بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على من أتانا بهذا الدين والنور المبين وعلى آله وصحبه أجمعين.
فالمقابلة بالمثل عدل ، وسنة يعامل الله بها خلقه وشرع نتعامل به [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ]
((وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين )) ((للذين أحسنوا الحسنى وزيادة )) ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ)) ((وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى))وقال الله عز وجل: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وقال: { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } وقال: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } وغيرها من آي القرآن كثير.
والمؤمن له من الله تعالى فوق العدل فضل يمن به على من يشاء في عمله الصالح وخيره وإحسانه ،فسنة الله لا تتبدل ولا تتحول في تعامله مع أوليائه ومع أعدائه، وإذا علم المسلم هذه القاعدة والسنة الكونية عامل خلق الله تعالى بما يحب أن يعامله الله به .
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علما، سهَّل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السَّكينة، وغشيتهم الرحمة وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم
وفي الصحيحين عن أبي واقد الليثي
: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل إثنان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وذهب واحد قال فوقفا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
( ألا أخبركم عن النفر الثلاثة ؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه )
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة : يا عبد الله هذا خير ، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : بأبي وأمي يا رسول الله ، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ؟ قال : نعم ، وأرجو أن تكون منهم "
وفيصحيح مسلم عَنْ رِبْعِىِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ اجْتَمَعَ حُذَيْفَةُ وَأَبُو مَسْعُودٍ فَقَالَ حُذَيْفَةُ « رَجُلٌ لقي رَبَّهُ فَقَالَ مَا عَمِلْتَ قَالَ مَا عَمِلْتُ مِنَ الْخَيْرِ إِلاَّ أَنِّى كُنْتُ رَجُلاً ذَا مَالٍ فَكُنْتُ أُطَالِبُ بِهِ النَّاسَ فَكُنْتُ أَقْبَلُ الْمَيْسُورَ وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمَعْسُورِ. فَقَالَ تَجَاوَزُوا عَنْ عبدي ».
وفي لفظقال النبي صلى الله عليه و سلم :
( تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم قالوا أعملت من الخير شيئا ؟ . قال كنت آمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجاوزوا عن الموسر قال قال فتجاوزوا عنه ) البخاري
واقرأ هذه الكلمات النيرات التي سطرها يراع ذلك العالم الأديب الأريب وانظر لنفسك هل تحتاج هذا الكلمات لتربية نفسك؟ فقد اخترتها لحاجتنا لرحمة الله وإحسانه ومنّه ورضوانه .فقد كثرت فينا أمراض القلوب وتفشت فينا البغضاء والشحناء وقلة المعونة لإخواننا ، وليس من عفو ومسامحة بل نرد الكيل كيلين والصاع صاعين ننتقم لنفوسنا وليس لربنا وديننا، اللهم أعنا على قلوب مريضة نعالجها ونفوس مليئة بالحقد والحسد علّك تشافيها، واملأ نفوسنا خيرا نسديه لعبادك نرجو به رضاك وثوابك.
يقول ابن القيم رحمه الله في-إعلام الموقعين - (ج 1 / ص 196)
(( لذلك كان الجزاء مماثلا للعمل من جنسه في الخير والشر فمن ستر مسلما ستره الله ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن أقال نادما أقاله الله عثرته يوم القيامة ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن ضار مسلما ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه ومن خذل مسلما في موضع يجب نصرته فيه خذله الله في موضع يجب نصرته فيه ومن سمح سمح الله له والراحمون يرحمهم الرحمن وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ومن أنفق أنفق عليه ومن أوعى أوعى عليه ومن عفا عن حقه عفا الله له عن حقه ومن جاوز تجاوز الله عنه ومن استقصى استقصى الله عليه فهذا شرع الله وقدره ووحيه وثوابه وعقابه كله قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النظير بالنظير واعتبار المثل بالمثل ))

ويقول ابن القيم رحمه الله (( ومنها أن يعامل العبد بني جنسه في إساءاتهم إليه وزلاتهم معه بما يحب أن يعامله الله به في إساءاته وزلاته وذنوبه فإن الجزاء من جنس العمل فمن عفا عفاالله عنه ومن سامح أخاه في إساءته إليه سامحه الله في سيئاته ومن أغضىوتجاوز تجاوز الله عنه ومن استقصى استقصى عليهولا تنس حال الذي قبضت الملائكة روحه فقيل له هل عملت خيرا هل عملت حسنة قال ما اعلمه قيل تذكر قال كنت أبايع الناس فكنت انظر الموسر وأتجاوز عن المعسر أو قال كنت آمر فتياني أن يتجاوزوا في السكة فقال الله نحن أحق بذلك منك وتجاوز الله عنه فالله عز و جل يعامل العبد في ذنوبه بمثل ما يعامل به العبد الناس في ذنوبهم فإذا عرف العبد ذلك كان في ابتلائه بالذنوب من الحكم والفوائد ما هو انفع الأشياء له.........ومنها انه إذا عرف هذا فأحسن إلى من أساء إليه ولم يقابلهبإساءته إساءة مثلها تعرض بذلك لمثلها من ربه تعالى وأنه سبحانهيقابل إساءته وذنوبه بإحسانه كما كان هو يقابل بذلك إساءة الخلق إليه والله أوسع فضلا وأكرم واجزل عطاء فمن أحب أن يقابل الله إساءته بالإحسان فليقابل هو إساءة الناس إليه بالإحسان ومن علم أن الذنوب والإساءة لازمة للإنسان لم تعظم عنده إساءة الناس إليه فليتأمل هو حاله مع الله كيف هي مع فرط إحسانه إليه وحاجته هو إلى ربه وهو هكذا له فإذا كان العبد هكذا لربه فكيف ينكران يكون الناس له بتلك المنزلة ومنها انه يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم ويتفرج بطانه ويزول عنه ذلك الحصر والضيق والانحراف واكل بعضه بعضا ويستريح العصاة من دعائه عليهم وقنوطه منهم وسؤال الله ان يخسف بهم الأرض ويسلط عليهم البلاء فإنه حينئذ يرى نفسه واحدا منهم فهو يسأل الله لهم ما يسأله لنفسه وإذا دعا لنفسه بالتوبة والمغفرة أدخلهم معه فيرجو لهم فوق ما يرجو لنفسه ويخاف على نفسه اكثر مما يخاف عليهم
فأين هذا من حاله الأولى وهو ناظر إليهم بعين الاحتقار والازدراء لا يجد في قلبه رحمة لهم ولا دعوة ولا يرجو لهم نجاة فالذنب في حق مثل هذا من أعظم أسباب رحمته مع هذا فيقيم أمر الله فيهم طاعة لله ورحمة بهم وإحسانا إليهم إذ هو عين مصالحتهم لا غلظة ولا قوة ولا فظاظة
)) مفتاح دار السعادة - (ج 1 / ص 291)
ويقول (( اعلم أن لك ذنوبا بينك وبين الله تخاف عواقبها وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لكومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله هذه المعاملة فإن الجزاء من جنس العمل فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاء وفاقا فانتقم بعد ذلك أو اعف وأحسن أو اترك فكما تدين تدان وكما تفعل مع عباده يفعل معك فمن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى منأساء إليه هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة كما قال النبي للذي شكى إليه قرابته وأنه يحسن إليهم وهم يسيئون إليه فقال لا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك // رواه مسلم // هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه ويصيرون كلهم معه على خصمه فإنه كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير وهو مسيء إليه وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء وذلك أمر فطري فطر الله عباده فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرا لا يعرفهم ولا يعرفونه ولا يريدون منه إقطاعا ولا خبرا هذا مع أنه لا بد له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد له ويذل له ويبقى من أحب الناس إليه وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره إن أقام على إساءته إليه فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة والله هو الموفق المعين بيده الخير كله لا إله غيره وهو المسئول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنه وكرمه )) بدائع الفوائد - (ج 2 / ص 468)
يارب أعنا على هذه الأخلاق ياكريم يارحيم يارحمن.