هذه المقالة لصديقي الفاضل أمين يوسف الأحمدي لم تنشر-فيما أعلم - على النت ، نظرا للفورة و الحماسة التي انتابت المسلمين إثر الربيع ، و الآن حان وقت بثها لينظر فيها فضلاء طلبة العلم بإنصاف ، ويثرو الموضوع بآراءهم الدقيقة بعيدا عن العواطف الرقيقة.
قال -رحمه الله -:"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فما يعيشه العالم الإسلامي اليوم من مظاهر العنف على تنوع أشكالها ودوافعها ومن يقف وراء رسم اتجاهاتها، يجمع بينها كلها-على الأقل على ألسنة أهلها-شيء واحد: المطالبة بالحقوق، وهو لا ريب طلب مشروع في أصله وإن كانت كيفيته هي محل النظر الشرعي جوازا ومنعا. ونحن معاشر المسلمين حين نناقش المطالب وإمكانها يفترض بنا ألا نغفل طرفة عين عن هويتنا الإسلامية التي منطلقها الإيمان بالله تعالى، معنى ذلك أننا لا نكيل الحقوق بالمكاييل المادية، ولا نطلبها طلب من لا يرى تحصيلها إلا بالوسائل الدنيوية المحسوسة، بل نؤمن ابتداء بأن الحقوق ليست قسمة حرب، وإنما هي أرزاق يسوقها الله تعالى لعباده بمقتضى مشيئته وحكمته، ولذلك يعيش أناس حياة طويلة عريضة لا يحصلون فيها شيئا مما يسمونه حقا، ويعيش آخرون حياة أطول وأعرض لا يمتنع فيها عنهم شيء مما ليس لهم بحق في عرف الناس. وعليه، فالمطالبة بالحقوق على وجه من الوجوه شيء، ونيل هذه الحقوق انطلاقا من مبدأ تحصيل الأرزاق شيء آخر تماما. فأول الصلاح وسكينة النفوس أن يطلب الإنسان المسلم حقه طلب من يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطاه لم يكن ليصيبه، وأنه لن يموت حتى يستكمل رزقه وأجله، هذا رأس الدواء وأصله وأوله. والبيان الثاني أن يعلم المسلم أن المتعلق به من شأن حياته أمران: أمر واجب له، وأمر واجب عليه، وتمام إسلامه بل تمام إنسانيته أن يراعي الأمرين كليهما، وألا يغلب نظره فيما هو له على نظره فيما هو عليه، لأن ما عليه من واجب هو ذاته ما لغيره من حق، وما على غيره من واجب هو نفسه ما له من حق، هذا فيما بين أهل الدنيا من الحقوق، فليعلم أنه ما فاته في نظره من حق هو واجب له إلا بما فرط فيه غيره من حق هو واجب عليه، وما فات غيره من الحقوق إلا مما فرط هو فيه من الواجبات. فمن استوفى من الناس حقه بيده أو بلسانه وهو في واجبه مفرط وله مضيع، فقد أصاب عين الظلم بأن رضي للناس ما كرهه لنفسه، وضيع عليهم ما اجتهد في طلبه منهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". فمن استشعر في قلبه ضرورة أداء حقوق الآخرين بمقدار ما يحصل من الحق لنفسه فقد استكمل الإيمان، وبمقدار ما يغفل المرء عن هذا الحق ويشغله الاستيفاء عن الوفاء ينقص إيمانه. فمن كره من الناس ما رضيه لهم بفعله وقوله فهو ظالم، ودواؤه أن لا يفتح فمًا ولا يرفع عقيرة برفع الظلم عنه حتى ينظر في أفعاله هل صدر منه في حق غيره مثل الذي كرهه، ولا يطلب طلبا-حقا كان أو باطلا-حتى ينظر أيمكنه أن يبذل من نفسه مثله لغيره، وهذا من فقه الحديث المروي عنه صلى الله عليه وسلم فيمن استأذنه في الزنا، فكان أول ما بدأه به النبي صلى الله عليه وسلم أن نبهه إلى ألا يطلب أن يستوفي من الناس شيئا لا يرضى أن يستوفوا مثله منه، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا، قال وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. والناظر اللبيب في أحوال المطالبين بالحقوق في هذه الأزمان من المسلمين لن يفهم المسألة المعقدة إلا بأن يفكر في مسألتين هما فرعان عن أداء الحقوق: 1-هل أدى هؤلاء أو أكثرهم حق الله عز وجل من توحيد العبادة والتوجه إليه سبحانه بالدعاء والتضرع؟ والجواب أن لا، فإن هؤلاء المطالبين أصناف لا يرقى واحد منهم لاستيفاء حق من الحقوق: منهم من هو واقع في أصناف الشرك بالله الاعتقادية والعملية، يدعو غير الله، ويرجو المخلوقين من دون الخالق، يخرج إلى المظاهرة فإذا تدبرت في حاله علمت أنه لا يُنصر إلا قدَرا، في عنقه تميمة، وبات ليلته عند قبر، إن أقسم أقسم بالآباء والأجداد، وإن عاهد عاهد على الدماء والأمجاد، لا لله أعار جمجمته، ولا له أسجد جبهته، كنزَ ما ملك على قلته فلم يؤد زكاته، وطلب أن يصله الحاكم بحقه من بيت المال وقد بخل بعشره على أبيه وأمه. ومنهم قوم آخرون نسوا الله فنسيهم وأنساهم أنفسهم، لا حظ لهم من الإسلام إلا الاسم ولا من الإيمان إلا الدعوى، وأما معبوداتهم فطواغيت الأفكار وأصنام الأنظار: فمن ماركسي ومن ليبيرالي ومن اشتراكي، لا يرون في الدين سياسة للدنيا، بل لا يصلح عندهم الشرع إلا للتخدير فهو عدوهم الأول الذي يحاربون، ومن تهاون رآه طقوسا تصلح للزواج والطلاق والجنائز. 2-هل أدى بعضهم حق بعض؟ كلا فلا تجد متذمرا من الرشوة إلا وهو مرتش، ولا صارخا ضد الفساد إلا وهو مفسد، ولا متظلما إلا وهو ظالم لمن دونه، ولو فرض أنه لم يبلغ أن يظلم لضعفه لوجدته مبيتا نيته أنه إن مكن في الأرض أتى ظالميه بأضعاف ما أتوه به، فما يحركه في الحقيقة إنما هو الانتقام لا الانتصاف وشهوة السلطان لا طلب الحق، ومن رفع ظلما بظلم لم يزد على أن قوى ذلك الطبع في نفوس الخلق. والله تعالى يقول:(الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)، فمن لم يجد في قلبه هذه الغاية فالأصلح له ألا يطلب تغييرا، ثم إن وجده فليس له أن يدعو إلى حق على طريق الباطل، بل ينبغي أن يكون كما قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر من غير منكر. فمن أحب أن ينتصف من الناس من غير أن ينصفهم من نفسه، كان طلبه للحق هو عين الظلم، وكان عمله من أسباب الفساد، وإن أوهمه شيطانه وهواه أنه على سبيل الصلاح. والله المستعان".