بقلم: عبد الرحمن فرج

حرك رأسه ببطء في محاولة شاقة لتغيير وضعية جسمه ليستدير جهة اليمين قليلا، فبقاء جسمه لساعات أثناء نومه على اليسار يسبب له آلاما رهيبة، وحال اليقظة لا يختلف كثيرا عن النوم، فالآن هو معصوب العينين ويداه مربوطتان خلف ظهره ورجلاه كذلك، أما الوقت الآن فغير معروف، ربما ساعات الصباح الأولى أو ربما بعد منتصف الليل، ولكن يبدو أن الخيار الأول أميل للصواب لأنه يسمع حركة أكثر نشاطا في الممر، بينما يشغل وقته بالتسبيح والأذكار يقطع السكون فجأة صراخ: قولي اسمهم واحد واحد يا حيوان، ثم ضرب وركل وصوت شخص يتألم، كل هذا من غرفة قريبة نسبيا من مكانه، يحاول ألا يركز مع الأصوات، ولكن يزداد الصراخ مع بدء سماع صوت الكهرباء، هنا فقط أدرك أن الوقت الآن ربما تخطى الـ حادية عشر صباحا، فهذا وقتهم، ثم يقطع أفكاره وأذكاره صوت صارخ: وااااد يا حسين أنت يا زفت يا ابن الـ ... هات ناصر معاك ولم الزفت اللي على الأرض اللي قدامي دا في أي حتة لحد أما نشوف هيترمي فين، حاضر يا حازم بيه.

أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، رددها ثلاث مرات بحسرة، ودعا له بأن ينزله الله منازل الشهداء، برغم أنه لا يعرفه ولا يعرف من هو، فقط سمعه مثل كثيرين في لحظاتهم الأخيرة، واستمر في أذكاره ودعائه بأن يرزقه الله الثبات ويكتب له الأجر، فكل ما يصيب المؤمن يؤجر عليه، وهو أفضل حالا من كثيرين غيره، صحيح أنه منذ 60 يوما متواصلة على حاله ولكن غيره أسوء من ذلك بكثير في وضع عار تماما ومربوط (بكلبشات أشد بشاعة في الحائط)، وصحيح أنهم نزعوا ظفرين من أظافره بالكماشة ونزعوا حلمة من حلمات صدره بالكماشة أيضا، ولكن غيره فقد إحساسه بأعضائه التناسلية من كثرة التعذيب بالكهرباء فيها ومن كثرة التعذيب بالضرب فيها، صحيح أنهم نزعوا بعضا من شعره وشعر ذقنه بأيديهم، ولكن غيره عذبوه في دبره وبالإيهام بالغرق حتى أصاب بعضهم التبول اللاإرادي، صحيح أنهم أطفأوا أعقاب السجائر في ظهره على الرغم من تشوهه من كثرة السياط إلا أنه يحتفظ ولله الحمد بعقله، فغيره فقد عقله وأصبح بتصرف مثل الأطفال ولم يتحمل عقله هول ما يحدث.

مضت ثلاث سنوات منذ أن اعتقلوه وهو لا يرى أفقا على المدى المنظور لخروجه، فقد تعرف على من تخطى الـ 10 سنوات ومن قارب العشرين سنة في الزنزانة ( التي تعتبر جنة له مقارنة بجهاز أمن الدولة) ولكنه مثل آلاف غيره يحاول الخروج بقضايا التظلم التي تنتهي بترحيله من السجن لجهاز أمن الدولة حيث يمكث قرابة الـ 3 أشهر في وضع مزر مأساوي ثم إذا كتب الله له النجاة فإنه يعود إلى زنزانته في السجن، حيث لا قيود داخل الزنزانة وهناك فرصة للتمتع بأداء الصلوات في وقتها وقراءة القرآن كما يحلو له.

لا يختلف كثيرا سبب اعتقاله عن غيره، فهو مهندس اتصالات كان يعمل في النرويج حتى قرر العودة لمصر لكي يتربى الأبناء في وسط مجتمعهم ولكنه ارتكب في مصر جريمة تحفيظ القرآن في المسجد يوم الجمعة، فكان جزاؤه أن ينال نصيبه من قانون الطوارئ وأن ينال نصيبه كذلك من كهرباء السد العالي التي أنفقت بسخاء شديد عليه وعلى أمثاله.

أما خارج عالمه الخاص (الزنزانة) فالبشر يعيشون ويأكلون ويمارسون حياتهم بشكل اعتيادي، لا يبالون في العادة بما يتناقله البعض عن مظالم سمعوا عنها ولكن أقصى ما قد يفعلونه هو مصمصة الشفاه والدعاء على الظالمين وفي نفس الوقت يصدقون ما يقرأونه من الصحف القومية حول خطر الإرهاب والتنظيمات التي يكتشفها رجال الأمن البواسل، أما هو فمتفائل جدا ويظن أنه ربما سوف يخرج عام 2020 أو ربما قبلها بقليل، المهم أنه متفائل، أما ما صدمه حقا هو ثورة 25 يناير وخروجه المفاجئ للحياة وعودته إلى زوجته وأبنائه وإلى أمه المشلولة وزيارة قبر والده الذي مات حسرة عليه.

يمارس الآن حياته بشكل اعتيادي ولا يصدق أنه كل يوم على سريره حين يستيقظ، ولا يخاف اقتراب الوقت من الفجر لزواره غير المرغوب فيهم، لا يحب غلق الأبواب، ويكره منظر طيور الزينة في أقفاصها، يمتعض بشدة إذا رأى ميكانيكيا يضرب صبيه لأنه تأخر عليه أو لأنه أخطأ، يحاول أن يستوعب فكرة ذهابه خمس مرات يوما للصلاة دون خوف أو قلق.

مؤخرا بدء يشعر بقلق شديد من انقلاب الأوضاع، فلسبب لا يفهمه انتخب البعض في الجولة الأولى طيارا آخر يبشر علنا وبوضوح بعودة الأوضاع على ما كانت عليه، أدرك أن الخطر وصل لمراحل متأخرة بتحول وسائل الإعلام فجأة لنفس الأسلوب القديم، قرر أن يكون إيجابيا وأن يشارك في حملات التوعية اليومية للمواطنين في الشوارع، يحاول جاهدا إفاقتهم من التنويم المغناطيسي الذي يدخلون فيه، (احذروا من حكم المرشد) (دولة دينية) (سنعود للوراء) (نريد الاستقرار والأمن) (نريد السياحة) (سوف يتم كبت الحريات) (الحفاظ على هوية الدولة).. إلخ.

لكن ما صدمه حقا هو رد فعل الكثير من كبار السن، ومن جيرانه ممن عايشوا وعلموا معاناته السابقة والآن يناصبونه العداء لأنه يشارك في هذه الحملة، حتى أنه سمع عبارة (يستاهل اللي جرا له قبل كدا، كان معاهم حق) وعبارة (اه يبقى أكيد كان فعلا وراه حاجة) ولكنه رحمه الله لم يتحمل ذلك الشخص الذي اعتاد على مشاهدة المذيع (العاقل عكاشة) وصرخ في وجهه بعصبية عجيبة (انتوا لازم ترجعوا تاني، الله يخرب بيوتكم ، هتخربوا البلد).