قال الشيخ بن أبي زيد القيرواني رحمه الله في رسالته : " وهل الأذان الثاني أحدثه بنوا أمية ".
المقصود هنا هو الأذان الأول في الفعل ,وقد أمر به عثمان رضي الله عنه , وهو من الخلفاء الراشدين , وقد أمِرنا باتباع سنتهم في حديث العرباض بن سارية كما في سنن أبي داود , فكان المناسب التعبير بذلك بدل كون بني أمية هم الذين أحدثوه , وقد حصل ذلك عندما كثر الناس ليعلموا أن وقت الجمعة قد حضر , وأخذ الناس بما أمر به الخليفة الراشد , وتابعوه عليه لكونه خليفة مطاع الأمر , وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال : "الأذان الأول يوم الجمعة بدعة" , قال الحافظ في ( الفتح 2 / 507 ) :" فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار , ويحتمل أنه يريد أنه لم يكن حسناً , ومنها ما يكون بخلاف ذلك " .
وحمل قول ابن عمر على الوجه الأول هو الظاهر , وإلاّ فإنّ الناس كانوا يعلمون أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد رأى بعض أهل العلم أن الحاجة إلى هذا الأذان لم تعد قائمة , فيتعين تركه , والمسألة محل نظر , قد تختلف من موضع لآخر لما لها من مناط , لكن المسارعة إلى إطلاق البدعة على مثل هذا الأمر الذي فشا في عهد الخلافة الراشدة قد يكون منّا جرأة غير محمودة , لا سيما مع عمل الناس به في عموم بلدان المسلمين , ولهم متعلق كما علمت , فالذي يظهر أنه يُفعل متى احتيج إليه , ومع ذلك فقد خرج الناس بهذا الأذان عن حدّه في بلادنا ( الجزائر) سواء فيما يرجع لوقته , أو في الغرض الذي وجد من أجله , فإنّه عندنا يتقدم الأذان الثّاني بوقت طويل , وفي بعض أيام العام يكون قبل الزوال , والأئمة الثلاثة يرون أنّ الأذان للجمعة لا يكون إلاّ بعد الزوال , والناس يفعلونه قبله , فهو مخالف لما كان عليه الأمر في عهد من أمر به رضي الله عنه , فإنّه لم يكن بين الأذانين وقت طويل , ولا كان قبل الزوال , وبالنّظر إلى تقدمه على وقت الزوال في كثير من أيام العام فلا يبعد أن يقال بأنّه بدعة , لأنه لا يؤذن لصلاة قبل وقتها غير الصبح , وحتى على مذهب أحمد وهو يرى أن وقت الجمعة قبل الزوال , فليس فيه هذا الفارق الطويل بين الأذانين , فتنبه .
واعلم أنّ هذا الأذان لا يفعل اليوم للغرض الذي من أجله أمر به عثمان رضي الله عنه , وهو إخبار النّاس بقرب الأذان الذي يكون بعد صعود الإمام على المنبر , بل لإخبارهم بالشّروع في درس الجمعة الذي هو محدث آخر يواظب عليه , وهو ممّا تضار به الخطبة , فيدرك وقتها النّاس وقد فتروا وملّوا , فلا يقبلون بقلوبهم على الخطيب في وقت قد يكون هو ساعة الإجابة يوم الجمعة , وهي ساعة لا يسأل المؤمن ربّه فيها شيئاً إلاّ أعطاه إيّاه , ويفوت المصلين بسبب هذا الدرس كثير من فضائل الجمعة كالإكثار من النّافلة والصّلاة يون الجمعة منتصف النهار مستثناة من المنع , ومن ذلك الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم , وقد أمرنا بذلك , ومنها قراءة سورة الكهف , ومنها الدعاء , وأنت تعلم بأنّ خطبة الجمعة يطلب تقصيرها , فكيف يضاف إليها هذا الدرس ? , وقد كانت خطبه صلى الله عليه وسلم كلمات قلائل طيبات , فكيف إذا كان المدرّس ذا شهوة في الكلام ?, يطيل الدرس ويطيل الخطبة معاً , ويقصر الصلاة خلاف المطلوب ? وكيف إذا كان الدرس إلى اللغو أقرب منه
للنافع من الحديث ? فصار كالشيئ المحتوم لا بد منه , يقوم به من حضر , على أنّ هذا الدرس ولو كان نافعاً فيما يبدوا للناس , فإنّ الذي نعقله من ديننا أنّ المخالفة لا يترتب عليها نفعٌ , ولا يبارك الله فيها , وقد ترتّب على المواظبة على هذا الدرس أن أصبح بعض الناس يرى وجوبه , ويلوم من تخلّف عنه , ويسميه بعضهم الخطبة الأولى , وقواعد المذهب ( المالكي ) فيها ترك المستحب أحياناً إذا خشي أن يعتقد وجوبه , وكتعليلهم على ترك القبض في الصّلاة , وكما قالوا في ترك الإمام تحية المسجد أحياناً وصوم الأيام الستة من شوال , وغيرها .
نقول هذا لو تُركنا إلى عقولنا , فكيف إذا جاء عن نبينا صلّى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك , وهو ما رواه أبو داود والترمذي وحسنه , وهذا لفظه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد , وعن بيع و الاشتراء فيه , وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة " , وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم .
فإن قلت : قال ابن القاسم في ( المدونة 1 / 138 ) :" رايت مالكاً والإمام يوم الجمعة على المنبر قاعد , ومالك متحلق في أصحابه قبل أن يأتي الإمام , وبعدما جاء يتحدث ولا يقطع حديثه ولا يصرف وجهه إلى الإمام , ويقبل هو وأصحابه على حديثهم كما هم حتى سكت المؤذن وقام الإمام للخطبة تحول هو وجميع أصحابه إلى الإمام فاستقبلوه بوجوههم " , الذي يظهر أن الإمام لم يبلغه الحديث , ومقامه من الإتّباع معروف , والله أعلم , وانظر عارضة الأحوذيلابن العربي مع سنن الترمذي .
ومما يستغرب قول أبي بكر الخطيب رحمه الله وهو يوجه معنى الحديث المتقدم ( الفقيه والمتفقه ) قال: "هذا الحديث محمول على أن تكون الحلقة بقرب الإمام , بحيث يشغل الكلام فيها عن استماع الخطبة , فأمّا إذا كان المسجد واسعاً والحلقة بعيدة عن الإمام بحيث لا يدركها صوته , فلا بأس بذلك وقد رأيت شيوخنا من الفقهاء والمحدثين يفعلونه , وجاء مثله عن عدّة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ", ثم روى بسنده عن معاوية بن قرة قال : أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مزينة , ليس فيهم إلاّ من طَعن أو طعن , أو ضرب أو ضرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الجمعة اغتسلوا , ولبسوا من صالح ثيابهم , وشمّوا من طيب نسائهم , ثم أتوا الجمعة وصلوا ركعتين , ثم جلسوا يبثون العلم والسنة حتى يخرج الإمام " , فانظر سنده أمّا متنه ففيه نكارة .
والذي يقرا كلام الخطيب هذا لا يكاد يصدق أن هذا الكلام في فهم الحديث له , إذ يؤخذ منه أن البعيد عن الإمام في المسجد يوم الجمعة له أن يشتغل عن الخطبة بمدارسة العلم وبالحديث , ومن جاءته السنة فلا حجة تقوم لها إلاّ أن تعارض لا يمكن الجمع , أو يقع الإجماع على خلافها , ولا شيئ من ذلك هنا , فترك هذا الدرس هو الحق , وقد يسكت عنه إذا فعل لحاجة عارضة , أو يرغم عليه الإمام إرغاماً كما هو الحاصل , أمّا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فقد اصطنعته في زمن كان المحتل يمارس التضييق على الدعاة , فاغتنمت مناسبة الجمعة للتعليم والتوجيه , ولا حاجة لذلك الآن , ولتعقد حلقات الدرس في الأوقات الأخرى , وفي طلعة البدر ما يغنيك عن زحل , وقد قيل :
فمالك والتّلدد نحو نجد *** وقد ضاقت تهامة بالرّجال !!?