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق): إنها كانت في شعبان سنة خمس، وبعد ذكرها قال: قال ابن سعد : وفي هذه الغزوة سقط عقد لعائشة فاحتبسوا على طلبه، فنزلت آية التيمم، ثم ساق حديث الطبراني المتقدم، وقال: هذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة، وهو الظاهر، ولكن فيها كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه، فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى. انتهى.

    وقد روي سبب نزول الآية المذكورة أيضا عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرس بأولات الجيش ومعه عائشة ، فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء، فتغيظ عليها أبو بكر ، وقال: حبست الناس وليس معهم ماء! فأنزل الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الآباط.

    ورواه أيضا ابن جرير ، عن أبي اليقظان - رضي الله عنه - قال: [ ص: 1274 ] كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهلك عقد لعائشة فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أضاء الصبح، فتغيظ أبو بكر على عائشة ، فنزلت عليه الرخصة، المسح بالصعيد، فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة، نزل فيك رخصة، فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط.

    وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في سبب نزولها وجها آخر، عن الأسلع بن شريك - رضي الله عنه - قال: كنت أرحل ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ثم رضفت أحجارا فأسخنت بها ماء واغتسلت، ثم لحقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فقال: يا أسلع ! ما لي أرى رحلتك قد تغيرت؟ قلت: يا رسول الله! لم أرحلها، رحلها رجل من الأنصار، قال: ولم؟ قلت: إني أصابتني جنابة فخشيت القر على نفسي، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به، فأنزل الله عز وجل: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إلى قوله: إن الله كان عفوا غفورا

    قال ابن كثير : وقد روي من وجه آخر عنه.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •